بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 31 ديسمبر 2020

نيل المرام في الوَارد في اللّحم والشّحم من الأحكام


الشّيخ جميل حليم
الطبعة الأولى
1427هـ/2006ر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة الناشر

الحمد لله ربّ العالمين صلوات الله البَرِّ الرّحيم والملائكة المقرَّبين على سيدنا محمّد سيد الأولين والآخرين وعلى جميع إخوانه النبيين والمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين.

أما بعد: فإن الأنفس الزّكية الطّالبة للمراتب العليّة لم تزل تدأب في تحصيل العلوم الشرعيّة ومن جملتها معرفة الفروع الفقهيّة لأنّ بها تندفع الوساوس الشّيطانيّة وتصحّ المعاملات والعبادات المرضيّة، وناهيك بالفقه شرفًا قول سيِّد السابقين واللاحقين صلّى الله عليه وسلّم: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدّين" رواه البخاري [1] ومسلم [2].
وقد كثرت الدعوى حلاً وحرمةً وعمت البلوى في أكل ما لم ينزل الله به من سلطان، وقد نهانا الله تعالى عن التّحليل والتّحريم بغير دليل شرعيّ فقال: {ولا تقولُوا لِما تصِفُ ألسِنَتُكُم الكذِبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتَروا على اللهِ الكذِبَ} [سورة النّحل]، فانتشر في هذه الأيّام دعوى تحليل أكل اللحم ولو لم يُعلم ذابحه هل هو مسلم أو من أهل الكتاب أم مِن غيرهما أي ولو مع الشّك في ذابحه هل هو ممّن تحلّ ذبيحته أم لا، ودعوى تحليل أكله ولو ذبح على غير الطّريقة الشرعيّة.
فقيامًا منّا بالواجب الذي كتبه الله علينا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصح المسلمين بما يمليه علينا الشرع الكريم كتبنا هذه الأوراق على وجه الاختصار ذاكرين دعوى بعض النّاس في مسئلة اللحم والشّحم، محتجِّين عليهم بالكتاب والسٌّنَّة وإجماع الأمّة وأقوال العلماء، أسميناها <نيل المرام في الوارد في اللحم والشّحم [3] من الأحكام>.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الّذين اصطفى وعلى ءاله وصحبه وسلّم.
بيان تفسير قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [سورة المائدة/3].
الله تبارك وتعالى حرّم في هذه الآية أشياء وهي:
1- {الميتة} وهي الّتي زالت حياتها بغير ذكاة شرعيّة ولو بذبحٍ لم يستوفِ شرط الذّبح بأن تموت بمرضٍ أو بذبحِ من لا تحلُّ ذبيحته كالمجوسيّ الذي يعبد النّار والملحِد الذي ينكر وجود الله، فذبيحة هؤلاء ميتة ولو ذبحوا كما يذبح المسلمون بقطع الحلقوم أي مجرى النّفس والمريء أي مجرى الطّعام والشّراب ولو سمّوا الله أو كبّروه فلا تحلّ ذبيحة هؤلاء، ومثل هؤلاء المرتدّ كالذي يسبّ الله أو يستهزىء بالإسلام أو ينكر البعث بعد الموت أو يسبّ الملائكة أو يصفُ اللهَ بالحركة أو السّكون أو الجسم أو الهيئة أو ينسُب لله المكان أو الجهة أو الجهل أو العجز. وكالذي يدوس على المصحف أو يرميه في القاذورات أو يكتب الفاتحة بالبول. فهذا مرتدّ وذبيحته ميتة كالّتي ماتت بمرض ولو نفّذ شروط ذبح المسلمين أي بقطع الحلقوم والمريء، أما المسلم شارب الخمر أو الزاني فذبحه حلال، أما اليهوديّ والنّصرانيّ فتحلّ ذبيحتهما لأنّ هذين أحلّ الله لنا أن نأكل ذبائحهما إن ذبحا بالطريقة الإسلاميّة وقطعا الحلقوم والمريء بشيء له حد كحديد له شفر كالسّكّين أو حجر محدد الطّرف أو قصب جامد أو قزاز -ليس المعنى أنّه إنْ خرقها من جهة إلى جهة أو ما أشبه ذلك- فقد حلّت الذبيحة.
والمرأة المسلمة واليهوديّة والنصرانيّة إذا ذبحت فذبيحتها حلال، بعض النّاس يظنّون أنّ المرأة لا يحلّ لها أن تذبح وهذا جهل منهم، فذبيحتها تحلّ ولو كانت حائضًا وكذلك الولد المميّز الذي هو دون البلوغ ذبيحته تحلّ. واليهوديّ والنصرانيّ ذبيحتهما حلال بلا خلاف ولو لم يقل بسم الله، قال الله تعالى: {وطَعَامُ الّذين أُوتُوا الكِتَبَ حِلٌ لكُم} [سورة المائدة].، إنّما المسلم إنْ سمّى الله على ذبيحته هي حلال باتّفاق العلماء أمّا إنْ ترك تسمية الله عمدًا قال أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد: "لا تحلّ ذبيحته وإنْ تركها سهوًا تحلّ ذبيحته" أمّا الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه يقول بأنّ ذبيحة المسلم سمّى الله أو لم يسمّ فهي حلال وإنْ ترك التّسمية عمدًا. واللحم الّذي في الأسواق خليطٌ فيه الحلال وفيه الميتة فالذبيحة الّتي لم نعلم إنْ كان ذابحها مسلمًا أو ممّن لا يؤكل ذبيحته حرام أنْ نأكل من لحمها ولو سمّى الله على اللحم عند أكله، وكذلك التّسمية على اللحم الذي لم تُستوفَ الشروط عند ذبحه لا تجعله حلالا كما يظنّ بعض من لا علم له.
والمسلم واليهوديّ والنصرانيّ إذا ضغط على الآلة الّتي تقطع رقبة الذّبيحة ونزلت فقطعتها تحلّ هذه الأولى لأنّها بيده وإذا استمرّ السّكين يقطع بفعل الكهرباء إلى عشر ساعات مثلاً لا يحلّ أكل ما بعد هذه الأولى لأنّه بفعل الكهرباء.
واللحم الطّازج أو المبرّد المستورد من بلد غير إسلاميّ أو غيره إنْ علمنا علم يقين ليس بالظّنّ أنّ الشّركة الّتي تصدّره أوكلت ناسًا مِنَ المسلمين أو مِنَ اليهود أو النّصارى بالذّبح وقد استوفوا شروط الذّبح الّتي سبق بيانها جاز لنا أن نأكل من هذا اللحم، كأنْ قام مسلم ثقة بإنشاء مزرعة للبقر أو الغنم أو الدّجاج في بلد غير إسلاميّ أو غيره واستخدم ناسًا من المسلمين أو أهل الكتاب ليذبحوا ثم أرسل اللحم إلينا مبرّدًا فيجوز لنا أنْ نأكل هذا اللحم لأنّنا علِمنا علم يقين استيفاء شروط الذّبح الحلال، أما مجرد إلصاق ورقة على الصّناديق المستوردة الّتي فيها اللحم عبارة "ذبح على الطّريقة الإسلاميّة" فليس علم يقين لا سيّما وقد شهد كثير من أهل الاختصاص أنّهم رأوا صناديق في كثير من البلاد العربيّة فيها لحم خنزير كتب عليها "ذبح على الطّريقة الإسلاميّة" حتى وصلت بهم السّخافة أنّهم كتبوا على علب السّردين "ذبح على الطّريقة الإسلاميّة" وهذا دليل على أنّ هذه المعلبات يطبعون عليها هذه العبارة مع جهلهم بما في داخلها فمتى كان السّمك يحتاج لأكله إلى ذبح؟ ومتى كان لحم الخنزير يؤكل؟ أو يحلّ أكله بذبحه؟.
وأمّا إذا جاءنا لحم من بلدٍ أهلها مسلمون ويذبحون ذبحًا شرعيًّا كتركيّا والباكستان جاز لنا أكله باعتبار أنّ مسلمًا ذبح مستوفيًا شروط الذّبح، وإذا جاءنا من بلد كلّ أهلها نصارى أو يهود ويذبحون ذبحًا صحيحًا حلّ لنا أنْ نأكله. أما إذا طرأ شكّ هل هو من ذبيحة كتابيّ أو مسلم قتل بالصّعق الكهربائيّ ونحوه لا يجوز ولا يحلّ الأكل منه. أمّا إذا جاءنا لحم من بلد أهلها مختلفو العقائد كبلد أهله نصارى وملاحدة أو يهود وملاحدة ولم نعرف مَن الذّابح لا يؤكل. فرنسا فيها ملاحدة وإيطاليا وأوروبّا كذلك كلّها فيها ملاحدة كذلك أمريكا وغيرها فلا يؤكل اللحم الآتي من أوروبّا حتّى نعرف أنّه من ذبيحة نصرانيّ أو يهوديّ. وفي هذه الأيّام توجد هذه اللحوم المعلّبة غير السّمك لا يعرف من ذبحها يحتمل أنْ تكون من ذبيحة ملحد أو بوذيّ أو مجوسيّ لذلك لا يجوز أنْ نأكل اللحم حيثما وُجد ولا ضرورة لأكله مع وجود السمك والخضار وغير ذلك من الحلال فهي أي هذه اللحوم ليست كالقمح والأرزّ مثلاً.
واللحم الذي أحلّه الله لنا من بقر وغيره كالدّجاج الذي كتب عليه "ذبح على الطّريقة الإسلاميّة" فهذا يجوز أكله إنْ عرفت الشّركة المصدّرة وعرف أنّها تذبح على الطّريقة الشرعيّة، فالدّجاج المجلّد وغيره من اللحوم الّتي تحتاج لذبح ليَحلَّ لا تؤكل حتى نتأكد أنّها ذبحت ذبحًا حلالاً. والسّمك حلال كيفما وصل إلينا سواء عن طريق مجوسيّ أو كتابيّ لأن ميتة السّمك حلال. الله تعالى أحلّ لنا ميتة السّمك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أحلّت لكم ميتتان ودمان السّمك والجراد والكبد والطّحال [4]".
وقد ورد في القرءان حلّ أكل السّمك وصيد البحر في قوله تعالى: {أُحِلَّ لكم صيدُ البحر وطعامُه متاعا لكم} [سورة المائدة/96]. فالمطلوب من الإنسان أنْ لا يتعلّق قلبه بهذه المعلّبات وما أشبه ذلك، كيف يهتمّ الإنسان لبطنه إلى هذا الحدّ وأوّل ما ينتن من الإنسان في القبر بطنه، فليكتفِ الإنسان بالخضار والسّمك وذبح يده وغير ذلك من الحلال في حالة كهذه وليتّقِ الله ولا يتأثّرْ بكلام بعض الجهلاء وتزيين الحرام وتحسين الباطل وليذكر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "من أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه، ومن أرضى الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" [5] أي خيارهم.
والأمر الثاني الذي ورد ذكره في الآية مما هو محرَّم بنصها:
2- {والدم} وهو محرّم سواء كان دم ذبيحة من الحيوانات المأكولة أو دم غيرها وسواء كان مائعا أو جمد بعد انفصاله من مخرجه بالوسائل المتبعة عندهم كما تعودوا في أوروبّا فهو حرام وأكله من الكبائر المجمع عليها.
والدم المسفوح السائل هو الذي حرّمه الله تعالى كما في قوله تعالى: {قل لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إليَّ محرّما على طاعمٍ يَطْعَمُهُ إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} [سورة الأنعام/145].
أما الدم غير السائل كالكبد والطحال حلال لأنهما ليسا دما مسفوحا، الله خلقهما في بطون البهائم جامدين فهما ليسا من الدم المحرّم. فمن أكل الكبد نَيْئًا أو مطبوخا أو مشويا فهو حلال وكذلك الطحال وقد رغّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أكل الكبد فقال: "كلوا الكبد نيئا" [6] رواه الضّياء المقدسيّ، وقوله: "أحلّت لكم ميتتان ودمان السّمك والجراد والكبد والطّحال" [7]. والدّم الذي ينز من اللحم الطّازج ويسيل منه هذا غير حرام كذلك لو احمرَّ المرق من اللحم المقطّع الطّازج لا يحرم إنّما الحرام هو الدّم المسفوح والمسفوح هو الدّم الذي يتفجّر من مخرجه عند الذّبح، هذا وإنْ جمد بعد ذلك فأكله حرام أيضا. الكبد والطّحال واللحم الطّازج إذا وُضع في وعاء فسال منه هذا اللون الأحمر فهذا ليس بنجس.
3- {ولحم الخنزير} أي كذلك حرم عليكم أكل لحم الخنزير سواء كان هذا الخنزير بريّا أو أهليّا يربى في المداجن والمنازل كما في بعض البلاد فهذا حرام سواء كان نيئا أو مطبوخا على النّار فلا تزول النّجاسة عنه ولو قال الأطباء يزول ما به من أذى فمن استحلّ أكله كفر وذلك لأنّه محرّم في جميع الشّرائع، ولا يجوز إهداؤه للنّصرانيّ ولا لليهوديّ ولا للمجوسيّ. ومن باع الخنزير الحيّ إلى نصرانيّ وأكل ذلك الثّمن فقد أكل حراما فإنّ الله حرّم أكله وحرّم أكل ثمنه وهو حرام على الذي يستطيع أن يستعمل ما يكافح به الأمراض الّتي في لحم الخنزير وعلى الذي لا يعرف كيف يكافح هذه الأمراض الّتي تتولّد من أكل لحم الخنزير حرام على الجميع. فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّ الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، قالوا: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة تطلى بها السّفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها النّاس، قال: "لا هو حرام" رواه البخاريّ [8] ومسلم [9].
4- {وما أُهلَّ لغير الله به} أي ما ذبح لعبادة غير الله كتعظيم الأصنام، الشّيء الذي يذكر عليه اسم غير الله كما يفعل بعض الوثنيين لمّا يذبحون لأوثانهم يذبحون الذّبيحة ويذكرون عليها اسم ذلك الوثن فلا يجوز ذكر اسم غير الله على الذّبيحة ففي الجاهليّة كانوا يذبحون تقرّبا إلى هذه الشّياطين كذلك كانوا يذبحون لعبادة الأصنام كان عندهم وثن كبير يسمونه "هُبَل" وعندهم "مَناة" وعندهم "اللاّت" وعندهم "العّزَّى" وهذه الأخيرة كانت شيطانة أنثى، سيّدنا خالد بن الوليد ذهب إلى الشّجرة الّتي كانت تظهر صوتها فيها ذهب إلى هناك فقطعها وقتل الشّيطانة صادفها هناك كانت متشكّلة بشكل أنثى من البشر وقال لها:
يا عزّى كفرانك لا سبحانكِ
إنّي رأيتُ الله قد أهانكِ

