بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 2 سبتمبر 2024

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

 


حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري

تقديم

الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا

فمن ابتغى حظرًا بترك نبينا … ورآه حكمًا صادقًا وصوابا

قد ضل عن نهج الأدلة كلها … بل أخطأ الحكم الصحيح وخابا

لا حظر يمكن إلا إن نهى أتى … متوعدًا لمخالفيه عذابا

أو ذم فعل مؤذن بعقوبة … أو لفظ تحريم يواكب عابا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا سواء السبيل، ووفقنا لمعرفة الحجة والدليل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وءاله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.

أما بعد: فقد طلب مني تلميذنا الفاضل الأستاذ محمود سعيد أن أحرر رسالة في مسئلة الترك، تزيل عن قارئها كل حيرة وشك، وذكر أنه وجد في [إتقان الصنعة] إشارة إليها موجزة، فأجبت طلبه وأسعفت رغبته، وكتبت هذا المؤلف محررًا ليكون قارئه في ميدان الاستدلال على بصيرة من أمره، ويعرف الدليل المقبول من غيره، والله الموفق والهادي وعليه اعتمادي.

المقدمة

الأدلة التي احتج بها أئمة المسلمين جميعًا هي:

الكتاب والسنة -لا خلاف بينهم في ذلك- وإنما اختلفوا في الإجماع والقياس، فالجمهور احتج بهما وهو الراجح لوجوه مقررة في علم الأصول. وتوجد أدلة مختلف فيها بين الأئمة الأربعة، وهي الحديث المرسل، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستصحاب، والاستحسان، وعمل أهل المدينة والكلام عليها مبسوط في كتاب الاستدلال من جمع الجوامع للسبكي.

ما هو الحكم الشرعي؟

الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف، وأنواعه خمسة:

1- الواجب أو الفرض: وهو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه مثل الصلاة والزكاة وصوم رمضان وبر الوالدين.

2- الحرام: وهو ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه، مثل الربا والزنا والعقوق والخمر.

3- المندوب: وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، مثل نوافل الصلاة.

4- المكروه: وهو ما يثاب تاركه ولا عقاب على فاعله، مثل صلاة النافلة بعد صلاة الصبح أو العصر.

5- المباح أو الحلال: وهو ما ليس في فعله ولا تركه ثواب ولا عقاب، مثل أكل الطيبات والتجارة. فهذه أنواع الحكم التي يدور عليها الفقه الإسلامي. ولا يجوز لمجتهد صحابيًا كان أو غيره أن يصدر حكمًا من هذه الأحكام إلا بدليل من الأدلة السابقة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة لا يحتاج إلى بيان.

ما هو الترك؟

نقصد بالترك الذي ألفنا هذه الرسالة لبيانه:

أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يفعله أو يتركه السلف الصالح من غير أن يأتي حديث أو أثر بالنهي عن ذلك المتروك يقتضي تحريمه أو كراهته.

وقد أكثر الاستدلال به كثير من المتأخرين على تحريم أشياء أو ذمها، وأفرط في استعماله بعض المتنطعين المتزمتين، ورأيت ابن تيمية استدل به واعتمده في مواضع سيأتي الكلام عليها بحول الله.

أنواع الترك

إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فيحتمل وجوهًا غير التحريم:

1- أن يكون تركه عادة: قدم إليه صلى الله عليه وسلم ضب مشوي فمد يده الشريفة ليأكل منه فقيل: إنه ضب، فأمسك عنه، فسئل: أحرام هو؟ فقال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه!.. والحديث في الصحيحين وهو يدل على أمرين:

أحدهما: أن تركه للشيء ولو بعد الإقبال عليه لا يدل على تحريمه.

والآخر: أن استقذار الشيء لا يدل على تحريمه أيضًا.

2- أن يكون تركه نسيانًا، سها صلى الله عليه وسلم في الصلاة فترك منها شيئًا فسئل: هل حدث في الصلاة شيء؟ فقال: “إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني”.

3- أن يكون تركه مخافة أن يفرض على أمته، كتركه صلاة التروايح حين اجتمع الصحابة ليصلوها معه.

4- أن يكون تركه لعدم تفكيره فيه، ولم يخطر على باله. كان صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة إلى جذع نخلة ولم يفكر في عمل كرسي يقوم عليه ساعة الخطبة، فلما اقترح عليه عمل منبر يخطب عليه وافق وأقره لأنه أبلغ في الإسماع. واقتراح الصحابة أن يبنوا له دكة من طين يجلس عليها ليعرفه الوافد الغريب، فوافقهم ولم يفكر فيها من قبل نفسه.

5- أن يكون تركه لدخوله في عموم ءايات أو أحاديث، كتركه صلاة الضحى، وكثيرًا من المندوبات لأنها مشمولة لقول الله تعالى: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} وأمثال ذلك كثيرة.

6- أن يكون تركه خشية تغير قلوب الصحابة أو بعضهم. قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: “لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام فإن قريشًا استقصرت بناءه” وهو في الصحيحين. فترك صلى الله عليه وسلم نقض البيت وإعادة بنائه حفظًا لقلوب أصحابه القريبي العهد بالإسلام من أهل مكة. ويحتمل تركه صلى الله عليه وسلم وجوهًا أخرى تُعلم من تتبع كتب السنة. ولم يأت في حديث ولا أثر تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك شيئًا لأنه حرام.

الترك لا يدل على التحريم

قررت في كتاب [الرد المحكم المتين] أن ترك الشيء لا يدل على تحريمه، وهذا نص ما ذكرته هناك:

والترك وحده إن لم يصحبه نص على أن المتروك محظور لا يكون حجة في ذلك بل غايته أن يفيد أن ترك ذلك الفعل مشروع. وإما أن ذلك الفعل المتروك يكون محظورًا فهذا لا يستفاد من الترك وحده، وإنما يستفاد من دليل يدل عليه.

ثم وجدت الإمام أبا سعيد بن لب ذكر هذه القاعدة أيضًا، فإنه قال في الرد على من كره الدعاء عقب الصلاة: غاية ما يستند إليه منكر الدعاء أدبار الصلوات أن [التزامه] على ذلك الوجه لم يكن من عمل السلف، وعلى تقدير صحة هذا النقل، فالترك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه، وأما تحريم أو لصوق كراهية بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصل جملي متقرر من الشرع كالدعاء.

وفي [المحلى] [ج:2 ص:254] ذكر ابن حزم احتجاج المالكية والحنفية على كراهية صلاة ركعتين قبل المغرب بقول إبراهيم النخعي أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يصلونها، ورد عليهم بقوله: لو صح لما كانت فيه حجة، لأنه ليس فيهم أنهم رضي الله عنهم نهوا عنهما.

قال أيضًا: وذكروا عن ابن عمر أنه قال: ما رأيت أحدًا يصليهما. ورد عليه بقوله: وأيضًا فليس في هذا لو صح نهى عنهما، ونحن لا ننكر ترك التطوع ما لم ينه عنه.

وقال أيضًا في [المحلى] [ج2 ص271] في الكلام عن ركعتين بعد العصر: وأما حديث علي، فلا حجة فيه أصلاً، لأنه ليس فيه إلا إخباره بما علم من أنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما، وليس في هذا نهي عنهما ولا كراهة لهما، فما صام عليه السلام قط شهرًا كاملاً غير رمضان وليس هذا بموجب كراهية صوم شهر كامل تطوعًا اهـ. فهذه نصوص صريحة في أن الترك لا يفيد كراهة فضلاً عن الحرمة.

وقد أنكر بعض المتنطعين هذه القاعدة ونفى أن تكون من علم الأصول فدل بإنكاره على جهل عريض، وعقل مريض. وها أنذا أبيّن أدلتها في الوجوه الآتية:

أحدها: أن الذي يدل على التحريم ثلاثة أشياء:

[1] النهي، نحو: {ولا تقربوا الزنا}، {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.

[2] لفظ التحريم، نحو: {حرّمت عليكم الميتة}..

[3] ذم الفعل أو التوعد عليه بالعقاب، نحو: “من غش فليس منا”، والترك ليس واحدًا من هذه الثلاثة، فلا يقتضي التحريم.

ثانيهما: أن الله تعالى قال: {وَمَا ءاتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ولم يقل وما تركه فانتهوا، فالترك لا يفيد التحريم.

ثالثها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أمرتكم به [فأتوا] منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه” ولم يقل: وما تركته فاجتنبوه. فكيف دلّ الترك على التحريم؟

رابعها: أن الأصوليين عرّفوا السنة بأنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره ولم يقولوا: وتركه، لأنه ليس بدليل.

خامسها: تقدّم أن الحكم خطاب الله، وذكر الأصوليين: أن الذي يدل عليه قرءان أو سنة أو إجماع أو قياس، والترك ليس واحدًا منها فلا يكون دليلا.

سادسها: تقدم أن الترك يحتمل أنواع غير التحريم، والقاعدة الأصولية أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال، بل سبق أنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك شيئا لأنه حرام، وهذا وحده كاف لبطلان الاستدلال به.

سابعها: أن الترك أصل لأنه عدم فعل، والعدم هو الأصل والفعل طارىء والأصل لا يدل على شيء لغة ولا شرعًا، فلا يقتضي الترك تحريمًا.

أقوال غير محررة

قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا وجب علينا متابعته فيه، واستدل بأن الصحابة حيت رأوا النبي صلى الله عليه وسلم أمسك يده عن الضب توقفوا وسألوه عنه.

قلت: لكن جوابه بأنه ليس بحرام -كما سبق- يدل على أن تركه لا يقتضي التحريم. فلا حجة له في الحديث، بل الحجة فيه عليه.

وسبق أن الترك يحتمل أنواعًا من الوجوه، فكيف تجب متابعته في أمر محتمل لأن يكون عادة أو سهوًا أو غير ذلك مما تقدّم؟!

كلام ابن تيمية

سئل عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور، في مرض به أو بفرسه أو بعيره، ويطلب إزالة الذي بهم ونحو ذلك؟

فأجاب بجواب مطول، وكان مما جاء فيه قوله: “ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر به أحد من الأئمة”، يعني أنهم لم يسألوا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما كانوا يسألونه في حال حياته.

وقلت في الرد عليه: وأنت خبيربأن هذا لا يصح دليلا لما يدعيه وذلك لوجوه:

أحدها: أن عدم فعل الصحابة لذلك يحتمل أن يكون أمرًا اتفاقيًا، أي اتفق أنهم لم يطلبوا لم يطلبوا الدعاء منه بعد وفاته. ويحتمل أن يكون ذلك عندهم غير جائز، أو يكون جائزًا وغيره أفضل منه فتركوه إلى الأفضل.. ويحتمل غير ذلك من الاحتمالات.. والقاعدة أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال انتهى المراد منه.

وقلن يوؤيّد أنه لم يتركوه لعدم جوازه أن بلال بن الحارث المزني الصحابي ذهب عام الرمادة إلى القبر النبوي وقال: “يا رسول الله استسق لأمتك” فأتاه في المنام وقال له: “اذهب إلى عمر وأخبره أنكم مُسقون وقل له: عليك الكيس الكيس”. فأخبر عمر فبكى وقال: “اللهم ما ءالوا إلا ما عجزت عنه” ولم يعنفه على ما فعل ولو كان غير جائز عندهم لعنّفه عمر.