وكان لقبائل العرب المشركين طواغيت والطّاغوت هو الشّيطان ينزل على إنسان ويتكلّم على فم هذا الإنسان فكانوا في الجاهليّة يعظّمون هذا الإنسان من أجل الشّيطان الذي ينزل فيه ويتكلّم على لسانه.
وهذه المذكورات الأربعة أي الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهلّ لغير الله به محرّمة في جميع شرائع الأنبياء. قال الشّيخ ابن قدامة المقدسيّ في <المغني> ما نصّه [10]: "أجمع العلماء على تحريم الميتة حال الاختيار وإباحة الأكل منها في الاضطرار".
5- {والمنخنقة} البهيمة الّتي تؤكل إذا زالت حياتها بالخنق حرم أكلها فمن هنا يتبيّن فساد ما يفعله بعض الجهّال ومنهم من هو في عداد المسلمين من أنّهم وعلى طريقة الأوروبيّين يغرقون الدّجاج الحيّ بالماء المغليّ فتختنق ثم يقطّعونها فهذه لا يحلّ أكلها.
6- {والموقوذة} أي حرم عليكم الموقوذة أي أكلها حرام وهي البهيمة الّتي ضربت بالعصا أو بشيء ثقيل حتّى ماتت من قوّة الألم فأكلها حرام ولو ذبحها لا يجعلها حلالا وكذلك البهيمة الّتي ضربت بالمطرقة على جبهتها أو رأسها لتدوخ وتقع على الأرض ليسهل عليهم ذبحها فإن وصلت إلى حدّ أنها فقدت الحركة الاختياريّة لأنّها صارت في ءاخر رمق وصارت حركتها كحركة المذبوح فهذه لا تحلّ لأنّها لو تُركت بدون ذبح لماتت أما إذا داخت من الضّرب وبقيت فيها حركة عاديّة اختياريّة فهذه إذا ذُبحت فالذبح يحلّها لأنّها لم تفقد حركتها الاختياريّة. والّذي يضرب البهيمة هذا الضّرب حرام عليه لأنّ فيه تعذيب خلقٍ من خلقِ الله بدون سبب شرعيّ. أمّا إذا شردت البهيمة وخاف عليها صاحبها أنْ تقع من أعلى الجبل فإذا ضربها ليمسكها يكون ضربه بسبب فليس حراما. أمّا ما يفعله بعض الجزّارين مِن أنّه يقطع بالسكين العصب في رجل البهيمة من الخلف عند العقب كي لا تستطيع الهرب أو أنْ تناطح بقوة فإنّ ذلك لا يؤثّر على شرعيّة ذبحها. كذلك لو أنّ بقرة مثلا كُسِرَتْ رجلها أو صدمتها سيّارة وبقي فيها حياة مستقرة أي لم تكن في حال النّزاع وكانت بحيث لو ذُبِحَتْ تزيد حركتها ويتفجّر الدم فيحلّ أكلها.
7- {والمتردّية} وهي البهيمة الّتي وقعت وتردّت من علوٍ كأنْ وقعت من أعلى الجبل فماتت فهذه حرام لا يحلّ أكلها وكذلك لو رماها شخص فتردّت من علو وماتت فلا تؤكل.
8- {والنّطيحة} أي حرام عليكم أكل النطيحة وهي الّتي ماتت بالانتطاح مع بهيمة أخرى، مثلا كبش صار ينطح كبشا ءاخرَ فقتل أحد الكبشين الآخر فهذا الكبش الآخر المقتول ميتة لا يحلّ أكله. وهذا الفعل أي التحريش بين البهائم بين كلبين أو ديكين أو كلب وهرّة كما يفعل بعض النّاس مِن أنّهم يسلّطون ديكا على ديك فيتناقران ويتناهشان بالمنقار وغيره فيغلب أحدهما الآخر فهو حرام. أليس ورد في حديث أنّ امرأة دخلت النار في هرّة حبستها فلا هي أطعمتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشائش الأرض أي من حشرات الأرض، رواه البخاريّ ومسلم [11] وغيرهما.
9- {وما أكل السَّبُعُ} أي حرم عليكم ما أكل السّبع {إلاّ ما ذكّيتم} فالبهيمة الّتي أكلها السّبع كالأسد أو النّمر فماتت فهي حرام أما إذا أخذ منها السّبع شيئا من جسدها ولم يقتلها كأنْ أخذ من ألية الغنم ولم يقتلها ثمّ ذبحت فهي حلال لكنّ القطعة الّتي قطعها السّبع صارت ميتة حرام أكلها لأنّ الجزء الذي ينفصل عن حيوان وهو حيّ يكون كميتة ذلك الحيوان فألية الغنم إذا قطعت وهو حيّ فحكم هذه القطعة كحكم ميتته فلا يحلّ أكلها. ومعنى الميتة ما مات من البهيمة المقدور عليها بدون ذبح شرعيّ.
10- {وما ذُبِحَ على النُّصُبِ} أي حرم عليكم ما ذبح على النّصُب أي الأوثان وهي حجارة كانوا ينصبونها ويعبدونها من دون الله فيذبحون الذّبيحة تعظيما لها ويهريقون أي يصبّون دمها على هذا النّصب وهذا عندهم تعظيم لهذا الوثن وعبادة له فأكلها حرام، كأنّهم يخاطبون النّصب تذللنا لكم فنرجو رضاكم على زعمهم.
11- {وأنْ تستقسِموا بالأزلام} وهذا حرام وهي تسعة ثلاثة للبخت والنّصيب واحدة عليها افعل والثانية عليها لا تفعل والثّالثة ما عليها كتابة إذا حصل قتلٌ أو سفك دم بين القبائل، في الجاهليّة كانوا يستعملون ثلاثة من السّتّة الباقية لمعرفة من يتحمّل الدِّية والثّلاثة الباقية من الأزلام لإلصاق الولد أو نفيه أو إثباته كأنِ اتّهم زوجته بالزّنا، فمعنى وأنْ تستقسموا بالأزلام طلب الحظِّ والنّصيب بالسّهام الّتي كانت الجاهليّة يستعملونها، كانوا إذا أرادوا سفرا أو غير ذلك يضربون بهذه السّهام يخلطونها ببعضها ثم يخرج لهم الشّخص الموكّل بهذا الشّيء واحدا من غير أن ينظر فإن طلع السّهم المكتوب عليه افعل يمضي في تلك الحاجة يقول تنجح وإذا طلع السّهم المكتوب عليه لا تفعل يقول هذا الأمر لا ينجح وليس لي في هذه الحاجة حظٌّ فيترك هذا الأمر إنْ كان سفرا أو كان زواجا أو غير ذلك وإنْ طلعت الّتي ليست عليها كتابة يعيد الخلط. كانوا يعتمدون على هذه الأزلام أي السّهام وكانوا في الجاهليّة في مكة يستعملون هذا الشّيء ضمن الكعبة الشّريفة يأتي صاحب الحاجة يقول لهم أريد أن أستقسم أي أنْ أعرف حظّي ونصيبي فيخلط له هذا الشّخص الموكّل بالسّهامِ السّهامَ بعضها ببعض ثم يخرج له واحدا ليعمل بمقتضاه فهذا حرام من الكبائر لأنّه لا يعلم الغيب إلاّ الله. كانوا عملوا صورة لها ظلّ أي مجسّمة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام ووضعوا على أيديهم هذه السّهام ليوهموا النّاس أنّ إبراهيم وإسماعيل كانا يعملان هذا الشّيء وما كان إبراهيم وإسماعيل يعملان بهذا الشّيء لأنّه ممّا حرّم الله تعالى، وإنّما المشركون في الجاهليّة بعدما كفروا بالله ولم يؤمنوا به ولا بمشيئته وتركوا التوكّل على الله وتركوا دين إبراهيم أي الإسلام وصاروا مشركين عملوا بهذا الشّيء أي صاروا يطلبون معرفة الحظِّ والنّصيب بهذه الأشياء الّتي عملوها. وما يسمّى التّبصير بالفنجان أو بالودع أو بالرّمل أو بالنّجوم أو بالكفِّ أو بالورق المسمّى "بالشدّة" فهو حرام.
قال الله تعالى: {ذ'لكم فسق} فهذه الأشياء الّتي ذكرت في هذه الآية كلّها من المحرّمات الكبيرة.
وما ذكرناه في شرح هذه الآية مع ما يتضمن ذلك هو من المسائل المعروفة عند العلماء المعتبرين ولا تخفى إلاّ على من لا فَهم له بالدّين والتّفسير، فقد نصّ الإمام الحافظ السّيوطيّ في تفسير موجز له لهذه الآية فقال رحمه الله: "{وحُرِّمت عليكم الميتةُ} أي أكلها {والدّمُ} أي المسفوح كما في [الأنعام] {ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به} بأنْ ذبح على اسم غيره {والمنخنقةُ} الميتة خنقا {والموقوذةُ} المقتولة ضربا {والمتردّيةُ} السّاقطة من علو إلى أسفل {والنّطيحةُ} المقتولة بنطح أخرى لها {وما أكل السّبُعُ} منه {إلاّ ما ذكّيتمْ} أي أدركتم فيه الرّوح من هذه الأشياء فذبحتموها {وما ذُبح على} اسم {النُّصُبِ} جمع ناصب وهي الأصنام {وأنْ تستقسموا} تطلبوا القسم والحكم {بالأزلام} جمع زلم بفتح الزّاي وضمِّها مع فتح اللاّم قِدح بكسر القاف صغير لا ريش له ولا نصل وكانت سبعة عند سادن الكعبة عليها أعلام وكانوا يحكِّمونها فإنْ أمرتْهم ائتمروا وإنْ نهتهم انتهوا {ذ'لكم فسق} خروج عن الطّاعة" اهـ

 

فبعد كلام الإمام الكبير جلال الدين السّيوطيّ رحمه الله نورد بعون الله أقوالا للعلماء الأكابر والفقهاء النّجباء الّذين يُعتدّ بقولهم فنقول: ذكر الإمام أبو عبدالله محمّد بن علي الحكيم الترمذيّ في كتابه <المنهيّات> ما نصّه [12]: "وأما قوله "ونهى أنْ يذبح بالسّنِّ والظّفر" لأنّه لا يقطع قطع الشّيء الحادّ وإنّما يبرد الأوداج ويمزِّقها فيصير كهيئة الموقوذة وإذا لم يقطع الوَدْجَ ولم يَسلِ الدّمُ فجمدَ فيه فصار ءاكلا للدّم" اهـ.
وذكر الشّيخ موفّق الدّين أبو محمّد بن قدامة الحنبليّ المقدسيّ في كتابه <المغني> [13] عند شرح قول الخِرَقيِّ: "وإذا أرسل كلبه فأضاف معه غيره لم يؤكل إلاّ أن يدرك فيه الحياة فيذكّى" ما نصّه: "معنى المسئلة أنْ يرسل كلبه على صيد فيجد الصّيد ميتا ويجد مع كلبه كلبا لا يعرف حاله ولا يدري هل وجدت فيه شرائط صيده أو لا ولا يعلم أيّهما قتله أو يعلم أنّهما جميعا قتلاه أو أنّ قاتله الكلب المجهول فإنّه لا يُباح إلاّ أنْ يدركه حيّا فيذكّيه، وبهذا قال عطاء والقاسم بن مخيمرة ومالك والشّافعيّ وأبو ثور وأصحاب الرّأي ولا نعلم لهم مخالفا، والأصل فيه ما روى عديّ بن حاتم قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلتُ أرسل كلبي فأجد معه كلبا ءاخر، قال: "لا تأكل فإنّك إنّما سمّيت على كلبك ولم تسمِّ على الآخر" [14]، وفي لفظ: "فإنْ وجدت مع كلبك كلبا ءاخر فخشيت أنْ يكون أخذه معه وقد قتله فلا تأكل فإنّك إنّما ذكرت اسم الله على كلبك" [15]. وفي لفظ: "فإنّك لا تدري أيّهما قتل" [16] اهـ.
وفي <الشّرح الكبير> [17] للشّيخ شمس الدّين أبي الفرج ابن قدامة ما نصّه: "[فصل] وحكم ءالات الصّيد حكم المعراض في أنّها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصّيد كالسّهم يصيب الطّائر بعرضه فيقتله أو الرّمح والحربة والسّيف يضرب به صَفْحا فيقتل فكلّ ذلك حرام وكذا إن أصاب بحدّه فلم يجرح وقتل بثقله لم يبحْ لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "ما خرَق [18] فكُلْ" [19] ولأنّه إذا لم يجرحه فإنّما يقتل بثقله فأشبه ما أصاب بعرضه. [مسئلة: وإنْ نصب مناجل أو سكاكين وسمّى عند نصبها فقتلت صيدا أبيح فإنْ بان منه عضو فحكمه حكم البائن بضربة الصّائد على ما نذكره] [20]. وروي نحو هذا عن ابن عمر وهو قول الحسن وقتادة، وقال الشّافعيّ لا يباح بحال لأنّه لم يذكِّه أحد وإنّما قتلت المناجل بنفسها ولم يوجد من الصّائد إلاّ السّبب فجرى ذلك مجرى من نصب سكّينا فذبحت شاة ولأنّه لو رمى سهما وهو لا يرى صيدا فقتل صيدا لم يحل فذا أولى. ولنا قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "كلْ ما ردّت عليك يدك" [21] ولأنّه قصد قتل الصّيد بما له حدّ جرت العادة بالصّيد به أشبه ما ذكرنا والتسبّب يجري مجرى المباشرة في الضّمان فكذلك في إباحة الصّيد، وفارق ما إذا نصب سكّينا فإنّ العادة لم تجر بالصّيد بها وإذا رمى سهما ولم يرمِ صيدا فليس ذلك بمعتاد والظّاهر أنّه لا يصيب صيدا فلم يصحّ قصده بخلاف هذا" اهـ.
وذكر القاضي أبو شجاع أحمد بن الحسين بن أحمد الأصفهانيّ الشّافعيّ رحمه الله تعالى في كتابه المسمّى <متن الغاية والتقريب> المعروف لدى طلاّب العلم الشرعيّ، في كتاب الصّيد والذّبائح، قال [22]: "وما قدر على ذكاته فذكاته في حلقه ولبّته [23] وما لم يقدر على ذكاته فذكاته عقره حيث قدر، وكمال الذّكاة أربعة أشياء قطع الحلقوم والمريء والودجين والمجزئ منهما شيئان قطع الحلقوم والمريء ويجوز الاصطياد بكلّ جارحة معلَّمة من السّباع ومن جوارح الطّير. وشرائط تعليمها أربعة: أنْ تكون إذا أرسلت استرسلت وإذا زجرت انزجرت وإذا قتلت صيدا لم تأكل منه شيئا وأن يتكرّر ذلك منها فإنْ عدمت إحدى الشرائط لم يحل ما أخذته إلا أنْ يدرك حيا فيذكّى، وتجوز الذّكاة بكل ما يجرح إلا بالسّنّ والظّفر. وتحلّ ذكاة كل مسلم وكتابيّ ولا تحلّ ذبيحة مجوسيّ ولا وثنيّ، وذكاة الجنين بذكاة أمّه إلاّ أنْ يوجد حيّا فيذكّى وما قطع من حيّ فهو ميت إلا الشّعور المنتفع بها في المفارش والملابس" اهـ.
وقال الشّيخ أبو إسحاق الشّيرازيّ في <المهذّب> [24]: "والمستحبّ أن يذبح بسكّين حادّ لما روى شداد بن أوس رضي الله عنه أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: "إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة وليُحِدْ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" [25] فإنّ ذبح بحجر محدّد أو لِيْطة [26] حلّ لما ذكرناه من حديث كعب بن مالك في المرأة الّتي كسرت حجرا فذبحت بها شاة، ولما رُوي أنّ رافع بن خديج قال يا رسول الله إنّا نرجو أنْ نلقى العدوّ غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقَصب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ما أنهر الدّم وذُكر اسم الله عليه فكلوا ليس السّنّ والظّفر وسأخبركم عن ذلك أمّا السّنّ فعظم وأمّا الظّفر فمُدَى الحبشة" [27] فإنْ ذبح بسنٍّ أو ظفر لم يحل لحديث رافع بن خديج" اهـ.
قال النوويّ في <شرح المهذّب> [28]: "ولو أمرَّ السكّين ملتصقا باللحيين فوق الحلقوم والمريء وأبان الرّأس فليس هو بذبح لأنّه لم يقطع الحلقوم والمريء" اهـ.
فإذا كان بهذه الكيفيّة لا يحلّ أكلها فكيف إذا صعقت البهيمة بالكهرباء فماتت؟ وكيف إذا ضُربت البهيمة حتى يتلف دماغها ولم يبقَ فيها حياة مستقرّة ثم بعد ذلك تقطّع؟
وقال في موضع ءاخر [29]: قد ذكرنا أنّ مذهبنا اشتراط قطع الحلقوم والمريء بكمالهما وأنّ قطع الودجين سنّة وهو أصحّ الروايتين عن أحمد. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّه إذا قطع بما يجوز الذّبح به وسمَّى وقطع الحلقوم والمريء والودجين وأسال الدّم حصلت الذّكاة الشرعيّة وحلّت الذّبيحة" اهـ.
فبعد أنْ نقلنا ما نقلناه من كتاب <المجموع> للحافظ الفقيه يحيى بن شرف الدّين النّوويّ الشّافعيّ رحمه الله تعالى يتبيّن لنا أنّ الذّبيحة الّتي طرأ الشّكّ في صحّة ذكاتها لا تؤكل وهذا ما قرره العلماء الأجلاء فبالأولى اللحم المعلّّب أو المجلّد لا يحلّ أكله مع الشكّ في صحة ذكاته سواء من جهة الشّكّ في كون الذّابح مسلما أو كتابيّا أو غير ذلك في بلد أهله ينتمون إلى دين غير الإسلام وكذلك إنْ شكّ في صحّة الذّبح هل تمّ بشروطه الّتي ذكرها الفقهاء والّتي هي أربعة:
- أنْ يكون الذّّبح بفعل مسلم أو كتابيّ.
- وأنْ يكون الذّبح بقطع الحلقوم والمريء.
- وأنْ يكون بآلة حادة غير الظّفر والعظم والسّنّ.
- وأنْ لا يذكر عليها غير اسم الله.
وقد روى الإمام مسلم رحمه الله من حديث شدّاد بن أوس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة وليُحِد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" [30].
وقد سئل العالم الشهير المحقّق عبدالله الشّيبيّ أدام الله عزّه وجعله ذخرا لعلماء الأمّة الإسلاميّة عن قول -مَنْ أحلّ أكل اللحم الذي يباع في أسواق أميركا مستدلاّ أنّ اللحم الحلال مختلط بلحم حرام غير محصور على مسئلة التزوّج من أجنبيّات غير محصورات على زعمه- فقال لطف الله به:
"عليه في ذلك مؤاخذتان:
- الأولى: دعواه أنّ الفقهاء أحلّوا اللحم الحلال والحرام إذا اختلطا في بلد فإنّ هذه الدعوى منقوضة بما أجمع عليه الفقهاء من أنّ الشّكّ في باب اللحم مؤثر أخذًا من الأحاديث الواردة في هذا الحكم.
- الثانية: دعواه القياس ومن هو حتى يقيس ألم يعلم أنّ الأصوليين نصّوا على أنّ القياس من وظيفة المجتهد فقد نقل الإجماع على تحريم ما يشكّ فيه من اللحم شهاب الدّين القرافيّ وغيره <الفروق> [31] ونقل ذلك عنه المواق في كتابه <التّاج والإكليل> فقال [32]:
"وشهاب الدّين في الفرق الرابع والأربعين بين الشّكّ في السّبب والشّكّ في الشّرط: أشكل على جمع من الفضلاء، قال: شرع الشّارع الأحكام وشرع لها أسبابا وجعل من جملة ما شرعه من الأسباب الشّكّ وهو ثلاثة مجمع على اعتباره كمن شكّ في الشّاة المذكّاة والميتة وكمَن شكّ في الأجنبيّة وأخته من الرّضاعة.
ومجمع على إلغائه كمن شكّ هل طلّق أم لا وهل سها في صلاته أم لا فالشّكّ هنا لغوٌ.
وقسم ثالث اختلف العلماء في نصبه سببا كمن شكّ هل أحدث أم لا، فاعتبره مالك دون الشّافعيّ، ومن حلف يمينا أو شكّ ما هي، ومن شكّ هل طلّق واحدة أو ثلاثا" اهـ.
وأما الأخبار الّتي يحتجّ بها العلماء إذا شكّ في اللحم هل هو ممّا يحل أكله أم لا فمنها حديث عديّ بن حاتم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "إذا رميت الصّيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلاّ أثر سهمك فكلْ وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكلْ" متفق عليه [33]. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أفتني في سهمي فقال: "ما ردّ عليك سهمك فكلْ" قال وإنْ تغيّب عني، قال: "وإن تغيّب عنك ما لم تجد أثرا غير أثر سهمك أو تجده قد صَلَّ" [34] رواه أبو داود [35]. وما رواه عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبا ءاخر قال: "لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمِّ على الآخر"، وفي رواية: "فإنْ وجدتَ مع كلبك كلبا ءاخر فخشيت أنْ يكون أخذ معه وقد قتله فلا تأكلْه فإنّك إنّما ذكرت اسم الله على كلبك"، وفي رواية: "فإنّك لا تدري أيّهما قتل". وما رواه عديّ بن حاتم أيضا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: "إذا رميت الصّيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكلْ وإنْ وجدته غريقا في الماء فلا تأكل" [36].
وهذه الأخبار هي مستند الإجماع فبعد هذا لا يجوز أن يُصغى إلى مَن يحلّ اللحوم الّتي تباع في بلاد لا يعرف عنها الذّبح الشرعيّ إلاّ ما يباع في بلد يكون فيه الذّبائح بأيدي مسلمين أو كتابيّين ذبحا باليد لا خنقا ولا صعقا بالكهرباء أو غير ذلك ممّا يشبه ذلك. فإنْ كان البلد لا يوجد فيه إلا مسلمون أو كتابيّون فالأمر ظاهر أو يكون المسلمون فيه أغلب من الّذين تكون طريقة إزهاقهم أرواح البهائم غير معتبرة شرعا بحيث تكون الطّريقة الشّرعيّة هي أغلب استعمالا في البلد والطّريقة الأخرى قليلة الوجود.
فالبلد الذي يكون فيه الذّبائح على هذه الحال يحلّ شراء اللحم منها للأكل، وأمّا أمْرُ أكثر البلاد اليوم فالأمر على العكس مِن ذلك لأنّه لا يكاد يوجد مَن يذبح ذبحا معتبرا شرعا، وذلك أنّ الفقهاء ألحقوا الحالة الّتي يكون فيها البلد من تحل ذكاته أغلب إلى الّذين لا تحلّ ذكاتهم بالبلد الّتي ليس فيها إلاّ ذبائح مَن تحلّ ذكاته وهم المسلمون والكتابيّون الّذين لا يذكّون البهائم تذكية شرعيّة، وهذا الذي أفتى بحلّ اللحم الذي يباع في أسواق لا يُعرف عنها الذّبح الشرعيّ زاعما القياس فإنّما هو مجازف منابذ لقول الحنفيّة وغيرهم، ليرجع إلى نصوص الحنفيّة لأنّهم موافقون في هذه المسئلة لغيرهم لأنّ المسئلة إجماعيّة فكيف يقوّلهم ما لم يقولوا ومِن أين له أن يدّعي القياس والقياس كما بيّنّا فيما سبق خاصٌّ بالمجتهدين كما ذكر ذلك الإمام الشّافعيّ والإمام ابن المنذر.
ونصيحتنا له ولأمثاله أنْ لا يتجاوزوا حدّهم ولا يغشّوا الناس بهذه الفتاوى الجديدة الفاسدة وليذكروا وقوفهم بين يدي الله [37] يوم القيامة، وأمّا قوله إنّ الرّسول أكل من جبن النّصارى ولم يسألْ عنه وإنَّ ذلك ورد في حديث صحيح فقولوا له مَن روى ذلك ومَن صحّحه من المحدّثين ولن يجد إلى ذلك سبيلا بل الواقع أنّه روي عن عمر بن الخطّاب أنّه أُتِيَ بجبن يصنعه المجوس وعادتهم أنْ يضعوا فيه إنفحة الخنزير فأكل منه ولم ينسب هذا إلى الرّسول ذو تحصيل في علم الحديث ونسبة ابن حجر الهيتميّ في شرحه على <منهاج الطالبين> وتلميذه المليباريّ إلى رسول الله أنّه أكل من جبن المجوس لا عبرة به لأنّه لم يَعْزُه إلى أحد من المحدّثين وأنّه لم يذكر أنّ هذا جبن النّصارى كما ادّعى هذا المجازف، فتبيّن أنّ هذا المجازف يبني أمره على وهْم في وهْم فليتقِ الله.
وذكر الإمام ابن عقيل الحنبليّ وغيره أنه سأل الإمام أحمد بن حنبل عن الجبن الذي يصنعه المجوس فقال لا أدري إلاّ أنَّ أصحّ حديث فيه حديث الأعمش عن أبي وائل عم عمرو بن شرحبيل قال سأل عمر عن الجبن فقيل له يُعمل فيه الإنفحة الميتة [38] فقال: "سمّوا أنتم وكلوا" رواه أبو معاوية عن الأعمش [39] وقال أليس الجبن الذي نأكله عامّته يصنعه المجوس.
وعجبٌ عجاب قياس هذا الرجل المجازف اللحوم على الجبن وهذا دليل على أنّه ليس محقّقا في فقه الحنفيّة كمّا أنّه ليس محصّلا في غيره وأيّ فقيه أو متفقّه يساوي الجبن باللحم، سبحانك هذا بهتان عظيم.
تنبيه: قول أحمد في صدر الجواب "لا أدري" دليل على أنّه لم يطمئن لمسئلة الجبن الّتي شُهِرَ بأنّها من عمل المجوس الّذين جرت عادتهم على أنْ يجبنوا اللبن بإنفحة الخنزير، وقوله "إلاّ أنّ أصحّ حديث فيه" يعني به أنّ هذا أقرب ما يروى في مسئلة الجبن وليس معناه الجزم بصحّة ذلك عن عمر ولو كان يرى صحّة ذلك عن عمر باطمئنان البال لم يقل لا أدري.
وأما أكل عمر من ذلك فمبنيّ على أنّ ما سوى اللحوم مِن الأجبان والألبان والجلود لا يجب البحث فيه كما قرّر ذلك علماء الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة فهم متفقون على أنّه لا يجب العمل بالشّكّ في غير اللحوم أي الجبن والسّمن ونحوه، فيكون عمر أراد أنْ يبيّن للنّاس أنّه لا يحرم بالشّكّ كما يحرم اللحم، فيُقال لهذا المفتي إنّك خلطتَ وخبطتَ خبط عشواء، فاتَّقِ الله إلى أين يذهب بك وهمك. انتهى جواب سيّدنا الإمام الشيّبيّ رضي الله عنه.
قال الفقيه النوويّ الشّافعيّ في كتاب <المجموع شرح المهذّب> [40]: "فرع: لو وجدنا شاة مذبوحة ولم ندر من ذبحها فإنْ كان في بلد فيه من لا يحلّ ذكاته كالمجوس لم تحل سواء تمحّضوا أو كانوا مختلطين بالمسلمين للشّكّ في الذّكاة المبيحة والأصل التّحريم وإن لم يكن فيه أحد منهم حلّت".
وفي <الفتاوى الكبرى> [41] لابن حجر الهيتميّ الشّافعيّ ما نصّه: "وسئل نفع الله ببركاته عن شاة مذبوحة وجدت في محلّة المسلمين ببلد كفّار وثنيّة وليس فيهم مجوسيّ ولا يهوديّ ولا نصرانيّ فهل يحلّ أكل تلك الشّاة المذبوحة الّتي وجدت في تلك المحلّة أم لا؟ فأجاب بأنّه حيث كان ببلد فيه من يَحلّ ذبحه كمسلم أو يهوديّ أو نصرانيّ ومَن لا يحلّ ذبحه كمجوسيّ أو وثنيّ أو مرتدّ ورُؤيَ بتلك البلد شاة مذبوحة مثلا وشكّ هل ذبحها مَن يحلّ ذبحه لم تحلّ للشّكّ في الذّبح المبيح والأصل عدمه" اهـ.
وفي <الأشباه والنّظائر> للسّيوطيّ [42] الشّافعيّ ما نصّه: "الفائدة الثّانية: قال الشّيخ أبو حامد الأَسفرايينيّ الشّكّ على ثلاثة أضرب شكّ طرأ على أصل حرام، وشكّ طرأ على أصل مباح، وشكّ لا يُعرف أصله، فالأوّل مثل أن يجد شاة في بلد فيه مسلمون ومجوس فلا يحلّ حتى يعلم أنّها ذكاة مسلم لأنّها أصلها حرام وشككنا في الذّكاة المبيحة" اهـ.
وفي كتاب <التّاج والإكليل لمختصر خليل> [43] في فروع فقه المالكيّة في باب الضّوء نقلا عن شهاب الدّين القرافي ما نصّه: "الفرق الرّابع والأربعون بين الشّكّ في السّبب والشّكّ في الشّرط، وقد أشكل على جمع من الفضلاء قال: شرع الشّارع الأحكام وشرع لها أسبابا وجعل من جملة ما شرعه من الأسباب الشّكّ، وهو ثلاثة مجمع على اعتباره كمَنْ شكّ في الشّاة المذكّاة والميتة وكمَنْ شكّ في الأجنبيّة وأخته في الرّضاعة" اهـ.
وقال ابن رجب الحنبليّ في شرحه على <الأربعين النوويّة> المسمّى <جامع العلوم> ما نصّه [44]: "وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا يحلّ إلاّ بيقين حلّه من التّذكية والعقد، فإنْ تردّد في شيء من ذلك لظهور سبب ءاخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فيبني فيما أصله الحرمة على التّحريم ولهذا نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أكل الصّيد الذي يجد فيه الصّائد أثر سهم غير سهمه أو كلب غير كلبه أو يجده قد وقع في ماء، وعلّل بأنّه لا يدري هل مات من السّبب المبيح له أو من غيره" اهـ.
وقد ذكر العلاّمة الفقيه المحدّث الشّيخ عبدالله الهرريّ في كتابه <بغية الطّالب> [45] معاصي البطن ما نصّه: "أكلُ النّجاساتِ من جملةِ معاصي البطن كالدّم المسفوح أي السّائل ولحمِ الخنزير والميتةِ" اهـ.
فإنْ كان أكل لحم الميتة ذكره العلماء أنه من جملة معاصي البطن وحرام بنصّ القرءان وأما استعمال شحومها لطلاء السّفن وإضاءة القناديل فلا يحرم وقد مرّت مسئلة الجبن والسّمن تفصيلا وهذا نصّ جواب الإمام حجّة عصره وفريد زمانه الإمام الشّيبيّ عندما سئل عن السّمن المتّخذ من حليب ودهن فأجاب: "إنّ مَن اعتقد أنّ هذا الدّهن سمنٌ مأخوذ من حليب بقر أو غنم ثمّ شكّ هل فيه شحم أو ألية لا يحرم عليه استعمال هذا السّمن ومن علم أنّه مخلوط من السّمن المتّخذ من الحليب ومن الشّحم أو الألية فلا يحلّ له أنْ يستعمله إلاّ بعد معرفة حال الذّابح للبقرة أو الغنم هل هو ممن تحلّ ذبيحته أو لا".
وخلاصة ما مضى من البحث العميق وبعد التّحقيق والتّدقيق في هذه المسئلة فهاكم خاتمة مختصرة احتوت على لبّ المسئلة نقول: اتّفق المذاهب الأربعة على أنّه لا يحلّ أكل اللحم إلاّ أنْ يُعلم أنّ مَن ذبح مسلم أو يهوديّ أو نصرانيّ أو ممّا صاده واحد منهم مِن غير ميتة السّمك والجراد وكذلك عند غيرهم من الأئمّة واتّفقوا أيضًا أنّ ما شُكَّ في تذكيته ذكاة شرعيّة فهو حرام بدليل حديث البخاريّ ومسلم عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإنْ أمسك عليك فأدركتَه حيّا فاذبحه وإنْ أدركته قد قُتل ولم يأكلْ منه فكلْه، وإنْ وجدتَ مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنّك لا تدري أيّهما قتله، وإنْ رميتَ سهمك فاذكر اسم الله فإنْ غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكلْ إن شئت، وإنْ وجدته غريقا في الماء فلا تأكلْ" [46]، وفي رواية: "فإنّك لا تدري الماء قتله أمْ سهمك" [47].
فيؤخذ منه أنّه لا يجوز الأكل من اللحم الذي يشكّ في ذابحه مسلم هو أم كتابيّ أو غيرهما أو هل هو مقتول خنقا أو ذبحا أو غير ذلك.
وأمّا حديث عائشة إنّ أناسا من الأعراب حديثي عهد بكفر يأتوننا بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "سمّوا الله أنتم وكلوا" [48] فليس فيه دليل لحلّ ما لم يُعلم حال ذابحه أمسلمٌ أم كتابيٌّ أم وثنيّ بل الحديث فيمن هو مسلم لكنّه قريب عهد بالكفر أي أنّه أسلم مِن قريب لم يمضِ عليه منذ أسلم زمان طويل، وقد احتجّ به بعض أدعياء الدّين المحرّفين لهذا الدّين لمحاولة إباحة ذبيحة الوثنيّين كأنّه لم يرَ قول عائشة رضي الله عنها قريبي عهد بكفر.
وأمّا الآية الّتي يحتجّ بها بعض النّاس فيفسّرونها تفسيرا خطأ وهي قوله تعالى: {يا أيّها الرّسل كلوا من الطيّبات واعملوا صالحا} [سورة المؤمنون/51]. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه حديثا يفسّر الرّسول به هذه الآية وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" [49] فقال: {يا أيها الرّسل كلوا من الطيّبات واعملوا صالحا} [سورة المؤمنون/51]. وكذلك الطيّبات في هذا الحديث ما كان من المأكولات حلالا، هذا معنى الطيّبات في هذا الحديث وليس معنى الطيّبات المستلذّات، وكذلك في هذه الآية الطيّبات هي الأشياء الّتي أحلّها الله، والله تعالى رخّص لبني ءادم الأكل مِن الحلال، ومفهوم ذلك النّهي عن الأكل ممّا حرّم الله، فيجب على المكلّف أنْ يعرف ما أحلّ الله من المأكول والشّراب قبل تعاطيه يجب أن يعرف ما أحلّ الله وما حرّم لأنّه إذا عرف ذلك أكل من الطيّبات أي ممّا أحلَّ الله وترك أكلَ ما حرّم الله، أمّا إذا لم يعرف بأنْ لم يتعلّم ذلك فإنّه يقع فيما حرّم الله، ثمّ إنّ الإنسان لا يُعذر يوم القيامة بقوله إنّي كنت جاهلا إذا أكل في الدّنيا ما شاء ولم يقتصر على الحلال.
ونصيحتي لكلّ مَن أفتى بإباحة أكل اللحم المشكوك فيه أنْ يتّقيَ الله وأن يذكر وقوفه بين يدي الله للحساب يوم لا ينفع مداهنا مداهنته وأنْ يرجع عن فتواه إلى الصّواب الذي بيّناه وليذكر قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السّماء والأرض" رواه ابن عساكر في تاريخه [50]، وقوله: "من تعمّد عليّ كذبا فليتبوّأ مقعده من النّار" [51].
وإنّي أرجو من الله العليّ القدير أنْ ينفع بما قدّمته إيضاحا لهذه المسئلة وإجلاء لشبه المحرّفين، كلَّ من أراد الصواب ونظر بعين التفكّر والإمعان لما ذكرناه من أقوال الأئمّة وءايات القرءان.
وءاخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين.