[ذكر] حديث صحيح لا يرد قولنا

قال البخاري في صحيحه: “باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم” وروى فيه ابن عمر قال: “اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب. فقال: إني اتخذت خاتمًا من ذهب”. فنبذه وقال: “إني لن ألبسه أبدًا” فنبذ الناس خواتيمهم. قال ابن الحافظ: اقتصر على هذا المثال لاشتماله على تأسيهم به في الفعل والترك.

قلت: في تعبيره في الترك تجوز، لأن النبذ فعل، فهم تأسوا به في الفعل، والترك ناشئ عنه.

وكذلك لما خلع نعله في الصلاة، وخلع الناس نعالهم، تأسوا به في خلع النعل، وهو فعل نتيجته الترك.

وليس هذا محل بحثنا كما هو ظاهر.

وأيضًا فإننا لا ننكر اتباعه صلى الله عليه وسلم في كل ما يصدر عنه، بل نرى فيه الفوز والسعادة لكن ما لم يفعله كالاحتفال بالمولد النبوي وليلة المعراج، لا نقول إنه حرام، لأنه افتراء على الله، إذ الترك لا يقتضي التحريم.

وكذلك ترك السلف لشيء -أي عدم فعلهم له- لا يدل على أنه محظور. قال الإمام الشافعي: “كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف”. لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أولما هو أفضل منه أو لعله لم يبلغ، جميعهم علم به.

ماذا يقتضي الترك؟

بيّنا فيما سبق أن الترك لا يقتضي تحريمًا، وإنما يقتضي جواز المتروك، ولهذا المعنى أورده العلماء في كتب الحديث. فروى أبو داود والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: “كان ءاخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيّرت النار”.

وأورده تحت ترجمة: [ترك الوضوء مما مسّت النار].

والاستدلال به في هذا المعنى واضح، لأنه لو كان الوضوء مما طبخ بالنار واجبًا ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وحيث تركه دل على أنه غير واجب.

قال الإمام عبد الوهاب التلمساني في مفتاح الوصول: “ويلحق في الفعل بالدلالة، الترك. فإنه كما يستدل بفعله صلى الله عليه وسلم على عدم التحريم يستدل بتركه على عدم الوجوب. وهذا كاحتجاج أصحابنا على عدم وجوب الوضوء مما مسّت النار به”.

روى أنه صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ، وكاحتجاجهم على أن الحجامة لا تنقض الوضوء، بما روى أنه صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يتوضأ وصلى. أنظر مفتاح الوصول ص: 93 طبعة مكتبة الخانجي ومن هنا نشأت القاعدة الأصولية: جائز الترك ليس بواجب.

إزالة اشتباه

قسّم العلماء ترك النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ما، على نوعين: نوع لم يجد ما يقتضيه في عهده ثم حدث له مقتض بعده صلى الله عليه وسلم، فهذا جائز على الأصل.

وقسم تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضى لفعله في عهده، وهذا الترك يقتضي منع المتروك، لأنه لو كان فيه مصلحة شرعية لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فحيث لم يفعله دل على أنه لا يجوز.

ومثل ابن تيمية في ذلك بالأذان لصلاة العيدين الذي أحدثه بعض الأمراء وقال في تقريره: فمثل هذا الفعل تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضيًا له مما يمكن أن يستدل به من ابتدعه، لكونه ذكر الله ودعاء للخلق إلى عبادة الله وبالقياس على أذان الجمعة.

فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأذان للجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، دل تركه على أن ترك الأذان هو السنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك.. +إلخ كلامه.

وذهب إلى هذا أيضًا الشاطبي وابن حجر الهيثمي وغيرهما، وقد اشتبهت عليهم هذه المسئلة بمسئلة السكوت في مقام البيان.

صحيح أن الأذان في العيدين بدعة غير مشروعة، لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه ولكن لأنه صلى الله عليه وسلم بيّن في الحديث ما يعمل في العيدين ولم يذكر الأذان، فدل سكوته على أنه غير مشروع.

والقاعدة: أن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر.

وإلى هذه القاعدة تشير الأحاديث التي نهت عن السؤال ساعة البيان.

روى البزار عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرّم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا: {وما كان ربك نسيا}”.

قال البزار إسناده صالح، وصححه الحاكم.

وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها”.

في هذين الحديثين إشارة واضحة إلى القاعدة المذكورة. وهي غير الترك الذي هو محل بحثنا في هذه الرسالة، فخلط إحداهما بالأخرى مما لا ينبغي.

ولذا بيّنت الفرق بينهما حتى لا يشتبها على أحد. وهذه فائدة لا توجد إلا في هذه الرسالة والحمد لله.

تتميم

قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا سلام بن أبي مطيع عن ابن أبي دخيلة عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فقال: “نهى رسول الله عن الزبيب والتمر يعني أن يخلطا”.

فقال لي رجل من خلفي ما قال؟ فقلت: “حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر والزبيب” فقال عبد الله بن عمر: “كذبت”! فقلت: “ألم تقل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟ فهو حرام” فقال: “أنت تشهد بذلك؟” قال سلام كأنه يقول: ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم فهو أدب.

قلت: انظر إلى ابن عمر -وهو من فقهاء الصحابة- كذب الذي فسّر نهى بلفظ حرّم، وإن كان النهي يفيد التحريم. لكن ليس صريحًا فيه بل يفيد الكراهة أيضًا وهي المراد بقول سلام: فهو أدب. ومعنى كلام ابن عمر: أن المسلم لا يجوز له أن يتجرأ على الحكم بالتحريم إلا بدليل صريح من الكتاب أو السنة، وعلى هذا درج الصحابة والتابعون والأئمة.

قال إبراهيم النخعي وهو تابعي: كانوا يكرهون أشياء لا يحرمونها، وكذلك كان مالك والشافعي وأحمد كانوا يتوقون وقف إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمه لنوع شبهة فيه، أو اختلاف أو نحو ذلك، بل أحدهم يقول أكره كذا، لا يزيد على ذلك.

ويقول الإمام الشافعي تارة: أخشى أن يكون حرامًا، ولا يجزم بالتحريم يخاف أحدهم إذا جزم بالتحريم أن يشمله قول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.

فما لهؤلاء المتزمتين اليوم يجزمون بتحريم أشياء مع المبالغة في ذمها بلا دليل إلا دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها، وهذا لا يفيد تحريمًا ولا كراهة، فهم داخلون في عموم الآية الذكورة.

نماذج من الترك

هذه نماذج لأشياء لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم:

1. الاحتفال بالمولد النبوي.

2. الاحتفال بليلة المعراج.

3. إحياء ليلة النصف من شعبان.

4. تشييع الجنازة بالذكر.

5. قراءة القرءان على الميت في الدار.

6. قراءة القرءان عليه في القبر قبل الدفن وبعده.

7. صلاة التراويح أكثر من ثمان ركعات.

فمن حرّم هذه الأشياء ونحوها بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها فاتل عليه قول الله تعالى {ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}.

لا يقال: وإباحة هذه الأشياء ونحوها داخلة في عموم الآية لأنا نقول: ما لم يرد نهي عنه يفيد تحريمه أو كراهيته، فالأصل فيه الإباحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “وما سكت عنه فهو عفو” أي مباح.

وبعد: فقد أوضحنا مسئلة الترك، وأبطلنا قول من يحتج به بما أبديناه من الدلائل التي لم تدع قولا لمُنصف ولا تركت هربًا لصاحب جدل ولحاج.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.


الخميس، 29 أغسطس 2024

رد شبهة احتجاج المنكرين لعمل المولد بكلام الفاكهاني

 رد بعض الشبه حول المولد النبوي الشريف

رد شبهة احتجاج المنكرين لعمل المولد بكلام الفاكهاني


يحتج المنكرون لعمل المولد النبوي الشريف بكلام ابي حفص تاج الدين عمر بن علي الفاكهاني المالكي، فيوردون كلاما قاله عن المولد في كتاب المورد في عمل المولد ونص عبارته (أما بعد فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد هل له أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين وقصدوا الجواب عن ذلك فقلت وبالله التوفيق لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولم ينقل عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إما أن يكون واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين). انتهى

والجواب على هذه الشبهة أن يقال أن تحليل أمر أو تحريمه إنما هو وظيفة المجتهد كالإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، وليس لأي شخص ألّف مؤلفًا صغيرًا أو كبيرًا أن يأخذَ وظيفة الأئمة الكرام فيُحلل ويحرّم دون الرجوع إلى كلام الأئمة المجتهدين. ثم ان علماء المذاهب الأربعة المعتبرة ينقسمون إلى مراتب المجتهد المطلق والمجتهد المنتسب وأصحاب الوجوه وأصحاب الترجيح و النقلة والعبرة في كل مذهب بأقوال المجتهدين وأصحاب الوجوه، وأما من هم دون ذلك فليس لهم الأهلية لاستنباط الأحكام.

والتاج الفاكهاني لم يقل عنه واحد من الفقهاء ولا من أصحاب طبقات المالكية أنه كان من المجتهدين أو من أصحاب الوجوه، فلا عبرة بكلامه إذا خالف كلام من هو أعلى درجة منه في العلم كالإمام محمد بن أحمد عليش المالكي المتوفى سنة 1299هـجري، حيث قال في كتابه القول المنجي ما نصه (لا زال أهل الإسلام يحتفلون ويهتمون بشهر مولده عليـه الصلاة والسلام ويعملون الولائم ويتصدقـون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم، وأول من أحدث فعل المولد الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل فكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل احتفالاً هائلاً). انتهى

وقد تكلم ابن عليش في كتابه فتح العلي المالك عن بعض المنكرات التي قد تحصل في المولد وحذر منها فقال عمل المولد ليس مندوبًا، خصوصًا إن اشتمل على مكروه، كقراءة بتلحين أو غناء، ولا يسلم في هذه الأزمان من ذلك وما هو أشدّ. انتهى

ولم يطلق ابن عليش بتحريم المولد ان سلم من المنكرات كما يزعم بعض المُنكرين.