 

------------------------------------------------------------------------------------------------------

الفهرس العامّ
3. مقدّمة النّاشر.
5. بيان أنّ الميتة لا يحلّ أكلها.
6. بيان أنّ المرأة المسلمة واليهوديّة والنصرانيّة تحلّ ذبائحهنّ.
10. بيان أنّ السّمك حلال أكله ولو كان ميتا.
13. بيان أنّ الدّم المسفوح حرام أكله.
14. بيان أنّ الدّم غير المسفوح كالكبد والطّحال حلال.
15. بيان أنّ لحم الخنزير حرام أكله.
16. بيان أنّ ما ذبح لغير الله كتعظيم الأصنام لا يحلّ أكله.
17. بيان أنّ البهيمة الّتي زالت حياتها بالخنق حرام أكلها.
17. بيان أنّ البهيمة الّتي ضربت بشيء ثقيل حتى ماتت من قوّة الألم لا يحلّ أكلها.
19. بيان أنّ البهيمة الّتي تردّت من علو فماتت لا يحلّ أكلها.
19. بيان أنّ البهيمة الّتي ماتت بالانتطاح مع بهيمة أخرى لا يحلّ أكلها.
20. بيان أنّ البهيمة الّتي أكلها السّبع كالأسد فماتت لا يحلّ أكلها.
20. بيان تحريم الاستقسام بالأزلام.
23. بيان معنى قول الرسول: ونهى أنْ يذبح بالسّنّ والظّفر.
24. بيان معنى قول الخرقيّ: وإذا أرسل كلبه فأضاف معه غيره لم يؤكل الصّيد إلاّ أن يدرك فيه الحياة فيذكى.
25. بيان معنى قول ابن قدامة: وحكم ءالات الصّيد حكم المعراض في أنّها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصّيد.
27. بيان معنى قول القاضي أبي شجاع: وما قدر على ذكاته فذكاته في حلقه ولبّته.
28. بيان معنى قول الشّيرازيّ: والمستحبّ أن يذبح بسكّين حادّ.
31. بيان جواب العلاّمة الشّيخ عبدالله عن قول من أحلّ أكل اللحم الذي يباع في أسواق أميركا.
32. بيان قول العلماء في اللحم المشكوك بحلّه.
35. بيان جواب العلاّمة الشّيخ عبدالله عمن يقول إنّ الرّسول أكل من جبن النّصارى ولم يسأل عنه.
38. بيان قول النوويّ فيما لو وجدنا شاة مذبوحة ولن ندر مَن ذبحها.
38. بيان قول ابن حجر الهيتميّ حين سُئل عن شاةٍ مذبوحة وجدت في محلّة المسلمين ببلد كفّار.
39. بيان قول أبي حامد الأسفرايينيّ أنّ الشّكّ على ثلاثة أضرب.
39. بيان قول القرافي أنّ الفرق الرّابع والأربعين بين الشّكّ في السّبب والشّكّ في الشّرط.
40. بيان قول ابن رجب الحنبليّ: وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا يحلّ إلاّ بيقين حلّه من التّذكية والعقد.
40. بيان أنّ أكل النّجاسات من جملة معاصي البطن كالدّم المسفوح.
40. بيان اتّفاق المذاهب الأربعة على أنّه لا يحلّ أكل اللحم إلاّ أنْ يعلم أنّه ذبح على الطّريقة الشرعيّة، وأنّ ما شك في تذكيته ذكاة شرعيّة فهو حرام.
42. بيان حديث عائشة: إنّ أناسا من الأعراب حديثي عهد بكفر يأتوننا بلحمان.
43. بيان تفسير بعض النّاس للآية: {يا أيّها الرّسل كلوا من الطيّبات واعملوا صالحا} تفسيرا خطأً وبيان الصّواب في ذلك.
46. الفهرس العامّ.


الهامش:
[1]: أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم: باب من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين [71].
[2]: أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزّكاة: باب النّهي عن المسألة [1037].
[3]: الشّحم من الحيوان معروف والجمع شحوم، وشحُم بالضم شحامةً أي كثر شحم جسده.
والدهن بالضم ما يدهن به من زيت ونحوه وجمعه دِهان بالكسر.
[4]: أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الصّيد: باب صيد الحيتان والجراد [3218]، قال الحافظ البوصيري في <مصباح الزّجاجة> [2\168]: "هذا إسناد فيه عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف، وله شاهد من حديث عبد الله بن أبي أوفى رواه النّسائي في <الصّغرى> مقتصرًا على ذكر الجراد، وأورده ابن الجوزيّ في <العلل المتناهية> من طريق عبد الرّحمن به، ورواه الشّافعيّ وأحمد في مسنديهما والدارقطني في سننه والحاكم والبيهقيّ" اهـ، وأخرجه ابن ماجه أيضًا في: كتاب الأطعمة: باب الكبد والطّحال [3314]، وقال الحافظ البوصيري في <مصباح الزّجاجة> [2\182]: "هذا إسناد ضعيف، عبد الرّحمن هذا قال فيه ابو عبد الله الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة، وقال ابن الجوزيّ أجمعوا على ضعفه. قلت: لكن لم ينفرد به عبد الرّحمن بن زيد عن أبيه فقد تابعه عليه سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قوله، قال البيهقيّ: إسناد الموقوف صحيح، وهو في معنى المسند، قال [أي البيهقيّ]: وقد رفعه أولاد زيد بن أسلم عن أبيهم وهم كلّهم ضعفاء خرّجهم ابن معين" اهـ، وأخرجه أحمد في مسنده [2\97] عن عبد الرّحمن، والبيهقيّ في سننه [1\254] عنه أيضًا وقال بعد أن أسنده عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر موقوفًا: "هذا إسناد صحيح، وهو في معنى المسند، وقد رفعه أولاد زيد عن أبيهم" اهـ، ثم رواه عن ابن أبي أويس عن أولاد زيد وهم عبد الرّحمن وأسامة وعبد الله ثم قال: "أولاد زيد هؤلاء كلّهم ضعفاء جرحهم يحيى بن معين، وكان أحمد بن حنبل وعليّ بن المدينيّ يوثقان عبد الله بن زيد إلا أن الصحيح من هذا الحديث هو الأوّل" اهـ، وأخرجه البيهقيّ أيضًا في موضع ءاخر [9\257] وقال: "وهذا هو الصحيح" اهـ أي رواية الوقف، والدارقطنيّ في سننه [4\272] عن مطرف عن عبد الله بن زيد، وعبد بن حميد في مسنده [انظر <المنتخب>، ص/260] عن عبد الرّحمن، والخطيب البغداديّ في تاريخه [13\245] عن مسور بن الصّلت عن زيد عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، والمسور ضعّفه أحمد والبخاريّ وأبو زرعة وأبو حاتم وقال النّسائي: متروك الحديث، ورواه ابن الجوزيّ في <العلل المتناهية> [1\664]. واحتجّ به الحافظ ابن حجر في <فتح الباري> [9\621] على أنّه لا يشترط لحلّ أكل الجراد تذكيته، وقال في كتابه <التلخيص الحبير> [1\26]: "الرواية الموقوفة الّتي صححها أبو حاتم وغيره هي في حكم المرفوع لأنّ قول الصحابيّ: أحلّ لنا وحرم علينا كذا مثل قوله: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، فيحصل الاستدلال بهذه الرّواية لأنّها في معنى المرفوع" اهـ، وهذا لا يتعارض مع قوله في <بلوغ المرام> [ص\10] بعد عزوه الحديث لأحمد وابن ماجه: "وفيه ضعيف" لأنّ كلامه عن الرّواية المرفوعة وهنا تكلّم عن الرّواية الموقوفة وأنّ لها حكم المرفوع. وقال الحافظ النوويّ في <المجموع> [9\23] ما نصّه: "روى الشّافعيّ عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أحلّت لنا ميتتان ودمان أمّا الميتتان فالحوت والجراد والدمان الكبد والطّحال" قال البيهقيّ: ورواه سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: "أحلّت لنا ميتتان" الحديث، قال البيهقيّ: هذا هو الصحيح. قلت [القائل هو النوويّ]: معناه أن الصّحيح أنّ القائل: "أحلّت لنا ميتتان" هو ابن عمر لأنّ الرّواية الأولى ضعيفة جدًا لاتّفاق الحفّاظ على تضعيف عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، قال أحمد بن حنبل: روى حديثًا منكرًا: "أحلّت لنا ميتتان" الحديث، يعني أحمد الرّواية الأولى وأما الثّانية فصحيحة كما ذكره البيهقيّ، وهذه الثّانية هي أيضًا مرفوعة لأنّ قول الصّحابيّ أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو أحلّ لنا كذا أو حرم علينا كذا كلّه مرفوع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بمنزلة قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هذه قاعدة معروفة وسبق بيانها مرّات، والله تعالى أعلم" اهـ.
[5]: أخرجه بنحوه: الطبراني في <المعجم الكبير> [11/214] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال الحافظ الهيثمي في <مجمع الزوائد> [10/224-225]: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير يحيى بن سليمان الجفري وقد وثّقه الذهبي في ءاخر يحيى بن سليمان الجعفي" اهـ، وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها [انظر <الإحسان بترتيب صحاح ابن حبان>، 1/247].
[6]: حديث ضعيف لم يثبت.
[7]: تقدّم تخريجه.
[8]: أخرجه البخاريّ في صحيحه، كتاب البيوع: باب بيع الميتة والأصنام [2236].
[9]: أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب المساقاة: باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام [1581].
[10]: <المغني> [11/73].
[11]: أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب إذا وقع الذّباب في شراب أحدكم فليغمسه [3318]، ومسلم في صحيحه: كتاب البرّ والصّلة والآداب: باب تحريم تعذيب الهرّة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي [2619].
[12]: <المنهيّات> [ص/120].
[13]: <المغني> [11/14-15].
[14]: أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب البيوع: باب الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات [2054]، ومسلم في صحيحه: كتاب الصّيد والذّبائح: باب الصّيد بالكلاب المعلّمة [129/3].
[15]: أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب الصّيد: باب التّسمية على الصّيد [5475]، وانظر <صحيح مسلم> المصدر السّابق [1929/4].
[16]: أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب الذّبائح والصّيد: باب الصّيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة [5484]، ومسلم في صحيحه كما في المصدر السّابق [1929/6].
[17]: <الشّرح الكبير> مطبوع مع <المغني> [11/14-15].
[18]: أي نفذ.
[19]: أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب الذّبائح والصّيد: باب ما أصاب المعراض بعرضه [5477]، ومسلم في صحيحه كما في المصدر السّابق [1929/1].
[20]: ما بين القوسين من كلام صاحب المتن وهو الخِرَقي.
[21]: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصّيد: باب في الصّيد [2852]، وأحمد في مسنده [4/195].
[22]: متن <الغاية والتقريب> [ص/50].
[23]: لبّة البيعر موضع نحره.
[24]: انظر <المهذّب> مع شرحه المسمّى <المجموع> [9/80].
[25]: أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الصّيد والذّبائح: باب الأمر بإحسان الذّبح والقتل وتحديد الشّفرة [1955].
[26]: قال النوويّ: "هي القشرة الرّقيقة للقصبة وقيل مطلق قشرة القصبة والجماعة ليط" <المجموع [9/81]>.
[27]: أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب الذّبائح والصّيد: باب التّسمية على الذّبيحة ومَن ترك متعمدا [5498]، ومسلم في صحيحه: كتاب الأضاحي: باب جواز الذّبح بكلّ ما أنهر الدّم إلا السّنّ والظّفر وسائر العظام [1968].
[28]: انظر <المجموع شرح المهذّب> [9/87].
[29]: انظر <المجموع شرح المهذّب> [9/90].
[30]: تقدّم تخريجه.
[31]: <الفروق> [1/225-226].
[32]: <التّاج والإكليل لمختصر خليل> [1/301].
[33]: أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب الذّبائح والصّيد: باب الصّيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة [5484]، ومسلم في صحيحه: كتاب الصّيد والذّبائح: باب الصّيد بالكلاب المعلّمة [1929/6].
[34]: في <المختار>: صلّ اللحم يَصِلُ أنتن.
[35]: أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الصّيد: باب في الصّيد [2857].
[36]: تقدّم تخريج كلّ هذه الرّوايات.
[37]: معنى الوقوف بين يدي الله الوقوف للحساب وعرض الأعمال. الله تعالى موجود بلا مكان وليس جسما ولا يوصف بالجوارح والأعضاء وليس بينه وبين شيء من خلقه مقابلة ولا مناسبة.
[38]: معناه ليس متيقّنا أنّ الذي يصل إلى أيديكم فيه هذا الشّيء فلا يحرم بالشّكّ.
[39]: انظر <مصنّف ابن أبي شيبة> [5/130].
[40]: <المجموع شرح المهذّب> [9/80].
[41]: <الفتاوى الكبرى> [1/45 و46].
[42]: <الأشباه والنّظائر> [ص/74].
[43]: انظر <التّاج والإكليل لمختصر خليل> المطبوع بهامش كتاب <مواهب الجليل شرح مختصر خليل> [1/301].
[44]: <جامع العلوم والحكم> [1/198] عند شرح حديث: "إنّ الحلال بيّن".
[45]: <بغية الطّالب> [ص/364] ط2.
[46]: هذا لفظ مسلم وقد تقدّم تخريجه عند حديث: "إذا رميتَ الصّيد فوجدته..".
[47]: أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الصّيد والذّبائح: باب الصّيد بالكلاب المعلّمة [1929/7].
[48]: أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب الذّبائح والصّيد: باب ذبيحة الأعراب ونحوهم [5507].
[49]: أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزّكاة: باب قبول الصّدقة من الكسب الطيّب وتربيتها [1015].
[50]: انظر <تاريخ مدينة دمشق> [52/20].
[51]: أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب العلم: باب إثم من كذب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم [108]، ومسلم في صحيحه: المقدمة: باب تغليظ الكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [2].

الاثنين، 28 ديسمبر 2020

علم التوحيد هو أساس قواعد عقائد الاسلام وهو أشرف العلوم.

علمُ التوحيدِ لهُ شرفٌ أي مزيةٌ على غيره من العلومِ لكونه متعلقا بأشرفِ المعلوماتِ، وشرفُ العلمِ بشرفِ المعلومِ، فلما كان علمُ التوحيدِ يُفيدُ معرفةَ اللهِ على ما يليقُ بهِ، ومعرفةَ رسولهِ على ما يليقُ بهِ، وتنـزيهَ اللهِ عمَّا لا يجوزُ عليهِ، وتبرئةَ الأنبياءِ عمّا لا يليقُ بهم، كان أفضلَ من علمِ الأحكام،

وقد خص النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: إنّ أتقاكُم وأعلَمَكُم بالله أنا، رواه البخاري في كتاب الإيمان،

وورد بلفظ: أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له

فكان هذا العلم أهمَّ العلومِ تحصيلا وأحقَّها تبجيلاً وتعظيماً؛ قال الله تعالى: {فاعلم أنّهُ لآ إله إلا اللهُ واستغفر لذنبكَ وللمؤمنينَ والمؤمنات} قدم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار، والسبب فيه أن معرفة التوحيد إشارة إلى علم الأصول والاشتغال بالاستغفار إشارة إلى علم الفروع، لأنه ما لم يعلم وجود الصانع يمتنع الاشتغال بطاعته.

قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} الخِطابُ للرسولِ صلى الله عليه وسلم وليسَ المعنى أمْر الرسولِ بتحصيلِ العِلْمِ باللهِ، إنما المُرادُ أَمْرُ غيرِه بتحصيلِ العلمِ باللهِ وإنما ذَكَرَه قبلَ الاستغفارِ اللفظيِ لكونِ الاستغفارِ وغيرِه ِمنَ الأعمالِ مِن صلاةٍ وصيامٍ وغيرِ ذلكَ بعدَ العلمِ باللهِ، لذلك البخاريُ قال: العلمُ قبلَ القولِ والعمل،

والعلمُ باللهِ هو اعتقادُ وجودِه بلا تشبيهٍ له بغيرِه مِن الموجوداتِ أي إثباتُ ذاتٍ لا يُشبِهُ الذوات، لأنَّ ذاتَ اللهِ ليسَ جِسمًا كثيفًا ولا جسمًا لطِيفًا أما ذاتُ غيرِه فهو جِسمٌ كثيفٌ أو جسمٌ لطيفٌ، وهذا الجسمُ اللطيفُ والكثيفُ أحَدُ نوعَيِ العالَمِ والنوعُ الثاني مِنَ العالمِ هو العَرَضُ أي صِفةُ الجسمِ، والعرضُ ما يقومُ بالجسمِ مِن حركةٍ وسُكونٍ ونَظَرٍ ونُطْقٍ وتغيُّرٍ مِن صفةٍ إلى صفةٍ وسائرِ ما يقومُ بالجسمِ من الأمورِ الظاهرَةِ والباطنةِ كالتفكيرِ والانفِعالِ باللَّذَةِ أو الألمِ أو الانبِسَاطِ أو الانزِعاجِ فهذا العالَمُ، لا يَخرُجُ العالَمُ من هذَينِ وقد أخبرَنا اللهُ تعالى بآيةِ ( ليس كمثلِه شىء} أنه لا يُشبِهُ هذا العالَمَ بوجهٍ من الوجوهِ فمَنِ اعتقدَ أن اللهَ جسمٌ كثيفٌ أو لطيفٌ لم يَعرِفِ اللهَ فهو جاهِلٌ بخالِقِه.

وقد حث الله تعالى عباده في كثير من ءآيات القرءآن على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال: {أولَم ينظروا في ملكوت السَّموات والأرض ا} وقال تعالى:{سنُريهِم ءآياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهُم أنَّه الحقْ}، وقال الإمامُ أبو حنيفة في كتابه الفقه الأبسط: [اعلم أن الفقهَ في الدينِ] أي أصول الدين [أفضلُ من الفقهِ في الأحكام] أي فروع الأحكام [والفقهُ معرفة النفس ما لها وما عليها].

وقال أيضا: أصل التوحيد وما يصحُّ الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر. وقال الإمام الشافعي: أحكمنا هذا قبل ذاك. أي علم التوحيد قبل فروع الفقه ذكر عنه ذلك الحافظ أفضل المحدثين بالشام في عصره ابن عساكر في تبيين كذب المفتري.

وموضوع هذا العلم علم التوحيد النظر في الخلق لمعرفة الخالق، وقيل في تعريفه: إنه علم يتكلم فيه عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال المخلوقين من الملائكة والأنبياء والأولياء والأئمة والمبدأ والمعاد، على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة، فإنهم تكلموا في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادا على مجرد النظر والعقل فجعلوا العقل أصلا للدين فلا يتقيدون بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الانبياء على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عمّا جاء به الشرع ولا يتناقض معه.

وأما علماء التوحيد لا يتكلمونَ في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادا على مجرد النظر بالعقل بل يتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعقلُ عند علماء التوحيد شاهد للدين وليس أصلا للدين، وأما الفلاسفة فجعلوه أصلا للدين من غير التفات إلى ما جاء عن الانبياء.

ويسمى هذا العلم علمَ التوحيد وعلمَ أصولِ الدين ويسمى أيضا علمَ الكلام.

ويُسمَّى هذا العلمُ أيضًا معَ أدِلَّتِه العقليةِ والنقليةِ مِنَ الكتابِ والسُّنةِ علمَ الكلامِ والسببُ في تسميتِه بهذا الاسمِ كثرةُ المُخالِفِينَ فيه مِنَ المُنتسِبينَ إلى الإسلامِ وطولُ الكلامِ فيهِ مِن أهلِ السنةِ لتقريرِ الحقِ، وقيلَ لأن أشهَرَ الخلافاتِ فيه مسئلةُ كلامِ اللهِ تعالى أنه قديمٌ ـ وهو الحقُ ـ أو حادِثٌ، فالحشَوِيَةُ قالت كلامُه صوتٌ وحرفٌ، حتى بالَغَ بعضُهم فقال إن هذا الصوتَ أزليٌ قديمٌ وإن أشكالَ الحروفِ التي في المُصحفِ أزليةٌ قديمةٌ، فخرجوا عن دائرةِ العقلِ؛ وقالت طائفةٌ أُخرَى إن اللهَ تعالى مُتكلِّمٌ بمعنى أنه خالِقُ الكلامِ في غيرِه كالشجرةِ التي سَمِعَ عندَها موسَى كلامَ اللهِ، لا بمعنى أنه قامَ بذاتِ اللهِ كلامٌ هو صفةٌ من صفاتِه، وهمُ المعتزلةُ قبَّحَهُمُ اللهُ؛ وقالَ أهلُ السنةِ إن اللهَ مُتكلِّمٌ بكلامٍ ذاتيٍ أزليٍ أبديٍ ليسَ حرفًا ولا صوتًا ولا يَختلِفُ باختِلافِ اللُغاتِ. اهـ

وهذا الذي يسميهِ أهلُ السنةِ علم الكلامِ هو الكلام الممدوحُ، وأما الكلامُ المذمومُ فهو كلامُ أهلِ الأهواءِ أي أهلِ البدع الاعتقاديةِ كالمعتزلة فهو الذي ذمَّه السلفُ، قال الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه: لأنْ يلقى الله العبدُ بكلِ ذنبٍ ما عدا الشركَ أهونُ من أن يلقاه بكلامِ أهل الأهواءِ.

والأهواء جمع هوى وهو ما مالت إليه نفوس المبتدعة الخارجين عما كان علي السلف أي ما تعلق به البدعيون في الاعتقاد كالخوارج والمعتزلة والمرجئة والنجارية وغيرهم وهم الاثنتان وسبعون فرقة كما ورد في الحديث المشهور: وإنّ هذه الملة ستفترقُ على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة رواه ابو داود،

فليس كلام الشافعي على اطلاقه إنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم الذين جانبوا نصوص الشريعة كتابا وسنة وتعمقوا في الاهواء الفاسدة، وأما الكلام الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الشريعة عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء قاطبة لم يذمه الشافعي وقد كان يحسنه ويفهمه وقد ناظر بشرا المريسي وحفصا الفرد فقطعهما،

قال الامام الحافظ ابن عساكر في كتابه الذي ألفه في الدفاع عن الامام الأشعري وبين فيه كذب من افترى عليه ما نصه: والكلام المذموم كلام أصحاب الأهوية وما يزخرفه أرباب البدع الـمُردية فأما الكلام الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الاصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء ومن يعلمه، وقد كان الشافعي يحسنه ويفهمه وقد تكلم مع غير واحد ممن ابتدع وأقام احج عليه حتى انقطع.

ثم ذكر بإسناده إلى الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي وحدثني أبو سعيد أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد فسأل حفص الفرد عبدَ الله بنَ عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان؟ فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي

فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي بالحجة عليه بأن القرءان كلام الله غير مخلوق، وكفر حفصا الفرد قال الربيع: فلقيتُ حفصا في المسجد بعد فقال: أراد الشافعي قتلي.

فإنْ قيلَ: قد ذمَّ علمُ الكلامِ جماعةٌ من السلفِ فرويَ عن الشعبي أنه قال: مَن طلبَ الدينَ بالكلامِ تزندق، ومَنْ طلبَ المالَ بالكيمياءِ أفلسَ ومَنْ حدَّثَ بغرائبِ الحديثِ كذب.

وروي مثلُه عن الإمام مالك والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة قلنا: أجابَ الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله: إنما أرادوا بالكلامِ كلامُ أهلِ البدعِ لأن عصرَهم إنما كان يعرفُ بالكلام فيه أهل البدعِ وأما أهلُ السنةِ فقلَّما كانوا يخوضونَ في الكلامِ حتى اضطُرَ إليه بعد؛

ويحتملُ ذمُهم له وجها ءاخر وهو أن يكونَ المرادُ به أن يقتصرَ على علمِ الكلامِ وتركَ تعلُّم علم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفةِ الحلال والحرام ويرفض العمل بما أُمرَ بفعله من شرائع الإسلام، ولا يلتزم فعل ما أمر به الشارع وترك ما نهى عنه من الأحكام.اهـ

فالفرقُ بينَ هذا وهذا أن علمَ الكلامِ الذي هو لأهلِ السنةِ الذي فيهِ ألّـَفوا تآليفهم أنه تقريرُ عقيدةِ السلفِ بالبراهينِ النقليةِ والعقليةِ مقرونًا بردّ شُبهِ الملاحدةِ المبتدعةِ وتشكيكاتِهم.