وقد خالف الفاكهاني أيضا كبار أئمة المالكية أيضا ومنهم:


أبو العباس السبتي المتوفى سنة 633 هـجري، حيث قال في الدُّر الـمُنَظَّم في مولد النبي المعظم ما نصه (كان الحجاج الأتقياء والمسافرون البارزون يشهدون أنه في يوم المولد في مكة لا يتم بيع ولا شراء، كما تنعدم النشاطات ما خلا وفادة الناس إلى هذا الموضع الشريف، وفي هذا اليوم أيضاً تفتح الكعبة وتزار). انتهى

محمد بن أبي إسحق بن عباد النفزي المتوفى سنة 805 هـجري، حيث نقل عنه صاحب المعيار المعرب بخصوص الاحتفال بذكرى المولد النبوي قوله الذي يظهر أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسمٌ من مواسمهم، وكل ما يقتضيه الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، من إيقاد الشمع وإمتاع البصر، وتنزه السمع والنظر، والتزين بما حسن من الثياب، وركوب فاره الدواب أمر مباح لا ينكر قياساً على غيره من أوقات الفرح. انتهى

وقال وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان، أمر مستثقل تشمئز منه النفوس السليمة، وترده الآراء المستقيمة. انتهى

ثم إن الفاكهاني كان من كبار الصوفية، فهو عندهم مشرك بالله، فقد نقل عنه الإمام ابن حجر في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة أن الشيخ تاج الدين الفاكهاني قال كان الشيخ أبو العباس الشاطر الدمنهوري يقول لا يحجبني عن أصحابي التراب فكان فطلبت من الله تعالى عنده ثلاث حوائج تزويج البنات من فقراء صالحين، وحفظ كتاب الله كان تعسر علي، والحج وكنت أعوز من النفقة ألف درهم…. انتهى

أي أنه يثبت تصرف الأولياء بعد موتهم، فما معنى احتجاجهم برأيه في المولد؟

والفاكهاني أيضا ليس ممن يرضاه القوم في مسألة الزيارة التي يبدعون الناس بها، وله في ذلك كتاب أسماه التحفة المختارة في الرد على منكر الزيارة.

وقد تصدى الحافظ السيوطي للرد على رسالة الفاكهاني فقال وقد ادعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية أن عمل المولد بدعة مذمومة، وألف في ذلك كتابا سماه المورد في الكلام على عمل المولد، وأنا أسوقه هنا برمته وأتكلم عليه حرفا حرفا… انتهى

ثم قال السيوطي أما قوله لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، فيقال عليه نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل ابن حجر أصلا من السنة، واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً، وسيأتي ذكرها بعد هذا.

وقوله بل هو بدعة أحدثها البطالون… إلى قوله ولا العلماء المتدينون يقال عليه قد تقدم أنه أحدثه ملك عادل عالم، وقصد به التقرب إلى الله تعالى، وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم، وارتضاه ابن دحية، وصنف له من أجله كتاباً، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه.

وقوله ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع يقال عليه إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص، وتارة يكون بالقياس، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتي ذكرهما.

وقوله ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين كلام غير مسلم، لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه، بل قد تكون أيضا مباحة ومندوبة وواجبة.

قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله علبه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة، قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة.

وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثلة إلى أن قال وللبدع المندوبة أمثلة منها إحداث الربط والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها التراويح، والكلام في دقائق التصوف، وفي الجدل، ومنها جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى.

وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة.

والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة.

وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان (نعمت البدعة هذه) يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.

هذا آخر كلام الشافعي.

فعرف بذلك منع قول الشيخ تاج الدين ولا جائز أن يكون مباحا… إلى قوله وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة إلى آخره لأن هذا القسم مما أحدث، وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع، فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي، وهو من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان فهو من البدع المندوبة كما في عبارة ابن عبد السلام.

وقوله والثاني …إلى آخره، هو كلام صحيح في نفسه غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه الأشياء المحرمة التي ضمت إليه، لا من حيث الاجتماع لإظهار شعار المولد، بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلا لكانت قبيحة شنيعة، ولا يلزم من ذلك ذم أصل الاجتماع لصلاة الجمعة كما هو واضح، وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليالي من رمضان عند اجتماع الناس لصلاة التراويح، فهل يتصور ذم الاجتماع لأجل هذه الأمور التي قرنت بها، كلا، بل نقول أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربة وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح شنيع، وكذلك نقول أصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع.

وقوله مع أن الشهر الذي ولد فيه … إلى آخره جوابه أن يقال:

أولاً إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم، والصبر والسلوان والكتم عند المصائب، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته.

وقد قال ابن رجب في كتاب اللطائف في ذم الرافضة حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لأجل قتل الحسين لم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف ممن هو دونهم. انتهى


الجمعة، 9 أغسطس 2024

إثبات عذاب القبر وعَود الروح إلى الجسد

 إثبات عذاب القبر وعَود الروح إلى الجسد


 


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين أما بعد . أعلم رحمنا الله وإياك أن من معاني الشهادة الثانية أي أشهد أن محمداً رسول الله أن يُصدق الإنسان بعذاب القبر ونعيمه وسؤالُ الملكين منكر ونكير عليهما السلام، فمن أنكرَ عذاب القبر كذبَّ القرءان ومن كذبَّ القرءان كفر ، فهذه الآية فيها إثباتُ عذاب القبر وهي صريحةٌ لأنَّ الله تعالى قال ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ معناه أنَّ ءال فرعون أي أتباعه الذين اتبعوه على الكفر والشرك يعرضونَ على النار في البرزخ أي في مدة القبر والبرزخُ ما بين الموت إلى البعث يُعرضون على النار عرضاً من غير أن يدخُلوها حتى يمتلئوا رُعباً أولَ النهار مرة وءاخرَ النّهار مرة ووقت الغداة من الصبح إلى الضحى وأما العشيّ فهو وقتُ العصر ءاخر النهار ويوم تقوم الساعة أي يقالُ للملائكة أدخلوا ءالَ فرعونَ أشدَّ العذاب وءالُ فرعون هم الذين عبدوه واتبعوهُ في أحكامهِ الجائرة ليس معناهُ أقاربهُ.


ثم هناكَ ءاية أخرى تُثبتُ عذاب القبر؛ فقد قالَ عز وجّل وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ المعنى أنّ الذين أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى وكفروا بالله العظيم إذا ماتوا يتعذبون في قبورهم وليس المرادُ بـ معيشةٍ ضنكا معيشةٌ قبلَ الموت إنما المرادُ حالهم في البرزخ، وكلمة ذكري هنا معناها الإيمان بالله سبحانه وبالرسول ليس المراد بها الذكر المعروف وهو قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ونحو ذلك. وهذه الآية عُرفَ أنّ المراد منها عذاب القبر من الحديث المرفوع إلى النبي الذي فسر هذه الآية معيشة ضنكا بعذابِ القبر رواه ابنُ حبان، وفي هذا دليل أيضاً على أن الميت في القبر بعد عودة الروح إليه يكون له إحساس بالعذاب إن كان من المعذبين للكفر أو للمعاصي الكبائر.


وقد قال الرسول صلى الله وسلم: القبرُ إما حُفرَةٌ من حُفَرِ النّار أو روضةٌ من رياضِ الجنَة ولنرجع قليلاً إلى الآيتين السابقتين فيتبين أنهما واردتان في عذاب القبر لكل الكفار أما العصاة المسلمون من أهل الكبائر الذين ماتوا قبل التوبة فهم صنفان : صنف يعفيهم الله من عذاب القبر وصنف يعذبهم ثم ينقطع عنهم ويُؤخّر لهم بقية عذابهم إلى الآخرة. وليعلم أنه لا يقال إن الميت إذا كان يرى في القبر في هيئة النائم ولا يُرى عليه شيء من الاضطرابات ولا يصرخ فإذاً هو ليس في عذاب؛ فقد قال بعد الفقهاء عدمُ الوجدانِ لا يَستَلزِمُ عدمَ الوجود فإذا نحنُ لم نرى الشيء بأعيننا فليس معناه أن هذا الشيء ليس موجوداً؛ فكثير من الأمور أخفاها الله عنّا وبعضها يكشفها الله لبعض عباده . تأكد عذاب القبر بسبب الغيبة وعدم اللإستنـزاه من البول روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن ابن عباس مرّ رسول الله على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير إثم قال بلى أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستًـتِرُ من البول ثم دعا بعسيبٍ رطب وهو غصنُ نخلٍ أخضر فشَقَهُ إثنين فغرسَ على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال لعلهُ ُيخفَفُ عنهُما فهذا الحديث بعدَ كتاب الله حُجّة في إثبات عذاب القبر، الرسولُ مرَ على قبرين فقال إنهُمَا ليُعذبَانِ وما يُعذبَان في كبيرٍ إثمٍ ثم قال  بلىَ أي بحسبِ ما يرىَ النّاس ليس ذنبهما شيئاً كبيراً لكنهُ في الحقيقة ذنبٌ كبير لذلك قال: بلىَ أما أحدُهما فكانَ يمشي بالنميمة وهي نقل الكلام بينَ اثنينِ للإفساد بينهما، يقول لهذا فلانٌ قال عنكَ كذا ويقول للآخر: فلانٌ قال عنك كذا ليوقعَ بينهما الشحناء، وأما الآخر فكانَ لا يَستنْـزِهُ من البول أي كانَ يتلوثُ بالبول وهذا الفعل تلويث لبدن بالبول من المحرمات الكبائر فقد قال عليه الصلاة والسلام: إستَنْـزِهُوا من البولِ فإنّ عامةَ عذاب القبر منه، ومعناه : تحفظوا من البول لئلا يلوثكم ، معناه لا تلوثوا ثيابكم وجلدكم به لأن أكثرَ عذاب القبر منه. هذان الأمران بحسب ما يراهُ الناس ليسا ذنباً كبيراً لكنهُما في الحقيقة عند الله ذنبٌ كبير، فالرسول رءاهما بحالةٍ شديدة وأنهما يُعذبان وليس من شرط العذاب أن تمسَّ جسده النار، الله جعل عذاباً كثيراً غير النار في القبر، الرسول رأى ذلك وبعض المؤمنين الصالحين يرون ذلك ويرون النعيم والأدلة كثيرة نذكر منها حديث رواه ابن حبان أن التقي بعد سؤال منكر ونكير عليهما السلام قال الرسول ثم يُفسحُ لهُ في قبرهِ سبعونَ ذراعاً في سبعين ذراعاً  والذراعُ الشرعي من رءوس الأصابع إلى المرفق، حوالي نصف متر وينور له فيه ويقال له: نمْ كنومِ العروسِ الذي لا يوقظهُ إلا أحبُّ أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، كذلك التقي يشمُ من رائحة الجنة ويرى مقعده من الجنة الذي يتبوءه بعد الحساب وذلك أنّ روحه تؤخذ إلى مكان قرب الجنة فيرى مقعده فيعرف فضل الإسلام حين ذلك معرفة عيانية كما كان يعرف في الدنيا معرفة يقينية قلبية. وبعض المتقين يزيدُ في النعيم بأن يُوسَّع قبره مدَّ البصر كما حصل للصاحبي الجليل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه الذي كان من أكابر الأولياء لما نبشوا قبره بعد دفنه في أرض مسبعة أي يكثر فيها السباع لينقلوه إلى مكان أخر وجدوا قبره يتلاطمُ بالأنوار، كذلك من النعيم يأتيه من نسيم الجنة لما يُفتح له في قبره بابٌ إلى الجنة كذلك يُملأ قبرهُ خُضرَةً أي يوضع في قبره من نباتُ الجنة الأخضر وهذا النعيم كله حقيقي ليس وهماً ولا خيالاً المسملون يؤمنون بذلك لإخبار نبيهم بذلك، لكن الله يحجب ذلكَ عن أبصار الناس أي أكثرهم، أما أهل الخصوصية من عباد الله الكاملين فيشاهدون. والحكمة في إخفاء الله حقائق أمور القبر وأمور الآخرة ليكون إيمانُ العباد إيماناً بالغيبِ فيعظم ثوابهم، وقد ورد ما رأيتُ منظراً إلا والقبرُ أفظعُ منه


 


عود الروح إلى الجسد في القبر


 


واعلم أنه ثبتَ في الأخبار الصحيحة عود الروح إلى الجسد في القبر كحديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي رواه الحاكم وأبو عوانه، وفيه ويُعادُ الروح إلى جسده. وأما حديث ابن عباس مرفوعاً  ما من أحدٍ يمرُ بقبرِ أخيهِ المؤمن كانَ يعرفهُ في الدُنيا فيُسَلمُ عليه إلا عَرَفَهُ وردَ عليهِ السلام رواهُ ابن عبد البر وعبد الحق الإشبيلي وصححه. ونحنُ نؤمن بما ورد في هذا الحديث ولو لم نكن نسمعُ ردّ السلام من الميت لأنَّ اللهَ حجَبَ عنّا ذلك ويتأكد عودُ الحياة في القبر إلى الجسد مزيد التأكد في حق الأنبياء فإنه وردَ من حديث أنسٍ عن النبي عليه الصلاة والسلام الأنبياءُ أحياءٌ في قبورِهم يُصلون رواه البيهقي . فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ذكر فتَّاني القبر فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أتردُ علينا عقولنا يا رسول الله قال نعمْ كهيئَتِكُمُ اليومَ  قال فبفِيه الحجر أي سكت، ومعنى الفتَّان الممتَحِنْ ، منكرٌ ونكير سُمّيا بذلك لأنهما يَمتَحِنَانِ الناسَ ولأنهما مخوفَانِ فقد ورد في الحديث الذي رواه ابنُ حبان أنَّ الرسول قال إذا قُبرَ الميتُ أو الإنسان أتاهُ ملكانِ أسودانِ أزرقانِ يقالُ لأحدِهما مُنْكَرٌ وللآخرِ نَكيرٌ فيقولانِ لهُ ما كُنتَ تَقولُ في هذاَ الرجلِ مُحمَد الحديث، وقول عمر رضي الله عنه: أتردُ علينا عقولنا يعني السؤال فقال له الرسول نعم كهيئتكم اليوم أي يكون الجواب من الجسم مع الروح فقال عمر: فبفيه الحجر، أي ذاك الخبر الذي لم أكن أعرفهُ وسكت وانقطع عن الكلام معناه ليس له حُجّة على ما كان يظن ، هو كانَّ يظنُ أنه لا تُرَدُ عليهم عقولهم فلما قال له الرسول بأنه تُرد عليهم عقولهم عرفَ خطأ ظنّه.


واعلم يا عبدَ الله أنهُ بعدَ دفنِ الإنسان يأتيه ملكانِ أسودانِ أزرقانِ أي لونهمَا ليس من السواد الخالص بل من الأسودِ الممزوج بالزُرقَةِ وهذا أخوفُ ما يكونُ من الألوان حتى يَفزع الكافر منهما، أما المؤمن التقي لا يخافُ منهما، اللهُ تعالى يثبتهُ يُلهمُه الثبات وهما لا ينظران إليه نظرةَ غضب. أما الكافر يرتاعُ منهما وقد سميا منكراً ونكيراً لأن الذي يراهُما يَفزَعُ منهما وهما اثنان أو يكون هناك جماعة كل واحد منهما يسمى منكراً وجماعة كل واحد منهما يسمى نكيراً، فيأتي إلى كل ميت اثنان منهم واحد من هذا الفريق وواحد من الفريق الآخر.


وليُعلم أنّ مُنكِر سؤالُ الملكين منكر ونكير عناداً كافر مخالفٌ لكتاب الله وحديث رسول الله . أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، حافظوا على طاعةِ ربّكم، استقيموا على إسلامِكم، كونوا واثقين بإيمانِكم، ليكن الإيمان صادقًا، وليكن العمل صالِحًا، فالإيمان الخالِص لله عن صدقٍ ويقين هو الذي ينفَع صاحبَه، فأخلِصوا لله أعمالَكم، وحافِظوا على طاعة ربّكم، وأدّوا فرائضَ الله، واجتنِبوا محارمَه لعلّكم تفلحون، فلا يُنجي العبدَ من تلك الأهوال إلا أعمالُه الصالحة التي أخلصَها لله، اتقِ يا أخِي محارمَ الله، اتَّق ظلمَ العباد، اتَّق أكلَ أموالِهم بالباطل، اتقِ محارمَ الله، وحافِظ على طاعةِ ربّك، واستقِم عليها، عسى أن تكونَ من الفائزين، وتذكَّر الموتَ وما بعدَه، فهو خيرُ واعظ لقلبِك يا أيّها المؤمن، يعظك لكي تستقيمَ على طاعة ربّك، وتسعى في خلاصك ونجاتك، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.


في قبرِك تفارِق الأهلَ والمال والولدَ، وتبقَى في هذا القبرِ وحيدًا، فإن تَكن الأعمال صالحةً ازددتَ بها أُنسًا وسرورًا، وفرِحت بها واستبشرتَ بها، وتمنّيتَ المزيدَ لو تُمكَّن من ذلك، وإن يكن العمل سيّئًا انضاف إلى حزنِك وضيق مكانِك ما الله به عليم ، فلِلَّه كم في هذه القبور من أهوال، كم من منعَّمٍ فيها سعيدٍ مطمئنّ، وكم من شقيٍّ فيها معذَّب، كم من سعيدٍ فيها بأعماله الصالحة التي تجري عليه بعدَ موته، وكم من متألّم من أوزارٍ تحمّلها، ومظالمَ للعباد تحمَّلها، وأموالٍ حرام أكلَها، ومحرَّمات انتهَكَها، فهو اليومَ يعاني من آلامِ تلك المخالفَات، فلنتَّقِ اللهَ في أنفسِنا، ولنتدبَّر واقعَنا، عسى الله أن يفتَح على قلوبِنا، ويبصِّرَنا في أنفسِنا، ويجعلَنا ممَّن يسارع إلى فعل الخيرات، إنّه على كل شيء قدير.


الله يثبتنا عند سؤال الملكين بجاه سيد الكونين سيدنا محمد وبجاه المرسلين والملائكة المقربين والأولياء والصالحين. وأني سائلاً مسلم قراءَ مقالتى أن يقراء الفاتحة ويترحم على أموات المسلمين.آمين


ماذا في السموات؟

ماذا في السموات؟


قال الله تعالى:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب)، من تأمل وتفكر في هذا المخلوق العجيب الدّال على عظيم قدرة الله تعالى وبديع صنعه، السموات السبع، التى تكرر ذكرها في القرآن وجاءت الأحاديث الصحيحة عن رفعها وعلوها وسعتها وإتساعها وما عليها وما فيها، لو تأملتَ سور القرءان الكريم قلما تجد سورة في القرآن الكريم إلا وفيها ذكر السماوات وخلقها والحث على النظر فيها والتفكر في عظيم خلقتها وبنائها ورفعها وردت كلمة السماء 120 مرة في القرآن الكريم، بينما وردت كلمة السموات 190 مرة، جاءت الآيات بتكرار النظر في السماء فلا تجدُ فيها العيوب والتشقق والإنفطار قال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ). والتأمل في أمر السماوات وخلقتها من التفكر في خلق الله وتعظيم الله تعالى ومن النظر في الخلق للإستدلال على عظمة الخالق العظيم الذي يُمسِكُ السماء بقدرته أن تقعَ على الأرض إلا بإذنه قال تعالى:( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ مِن شَيْءٍ،) فالنظر بالبصر والتفكر بالبصيرة يحملان على أن تَلهجَ ألسُنْ المؤمنين بذكر الله تعالى وتعظيمه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به تبارك وتعالى، والسموات هي سبع طباق كما أخبر الله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّـهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)، أي غير متكأة على بعضها ممسوكة بغير أعمدة بينها قال الله تعالى:(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا). والسماوات مع كل ما فيها وما عليها من المخلوقات بقدرة الله ممسوكة محفوظة من السقوط علينا قال تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، والسماوات واسعة الخِلقة شديدة الإحكام قوية البنيان قال الله تعالى: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبعاً شِدَاداً)، وفي القرءان العظيم ذكر الله تعالى السماوات الله تعالى خلقها بقدرته فوقنا كالبناء المحكم وجعلها جسماً غليظا له سماكة فقال: ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا،) رفع سَمكهَا: أي جعل مقدار ذهابها في العلو مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام بين الأرض والسماء وكذا بين كل سماءٍ وسماء إلى سبع سموات، والسَمّكُ هو الإرتفاع الذي بين سطح السماء الذي يلينا وسطحها الذي ما يلي فوقها، فسوها أي جعلها ملساء مستوية بلا عيب ليس فيها مرتفع ولا منخفض محكمة الصنعة متقنة الإنشاء. والله تعالى نورَ الله السموات بنورٍ خلقهُ فيها أشدُ من نور الدنيا ولذا ذهبَ بعض المفسرين إلى تفسير قوله تعالى: (الله نورُ السموات)، أي منوّرُ السماوات بنور قوي جعله الله فيها،


والنور نوعان: حسي ومعنوي، أمَّا النور المعنوي، فهو نور الهداية قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾، وقال تعالى:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ﴾. كل نور حسي أو معنوي في السماء والأرض، وفي الدنيا والآخرة، فالله العظيم الخالق هو موجدُه وخالقه، ومن أجل ذلك أخبر الله أنه نور السموات والأرض؛ أي: منورهما بما خلق، ودبر، ووهب، ومنح من أنوار حسية ومعنوية، وبما هدى وأرشد وأوحى وألهم. ولأنَّ هذا النور لا يَملكه غيره، ولا يقدر عليه سواه، يقول الله عز وجل ممتنًا على عباده: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ مثل ضربه الله لو تفكرتم انه لا ضوء ما الفعل؟


وللسماوات أبواب قال الله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)، ومعنى الاية ان أرواح الكفار لا تفتح لهم ابواب السماء بينما المؤمن كما جاء في الحديث حتَّى يَنْتَهوا بها إلى السَّماء الدُّنيا، فيَسْتَفتِحون له، فيُفتَحُ لهم، فيُشيِّعُه مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبوها إِلى السَّماءِ الَّتي تَلِيها، حتَّى يُنْتَهى به إلى السَّماء السَّابِعَةِ، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَ عَبْدي في عِلِّيِّينَ).