ولأهل الحقِ عناية عظيمة به فقد كان أبو حنيفة يسافر من بغداد الى البصرةِ لإبطالِ شبهِهم وتمويهاتهم فقد تردد لذلك أكثَر من عشرينَ مرةً.

وبينَ بغدادَ والبصرة مسافةٌ طويلةٌ، فكانَ يقطعهم بالمناظرة بكشف فسادِ شبههم وتمويهاتِهم، وهذا لا يعيبه إلا جاهلٌ بالحقيقةِ من المشبهةِ ونحوهم فإن المشبهةَ التي تحملُ الآياتِ المتشابهة والأحاديثَ المتشابهة الواردةَ في الصفاتِ على ظواهرها أعداءُ هذا العلمِ، وفي هؤلاءِ قال القائلُ وقد صدقَ فيما قالَ:

عــابَ الكلامَ أنـاسٌ لا عقولَ لهم وما عليه إذا عــابُـوهُ من ضَرَرِ

ما ضـرَّ شمسَ الضُّحى في الأفقِ طالعةً أن ليسَ يبصرها من ليسَ ذا بـصَرِ

أما ما يُروى أنَّ الشافعيَّ قال: "لأن يلقى الله العبدُ بكلّ ذنبٍ ما عدا الشركِ خيرٌ له من أن يلقاهُ بعلمِ الكلام" فلم يثبت عنه بهذا اللفظ.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يا رب العالمين


الخميس، 24 ديسمبر 2020

حديث الجارية والرد على الوهابية المشبهة اتباع ابن تيمية

حديث الجارية والرد على الوهابية المشبهة اتباع ابن تيمية 

قال المؤلّف رحمه الله : وأمّا ما في مسلم من أن رجلاً جاءَ إلى رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فسألهُ عن جارية لهُ قال: قلتُ: يا رسولَ الله أفلا أعتِقُها، قال : ائتني بِها، فأتاهُ بِها فقالَ لَها: أينَ الله، قالت: في السماءِ، قال: مَن أنا؟ قالت: أنتَ رسولُ الله، قال: أعتِقْها فإنّها مؤمنةٌ. فليسَ بصحيحٍ لأمرينِ: للاضطرابِ لأنه رُويَ بِهذا اللفظ وبلفظِ : مَن رَبُّك، فقالت: الله، وبلفظ : أين الله، فأشارت إلى السّماءِ، وبلفظ : أتشهَدينَ أن لا إله إلا الله، قالت: نعم، قال: أتشهدينَ أنّي رسولُ الله، قالت : نعم. والأمرُ الثاني : أن رواية أين الله مخالفةٌ للأصولِ لأنَّ من أصولِ الشريعةِ أن الشخصَ لا يُحكَمُ له بقولِ "الله في السماءِ" بالإسلامِ لأنَّ هذا القولَ مشتَركٌ بين اليهودِ والنّصارى وغيرِهم وإنّما الأصلُ المعروفُ في شريعةِ الله ما جَاءَ في الحديثِ المتواتر: " أمرتُ أن أقاتلَ النَّاسَ حتّى يشهَدُوا أن لا إلهَ إلا الله وأنّي رسولُ الله " (1). ولفظُ روايةِ مالكٍ : أتشهدينَ، موافقٌ للأصول. فإن قيلَ : كيف تكونُ روايةُ مسلم : أين الله، فقالت : في السماءِ ، إلى ءاخره مردودةً مع إخراج مسلم لهُ في كتابهِ وكلُّ ما رواهُ مسلمٌ موسومٌ بالصّحّةِ، فالجوابُ : أن عدَدًا من أحاديثِ مسلمٍ ردَّها علماءُ الحديثِ وذكرَها المحدّثونَ في كتبهم كحديث أن الرسولَ قال لرجُلٍ : إنَّ أبي وأبَاكَ في النّار، وحديث إنه يُعطى كل مسلم يومَ القيامَةِ فِداءً لهُ مِنَ اليهودِ والنصارَى، وكذلكَ حديث أنسٍ : صَليتُ خلفَ رسولِ الله وأبي بكرٍ وعمرَ فكانوا لا يذكرونَ بسم الله الرحمنِ الرحيم. فأمَّا الأولُ ضَعَّفَهُ الحافظُ السيوطيُّ ، والثاني رَدَّهُ البخاريُّ ، والثالثُ ضَعَّفَهُ الشافعيُّ وعدد من الحفاظ . فهذا الحديثُ على ظاهرِهِ باطلٌ لمعارضَتِهِ الحديثَ المتواترَ المذكورَ وما خالفَ المتواترَ فهو باطلٌ إن لم يقبل التأويلَ . اتفقَ على ذلك المحدِّثونَ والأصوليُّونَ لكن بعض العلماءِ أوَّلُوهُ على هذا الوجهِ قالوا معنى أينَ الله سؤال عن تعظيمِها لله وقولـها في السماءِ عالي القدرِ جدًّا أما أخذه على ظاهره من أن الله ساكن السماء فهو باطلٌ مردودٌ وقد تقررَ في عِلمِ مصطلح الحديثِ أنَّ ما خالفَ المتواتر باطلٌ إن لم يقبل التأويل فإن ظاهرَه ظاهرُ الفساد فإن ظاهرَه أنَّ الكافرَ إذا قالَ الله في السماءِ يُحكم لهُ بالإيمانِ . وحمل المُشبهة رواية مسلم على ظاهرهَا فَضَلُّوا ولا يُنجيهم منَ الضلالِ قولُهم إننا نحملُ كلمةَ في السماءِ بمعنى إنهُ فوقَ العرشِ لأنهم يكونونَ بذلكَ أثبتوا لهُ مِثلاً وهوَ الكتابُ الذي كَتَبَ الله فيه إن رَحمَتي سَبَقَت غَضبي فوقَ العرشِ فيكونونَ أثبتوا المُمَاثَلَةَ بينَ الله وبينَ ذلكَ الكتاب لأنهم جعلوا الله وذلكَ الكتاب مستقرَّينِ فوقَ العرش فيكونونَ كذبوا قولَ الله تعالى : ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ﴾ وهذا الحديث رواهُ ابن حبانَ بلفظ "مرفوع فوقَ العرشِ" ، وأما روايةُ البخاري فهي "موضوع فوقَ العرشِ"، وقد حَملَ بعضُ الناسِ فوقَ بمعنى تحت وهو مردودٌ بروايةِ ابنِ حبانَ بلفظ "مرفوع فوق العرش" فإنه لا يَصحُّ تأويلُ فوقَ فيه بتحت. ثم على اعتقادِهم هذا يلزمُ أن يكونَ الله محاذيًا للعرشِ بقدرِ العرشِ أو أوسَعَ منهُ أو أصغرَ، وكلُّ ما جَرَى عليهِ التقديرُ حادِثٌ محتاجٌ إلى من جَعَلَهُ على ذلكَ المقدارِ ، والعرشُ لا مناسبةَ بينهُ وبينَ الله كما أنه لا مناسبةَ بينهُ وبينَ شىءٍ من خَلقِهِ ، ولا يتشرَّفُ الله بشىءٍ من خلقِهِ ولا ينتفعُ بشىءٍ من خلقِهِ. وقولُ المشبهةِ الله قاعدٌ على العرشِ شَتمٌ لله لأن القعود من صفةِ البشرِ والبهائمِ والجِنِّ والحشرات وكلُّ وَصفٍ من صفاتِ المخلوقِ وُصِفَ الله به شَتمٌ لهُ، قالَ الحافظُ الفقيهُ اللغويُّ مرتضى الزبيديُّ: "مَن جَعَلَ الله تعالى مُقَدَّرًا بِمقدارٍ كَفَرَ" أي لأنهُ جعلَهُ ذا كميةٍ وحجم والحجمُ والكميةًُ من موجبَاتِ الحُدوثِ، وهل عرفنا أن الشمس حادثةٌ مخلوقةٌ من جهةِ العقلِ إلا لأن لَها حَجمًا، ولو كانَ لله تعالى حجمٌ لكانَ مِثلاً للشمسِ في الحجميَّةِ ولو كانَ كذلكَ ما كانَ يستحُقُّ الألوهيةَ كَما أن الشمسَ لا تستحقُّ الألوهية. فلو طَالَبَ هؤلاءِ المشبهةَ عابدُ الشمسِ بدليلٍ عقليّ على استحقاقِ الله الألوهية وعدم استحقاقِ الشمسِ الألوهية لم يكن عندَهم دليلٌ، وغَايَةُ ما يستطيعونَ أن يقولوا قالَ الله تعالى : ﴿لله خالق كُلِّ شَىْءٍ ﴾ فإن قالوا ذلكَ لعابدِ الشمسِ يقولُ لهم عابدُ الشمس : أنا لا أؤمنُ بكتابكم أعطوني دليلاً عقليًّا على أن الشمسَ لا تستحقُّ الألوهيةَ فهنا ينقطعونَ. فلا يوجدُ فوقَ العرش شىءٌ حيٌّ يسكنه إنما يوجدُ كتابٌ فوقَ العرشِ مكتوبٌ فيه: " إنَّ رحمتي سَبَقَت غَضبي" أي أن مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب، الملائكة من مظاهر الرحمة وهم أكثرُ عددًا من قطرات الأمطار وأوراق الأشجار، والجنة من مظاهر الرحمة وهي أكبر من جهنم بآلاف المرات. وكونُ ذلك الكتابِ فوقَ العرشِ ثابتٌ أخرجَ حديثهُ البخاريُّ والنسائيُّ في السننِ الكبرى وغيرهُما، ولفظ روايةِ ابن حبّانَ : " لَمَّا خلقَ الله الخلقَ كتبَ في كتابٍ يكتبُهُ على نفسِهِ (1) وهو مرفوعٌ فوق العرشِ إن رحمتي تَغلبُ غَضَبي". فإن حاوَلَ محاوِلٌ أن يؤوّلَ "فوق" بمعنى دون قيلَ لهُ: تأويلُ النصوصِ لا يجوزُ إلا بدليلٍ نقليّ ثابتٍ أو عقليّ قاطِعٍ وليس عندهم شىءٌ من هذينِ، ولا دليلَ على لزومِ التأويلِ في هذا الحديث، كيفَ وقد قالَ بعضُ العلمَاءِ إن اللوحَ المحفوظَ فوقَ العرشِ لأنه لم يَرد نصٌّ صريحٌ بأنه فوق العرشِ ولا بأنه تحتَ العرشِ فبقي الأمرُ على الاحتمالِ أي احتمالِ أن اللوحَ المحفوظَ فوقَ العرشِ واحتمالِ أنه تحتَ العرشِ، فعلى قولهِ إنهُ فوقَ العرشِ يكون جعلَ اللوحَ المحفوظَ معادِلا لله أي أن يكونَ الله بمحاذاةِ قسم منَ العرشِ واللوحُ بمحاذاةِ قسمٍ مِنَ العرشِ وهذا تشبيهٌ لهُ بخلقِهِ لأن محاذاةَ شىءٍ لشىءٍ مِن صفاتِ المخلوقِ. ومما يدل على أن ذلك الكتاب فوق العرش فوقيةً حقيقيةً لا تحتمل التأويل الحديث الذي رواه النسائيُّ في السنن الكبرى: "إنَّ الله كتَب كتابًا قبل أن يخلُقَ السمواتِ والأرض بألفي سنة فهوَ عندَهُ على العرشِ وإنه أنزلَ من ذلك الكتاب ءايتين ختم بِهما سورة البقرةِ"، وفي لفظ لمسلم : "فهو موضوعٌ عندهُ" فهذا صريحٌ في أنَّ ذلكَ الكتاب فوقَ العرشِ فوقيةً حقيقيةً لا تحتَمِلُ التأويلَ. وكلمةُ "عندَ" للتشريفِ ليسَ لإثباتِ تحيز الله فوقَ العرشِ لأنَّ "عندَ" تُستعمَلُ لغيرِ المكانِ قالَ الله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ﴾ [سورة هود/83-84) إنَّما تدلُّ "عندَ" هنا أنَّ ذلكَ بعلمِ الله وليسَ المعنى أنَّ تلكَ الحجارة مجاورةٌ لله تعالى في المكَان. فمَن يحتجُّ بمجرّدِ كلمةِ عند لإثباتِ المكانِ والتَّقارُبِ بينَ الله وبينَ خلقِهِ فهوَ من أجهَل الجاهلينَ، وهل يقولُ عاقلٌ إنَّ تلكَ الحجارةَ التي أنزلَها الله على أولئكَ الكفرةِ نَزَلَت مِنَ العرشِ إليهم وكانت مكوّمَةً بمكان في جنبِ الله فوقَ العرشِ على زعمِهم. الشرح: حديثُ الجاريةِ مضطربٌ سندا ومتنا لا يصح عن رسول الله، ولا يليق برسول الله أن يقال عنه إنه حكَم على الجارية السّوداء بالإسلام لِمجردِ قولها الله في السماء، فإن من أراد الدخول في الإسلام يدخل فيه بالنّطق بالشهادتين وليس بقول الله في السماء. أما المشبهة فقد حملوا حديث الجارية على غير مراد الرسول. والمعنى الحقيقيُّ لِهذا الحديث عند من اعتبره صحيحًا لا يخالفُ تنزيهَ الله عن المكان والحدّ والأعضاء. وقد ورَد هذا الحديث بعدَّة ألفاظ منها أن رجلا جاء فقال: يا رسول الله إن لي جارية ترعى لي غنما فجاء ذاتَ يوم ذئبٌ فأكلَ شاة فغضبت فَصككتها – أي ضربتها على وجههَا – قال : أريدُ أن أُعتقها إن كانت مؤمنة فقال : " ائتني بِها "، فَأتى بها فقال لها الرسول : " أين الله "، ومعناه ما اعتقادك في الله من التَّعظيم ومن العلوّ ورفعَة القدر، لأن أين تأتي للسؤال عن المكان وهو الأكثر وتأتي للسّؤال عن القدْر. وأما قول الجارية: " في السماء"، وفي رواية : "فأشارت إلى السماء"، أرادت به أنه رفيع القدر جدًّا، وقد فَهِم الرسول ذلك من كلامها أي على تقدير صحة تلك الرواية. أي هذا عند من صحح هذا الحديث من أهل السنة. ونقولُ للمشبهة: لو كانَ الأمر كما تدَّعون من حمل ءاية ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العرش استوى﴾[سورة طه/62] على ظاهرها وحمل حديث الجارية على ظاهرهِ لتناقَض القرءان بعضه مع بعض والحديث بعضه مع بعضٍ، فما تقولون في قوله تعالى ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وجه الله ﴾[سورة البقرة/115] فإما أن تجعلوا القرءانَ مناقضًا بعضُه لبعضٍ والحديثُ مناقضًا بعضه لبعض فهذا اعتراف بكفركم لأن القرءان يُنَزهُ عن المناقضة وحديث الرسول كذلك، وإن أوَّلتم ءاية ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وجه الله ﴾ ولم تأوّلوا ءايةَ الاستواء فهذا تحكُّمٌ أي قولٌ بلا دليل. ومن حديث الجارية الذي مرَّ ذكرهُ يُعلَم أن الشخصَ إذا قالَ : "الله في السماء" وقَصَدَ أنه عالي القدرِ جدًّا لا يكفَّرُ لأن هذا حالُهُ مثلُ حالِ الجارية السَّوداء أي على تقدير صحة تلك الرواية، أما إذا قالَ الله موجود بذاته في السماء هذا فيه إثباتُ التحيز وهو كفر. وحديث الجارية فيه معارضة للحديث المتواتر: " أمرتُ أن أُقَاتِلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ". وهو من أصحّ الصحيح، ووجهُ المعارضَةِ أن حديث الجارية فيه الاكتفاءُ بقول " الله في السماء" للحكم على قائله بالإسلام، وحديث ابن عمر رضي الله عنه: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " فيه التصريحُ بأنه لا بُدَّ للدخول في الإسلام من النطقِ بالشهادتين، فحديث الجارية لا يقوى لمقاومة هذا الحديث لأن فيه اضطرابًا في روايته ولأنه مما انفرد مسلم به. وكذلك هناكَ عدة أحاديث صحاح لا اختلافَ فيها ولا علة تناقضُ حديث الجارية فكيف يؤخذ بظاهرِهِ ويُعرضُ عن تلك الأحاديثِ الصّحاح، فلولا أن المشبهة لَها هوًى في تجسيم الله وتحييزه في السماء كما هو معتقد اليهود والنصارى لما تشبَّثوا به ولذلك يَرَونَهُ أقوى شبهة يجتذبونَ به ضعفاءَ الفَهم إلى عقيدتهم عقيدة التجسيم، فكيف يَخفى على ذي لبّ أن عقيدة تحيز الله في السماء منافيةٌ لقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ﴾ ، فإنه على ذلك يلزمُ أن يكون لله أمثالٌ كثيرٌ فالسمواتُ السبعُ مشحونةٌ بالملائكة وما فوقها فيها ملائكةٌ حافون من حول العرش لا يعلمُ عددَهم إلا الله وفوقَ العرشِ ذلك الكتابُ الذي كُتِبَ فيه: " إن رحمتي سبقت غضبي "، فباعتقادهم هذا أثبتوا لله أمثالا لا تُحصى فتبينَ بذلك أنهم مخالفون لهذه الآية ولا يَسلم من إثباتِ الأمثال لله إلا من نَزَّهَ الله عن التحيّز في المكان والجهة مطلقاً. قال المؤلّف رحمه الله : وقَد رَوى البخاري أنَّ النّبيَّ قَال: "إذَا كَانَ أحَدُكُم في صلاته فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلا يَبْصُقَنَّ في قبلته ولا عَنْ يَمِينِهِ فَإنَّ رَبَّهُ بَيْنَه وبَيْنَ قِبْلَتِهِ"، وهذا الحديثُ أقْوى إسْنادًا منْ حَدِيثِ الجارية . الشرح: مناجاةُ الله معناه الإقبالُ على الله بدعائِهِ وتمجيدِهِ، والمعنى المصلّي تجرَّدَ لمخاطبة ربّه انقطعَ عن مخاطبةِ الناسِ لمخاطبةِ الله، فليس من الأدبِ مع الله أن يَبصُقَ أمامَ وجهِهِ، وليس معناهُ أن الله هو بذاتِهِ تِلقَاءَ وجهِهِ. وأما قولُهُ عليه الصلاة والسلام: " فإن ربَّه بينَهُ وبين قِبلته "، أي رحمةُ ربّه أمامَهُ، أي الرحمة الخاصة التي تنزلُ على المصلين. قال المؤلّف رحمه الله : وأَخْرَجَ البُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبي موسى الأشعري أنَّ رَسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالَ: " ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم فإِنَّكم لا تَدْعون أصم ولا غَائبا، إنكم تدْعون سمِيْعا قَرِيبا، والذي تدعونَهُ أقْرَبُ إلى أحدكم مِن عنق رَاحلة أحدكُم". الشرح: هذا الحديثُ يُستفادُ منه فوائدُ منها أن الاجتماع على ذِكر الله كان في زمن الصّحابة، فقد كانوا في سفر فوصلوا إلى وادي خيبر فصاروا يُهللّونَ ويُكبّرون بصوت مرتفع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شفقة عليهم: " اربَعُوا على أنفسكم" أي هَوّنوا على أَنفسكم ولا تُجهدوها برفع الصّوتِ كثيرًا، "فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا" أي الله تعالى يسمع بسمعه الأزليّ كلَّ المسموعات قويةً كانت أم ضعيفةً في أي مكانٍِ كانت، وأما قوله "ولا غائبًا " فمعناه أنه لا يخفى عليه شىء، وقوله : "إنكم تدعون سميعًا قريبًا والذي تدعونَهُ أقربُ إلى أحدِكم من عنقِ رَاحلةِ أحدكم"، ليس معناه القربَ بالمسافةِ لأن ذلك مستحيلٌ على الله فالعرش والفرش الذي هو أسفلُ العالم بالنّسبة إلى ذات الله على حدّ سواءٍ ليس أحدُهما أقربَ من الآخر إلى الله بالمسافة، وإنما معناه أن الله أعلمُ بالعبد من نفسه وأن الله مطَّلعٌ على أحوالِ عباده لا يخفى عليه شىء. ثم إنه يلزمُ على ما ذهبتم إليه من حَملِ النصوص التي ظاهرها أن الله متحيزٌ في جهة فوق على ظاهرها كونُ الله تعالى غائبًا لا قريبًا لأن بين العرشِ وبين المؤمنين الذين يذكرونَ الله في الأرض مسافةً تقرُبُ من مسيرةِ خمسين ألف سنة وفي خلال هذه المسافة أجرامٌ صلبةٌ وهي أجرامُ السمواتِ وجِرمُ الكرسي، فلا يصحُّ على مُوجَبِ معتقدكم قول رسولِ الله إنه قريبٌ بل يكون غائبًا، أما على قولِ أهل السنة فكونه قريبًا لا إشكالَ فيه، فما أشدَّ فسادَ عقيدةٍ تؤدّي إلى هذا. قال المؤلّف رحمه الله : فَيقالُ للمعتَرِضِ: إذَا أخَذْتَ حَدِيثَ الجارية علَى ظَاهِره وهذَين الحدِيثَينِ عَلى ظَاهِرهما لَبَطَلَ زَعْمُكَ أنَّ الله في السماء وإنْ أوَّلْتَ هذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ ولَم تُؤوِّلْ حَدِيثَ الجارية فَهَذَا تَحكُّمٌ – أي قَوْلٌ بِلا دَلِيل -، ويَصْدُقُ عَلَيْكَ قَوْلَ الله في اليَهُودِ ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [سورة البقرة/85]. وكَذَلِكَ مَاذا تقُولُ في قولِه تَعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ [سورة البقرة/115] فَإنْ أَوَّلْتَه فَلِمَ لا تُوَوّلُ حَدِيثَ الجارية. وقَد جَاءَ في تَفسِيرِ هَذِهِ الآيةِ عنْ مُجاهِدٍ تِلميذِ ابنِ عَبَّاسٍ : " قِبْلَةُ الله"، فَفَسَّرَ الوجه بِالْقِبْلَةِ، أيْ لِصَلاةِ النَّفْلِ في السَّفَرِ عَلى الرَّاحِلَةِ. الشرح: معنى فثمَّ وجه الله أي فهناكَ قبلة الله أي أن الله تعالى رخَّصَ لكم في صلاة النفل في السَّفر أن تتوجَّهوا إلى الجهةِ التي تذهبون إليها هذا لمن هو راكبٌ الدابة، وفي بعض المذاهبِ حتى الماشي الذي يصلي صلاةَ النفل وهو في طريقه يقرأ الفاتحةَ. 

  (1) رواه خمسة عشر صحابيا.

الخميس، 17 ديسمبر 2020

فصل الخطاب في مسئلة النقاب

 فصل الخطاب في مسئلة النقاب

==================
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد،
فهذه فائدة مهمة فيها بيان حكم شرعي اتفق عليه المجتهدون ولا خلاف فيه بينهم وتناقله العلماء خلفا عن سلف ألا وهو :
جواز خروج المرأة كاشفة الوجه وأن على الرجال غض البصر، "يعني إن خرجت المرأة ساترة جميع البدن سوى الوجه والكفين "
فقد نقل اجماع الامة المحمدية على ذلك جمع كبير من العلماء منهم الامام المجتهد ابن جرير الطبري في تفسيره والقاضي عياض المالكي في الاكمال وإمام الحرمين الجويني والقفال الشاشي والامام الرازي بل نقل ابن حجر الهيتمي عن جمع من العلماء الإجماع .
يقول الله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قالت السيدة عائشة والامام عبد الله بن عباس رضي الله عنهم "إلا ما ظهرمنها الوجه والكفان" ومثل ذلك قال الامام أحمد .
ومما يدل على ذلك حديث المرأة الخثعمية الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي والدارمي وأحمد من طريق عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ - واللفظ للبخاري -
"أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ".
وعند الترمذي من حديث علي "وَاسْتَفْتَتْهُ جَارِيَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمٍ فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ قَالَ وَلَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ قَالَ رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنْ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا". وقال الترمذي حَدِيثُ عَلِيٍّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقال ابن عباس "وكان ذلك بعد ءاية الحجاب"
ووجه الدليل من هذا الحديث انه عليه الصلاة والسلام لم يقل لهذه المرأة الشابة الجميلة غطي وجهك. وقد يقول قائل هي كانت محرمة، قلنا لو كان واجبا لأمرها أن تسدل شيئا على وجهها مع المجافاة لمراعاة مصلحة الاحرام، ولكن لم يأمرها، فدل ذلك على عدم وجوب تغطية الوجه للمرأة، ولكنه شىء حسن مستحب.
وقد أجمع العلماء على أن المرأة يكره لها ستر وجهها والتنقب في الصلاة وعلى حرمته في الاحرام. وأما وجوب تغطية الوجه على النساء فخاص بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال أبو داود وغيره .
روى أبو داود عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ "كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ مَيْمُونَةُ فَأَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجِبَا مِنْهُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ".
قَالَ أَبُو دَاوُد هَذَا لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً أَلَا تَرَى إِلَى اعْتِدَادِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ .
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير "وقال أبو داود : هذا لازواج النبي خاصة بدليل حديث فاطمة بنت قيس. قلت : وهذا جمع حسن وبه جمع المنذري في حواشيه واستحسنه شيخنا".
مراده بذلك أن قول النبي خطابا لزوجتيه "احْتَجِبَا مِنْهُ" حين دخل ابن ام مكتوم، مختص بنساء الرسول جمعا بينه وبين حديث فاطمة بنت قيس الذي فيه انه عليه الصلاة والسلام قال لها "اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ". ففرق رسول الله الحكم بين نسائه وبين غيرهن، وحديث فاطمة بنت قيس رواه مسلم، أما حديث "احْتَجِبَا مِنْهُ" رواه أبو داود .
وقال ابو القاسم العبدري صاحب التاج والاكليل بشرح مختصر خليل : ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به ازواج النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا}. فالله تعالى لم يقل يدنين على وجوههن بل عَلَيْهِنَّ. هذه الاية يتفق معناها مع الاية الأخرى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وأن مفاد الايتين ايجاب ستر العنق والنحر، وانما جاءت هذه الآية للفرق بين الحرائر والإماء.كما قال الامام الحافظ المجتهد علي بن محمد بن القطان الفاسي في كتابه النظر في أحكام النظر وغيره.
وأما معنى الخمار فهو ما تغطي به المرأة رأسها، والجيب هو رأس القميص الذي يلي العنق، وأما الجلباب فهو مستحب للمرأة وهو الملاءة التي تلتحف بها المرأة فوق ثيابها ويسمى عند بعض الناس بالشادور. فالآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} ليس فيه ايجاب تغطية الوجه بل المراد تغطية العنق به كما قال عكرمة إن معناه ستر ثغرة النحر لأن النساء قبل نزول ءاية الحجاب كن على ما كانت عليه نساء الجاهلية من وضع الخمار على الرأس وسدله الى الخلف فكانت اعناقهن بادية .
والآية {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} أي الحرائر، أقرب للسلامة من أذى السفهاء اذا تميزت عن الاماء، لان الفساق كانوا يتعرضون للحرائر إن ظنوهن إماء، ففي ستر الحرة رأسها وعنقها سلامة من تعرض الفساق لهن لانه حصلت علامة فارقة، والاماء ليس عليهن ستر العنق والرأس إذا خرجن .والله أعلم وأحكم

الاثنين، 7 ديسمبر 2020

أعيان الصوفية

أعيان الصوفية


 


لما ظهرت البدع وكثر من ابتدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أنّ فيهم زهادا وعبادا، انفرد خواص السنة الحافظون قلوبهم عن طوارق الفتنة فهم ودائع مدد الله وخزائن أسراره اليه يرجعون وبه يهيمون وعليه يتوكلون وإلى غيره لا يلتفتون، وهم رضي الله عنهم على مشارب وأطوار، منهم المتحلي بالتجرّد عن الآثار، ومنهم المطيلس بطليسان الذل لله والانكسار، ومنهم الذين سلكوا طريق الفقر والافتقار، واشتهروا باسم الصوفية والفقراء.


ونحن نذكر في هذا الفصل أسماء جماعة من شيوخ هذه الطريقة العلية من الطبقة الأولى:


رويم بن أحمد (توفي سنة 303) هو أبو أحمد رويم بن أحمد بغدادي من أعظم المشايخ، كان مقرئا وفقيها على مذهب داود.


ومن كلامه رحمه الله: "من حكم الحكيم أنّه يوسع على إخوانه في الأحكام ويضيق على نفسه فيها، فان التوسعة من اتباع العلم، والتضييق على نفسه من حكم الورع".


ابراهيم بن أدهم (توفي سنة 161) هو أبو إسحاق ابراهيم بن أدهم بن منصور، من بلخ كان من أبناء الملوك فخرج يوما يتصيّد فأثار ثعلبا أو أرنبا وهو في طلبه فهتف به هاتف: يا ابراهيم ألهذا خلقت أم بهذا أمرت؟


ثمّ هتف به: ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت فنزل عن دابته وصادف راعيا لأبيه فأخذ جبة للراعي من صوف ولبسها وأعطاه فرسه وما معه، ثمّ إنّه دخل البادية ثم دخل مكة وصحب سفيان الثوري والفضيل بن عياض، ثم دخل الشام ومات فيها، وكان يأكل من عمل يده كالحصاد والعمل في البساتين وغير ذلك.


ومن كلامه رحمه الله: إعلم أنّك لن تنال درجة الصالحين حتى تجتاز ست عقبات:


أولاها: تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة.


والثانية: نغلق باب العز وتفتح باب الذل.


والثالثة: تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد.


والرابعة: تغلق باب النوم وتفتح باب السهر.


والخامسة: تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر.


والسادسة: تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت.


حاتم الأصم: هو أبو عبد الرحمن حاتم بن علوان المعروف بالأصم من أكابر مشايخ خرسان، كان تلميذ شقيق البلخي وأستاذ أحمد بن خضرويه، ويقال: إنّه لم يكن أصم وإنّما تصامم مرة فسمي بذلك.


قال الأستاذ أبو الدقاق رحمه الله تعالى: "جاءت امرأة فسألت حاتما عن مسألة فاتفق أنّه خرج منها في تلك الحالة صوت فخجلت فقال حاتم: ارفعي صوتك، فأرى من نفسه أنّه أصم، فسرّت المرأة بذلك، وقالت: إنّه لم يسمع الصوت، فغلب عليه اسم الأصم".


أحمد الأنطاكي: هو أبو علي أحمد بن عاصم الأنطاكي من أقران بشر بن الحارث وسري السقطي والحارث المحاسبي، وكان أبو سليمان الداراني يسميه جاسوس القلوب لحدة فراسته.


ومن كلامه رضي الله عنه: اذا طلبت قلبك فاستن عليه بحفظ اللسان.


أبو حمزة البزار (توفي 289) كان من أقران الجنيد ومات قبله، وصحب سري السقطي والحسن المسوحي، وكان فقيها عالما بالقراءات، وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل: ما تقول يا صوفي.


ومن كلامه رضي الله عنه: "من رزق ثلاثة أشياء فقد نجا من الآفات: بطن خال مع قلب قانع، وفقر دائم مع زهد حاضر، وصبر كامل مع ذكر دائم".


أبو يزيد البسطامي (188-261) هو طيفور بن عيسى البسطامي كان جدّه مجوسيا وقد أسلم، وكانوا ثلاثة أخوة: ءادم وطيفور وعلي وكانوا زهادا عبادا، أما أبو يزيد فكان أجلّهم حالا.


من كلامه رضي الله عنه: "لو نظرتم إلى رجل يرتقي في الهواء فلا تقتدوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة".


شقيق البلخي (توفي 194) هو أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي من مشايخ خرسان وكان أستاذ حاتم الأصم قيل: كان سبب زهده أنّه كان من أبناء الأغنياء خرج للتجارة إلى أرض الترك وهو حدث فدخل بيتا للأصنام فرأى خادما للأصنام قد حلق رأسه ولحيته ولبس ثيابا أرجوانية، فقال شقيق للخادم: إن لك صانعا حيا عالما قادرا فاعبده ولا تعبد هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع فقال: إن كان كما تقول فهو قادر على أن يرزقك ببلدك، فلماذا أتعبت نفسك بالمجيء إلى ههنا للتجارة فانتبه شقيق وأخذ في طريق الزهد.


من كلامه رضي الله عنه: "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر إلى ما وعده الله ووعده الناس فبأيهما يكون قلبه أوثق".


وقال أيضا: "تُعرف تقوى الرجل في ثلاثة أشياء: في أخذه ومنعه وكلامه".


محمد بن الفضل البلخي (توفي سنة 319) هو أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي سكن سمرقند ومات فيها صحب أحمد ابن خضرويه وغيره، وكان أبو عثمان الحيري يميل اليه جدا.


من كلامه رضي الله عنه: "إذا رأيت المريد يستزيد من الدنيا فذلك من علامات إدباره".


وسئل عن الزهد فقال: "النظر إلى الدنيا بعين النقص، والإعراض عنها تعززا وتشرفا".


سهل التستري (200-283) هو أبو محمد سهل بن عبد الله التستري أحد أئمة القوم، لم يكن في وقته نظير في المعاملات والورع، وكان صاحب كرامات، ولقي ذا النون المصري بمكة وقال: قال: كنت ابن ثلاث سنين وكنت أقوم الليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار وكان يقوم الليل، فربما كان يقول: إذهب يا سهل فنم فقد شغلت قلبي. قال لي خالي (محمد بن سوار) يوما: ألا تذكر الله تعالى الذي خلقك، فقلت كيف أذكره، فقال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك الله معي الله ناظر إلي، الله شاهدي فقلت ذلك ثلاث ليال، ثمّ أعلمته. فقال لي: قل في كل ليلة سبع مرات فقلت ذلك ثم أعلمته فقال لي: قل في كل ليلة احدى عشر مرة، فقلت ذلك فوقع في قلبي حلاوة، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: إحفظ ما علمتك وداوم عليه إلى أن تدخل القبر فانّه ينغعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لها حلاوة في سري.


أحمد بن الجلاء: هو أبو عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء بغدادي الأصل أقام بالرملة ودمشق وكان من أكابر مشايخ الشام صحب ذا النون المصري وأباه الجلاء، من كلامه رضي الله عنه: "من استوى عنده المدح والذم فهو زاهد، ومن حافظ على الفرائض فهو عابد، ومن رأى الأفعال كلها من الله عز وجل فهو موحّد".


بنان الجمال (توفي سنة 316) هو أبو الحسن بُنان بن محمد الجمال واسطي الأصل، أقام بمصر وكان عظيم الشأن وصاحب كرامات.


يقول أبو علي الروذباري: "ألقي بنان الجمال بين يدي السبع يشمه ولا يضره، فلما أخرج قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمّك السبع، قال كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع".


بشر الحافي (150-227) هو أبو نصر بشر بن الحارث الحافي: أصله من مرو، وقد سكن بغداد ومات فيها، وكان كبير الشان.


وسبب توبته أنه أصاب في الطريق ورقة مكتوب فيها اسم الله عز وجل وقد وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه غالية (نوع من الطيب) فطيب بها الورقة وجعلها في شق حائط، فرأى فيما يرى النائم كأنّ قائلا يقول: يقول لك إلهك: يا بشر طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة.


ومن كلامه رضي الله عنه: "لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس".


عمر الحداد (توفي سنة 260) هو أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد من قرية يقال لها: كوردا باذ في طريق بخارى، وكان أحد الأئمة والسادة.


قال: "من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال".


سمنون بن حمزة (توفي سنة 290) هو أبو الحسن سمنون بن حمزة، صحب السري السقطي وأبا أحمد القلانسي ومحمد بن علي القصاب، وكان سمنون ظريف الخلق، أكثر كلامه في المحبة، كما كان كبير الشأن.


سعيد الحيري (توفي سنة 298) هو أبو عثمان سعيد بن اسماعيل الحيري كان من الري ويقيم في نيسابور، صحب شاه الكرماني ويحيى بن معاذ الرازي، ثم ورد نيسابور مع شاه الكرماني على أبي حفص الحداد وأقام عنده وتخرج به، وزوجه أبو حفص ابنته.


عبد الله بن خبيق: هو أبو محمد عبد الله بن خبيق من زهاد الصوفية، كوفي الأصل وسكن أنطاكية وصحب يوسف بن أسباط.


ومن كلامه رضي الله عنه: "أنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فاتك، وألزمك الفكر بقية عمرك، وأنفع الرجاء ما سهل عليك العمل".


وقال: "طول الاستماع الى الباطل يطفىء حلاوة الطاعة من القلب".


أحمد الخرّاز (توفي سنة 277) هو أبو سعيد أحمد بن عيسى الخرّاز من أهل بغداد، صحب ذا النون المصري والسري السقطي وبشر بن الحارث.


قال: "صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال، لأني كنت معهم على نفسي".


أحمد بن خضرويه (توفي سنة 240) من كبار مشايخ خرسان وكان كبيرا في الفتوة، صحب أبا تراب النخشبي، قدم نيسابور وزار أبا حفص، وخرج إلى بسطام في زيارة أبي يزيد البسطامي وكان أبو يزيد يقول عنه: "أستاذ أحمد".


ومن كلامه رضي الله عنه: "لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رق أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة عليك لما ظفرت بك الشهوة".