ومنَ السماء تهبط البركات والرحمات ومن السماء نَزلَ القرءان العظيم الله جعله في مكان في السماء يسمى بيت العزة ومنه نزل جبيرل بالقران مفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم، وإلي السموات عرَجَ نبينا صلوات الله عليه وسلم تشريفاً له ولإطلاعه على عظيم ملكوت السموات وما فيها من الآيات المذكورة في القرءان والحديث من رؤيته صلى الله عليه وسلم للبيت المعمور، وسدرة المنتهى، ودخوله الجنة ورؤية ما فيها ورؤية بعض الأنبياء فيها كما جاء في أحاديث الإسراء والمعراج ، وإلى السموات تعرج الملائكة والله تعالى أسكنَ الملائكة الكرام السماوات ومنهم من ينزل منها ثم يعودون إليها قال الله تعالى: ( وكَم مَّن مَّلَكٍ في الَّسمَوتِ)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما في السمواتِ موضعُ أربع أصابع إلا وفيهِ مَلكٌ ساجدٌ أو راكعٌ إلى يوم القيامة) رواه الترمذي وينزلونَ بأمر الله إلى الأرض وعلى المؤمنين وغير ذلك مما يأمرهم الله تعالى به، قال الله تعالى: ( وأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا). والملائكة الكرام هم أهل السماء هكذا سماهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراحمونَ يرحمهم الرحمَن إرحموا من في الأرضِ يَرحمكم من في السماء)، وفي رواية أخرى (يرحمكم أهلُ السمَاء)، فهذه الرواية تفسر الرواية الأولى لأنَّ خيرَ ما يُفسَّرُ به الحديث الواردُ بالواردِ. ثم المراد بأهل السماء الملائكة، ذكر ذلك الحافظ العراقي في أماليه عقَيب هذا الحديث، ونص عبارته: واستدل بقوله: أهل السماء على أن المراد بقوله تعالى في الآية (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) الملائكةُ " اهـ ، ولا يقال لله "أَهلُ السماء" . وكلمة (من) تصلح للمفرد وللجمع في الآية، ويقال مثل ذلك في الآية التي تليها وهي: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً)، فمَن في هذه الآية أيضاً أهل السماء الملائكة الكرام، فإنَّ الله يُسلط على الكفاَّر الملائكة إذا أراد أن يُحِل عليهم عقوبته في الدنيا كما أنهم في الآخرة هم الموكلون بتسليط العقوبة على الكفار لأنهم خَزَنّةُ جهنم يجرّونَ عُنقاً من جهنم إلى الموقف ليرتاع الكفارُ برؤيته. وتلك الرواية التي أوردها الحافظ العراقي في أماليه هكذا لفظها:(الراحمونَ يَرحمُهم الرَحيم إِرحموا أهلَ الأرضِ يَرحمكُم أهلُ السمَاء). فالذي يُفسر ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، أي على السماء، نقول له: إن قلت الله في السماء أي على السماء فالجواب: العلوُّ يأتي للعلوّ الحسي والعلو المعنويّ فإن أردتَ العلوَّ المعنويَّ أي رفيعَ القدر جداً فلا بأس، وإن أردتَ العلوَّ الحسّي فقد كفرتَ لأن الذي يكونُ في جهةٍ يكونُ محدوداً والمحدود بحاجة لمن حدَّهُ بهذا الحد والمحتاجُ إلى شىءٍ لا يكون إلها. ويردُ عليهم بإيراد الآية:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه،) فيقال لهم: هل تزعمون أن الله يُصعَقُ ، وكذا يرد عليهم بإيراد الآية: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب)، ورحمة أهل السماء الملائكة لإهل الأرض بالإستغفار ونفحهم بالبركات خير وذلك لرحمتهم بأهل الأرض أي بارشادهم للخير وتعليمهم أمور الدين وإطعام جائعهم وكسوة عاريهم ونحو ذلك. ثُم لو كان الله ساكن السماءِ كما يَزْعمُ البعض لكان الله يُزاحم الملآئكة وهذا مُحالٌ ، فقد مرَّ حديثُ أنه:( ما في السمواتِ موضعُ أربعِ أصابعَ إِلا وفيه مَلَكٌ قائمٌ أو راكعٌ أو ساجدٌ). وهذا الحديث رواه الترمذي وفيه دليل على أنه يستحيل على الله أن يكونَ ساكنَ السماء وإلا لكانَ مساوياً للملائكةِ مزاحماً لهم، وإلى السماء تُرفع أعمال المؤمنين قال الله تعالى ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) أي أنَّ الكَلمَ الطيب ككلمة لا إله إلا الله يصعدُ إلى محل كرامته وهو السماء، والعمل الصالحُ يرفعه أي يرفعُ العمل الصالح وهذا منطبق ومنسجمٌ مع الآية المحكمة:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)ٌ.


وكذلك رفعَ الله بقدرته النبي الرسول السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام إلى السماء فهو فيها باقٍ الى ما قبل قيام الساعة ينزلُ منها الى الأرض ويموت ويدفن في الأرض كسائر الأنبياء قال تعالى:(إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، أي إنّي رافعك إليّ أي إلى محلّ كرامتي أي المكان الذي هو مشرّف عندي وهو السّماء، ومطهّرك من الذين كفروا أي مخلّصك من الذين كفروا أي اليهود، ومتوفّيك أي بعد إنزالك إلى الأرض، أي مميتك بعد إنزالك إلى الأرض، هذا هو القول الصحيح الموافق للأحاديث وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.


ولما كان الملائكة الكرام سُكانُ السموات كان جبريل عليه السلام الملك ذي القوة والمكانة عند الله تعالى في السماء جاءت الآيات بتخويف الكفار من إنزالِ العذاب بهم من السماء كما حصلَ لأمم قبلهم كقوم نبي الله صالح ثمود صاح فيهم جبريل صيحة مزقت قلوبهم، قال الله تعالى:إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ، وقوم لوط الذين كفروا فأرسل الله عليهم جبريل عليه السلام فرفع مدنهم وقلبها رأساً على عقب وأشعلَ النار فيها وأمطرَ الله عليهم الحجارة، قال الله تعالى:فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجارة مِّن سِجِّيلٍ، وعلى قول بعض المفسرين فقوله تعالى: ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ، أي ألا تأمنونَ جبريل الذي في السماء أن يُرسله الله عليكم بعذاب كما أرسله الله على تلك الأمم من قبلكم.﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ قال المفسرون في تفسير الآية الأخيرة: يعبده أهلهما وكلهم خاضعون لله يعبدونه.ومن في الأرض


وفي السماء البيت المعمور الذي أقسمَ الله به في القرءان العظيم في قوله تعالى: (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ)، ثبت في الحديث الصحيح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثمَّ عُرجَ بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل ، فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، فقيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم وإذا هو مسند إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها أمثال القلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها ، قال : فأوحى الله إلي ما أوحى، وفرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة.. الحديث ، والبيت المعمور يَتَعبّدُ به الملائكة وهو معمور بعبادة الملائكة منذ خلقه الله تعالى كما جاء في الحديث المذكور، وهناك في السماء الشجرة المذكورة في القرءان أيضا وهي(سِدرةُ المنتَهى) وجاء وصفها بالحديث أنها ضخمة حتى أنَّ أصلها في السماء السادسه وفرعها في السماء السابعة والرسول رآها في السماء السابعة وعندها رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الحقيقية كما في قول الله: (وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ* عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ)، والمقصود به جبريل رآه النبيّ مرة أخرى على الصورة الحقيقية هناك. وفي السماء أيضاً اللوح المحفوظ وهو جِرمٌ مخصوص تحت العرش وقيل فوق العرش وخلق الله قلماً كتبَ بقدرة الله على اللوح ما هو كائن الى يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أولَ ما خَلقَ اللهُ تعالى القَلمْ فقالَ: اكتُبْ فقالَ: ما اكتُب قال: اكتبْ ما كانَ وما يكونُ إلى يوم القيامة رواه الترمذي في كتاب القدر فالكتب السماوية كلها مكتوبة في اللوح المحفوظ، وكذا ما يكون إلى يوم القيامة مكتوب فيه قال الله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَـٰرَهُمْ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـٰهُ في إِمام مُّبِين)، فسرَ الإمام باللوح المحفوظ، وقال تعالى:(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَر)، أي الأمور الجليلة والأمور الصغيرة مكتوبة في اللوح المحفوظ ، فأحداث الكون، وأفعال العباد ما كَبُرَ منها أو صَغر مُسجلة في اللوح المحفوظ قبل وقوعها قال تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، إنَّ التفكر في عظيم مخلوقات الله السموات يدل على عظيم قدرة الله الذي خلقها قال الله تعالى:( لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، هذه السماوات السبع التفكرُ في عَظيم خلقها وسعتِها وكبرها وارتفاعها ودقةِ صنعتها، قال الله تعالى:(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ )، كلمّا تَفكَرَ المؤمنُ بها يقوى يَقينهُ وكلمّا تَفكرَ أنها صنَع الله وخلقه، إزداد خشية لله ومعرفة ويقيناً أنَّ اللهَ تعالى هو الخالق العظيم الموصوف بصفات الكمال والمنزه عن العجز والنَّقصِ والله تعالى لا يحتاج لخلقه، فالسماء بما فيها بحاجة لله تبارك وتعالى، والله غنيٌ عن السماوات وعن العالم بأسره سبحانه وتعالى عما يقول الكافرون علواً كبيرًا. وبالتفكر في خَلقِ السماوات أيضاً يُذكر المؤمن أنَّ الله تبارك وتعالى مستحق أن يُعبَد ويخضع له ويُتذَللَ له نهاية التذلل ويُطاع فلا يُعصى ويُحمَدُ ويُشكر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المعتبرين المتفكرين في خلق الله المستزيدين من بركات القرءان العظيم قال تعالى:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).


الكليات الست

 

الكليات الست

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد نبي الرحمة وعلى آله الطيبين الطاهرين. الدين المقبول عند الله هو الإسلام قال الله تعالى إن الدين عند الله الاسلام فالاسلام دين كل أنبياء الله من لدن ادم الى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. الأنبياء كلهم دينهم الإسلام قال الله تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، أي الدين المقبول المرضي عند الله الإسلام وهو دين الأنبياء والملائكة. وأما الشرائع وأحكام العبادات مثل الصلاة والصيام والمعاملات التى كانت تختلف بين نبي وآخر اللهُ تعالى جَعَلَها لِحِكْمةٍ تَخْتلِفُ في بعضِ الأمورِ لكنْ اتّفقت الشرائع على أمورٍ منْ آدم عليه السلام إلى خاتَمِ الأنبياء محمد صلى الله عليهم أجمعين. فهذه القواعد التي اتّفقَتْ عليها شرائغُ الأنبياء تسمى الكليات مهمٌّ جدًّا أنْ نفْهَمَها جيد لأن هناك أمور لم تختلف شريعة في تحرميها وهناك أمور اختلفت الشرائع فيها[1] مثل تزويج آدم عليه الصلاة والسلام لأولاده من بعضهم الاخ يزوجه من أخته من البطن الثاني كان جائزاً في شرعه وكذلك أحكام الصوم والطهارة ونحوه...