ابراهيم الخواص (توفي سنة 291) هو أبو اسحاق ابراهيم بن أحمد بن اسماعيل الخواص، من أقران الجنيد والنوري وله في التوكل والرياضيات حفظ كبير.


من كلامه رضي الله عنه: "دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرءان الكريم بالتدير، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع عند السحر، ومجالسة الصالحين".


عبد الحمن الداراني (توفي سنة 215) هو أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية الداراني من قرية داران إحدى قرى دمشق.


من كلامه رضي الله عنه: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة".


وقال: "إذا سكنت الدنيا في القلب رحلت منه الآخرة، وأفضل الأعمال خلاف هوى النفس، ولكل شىء صدأ وصدأنور القلب شبع البطن".


أحمد الدينوري (توفي سنة 340) هو أبو العباس أحمد بن عمر الدينوري صحب يوسف بن الحسين وابن عطاء والجريري، وكان عالما فاضلا، ورد نيسابور وكان يعظ الناس، ويتكلم على لسان المعرفة، ثمّ ذهب الى سمرقند ومات بها.


ومن كلامه رضي الله عنه: "لسان الظاهر لا يفيد حكم الباطن".


يحيى بن معاذ الرازي (توفي سنة 258) هو أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ فريد عصره، له لسان في الرجاء وكلام في المعرفة، خرج الى بلخ وأقام فيها مدة، ثمّ رجع الى نيسابور.


ومن كلامه رضي الله عنه: "كيف يكون زاهدا من لا ورع له، تورّع عما ليس لك ثم ازهد فيما لك".


وقال: "الزهد ثلاثة أشياء: القلة والخلوة والجوع".


يوسف بن الحسين الرازي (توفي سنة 304) هو أبو يعقوب يوسف بن الحسين الرازي كان شيخ الري والجبال في وقته عالما أديبا، وصحب ذا النون المصري وأبا تراب النخشبي ورافق أبا سعيد الخراز.


قال: "رأيت ءافات الصوفية في صحبة الأحداث، ومعاشرة الأضداد، ومرافقة النساء".


أحمد بن محمد الروذباري (توفي سنة 322) هو أبو علي أحمد بن محمد الروذباري بغدادي أقام بمصر ومات فيها، صحب الجنيد والنوري، وكان أعلم المشايخ في الطريقة. وكان أستاذه في التصوف الجنيد، وفي الفقه أبو العباس بن شريح، وفي الأدب ثعلب، وفي الحديث ابراهيم الحربي.


من كلامه رضي الله عنه: "من علامة الاغترار أن تسيء فيحسن الله اليك فتترك التوبة والإنابة توهّما أنّك تُسامح في الهفوات وترى أن ذلك من بسط الحق لك".


وسئل عن التصوف فقال: "هذا مذهب كله جدّ فلا تخلطوه بشىء من الهزل".


دلف الشبلي (247-334) وهو أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي، بغدادي المولد، صحب الجنيد ومن في عصره من العلماء، وكان شيخ وقته حالا وظرفا وعلما، مالكي المذهب وقبره ببغداد.


كانت مجاهداته في بدايته فوق العادة، وقال أبو علي الدقاق عنه: "بلغني أنّه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم".


محمد بن خفيف الشيرازي (276-371) هو أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي، صحب رويما والحريري وأحمد بن عطاء وغيرهم، كان شيخ الشيوخ وواحد زمانه.


وسئل عن القرب فقال: "قربك منه تعالى (أي القرب المعنوي) بملازمة الموافقات".


ودخل فقير على الشيخ أبي عبد الله بن خفيف الشيرازي فقال الفقير: بي وسوسة فقال الشيخ: عهدي بالصوفية يسخرون من الشيطان.


عبد الله المرتعش (توفي سنة 329) هو أبو محمد عبدالله بن محمد المرتعش النيسابوري من محلة الحيرة، صحب أبا حفص وأبا عثمان ولقي الجنيد وكان كبير الشأن، وكان يقيم في مسجد الشونيزية، وقد مات ببغداد.


ومن كلامه رضي الله عنه: "الإرادة حبس النفس عن مرادها، والإقبال على أوامر الله تعالى، والرضا بموارد القضاء عليه".


الفضيل بن عياض (105- 187) هو أبو علي الفضيل بن عياض من ناحية مرو، وقيل ولد بسمرقند ونشأ بأبيورد، ومات بمكة المكرمة في شهر المحرم.


قال الفضيل بن موسى: "كان الفضيل ابن عياض شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينما هو يرتقي الجدار إليها سمع قارئا يتلو قوله تعالى: {ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله(16)} [سورة الحديد]، فقال: يا رب قد ءان، فرجع فآواه الليل إلى خربة فاذا فيها رفقة فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح فان فضيلا على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل وأمنهم، وجاور الحرم حتى مات".


حمدون القصار (توفي سنة 271) هو أبو صالح حمدون ابن أحمد بن عمارة القصار النيسابوري، صحب أبا تراب النخشبي.


قال رجل لأبي صالح أوصني فقال: "إن استطعت أن لا تغضب لشىء من الدنيا فافعل".


وقال: "لا تُفش على أحد ما تحب أن يكون مستورا منك".


الحارث المحاسبي (توفي سنة 243) هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي لا نظير له في زمانه علما وورعا ومعاملة وحالا، بصري الأصل مات ببغداد.


قال الأستاذ أبو علي الدقاق: "كان الحارث المحاسبي إذا مدّ يده الى طعام فيه شبهة تحرّك على إصبعه عرق فكان يمتنع منه".


وقال الحارث: "من صحح باطنه بالمراقبة والاخلاص زيّن الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة".


أحمد بن مسروق (توفي سنة 298) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق، من أهل طوس، سكن بغداد وصحب الحارث المحاسبي وسري السقطي، وتوفي في بغداد.


ومن كلامه رضي الله عنه: "من راقب الله تعالى في خطرات قلبه عصمه الله تعالى في حركات جوارحه".


وقال: "شجرة المعرفة تسقى بماء الفكر، وشجرة الغفلة تسقى بماء الجهل، وشجرة التوبة تسقى بماء الندامة، وشجرة المحبة تسقى بماء الاتفاق والموافقة".


ذو النون المصري (توفي سنة 245) هو أبو الفيض ذو النون ثوبان بن إبراهيم المصري، كان أبوه نوبيّا من نواحي مصر فائق الشأن وأوحد زمانه علما وورعا وحالا وأدبا، سعوا به إلى المتوكل فاستحضره من مصر فلما دخل عليه وعظه فبكى المتوكل وردّه إلى مصر مكرما، وكان المتوكل إذا ذكر بين يديه أهل الورع يبكي ويقول: "إذا ذكر إليّ الورع فحيهلا لي بذي النون"، وكان ذو النون رجلا نحيفا تعلوه حمرة.


ومن كلامه رضي الله عنه: "حب الجليل، واتباع التنزيل، وخوف التحويل والاستعداد للرحيل".


وقال: "من علامات المحب لله عز وجل متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه".


وسئل عن السفلة فقال: "من لا يعرفون الطريق إلى الله تعالى ولا يتعرفونه".


وقال: "لا تسكن الحكمة معدة ملئت طعاما".


سعيد المغربي (توفي سنة 373) هو أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي واحد زمانه، صحب ابن الكتاب وحبيب المغربي وأبا عمرو الزجاجي وغيرهم. مات بنيسابور، وأوصى بأن يصلي عليه أبو بكر بن فورك.


ومن كلامه رضي الله عنه: "التقوى هي الوقوف على الحدود، لا يقصر فيها ولا يتعداها".


وقال: "من ءاثر صحبة الأغنياء على مجالسة الفقراء ابتلاه الله تعالى بموت القلب".


عسكر النخشبي (توفي سنة 245) هو أبو تراب عسكر بن حصين النخشبي صحب حاتما الأصم، وأبا حاتم العطار المصري.


ومن كلامه رضي الله عنه: "الفقير قوته ما وجده، ولباسه ما ستره، ومسكنه حيث نزل".


وقال: "إذا صدق العبد في العمل وجد حلاوته قبل أن يعمله، فاذا أخلص وجد حلاوته ولذته وقت مباشرة العمل".


جعفر بن نصر (253- 348) هو أبو محمد جعفر بن محمد بن نصر ولد ونشأ في بغداد، صحب الجنيد، وانتمى اليه، وصحب النوري ورويما وسمنون وغيرهم، ومات ببغداد.


ومن كلامه رضي الله عنه: "إنما بين العبد والوجود أن تسكن التقوى قلبه، فإذا سكنت التقوى قلبه نزلت عليه بركات العلم وزالت عنه رغبة الدنيا".


ابراهيم النصر ءاباذي (توفي سنة 369) هو أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصر ءاباذي شيخ خرسان في وقته صحب دلف الشبلي وأبا علي الروذباري والمرتعش وجاور بمكة المكرمة حرسها الله تعالى، وكان عالما بالحديث كثير الرواية.


ومن كلامه رضي الله عنه: "إعلم أن الأمر والنهي باق، والتحليل والتحريم مخاطبون به، ولن يجترىء على الشبهات إلا من تعرّض للمحرمات".


اسحاق النهرجوري (توفي سنة 330) هو أبو يعقوب إسحاق بن محمد النهرجوري (والنهرجور قرية قرب الأهواز) صحب أبا عمرو المكي وأبا يعقوب السوسي والجنيد وغيرهم، مات بمكة مجاورا.


ومن كلامه رضي الله عنه: "الدنيا بحر، والآخرة ساحل، والمركب هو التقوى، والناس سفر"، وقال: "أفضل الأحوال ما قارن العلم".


أحمد النوري (توفي سنة 295) هو أبو الحسين أحمد بن محمد النوري، ولد ونشأ في بغداد، صحب سري السقطي وابن أبي الحواري وكان من أقران الجنيد رحمه الله، وكان كبير الشأن حسن المعاملة واللسان.


ومن كلامه رضي الله عنه: "أعز الأشياء في زماننا شيئان: عالم يعمل بعمله، وعارف ينطق عن حقيقة".


وقال: "من رأيته يدّعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربنّ منه".


محمد الواسطي (توفي سنة 331) هو أبو بكر محمد بن موسى الواسطي، خراساني الأصل من فرغانة، صحب الجنيد والنوري، وكان عالما كبيرا وقد أقام بمرو.


ومن كلامه رضي الله عنه: "الخوف والرجاء زمامان يمنعان من سوء الأدب".


محمد الوراق: هو أبو بكر بن محمد بن عمرو الوراق الترمذي أقام ببلخ وصحب أحمد خضرويه وغيره، له تصانيف في الرياضة.


من كلامه: "من أرضى الجوارح بالشهوات غرس في قلبه شجر الندامات".


شعيب بن حرب (توفي سنة 297) هو أبو صالح شعيب بن حزب نزل المدائن واعتزل ثم خرج إلى مكة فنزل بها إلى أن مات بها، وكان قد بنى كوخا على شط دجلة. وبلغ أحمد بن حنبل زهده وورعه فقال عنه: "شعيب بن حرب حمل على نفسه في الورع"، سمع شعيب بن حرب من شعبة وسفيان الثوري وزهير بن معاوية وغيرهم.


من كلامه رضي الله عنه: "من أراد الدنيا فليتهيأ للذل".


وقال لرجل: "إذا دخلت القبر ومعك الإسلام فأبشر".


وقال: "لا تحقرن فلسا تطيع الله في كسبه ليس الفلس يراد إنّما الطاعة تراد".


هشيم بن بشير بن أبي خازم (توفي سنة 183) هو أبو معاوية السلمي واسم أبي خازم القاسم بن دينار، كان يكتب الحديث وجالس أبو شيبة القاضي. وقال إبراهيم الحربي: "كان حفاظ الحديث أربعة هشيم شيخهم"، سمع الحديث من عمرو بن دينار والزهري ويونس بن عبيد وأيوب السختياني وابن عون ومنصور بن زاذان وغيرهم.


أويس بن عامر: من التابعين، هو أويس بن عامر بن جزء بن مالك بن عمرو بن سعد بن عصوان بن قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد. أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يلتقه، وقد ورد فيه أحاديث صحيحة منها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن خير التابعين أويسا القرني". كان بارا بأمه متزودا بالعمل الصالح، وقد ذكره الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء: "فمن الطبقة الأولى من التابعين سيد العباد وعلم الأصفياء الزهاد أويس بن عامر القرني بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى به".


ومن كلامه رضي الله عنه: "أن رجلا مرّ عليه فقال له: كيف أصبحت قال: أصبحت أحمد الله عز وجل، فقال: كيف الزمان عليك قال: كيف الزمان على رجل ان أصبح ظنّ أنه لا يمسي، وان أمسى ظنّ أنه لا يصبح، فمبشر بالجنة أو مبشر بالنار، يا أخا مراد ان الموت وذكره لم يترك لمؤمن فرحا، وإن علمه بحقوق الله لم يترك له في ماله فضة ولا ذهبا، وإن قيامه لله بالحق لم يترك له صديقا".


الربيع بن خثيم: من التابعين هو أبو يزيد الربيع بن خثيم رأى عبد الله بن مسعود وأسند عنه وكان عبد الله يقول للربيع بن خثيم: لو رءاك رسول الله لأحبك، قالت له ابنته مرة: يا أبتاه مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام فقال لها: جهنم لا تدعني أنام.


من كلامه رصي الله عنه: "أما بعد فأدِّ زادك وخذ في جهازك وكن وصي نفسك"، وقال: "كل ما لا يُبتغى به وجه الله يضمحل"، وقال مرة لأصحابه: "الداء الذنوب والدواء الاستغفار والشفاء أن تتوب فلا تعود".


وقيل له مرة كيف أصبحت يا أبا يزيد قال: "أصبحنا ضعفاء مذنبين نأكل رزقنا وننظر ءاجالنا".


سليمان بن مهران الأعمش (58-147) هو أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش مولى لبني كاهل، وأدرك جماعة من الصحابة وعاصرهم ورأى أنس بن مالك وكان يحيى بن القطان إذا ذكر الأعمش قال: "كان من النساك" وعن عيسى بن يونس قال: "ما رأينا في زماننا مثل الأعمش، ما رأيت الأغنياء والسلاطين في مجلس أحد أحقر منهم في مجلس الأعمش وهو محتاج إلى درهم".


مسعر بن كدام بن ظهير (توفي سنة 155) هو أبو سلمة مسعر بن كدام بن ظهير أسند عن أعلام التابعين، وتوفي بالكوفة، وعن ابنه محمد بن مسعر قال كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرءان، فإذا فرغ من ورده لف رداءه ثم هجع عليه هجعة خفيفة، ثم يثب كالرجل الذي قد ضل شيئا فهو يطلبه فإنما هو السواك والطهور، ثم يستقبل المحراب كذلك إلى الفجر، وكان يجهد في إخفاء ذلك جيدا.


وعن سفيان الثوري قال: لم يكن في زماننا مثله (يعني) مسعرا ومن شعره:


الا قد فسد الدهرُ ... فأضحى حلوه مرا


وقد جربت من أهوى ... فقد أنكرتهم طرا


فألزم نفسك اليأسَ ... من الناس تعش حرا


ويقول أيضا:


تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الاثم والعارُ


تبقى عواقب سوء من مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النارُ


محمد بن صبيح بن السماك (توفي سنة 183) هو أبو العباس محمد بن صبيح بن السماك، كوفي قدم بغداد فمكث بها مدة ثم عاد إلى الكوفة فتوفي فيها، وكان الخليفة هارون الرشيد يختلف إليه وابن السماك يعظه حتى يبكي هارون، أسند عن الأعمش وهشام بن عروة وغيرهم وروى عنه يحيى بن يحيى النيسابوري وأحمد بن حنبل زغيرهم.


من كلامه رضي الله عنه: "من امتطى العبر قوي على العبادة، ومن أجمع اليأس استغنى عن الناس، ومن أحب الخير وفق له، ومن كره الشر جنبه، ومن رضي الدنيا من الآخرة فقد أخطأ حظ نفسه".


وقال: "من أذاقته الدنيا حلاوتها لميله اليها، جرعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها".


عامر بن عبد الله: هو أبو عمرو وقيل أبو عبد الله من بني تميم وهو الذي يقال له ابن عبد قيس، أدرك عمر بن الخطاب لكنه اشتغل بالعبادة عن الرواية وكان كعب يقول عنه هذا راهب الأمة. وكان مشهورا بالزهد والورع، وهو الذي مرّ بقافلة قد حبسهم الأسد على طريقهم فنزل عن دابته فقالوا له: إنّا نخاف عليك الأسد، فقال: إنما هو كلب من كلاب الله عزوجل إن شاء أن يسلطه سلطه، وإن شاء أن يكفه كفه فمشى إليه حتى أخذ بيديه أذني الأسد فنحاه عن الطريق وقال: إني لأستحي من ربي تبارك وتعالى أن يرى في قلبي أني أخاف غيره.


ومن كلامه: "اني أحببت الله عز وجل حبّا سهل عليّ كل مصيبة ورضاني كل قضية، فما أبالي مع حبي اياه ما أصبحت عليه وما أمسيته".


وقال لأبي المتوكل الناجي: "عليك بما يرغبك في الآخرة ويزهدك في الدنيا ويقربك إلى الله عزوجل، فقال أبو المتوكل: ما هو فقال: تقصر عن الدنيا همك، وتشحذ إلى الآخرة نيتك، وتصدق ذلك بفعلك، فاذا كانت كذلك لم يكن شىء أحب إليك من الموت ولا شىء أبغض اليك من الحياة".


الرفيع الرياحي (توفي سنة 90) هو أبو العالية الرياحي أعتقته امرأة بني رياح، أسند عن أبي بكر وعمر وعلي وأبيّ بن كعب وأبي موسى وأبي هريرة وابن عباس في جماعة من الصحابة، وكان إذا جلس اليه أكثر من أربعة قام ومن كلامه: "كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام فأول ما أتفقده من أمره صلاته، فإن وجدته يقيمها ويتمها أقمت وسمعت منه، وإن وجدته يضيعها رجعت ولم أسمع منه، وقلت هو لغير الصلاة أضيع".


وقال: "قال لي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: "لا تعمل لغير الله فيكلك الله عز وجل إلى ما عملت له".


هرم بن حيان العبدي: كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن الحسن قال: "مات هرم بن حيان في يوم صائف شديد الحر، فلما نفضوا أيديهم عن قبره جاءت سحابة تسير حتى قامت على قبره فلم تكن أطول منه ولا أقصر فرشته حتى روته ثم انصرفت".


وعن قتادة قال: "أمطر قبر هرم بن حيان من يومه وأنبت العشب من يومه".


ومن كلامه: "ما رأيت كالنار نام هاربها، ولا كالجنة نام طالبها".


وقال: "ما ءاثر الدنيا على الآخرة حكيم".