(١)- حفظ الدين: الانبياء كلهم حذروا مِنْ االوقوع في الكفر وليس فقط نبيُّنا بل كل النبين والمرسلين نبهوا أقوامهم من الكفر وامروهم بالايمان والثبات علي الاسلام، وأول ما دعا اليه الرسل الايمان وترك الكفر وعبادة غير الله والاشرالك بالله تعالى قال الله تعالى:( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، ففي هذه الآية أوضح دليل على أن الله تعالى بعث في جميع الأمم في كل أمة رسولا يقول لهم: اعبدوا الله، واجتنبوا الطاغوت أي الشرك والكفر، هذه دعوة الرسل كل واحد يقول لقومه وأمته: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت الشرك والكفر. والناس كانوا في زمن آدم إلى نوح على الإسلام فبعث الله نوحا محذرا من الكفر الذي حصل فكان نوح أول نبي أرسله الله لمحاربة الكفار قال الله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)

(٢)- حفظُ العقل: المسلم مأمور أن يحافظ على نعمة العقل[1] لا يجوز له أن يفعل شيء يذهب بعقله ولو لوقت قليل أو أن يفعل أي أمر يضر بالعقل، نعم إن احتاج لتخدير لعملية جراحية بقدر لا يضر إن كان للتداوى باشارة من طبيب ثقة يجوز أما للهو للكيف يُغيب عقله بالمسكرات ونحوها حرام في كل الشرائع سواء شرب أو أكل أو استعط أو احتقن ما يذهب به عقله حرام قطعاً، وكذلك تعاطي ما يخدر البدن ويضره كهذه المسمات بالمخدرات ايضا فيها إتلاف للبدن وضرر بين ظاهر فهي حرام وردَ في الحديثِ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: "اجْتَنِبْ كلَّ مُفْتِر" – يعني كلَّ مخَدِّر – اليوم كثير من الشباب والبنات انتشرَ بينَهم المُخَدِّرات بطُرُقِها وأساليبِها وأنواعِها، بالحبوبِ أو مع الدخان يضعونَ فيه هذا الذي يسمّى الحشيش أو نحوُهُ منَ المُخَدِّرات. أحيانًا بتَعاطي الإبر، أحيانًا بأشياء أخرى يسمّونَها هلْوسَة أو كَيْف أو نحو ذلك. هذا خطر عظيم. شاب يكونُ سببًا في بلاءِ آخر، وبنت تكونُ سببًا في ابتِلاءِ بنتٍ أخرى، يكونُ سببًا بخرابِه بدمارِهِ بسبب هذه المُخَدِّرات. فحفظُ العقلِ واجبٌ علينا في كلِّ الشرائع. حفظُ العقلِ من السكر بالخمر هذا واجب لا يضيع عقله بالخمر. قال عليه الصلاة والسلام: "الخَمرةُ مفتاحُ كلِّ شر"، يعني سببٌ أحيانًا للقتلِ بغيرِ حقّ، سبب للزنا سبب أحيانًا للشتمِ والقذف للسرقة إلى غيرِ ذلك. فإذًا نتجنّب المُسْكِرات قليلها وكثيرها لأنه ورد في الحديث "ما أسكَرَ الفَرَقُ منه فمِلءُ الكفِّ منه حرام". يعني ما أسكرَ كثيرُهُ فقليلُه حرام. العقلُ حفظُهُ واجب هذا منَ الكُلّياتِ التي اتّفقَتْ عليها شرائعُ الإسلام.

(٣)- حفظُ النسب: وكذلك أيضًا يجبُ علينا حفظُ النسَب. ما معنى حفظُ النسب؟ يعني نتجنّبُ الزنا من الذكور والاناث، لأنَّ الزنا قد ينتج عنه حمل فلا يُنسَبُ الولدُ إليك كرجل إنْ جاءَهُ ولدٌ منَ الزنا هذا لا يُنسَبُ إليه، إنّما يُنسَبُ للأم لهذه التي زنَتْ. فنحنُ مأمورونَ بحفظِ النسبِ، الأنسابُ أمرُها عظيم، نعم نعتني بأنْ يكونَ عقدُ النكاح صحيحًا بشروطه لذلك ليس أي بنت يتزوجها الشاب ولا أي رجل يقبل للزواج، اليوم يوجد إلحاد من عُرفَ عنه أنه يسب الله أو يتلفظ بألفاظ الكفر لا يزوج ونحو ذلك . ومن الأسباب المُفضِية إلى الزنا: النظر إلى عَوْرات النساء، وكذلك بالنسبة للنساء النظر إلى عَوْرات الرجال، ولذلك أوصى الله تعالى كلا الجنسينِ بالاجتناب من ذلك؛ كما قال تعالى:﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾، الزنا إثمٌ وجرمٌ عظيم جداً لا يكبرهُ إلا القتل والشرك برب العالمين، قال الله تعالى:( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا )، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( لا يزني الزاني حينَ يَزني وهوَ مؤمن، ولا يَسرِق السارق حين يسرق وهو مؤمن). ومعناه لا يفعل الزنا وهو كامل الإيمان بل هو واقع في الفسق والمعصية الكبيرة إذا لم يستحل هذا الفعل أما إن استحل الزنا فقد وقع فيما هو أشد ُمن الزنا وهو الكفر لأنَّ اعتقاد حِل الزنا ضدُ القرآن ومن عاند القرآن فحكمه الكفر، فما أبشعَ التسرع في الكلام في مثل هذا بألفاظ فيها استحلال الزنا واستحسانه، فمن أبتلىَّ بهذه الجريمة فليتُبْ إلى الله، وإيّاه أن يقول عن فعل الزنا أو مقدماته أنه حلال !! فأنَّ من المعلوم بينَ الناس جميعهم حرمةُ ذلك، فويلٌ للمُستَحل لذلك وويلٌ لمن يفعل الزنا، غيرَّ أنَّ الفعل مع اعتقاد التحريم ذنبٌ كبير وفسقٌ واعتقادُ الحِل كفرٌ وتكذيبٌ لكلام الله تعالى، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعلَ لله نِداً وهوَ خَلقكَ، قلت: إنَّ ذلكَ لعظيم. قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تقتُلَ ولدكَ مَخافَةَ أن يطعم معك. قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: أن تُزَانيَّ حليلةَ جَارك. فليس بعد الكفر بالله و بعد قتل النفس أعظم من الزنا في الذنب عند الله.

(4)- حفظُ النفس: هذا الإنسانُ حرُمَ عليه أنْ يعملَ بجسدِهِ ما لا يجوز. هو جسدُكَ لكنْ هناكَ أمورٌ ممْنوعة عليك ليس لك أن تضره او تفعل ما لا يرضي الله به اليوم يعلمون الأولاد أن الجسد ملك لك افعل به ما تشاء تظهره أمام من تريد…!! ليس الأمر هكذا المسلم عبد مأمور منهي ملتزم بحكم شرع الله ، النبيُّ عليه الصلاة والسلام حرّمَ علينا أنْ نقْتُلَ أنفُسَنا يعني الانتحار. وكذلك إيذاء النفس بأي وسيلة حرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرام مالُهُ ودمُهُ وعِرضُهُ". يعني حرامٌ عليك أنْ تقتلَ مسلمًا أنْ تؤذيَ مسلمًا أنْ تضربَ مسلمًا بغيرِ حق. "إنَّ اللهَ يعذِّبُ الذينَ يُعَذِّبونَ الناسَ في الدنيا". هذا حديث عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. ترويعُ المسلم، تخويفُه بغيرِ حقّ حرام. إخافة المسلم وترويعه وإلحاق الأذى به بفعل أو قول حرام من كبائر الذنوب، سواءٌ كان المروِّعُ جادًّا أم هازِلًا، ولو كان أخاه أو صديقَه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الملاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ". قال النوويُّ معلِّقًا على هذا الحديثِ: "فيه تأكيدُ حرمةِ المسلم، والنهيُ الشديدُ عن ترويعِه وتخويفِه والتعرضِ له بما قد يؤذيه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن كان أخاه لأبيه وأمه" مبالغةً في إيضاحِ عُموم النهيِ في كلِّ أحدٍ، سواءٌ من يُتَّهم فيه ومن لا يُتَّهم، وسواءٌ كان هذا هزلًا ولعِبًا أم لا؛ لأنَّ ترويع المسلِمِ حرامٌ بكلِّ حالٍ". فإذا كانت الإشارةُ بالحديدةِ لأخيك المسلمِ، وإن كان لأبيك وأمك، وإن كان مازحًا؛ فإنك تتعرَّضُ لِلَعَائِنِ الملائكةِ حتَّى تنتَهِيَ، فكيف بالذي يرعب المسلمين بالتهديد بالأذى أو إخافتهم بكلب أو حية مثلاً أو بصوت مرعب كأطلاق الرصاص والمفرقعات المخيفة للصغار والكبار أو رمى نار ونحوه تجاه مسلم ليخفه أو توجيه البندقية أو مسدس ليخوفه أو بمحاولة دفعه من مكان مرتفع ليخيفه وكالذي يرعب زوجته بتهديدها بانواع من التعذيب أو أطفاله هذا وأمثاله من المحرمات الكبائر وقد يُخلف الرعب أذى ولو كان مازحاً فقد أخبرني شخص أن رفقة إتفقوا على رمي صاحبهم من مكان مرتفع الى الماء فجأة ففعلوا فأصابه خوفٌ شديد بسببه شاب شعر رأسه وهو ابن عشرين سنة على الفور من الفزع، وعلمت من آخر أن شخصاً أخيف بالمزاح خوفاً شديدا فتساقط شعر رأسه وكل بدنه وبقى كل عمره بلا شعر... نسأل الله العافية، روى الطبراني عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ نَعْلَ رَجُلٍ فَغَيَّبَهَا وَهُوَ يَمْزَحُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُرَوِّعُوا المسْلِمَ؛ فَإِنَّ رَوْعَةَ المسْلِمِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ".

(5)-حفظُ العِرض: ما هو حِفظُ العرض؟ هو موضِعُ المدحِ والذمِّ منَ الإنسان. لا يجوزُ لنا أنْ نقعَ في غيبةِ المسلم بغيرِ حقّ، حرام، ولا النميمة ولا نستهزئ بالمسلم أو نُحَقِّرُه، حرام، ولا نتنابَذ بالألقاب. (تَقليده) يصير يمشي مثلَه أو يعمل صوتَهُ مثلَه كي يضحكَ الناس على ذاك المسلم، حرام، لا تنابَذوا بالألقاب. وكذلك لا يجوزُ لنا تسفيهَ المسلم، تحقيرُهُ حرامٌ لا يجوز. فإذًا ينبغي لك أنْ تعرفَ كيف تتكلم عن المسلم. المسلم حِفظُ عِرضِهِ واجب، هذا معنى حِفظُ العِرض. العِرضُ هنا موْضِعُ المَدْحِ والذمِّ منَ الإنسانِ فلا نغتاب المؤمن بغيرِ حقّ. قال اللهُ تعالى:{أيُحبُّ أحدُكُمْ أن يأكلَ لحمَ أخيه مَيْتًا فَكَرْهْتُمُوه}. تخَيَّلْ نفسَكَ وأنتَ تأكلُ لحمَ أخيكَ ميْتًا، انظرْ هذا المنظر البشِع. شبَّهَ المُغتاب الذي يغتاب أخيه المسلم بغيرِ حقٍّ كالذي يأكلُ له لحمَهُ وهو ميّت!!. فإذًا نتجنّب الغيبة ونحفظ أعراضَ المسلمين. وكذلك الذب عن عرض المسلم إذا انُتهك عرضُ المسلمِ، وأسيء إليه حال غيبته، فيجب على من سمع ذلك أن يرد عنه بالغيب، وأن يذكر محاسن هذا الذي وقع الطعن عليه ذباً عنه ورداً لهذا المغتاب، فإذا فعل ذلك فإنَّ الله تعالى يردُ عنه النار يوم القيامة والجزاء من جنس العمل.عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْض أَخِيهِ رَدَّ اللَّه عَنْ وَجْههِ النَّارَ يَوْم الْقِيَامَة".

(6)- حفظُ المال: هذا المالُ ولوْ حصّلْتَهُ بالحلال لا تستطيع أنْ تفعل به كلّ شيء، عليك حقوق وعليك واجبات بهذا المال. هناك أشياء لا يجوزُ لك عملُها بهذا المال، اللهُ هو الآمرُ والناهي. فإذًا حفظُ المالِ منْ أنْ أصرِفَهُ بالحرام واجب، حفظُ المالِ أي أنْ أُؤَدِّيَ حقَّه، حقَّ اللهِ في المال وحقَّ العَبيدِ في المالِ. الأم والزوجة لهم حقوق، إذا أمي فقيرة عليّ أنْ أنفِقَ عليها. "كفى بالمرءِ إثمًا أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُول". إذا كان فرضًا عليك أنْ تُعيلَ ناسًا يعني تُنْفِق عليهم حرامٌ عليك تضيعهم. كثيرٌ منَ الناس تركوا أرحامَهم، الذي وصلَ رحِمَهُ هذا لهُ ثوابٌ عظيمٌ. وكذلك تبذير المال محرم التبذير من المعاصي الكبائر وهو بَذل المالِ في مَعصِية من معاصي الله تعالى كبيرةً كانت أو صغيرة، ومِن ذلك ما يُبذل للمُغنِيات والمغَنِين أجرةً على الغناء، فإن أخَذُوا ذلكَ على وَجْه المُشَارطَة والاتفاقِ السّابِق فلا يحِلُ لهم ولا يَملِكُونه فيكونُ أكل مالٍ حَرام، وكذلك صرف المال على أي معصية من الكبائر كالذين يدفعون مالاً ليشاهدوا الراقصات والعاريات والدخول للأماكن التى فيها المحرمات والتعري ونحوه. وكذا الذي يدفع المال للتكبر والاستعلاء على الناس أو يشترى لباساً أو مركوباً أو يفرش بيته بنية التكبر والاستعلاء على الناس وكذا من التبذير صرف المال على ما يسمى بعمليات التجميل من نفخ الشفتين والوجه وغير ذلك.. فإن هذا ليس من الزينة المعهودة المباحة عند أهل الإسلام فهذا كله من المحرمات الكبائر. وأما قوله تعالى:( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)، فمعناه كما جاء في جامع القرطبي ما نصه: قال أشهب عن مالك التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه (أي صرفه في الإثم والمعصية) وهو الإسراف وهو حرام لقوله تعالى:(إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)، وقوله إخوان يعني أنهم في حكمهم إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين. انتهى.. وفي جامع الطبري ما نصه: "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " فإنه يعني أن المفرّقين أموالهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته أولياء الشياطين وفيه عن ابن زيد إن المبذرين إن المنفقين في معاصي الله ، قال الرازي في التفسير الكبير: والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السرف قال عثمان بن أبي الأسود كنت أطوف في المسجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس وهو جبل في مكة وقال لو أن رجلا أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين ولو أنفق درهما واحداً في معصية الله كان من المسرفين وفيه "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين" والمراد من هذه الأخوة التشبه بهم في هذا الفعل القبيح وذلك لأن العرب يسمّون الملازم للشيء أخاً له فيقولون فلان أخو الكرم والجود وأخو السفر إذا كان مواظباً على هذه الأعمال انتهى. وقال ابن الجوزي في زاد المسير ومعنى قوله تعالى: “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " لأنهم يوافقونهم فيما يدعون إليه ويشاكلونهم في معصية الله، فليعلم هذا وليحذر من اعتقاد أن كثرة إنفاق المال في المباحات تبذير محرّم والعياذ بالله عزوجل بل التوسع في الإنفاق في غير معصية لا يدخل في الآية بل هو من التنعم المكروه في بعض الأحيان وليس حرام، والتوسع في الإنفاق على المأكل والمشارب واللباس ونحوه مكروه إذا لم يكن بنية كإكرام ضيف ونحوه أما في الحرام فهو التبذير الذي نهى الله عنه عباده والله نهانا عن إضاعة المال في غير محله كالذين يهدرون الأموال والنعم من طعام ولباس ومال ينتفع به فيلقونه للتلف عمداً فهذا من إضاعة المال الذي سأل عنه المرء يوم القيامة، في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كره لكم ثلاثًا: القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". فمن إضاعة المال تلف الطعام الجيد والقائه في المزابل وكذا إهدار الماء والكهرباء لغير منفعة معتبرة وكذا كل مال ينفق على ما لا يرضى الله تعالى معدود من التبذير المحرم، فعلينا حفظُ هذه الكلّيات الستّ فأحفظوها وعلِّموها أولادَكمْ وتمَكّنوا منها وافْهَموها جيّدًا وانشروا هذا الكلام لينتفع التاس به. والحمد لله رب العالمين.


[1]   فالإسلام هو دين الأنبياء جميعاً: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ و يقول الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، وإبراهيم و إسماعيل عليهما الصلاة و السلام قالا: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ﴾ ويعقوب يوصى أبناءه قائلا ً:﴿ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، ويوسف يدعو ربه قائلاً: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾، وقال موسى لقومه: ﴿ يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾، وسحرة فرعون لما آمنوا برسالة موسى قالوا: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾، وقال سليمان في رسالته لملكة سبأ:﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾، وقال الحواريون لعيسى: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، تلك إذا هي الايات في كتاب الله الدالة على أن الاسلام دين كل الانبياء جمعياً.

 


[1] العقل صفة راسخة في الإنسان يميز به بين الخبيث والحسن ولا يجوز أن يوصف الله به لأن هذا من صفات البشر فقول سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن عن الله تعالى " العقلُ المدبر " امر ما قال به أحد من علماء أهل السنة فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى .

الشفاعة في الآخرة

 الشفاعة في الآخرة

 

الشفاعة في الآخرة أمر ثابت في القران والسنة والشفاعة هي طلب الخير من الغير للغير كطلب النبي العفو من الله تعالى عن بعض المذنبين الذين ماتوا من غير توبة، وهي ثابتة بنص القرءان والحديث قال الله تبارك وتعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن زار قبري وجبت له شفاعتي]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[لكل نبيّ دعوة مستجابة فَتَعَجَّلَ كلُّ نبي دعوتَه وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمّتي لا يُشرك بالله شيئًا]. وروى عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى معاذ بن جبل وأبا عبيدة وعوفَ بن مالك، قال فقلنا نعم، فأقبل إلينا فخرجنا لا نسأله عن شيء ولا يخبرنا حتى قعد على فراشه فقال: [أتدري ما خيّرني ربّي الليلة؟] فقلنا الله ورسوله أعلم، قال: [فإنه خيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة]، فقلنا يا رسول الله ادْعُ الله أن يجعلنا من أهلها، قال [هي لكل مسلم] اهـ.


المحتاجون للشفاعة


المحتاجون لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل الكبائر فقط لقوله صلى الله عليه وسلم: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي] معناه هم الذين يحتاجون إليها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خُيّرت بين الشفاعة وبين أن يَدخُل نصف أمّتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعمّ وأكفي، أتُرَونها للمتقين، لا، ولكنها للمذنبين الخطَّائين المتلوّثين]. وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح ما نصه «وقال ابن الجوزي: وهذا مِنْ حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه ءاثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمَّته لكونهم أحوج إليها من الطائعين» اهـ. أمّا الأتقياء والأولياء والشهداء فلا حاجة لهم للشفاعة كما يُعلم من النصوص الصحيحة الواضحة، بل إنه ثبت في أحاديث كثيرة صحيحة أنهم هم أهل شفاعةٍ لغيرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [للشهيد عند الله ستُّ خصال يَغفِر له في أوّل دُفعة من دمه، ويُرى مقعدَهُ من الجنّةِ، ويُجارُ من عذاب القبرِ، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُحَلّى حُلّةَ الإِيمان، ويُزَوَّج من الحور العين، ويُشَفَّع في سبعين إنسانًا من أقاربه]،فالشفعاء هم الأنبياء وشهداء المعركة والعلماء العاملين والطفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء والعلماء والشهداء)، والشفعاء من امة محمد صلى الله عليه وسلم كثر جاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إن من أمتى من يشفع للفأم) أي الجماعة الكبيرة من العصاة ومنهم من يشفع للقبيلة ومنهم من يشفع للعصابة من العصاة ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة.


الشفاعة تكون على نوعين


شفاعة للمسلمين العصاة بعد دخولهم النار لإِخراجهم منها قبل أن تنتهي المدة التي يستحقّونها. وشفاعة لمَن استحقوا دخول النار من عصاة المسلمين بذنوبهم فينقذهم الله من النار بهذه الشفاعة قبل دخولها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج ناس من النار بشفاعة محمد)، أما الكفَّار فلا أحد يشفع لهم قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾، أي لا يشفعون إلا لمَن ماتَ على الإِيمان قال ابن عباس لمن ارتضى الإسلام دينا، ورى البيهقي عن الحسن لمن رضي بلا إله إلا الله، وقال تعالى إخبارًا عن أصحاب اليمين من أهل الجنة أنهم يسألون الكفار وهم في النار: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾، وليس في قوله تعالى ﴿شفاعة الشافعين﴾، إثبات لحصول الشفاعة لهم وأنها تُرَدُّ بل المعنى أنه لا شفاعة لهم. وقال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، فرحمة الله وسِعَت في الدنيا كل مؤمن وكافر لكنها في الآخرة خاصة لمن اتَّقى الشرك وسائر أنواع الكفر. وقال تعالى:﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾، أي أن الله حرّم على الكافرين الرزق النافع والماء المُروي في الآخرة وذلك لأنهم أضاعوا أعظمَ حقوق الله على عباده وهو توحيده تعالى. فتبيّن لنا أنَّ الكافر لا يرحمه الله ولا أحد يشفع له، ثم إن النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسّلامُ هو أوَّلُ من يشفعُ وأوَّلُ من تُقبَلُ شفاعَتُهُ، وهو يختصُّ بالشّفاعَةِ العُظمَى وقد سُمّيت بذلكَ لأنّها لا تختصُّ بأمّتِهِ فقط بل ينتفعُ بها غير أمّتِهِ من المؤمنينَ، وهي لتخليصهم من الاستمرارِ في حَرّ الشّمسِ في الموقِفِ فإنَّ النّاسَ عندما يكونونَ في ذلكَ الموقف يقولُ بعضهم لبعضٍ: تعالَوا لنذهبَ إلى أبينا ءادم ليشفَع لنا إلى ربّنا، فيأتونَ إلى ءادم يقولون: يا ءادمُ أنت أبو البشرِ خَلَقَكَ الله بيدِهِ - أي بعنايةٍ منه ـ وأسجَد لكَ ملائكتهُ فاشفَع لنا إلى ربّنا، فيقولُ لهم: لستُ فلانًا، اذهبوا إلى نوحٍ فيأتونَ نوحًا فيطلبونَ منه، ثمّ يقولُ لهم ايتوا إبراهيمَ، فيأتونَ إبراهيم، ثم إبراهيمُ يقولُ لهم لست هناك - و معناهُ أنا لستُ صاحبَ هذهِ الشّفاعَةِ - فيأتونَ موسى فيقولُ لهم لستُ هناك، فيقول لهم ايتوا عيسى، فيأتونَ عيسى فيقولُ لهم لست هناك ولكن اذهبوا إلى محمّدٍ فيأتونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فيسجدُ النَّبيُّ لربّهِ فيُقَالُ له ارفع رأسَكَ واشفَع تُشَفَّع وسَل تُعطَ. هذه تُسمَّى الشّفاعة العظمَى لأنّها عامَّةٌ. وأما الكفارُ فلا ينتفعونَ بها لأنهم يُنقَلونَ من هذا الموقفِ إلى موقفٍ أشدَّ لا يستفيدونَ تخفيفَ مشقةٍ ولا نَيلَ راحَةٍ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أنا أول الناس يشفع في الجنة وانا أكثر الأنبياء تبعا)، وليحذر مما ورد في بعض نسخ كتاب الإحسان في ترتيب ابن حبان السقيمة وهو ان كلا من الأنبياء الذين يطلب منهم الشفاعة في حديث الشفاعة وهم خمسة يقول عندما يطلب منه الشفاعة أنى أخاف ان يطرحني الله في النار لأن نسبة هذا لنبي من الأنبياء كر لأن النبي لا يظن بربه انه يطرحه في النارفما ذكر في كتاب الإحسان لأبن بلبان فهو مدسوس عليه.والله تعالى أعلم وأحكم.



الإحتضار وخروج الروح

 الإحتضار وخروج الروح

 


 


الروح هي ما يحي به الإنسان والحيوان والروح جسم لطيف خلقه الله وجعله في الإنسان والملائكة والجن والحيوانات علامة الحياة، وخروج الروح من الإنسان علامة الموت وانتهاء الحياة والإنتقال إلى حياة أخرى تسمى الحياة البرزخية وجاء في القران والسنة بيان بعض ما يتعرض له الإنسان عند احتضاره وخروج روحه، علماً أن الروح وماهيتها وتفاصيلها أمر أخفاه الله عنا لحكمة بالغة،ففي جديث عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالُوا: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ، لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَسَأَلَهُ عَنِ الرُّوحِ، قَالَ: فَأَسْكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَقُمْتُ مَكَانِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، الروح مخلوق عجيب لا يعلم الخلق حقيقتها وكيفيتها إلا الله تبارك وتعالى فلا داعي للتكلف في معرفة تفاصيلها، وحسبنا أن نعلم أن أرواح المؤمنين تستقر بعد بلى الجسد في مكان يسمى عليين الى يوم القيامة، وأرواح أهل الشقاء مستودعها في مكان اسمه سجين، وتبدأُ أولُ مراحلِ الإحتضار بسكرَةِ الموتِ، ثم خروجِ الروحِ، الَّتِي تتفاوَتُ بين الناس فمن الناس من تقبض روحه بسرعة وفجائة ومنهم من يعاني سكرات الموت اياماً، قالَ اللهُ تَعالَى:(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، ويستحب لمن حضر عند من يموت من المسلمين أن يلقنه قول " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ " لحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)، ويسنُ أن يقرأ عند المحتضِر سورة "يسٓ" لقوله صلى الله عليه وسلم قال:(اقْرَؤوا (يسٓ) عَلَى مَوْتَاكُمْ)، ويستحب لمن كان عند المسلم المحتضر: أن يطمعهُ في رحمة الله، ويحثه على تحسين ظنِّه بربه، وأن يذكر له الآيات والأحاديث الواردة في الرجاء وسعة رحمة الله تعالى وعفوه وكرمه ومغفرته، فهي من أسباب حسن الظن بالله، فهذا عبد اللهبن عباس يقول لسيدنا عمر رضي الله عنه يوم طعن وهو ينزف دماً: “يا أمير المؤمنين لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر رضي الله عنه فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنَّهم وهم عنك راضون” وتلك ساعة الاحتضار وقت عصيب لا ينجو إلا من رحمه الله من الفتنة، قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم:(وأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِيَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَمات)، النبي معصوم إنما يعلم أمته هذا الدعاء ليستعيذوا بالله ان يفتنوا في تلك الساعة الحرجة، وقد روي أن الشيطان لا يكون في حالٍ أشد على ابن آدم من حال الموت، يقول لأعوانه: “دونكم هذا، فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه بعد اليوم“. فقوله صلى الله عليه وسلم:(وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت)، قال الخطابي ت388هـ في شرحه:(هو أن يستولي عليه عند مفارقة الدنيا، فيضله، ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله، أو يؤيسه من رحمة الله، أو يكره له الموت ويؤسفه على حياة الدنيا، فلا يرضى بما قضاه الله عليه من الفناء والنقلة إلى الدار الآخرة، فيختم له، ويلقى الله وهو ساخط عليه)، ويقول ابن الجوزي ت597هـ: (وقد يتعرض إبليس للمريض فيؤذيه في دينه ودنياه، وقد يستولي على الإنسان فيضله في اعتقاده، وربما حال بينه وبين التوبة وربما جاء الاعتراض على المقدر؛ فينبغي للمؤمن أن يتجلد، ويستعين بالله على عدوه الشيطان في الرمق الأخير، فقد حدثَّ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قال: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي خرقة لأشد لحييه، فكان يغرق، ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بَعد، فعل هذا مراراً، فقلت له: يا أبتي أي شيء يبدو منك؟ قال: إن الشيطان قائم بحذائي عاضٌ على أنامله، يقول: يا أحمد فتني وأفلت مني، وأنا أقول: لا بعد، لا بَعد، حتى أموت.انتهى، قال الأنصاري في كتاب أسنى المطالب:(وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعطَى-أي المُحتَضَر- جَرَعَاتٍ مِنَ الْمَاءِ)( فَإِنْ العَطَشَ يَغلِبُ مِنْ شِدةِ النَّزْعِ) فَيُخَافُ مِنهُ إِزلالُ الشَّيْطَانِ) لأَنَّهُ وَرَدَ أَنهُ يَأتِـي الشيطانُ بِـمَاءٍ زُلالٍ وَيَقُولُ: قَلْ لا إِلَهَ غَيرِي حَتَّى أَسقِيَكَ)، وبعدَ هذهِ السكرةِ المؤمن التقي يحضره ملك الموت الموكل بقبض الأرواح عزرائيل عليه السلام ومعه مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، بيضُ الثيابِ، فَتَقُولُ لَهُ: "أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ". قَالَ: "فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِيّ السِّقَاءِ" وأما حال الكافر عند الموت ساعتها يعرف أنّه كافر في حال سكرة الموت لمّا يأتي عزرائيل وملائكة العذاب ، لمّا يحضرون هو يراهم، يضربونه، ملائكة العذاب يضربون المحتَضَر الذي هو كافر من أمام ومن خلف لكن صوته انقطع تلك الساعة، من شدة الألم ألم المرض الذي كان فيه، ألم سكرة الموت وألم ضرب هؤلاء الملائكة، ملائكة العذاب، يجتمع عليه ألمان شديدان، ألم المرض، ألم سكرة الموت، سكرة الموت أشدُّ من ألف ضربة بسيف، فوق هذا الكافر تلك الساعة يحِسُّ بضربة الملائكة، يضربون وجهه وخلفه عندئذ يعرف أنه من أهل النّار ليس أمامه راحةٌ ولا خير إنّما يُقْدِمُ على شىء أعظم، يكره الموت كراهيةً بحيث لو في استطاعته أن يحبس نفسه في هذا القفص، قفص الجسم لفعل، لكن ليس في استطاعته بل من شدّة الألم الذي ينزل به لا يستطيع أن يتكلّم، أغلب النّاس عند موتهم ترتبط ألسنتهم، الأتقياء بعضهم كذلك ترتبط ألسنتهم لكن أولئك ليس لأنهم على حالةٍ سيئة بل ليزيدهم الله درجات ليس هَوَاناً على الله، أمّا الكافر يرتبط لسانه لا يستطيع أن يوصي وصيّةً بما يهمّه من أمر أولاده وغير ذلك ارتبطت ألسنتهم من شدّة ألم سكرات الموت لسانهم صار لا يشتغل. قال الله تعالى:( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ)، وقال تعالى:( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)، أي باسطوا أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم؛ وبشروهم بالعذاب والغضب من الله، كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود من الصوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب؛ ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم ذوقوا عذاب الحريق)، وخير ما يُفعل عند الإحتضار للميت المسلم، الدعاء له بالمغفرة وعظيم الأجر، وليحذر من الندب والعويل، والدعاء بالويل والهلاك، والسخط على القضاء والقدر فان السخط على قدر الله كفرٌ مخرجٌ من الملة ولو عند المصيبة، بل خير الكلام عندها الإسترجاع، وهو أن يقول: إنا لله وإنآ إليه راجعون. ففي حديث أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ يَقُولُ:(مَا مِنْ عَبدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أَجُرْنِى في مُصِيبَتِى وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا). وينبغي أن يقول من حضر ميت ما قاله النبي لأبي سلمة لما ضج ناسٌ من أهله، فقال: “لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ“، ثم قال: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ)، ومن كان حاضراً عند موت غير مسلم فليهتم بعرض الإسلام على المحتضِر الكافر، حتى ولو كان في آخر رمقٍ من حياته وهو من الدعوة إلى الله تعالى كما في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب قال له: “يا عَمُّ قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ“، وقصته مع الغلام اليهودي الذي كان يموت فعن أنس رضي الله عنه، قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرِض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يَعُودُه، فقَعَدَ عند رأسه، فقال له: «أَسْلِم»، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أَطِعْ أبا القاسم، فأَسْلَمَ الشاب، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:(الحمد لله الذي أنقذه من النار)، ومن حضر ميتًا مسلما عليه أن يُغمض عينيه؛ لئلا يقبح منظره، فلما دخل رسول صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره أي: ارتفع فأغمضه، وكذا أن يُشد لحياه بلفافةٍ أو شاشةٍ؛ لئلا يبقى فمه مفتوحًا فيقبح منظره، وكذا تُستحب تغطية جسمه كله، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين توفي “سُجِّي ببُردٍ حِبرة" أي ثوب مخطط ، ويُباح تقبيل الميت لأقاربه وأصدقائه؛ لما في البخاري عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما أن أبا بكرٍ رضي الله عنه قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، فتقبيله في رأسه أو وجهه أو خده، وسواءً قبل التغسيل أو بعده أو بعد التكفين لا بأس به. ودمع العين وحزن القلب من غير سخط لقدر الله جائز؛ ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله، فقال: يا ابن عوف إنَّها رحمة ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم:(إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون)، فاذكر يا قارئ هذا رحمك الله حلول ساعة الاحتضار بك، وحاسب نفسك ماذا عملت فيما مضى؟! وماذا عساك أن تعمل فيما بقي؟! وتذكركم ودعت في السنين المنصرمة من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريت في التراب من أصدقاء وأعزة ومحبين؟! واذكر أن الموت الذي تخطاك إليهم سيتخطى غيرك إليك، فإلى متى الغفلة يا عبيد الله الى متى...؟! أكثر من تذكر الموت، وأحسن الإستعداد له. اللهم الطف بنا عند خروج الروح ورحمنا برحمتك الواسعة يا أرحم الراحمين. والله تعالى أعلم وأحكم.


حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...