مطرف بن عبد الله بن الشخير (توفي سنة 87) هو أبو عبد الله مطرف بن عبد الله بن الشخير، وكان يسكن البادية. أسند عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وغيرهم، وتوفي في زمن الحجاج بعد الطاعون الجارف.


وعن سليمان بن المغيرة قال: "كان مطرف بن عبد الله إذا دخل بيته سبّحت معه ءانية بيته".


وعن ثابت بن مطرف أن أباه أقبل من البادية فجعل يسير بالليل فأضاء له سوطه.


ومن كلامه: "إن هذا الموت أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيما لا موت فيه".


وقال: "انّ أقبح ما طلب به الدنيا عمل الآخرة". (أي الرياء).


وقال مرة لبعض اخوانه: "يا فلان إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني فيها ولكن اكتبها في رقعة ثمّ ارفعها اليّ، فانني أكره أن أرى في وجهك ذلّ السؤال".


صفوان بن محرز المازني: من التابعين من بني تميم، أسند عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري وعمران بن حصين وحكيم بن حزام في ءاخرين، وتوفي في البصرة، وكان يجتمع مع إخوانه فيقولون: يا صفوان حدث أصحابك فيقول: الحمد لله فيرق القوم وتسيل دموعهم.


من كلامه: "إذا أكلت رغيفا أشد به صلبي، وشربت كوز ماء فعلى الدنيا وأهلها العفاء".


مالك بن دينار (130) هو أبو يحيى مالك بن دينار، مولى لامرأة من بني سامة بن لؤي وكان يكتب المصاحف، أسند مالك عن أنس بن مالك وعن جماعة من التابعين كالحسن وابن سيرين.


من كلامه: "ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله تعالى".


وقال: "لا تجعلوا بطونكم جربا للشياطين يوعي فيها إبليس ما شاء".


وقال: "لقد هممت أن ءامر إذا مت أن أغلّ فأدفع إلى ربي مغلولا كما يُدفع الآبق إلى مولاه".


وقال: منذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم ولم أكره مذمتهم قيل: ولم ذاك؟ قال: لأن حامدهم مفرط وذامهم مفرط".


وقال: "عجبا ممن يعلم أن الموت مصيره والقبر مورده كيف تقر بالدنيا عينه وكيف يطيب بها عيشه".


وقال: "كان الإبرار يتواصلون: بسجن اللسان وكثرة الاستغفار والعزلة".


وقال: "إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن البيت إذا لم يسكن خرب".


وقال: "أخذ السبع صبيا لامرأة فتصدقت بلقمة فألقاه فنوديت لقمة بلقمة".


وقال: إن الله جعل الدنيا دار مفر والآخرة دار مقر، فخذوا لمقركم من مفركم، وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، ففي الدنيا حييتم ولغيرها خلفتم، إنما مثل الدنيا كالسم، أكله من لا يعرفه واجتنبه من يعرفه، مثل الدنيا مثل الحية مسها لين وفي جوفها السم القاتل، يحذرها ذوو العقول، ويهوى إليها الصبيان بأيديهم.


وقيل لمالك بن دينار: "لا تستسقي؟ فقال: أنتم تستبطئون المطر لكني استبطىء الحجارة".


وقيل: دخل اللصوص إلى بيت مالك بن دينار فلم يجدوا في البيت شيئا فأرادوا الخروج من داره فقال مالك: ما عليكم لو صليتم ركعتين!.


ملخص لهذا المقال:


·    التصوف الإسلامي علم وعمل مستقى من كتاب الله وسنة النبي


·    التصوف الحقيقي بريء من الشعوذة والخرافات


·    التصوف هو علم وعمل وزهد في الدنيا


·    كثير من أدعياء التصوف تركوا العلم وشذوا


·    الشيخ أحمد الرفاعي الكبير إمام علم وعمل وتقوى وورع وزهد


·    كرامات الأولياء ثابتة


·    ثبتت كرامة الشيخ أحمد الرفاعي تقبيله يد النبي بالتواتر


·    كرامات الأولياء دلالة على صدقهم لاتباع النبي محمد


وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


التحذير من أقوال وأفعال واعتقادات شائعة بين مدعي التصوف.



إن مما يجب التحذير منه كتاب "مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم لعبد القادر الحمصي الشاذلي" فانّه مذكور فيه كفريات مثل هذه الأبيات ونصّها:


واعلم أنّ الله عينُ العيان ... وأجمعُ خلق الله في الوحدة


ما في إلا الله في الوجود ... إسمع قول الله وارع الحدود


كذلك يجب التحذير من كتاب منسوب لابن عجيبة الشاذلي يسمّى "معراج التشوف إلى حقائق التصوف" فيه أنّ الله تعالى قد يسمّى عند الصوفية الخمرة وعبارته: أما الخمر فقد يطلقونها على الذات العلية لأن القلوب تغيب بها كما تغيب بالخمرة الحسية. وفيه أنّ شروط القطب خمسة عشر منها معرفة الله معرفة عيانية.


ومن الغلو القبيح ظنّ بعض جهلة المتصوفة أنّ الشيخ من المشايخ يجل عن الخطأ وهذا مخالف للحديث الشريف ولكلام الصوفية الصادقين، أما الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد الا يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله" رواه الحافظ الطبراني بإسناد حسن، وأمّا كلام الصوفية فقول الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: "إذا علم المريد من الشيخ خطأ فلينبهه، فان رجع فذاك الأمر وإلا فليترك خطأه وليتبع الشّرع" قال ذلك في أدب المريد، وقال الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه: "سلم للقوم أحوالهم ما لم يخالفوا الشرع فاذا خالفوا فكن مع الشرع"، وكتب الصوفية بمثل هذا.


ومما يجب التحذير منه كتاب منسوب لرجل في الحبشة يدعى الشيخ نبراس ألف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر فيه مؤلفه هذا الكلام والعياذ بالله من الكفر "اللهم صلّ على سيدنا محمد وزير الله الأعظم".


ومما يجب التحذير منه ما في كتاب "تحفة المحتاج لشرح المنهاج" من أنّ الولي اذا قال (أنا الله) وأوّل بتأويل مقبول لا يحكم بكفره.


واعلم أن قوله "أنا الله" لا تأويل له بل هو كفر صريح، فأي إنسان يقول عن نفسه أنا الله فهو كافر إلا أنّه إذا خرج هذا الكلام من ولي مجذوب في حال غيبته لا يكفّر، لأنّ الولي في الغيبة غير مكلف وحكمه حكم المجنون حتى يعود إلى صحوته.


قال الشيخ يوسف الأردبيلي في كتابه "الأنوار لأعمال الأبرار" في كتاب الردة ما نصه "ولو قال أنا الله كفر". وقد حصل من بعض الدجالين الذين يدعون التصوف والولاية أنّه كان يدخل على جماعة ويقول: "لا إله إلا أنا رب العالمين أغفر الذنوب" ليوهم الناس أنّه من أهل مرتبة خاصة، وهذا مغرور أوقع نفسه في الكفر وأوقع من وافقه على ذلك.


وقال الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في فتاويه "التأويل البعيد لا يُقبل"، وقال الجنيد سيد الطائفة الصوفية: "لو كنت حاكما لضربت عنق من سمعته يقول: "لا موجود إلا الله".


واعلم أنّ ممّا يمتنع شرعا إطلاق بعضهم على الله تعالى: "الخمار والساقي وراهب الدير وصاحب الدير والقسيس وليلى ولبنى وسعدى وأسماء ودعد وهند والكنز الأكبر ونحو ذلك"، كذلك لا يجوز إجماعا ما يقوله بعض الغلاة من المتصوفة:


أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا


وقول بعضهم:


تمازجت الحقائق بالمعاني ... فصرنا واحدا روحا ومعنى


ومما ينبغي اجتنابه قول بعضهم "ما في الوجود إلا الله" وقولهم "إنّ الله في قلوب العارفين وإنّما الصواب أن يُقال "ما في الوجود في الأزل إلا الله، ومعرفة الله في قلوب العارفين".


كذلك ممّا ينبغي تركه قول بعض المنتسبين إلى التّصوف: "حضرة الحق، وحضرة الله، وجناب الحق، وجناب الله" فقد منع العلماء منها كما ذكر ذلك الشيخ شهاب الدين الرملي صاحب حاشية كتاب "أسنى المطالب شرح روض الطالب" للشيخ زكريا الأنصاري وذلك لأن الحضرة المكان القريب، والجناب ما حول الشخص وهذا من صفات الأجسام، تعالى الله عز وجل عن ذلك.


ولا ذكر لهاتين العبارتين في كتب السادة الصوفية المعتبرين إنّما يستعملها بعض من ينتسب إلى التصوف من المتأخرين وتبعهم على ذلك غيرهم بدون تحقيق.


ومما يجب التحذير منه أيضا ما شاع عند بعض جهلة المتصوفة أنّ الأولياء والخواص لا حاجة لهم إلى علم الدين ولا إلى النصوص الشرعية بل يكفيهم الإلهام والفيوضات فالجواب ما ذكره الشيخ الفقيه يوسف الأردبيلي في كتابه "الأنوار لأعمال الأبرار" ونصه: "ولو قال: الله يلهمني ما أحتاج اليه من أمر الدين فلا أحتاج إلى العلم والعلماء فمبتدع كذاب يلعب به الشيطان" اهـ.


وقال الحافظ ابن حجر في شرح صحيح البخاري ما نصه: "ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا: إنّه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات كما اتفق للخضر فانه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى، ويؤيده الحديث المشهور: "إستفت قلبك وإن أفتاك المفتون" رواه أحمد.


قال القرطبي: وهذ القول زندقة وكفر لأنه إنكار لما عُلم من الشرائع فإنّ الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تُعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبينين لشرائعه وأحكامه كما قال تعالى: {الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس(75)} [سورة الحج] وقال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته(124)} [سورة الأنعام]، وأمر بطاعتهم في كلّ ما جاؤا به وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به فإن فيه ا لهدى، وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادّعى أنّ هناك طريقا أخرى يُعرف بها أمره ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب، وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا لأنه من قال: "إنه ياخذ عن قلبه لان الذي يقع فيه هو حكم الله وإنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب وسنة" فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "ان روح القدس نفث في روعي" أخرجه الحاكم في المستدرك.


وقال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: "أنا لا ءاخذ عن الموتى وإنّما ءاخذ عن الحي الذي لا يموت"، وكذا قال ءاخر: "أنا ءاخذ عن قلبي من ربي"، وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع ونسأل الله الهداية والتوفيق.


وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع على خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعله فقد ضل، وليس ما تمسك به صحيحا فإن الذي فعله الخضر ليس في شىء منه ما يناقض الشرع، فان نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعا وعقلا، ولكن مبادرة موسى للإنكار بحسب الظاهر، وقد وقع ذلك واضحا في رواية أبي اسحاق التي أخرجها مسلم ولفظه "فإذا جاء الذي يسخرها فوجدها منخرقة فتجاوزها فاصلحوها بخشبة" أخرجه مسلم في صحيحه، ويستفاد منه وجوب التأني عن الإنكار في المحتملات، وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة، وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان" اهـ.

والحمدلله أولاً وءاخراً

وصلى الله على سيدنا محمّدٍ الامين وءالهِ الطاهرين وصحابته الطيبين.


من مواعظ سيدي أحمد الرفاعي الكبير رضي الله عنه

يقول رضي الله عنه: "إياك والتقرب إلى أهل الدنيا، فان التقرب منهم يُقسّي القلب، واتخذِ الفقراء أصحابا وأحبابا، وعظّمهم وكن مشغولا بخدمتهم، وإذا جاءك واحد منهم فانتصب له على قدمبك واسأله الدعاء الصالح، وجاهد نفسك لكي تكون منهم وكن شبيها بهم، من تشبّه بقوم فهو منهم ومن أحب قوما حشر معهم، ولو عرف الناس ربهم حق المعرفة كما عرفه الفقراء لانقطعوا عن معاش الدنيا وأحوالها بالكُلّية، ومن علامة الفقير أنه إذا أعطى عطاءا أعطاه لوجه الله ومرضاته لا شىء ءاخر غير ذلك".


وقال رضي الله عنه: "شرط الفقير أنه لا يعلق نظره بملبوسات الخلق وغيرها، فإنه إن علقه بذلك التبس عليه الأمر، وكلما اختلط الفقير بالخلق ظهرت عيوبه، أي أخي لا تنظر إلى عيوب الخلق فان نظرت أظهر الله فيك جميع العيوب، وإن كان فيك عيب لا تنحرف عن الطريق المستقيم، ولا تراع هوى النفس وشهواتها بل راع التقوى وأنواع الطاعة وملازمة السنة والجماعة، وإذا جلست بالخلوة فاحذر الوسواس، وصفّ خواطرك من الكدورات والرعونات البشرية، وإذا صدر من أخيك عيب فاصفح عنه الصفح الجميل واستر الستر الجليل، وعامل عباد الله بالصلاح والنصح والتقوى، وعظم أهل الخشوع والمراقبة، ومن كان لك عليه حق أو له عليك حق، فداره كي يعطيك حقك أو أن تعطيه حقه، بل إذا كان لك حق عند أحد فسامحه يُعطيك الله ويعوّض عليك، وكن مع الخلق بالأدب، وعليك ترك الدنيا ومخالفة النفس، والحذر من الهوى والهوس فإنّهما أكبر أعدائك، واعلم أن التوفيق في جميع الأحوال إنّما هو من الله سبحانه وتعالى".


ويقول أيضا: "ومما ينبغي أن يجعل المرء نفسه قائلا بالنصائح والمواعظ، ويكون متلبسا بأفعال المعروف ممتثلا للأوامر والنواهي، واقفا مع الحق وطريق الشرع، حتى اذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر قُبل منه وامتثل له، وكان لأمره تأثير في نفس المأمور ولنهيه وإلا فلا يُقبل منه ذلك ولا يُسمع ما يقول وكان من العظيم عليه قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون(2) كبُر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون(3)} [سورة الصف] ولهذا كانت قلوب الصالحين مهبط الأنوار، وان لم يكن القلب منورا بنور العبادة والطاعة وأفعال الخيرات كان مهبط الشيطان ويلقي صاحبه في ظلم الباطل ويجره إلى الشقاوة، فنعوذ بالله من ذلك".


وكان يقول رضي الله عنه ناصحا وواعظا أحد مريديه: "عليك بملازمة الشرع بأمر الظاهر والباطن، وبحفظ القلوب من نسيان ذكر الله، وبخدمة الفقراء والغرباء، وبادر دائما بالسرعة للعمل الصالح من غير كسل ولا ملل، وقم في مرضاة الله تعالى، وقف في مرضاة الله تعالى، وقف في باب الله تعالى، وعوّد نفسك القيام في الليل، وسلمها من الرياء في العمل، وابك في خلواتك وجلواتك على ذنوبك الماضية، واعلم أنّ الدنيا خيال وما فيها زوال، همة أبناء الدنيا دنياهم، وهمة أبناء الآخرة ءاخرتهم.


واشغل ذهنك عن الوسواس، واحذر نفسك من مصاحبة صديق السوء فان عاقبة مصاحبته النّدامة والتأسف يوم القيامة كما قال الله تعالى مخبرا عمن هذا حاله: {ليتني لم أتّخذ فلانا خليلا(28)} [سورة الفرقان]. فبئس القرين، فاحفظ نفسك من القرين السوء.


يا ولدي إن ما أكلته تفنيه، وما لبسته تبليه، وما عملته تُلاقيه، والتوجه إلى الله حتما مقضيا، وفراق الأحبة وعدا مأتيا، والدنيا أولها ضعف وفتور، وءاخرها موت وقبور، لو بقي ساكنها ما خربت مساكنها، فاربط قلبك بالله (أي بطاعته ومحبته)، وأعرض عن غير الله، وسلم في جميع أحوالك لله، واجعل سلوكك في طريق الفقراء بالتواضع، واستقم بالخدمة على قدم الشريعة، واحفظ نيّتك من دنس الوسواس، وأمسك قلبك من الميل الى الناس، وكل خبزا يابسا وماء مالحا من باب الله، وتمسك بسبب لمعيشتك بطريق الشرع من كسب حلال، وايّاك من كسر خواطر الفقراء، وصل الأرحام، وأكرم الأقارب، واعف عمّن ظلمك، وأكثر زيارة القبور، وليّن كلامك للخلق، وكلّمهم على قدر عقولهم، وحسّن خُلقك، وأعرض عن الجاهلين، وقم بقضاء حوائج اليتامى وأكرمهم، وبادر بخدمة الأرامل، وارحم تُرحم، وكن مع الله تر الله معك، واجعل الإخلاص رفيقك في سائر الأقوال والأفعال، واجتهد بهداية الخلق لطريق الحق، ولا ترغب للكرامات وخوارق العادات فإنّ الأولياء يستترون من الكرامات كما تستتر المرأة من دم الحيض، ولازم باب الله، ووجه قلبك لرسول الله، وقم بنصيحة الإخوان، وألف بين قلوبهم، وأصلح بين الناس، واجمع الناس مهما استطعت على الله بطريقتك، وعمّر قلبك بالذكر، وجمّل قالبك بالفكر، واستعن بالله، واصبر على مصائب الله، وكن راضيا عن الله، وقل على كل حال الحمد لله، وأكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تحرّكت نفسك بالشهوة أو بالكبر فصُم تطوعا لله واعتصم بحبل الله، واجلس في بيتك ولا تكثر الخروج للأسواق ومواضع الفُرج فمن ترك الفُرج نال الفَرج، وأكرم ضيفك، وارحم أهلك وولدك وزوجتك وخادمك، واعمل للآخرة، وقل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون.


هذه نصيحتي لك ولكل من سلك طريقي ولاخواني ولجميع المسلمين والمحبين كثرهم الله، وأستغفر الله العظيم من جميع الذنوب خفيها وجليها وكبيرها وصغيرها".


وقال أيضا: "ترك الوسواس يكون في ترك الحرام، وحسن الإخلاص يكون من خوف الله، والتجرد عن الناس يكون من ذكر الموت والأدب على أحسن قياس يكون من الندم على الماضي من الذنوب، والفكر نور العقل، والذكر نور القلب، والاخلاص نور السر، والتقوى نور الوجه".


ثم قال: "الوصول باب، والعناية مفتاح، والسخاوة سلُم، والاخلاص قوة، فإذا أخلصت صعدت الى السلم، وإذا صرت سخيا وصلت الى المفتاح وفتحت الباب باذن الفتّاح، بُنيَ الطريق على الصدق والإخلاص وحسن الخلق والكرم، والغنى بالعلم، والزينة بالحلم، والكرامة بالتقوى، والعزة بمخالفة النفس، أكثر من الدعاء المشهور، ومل عن الطريق المشهور، وتذلل للفقير المستور، وعُدّ نفسك من أهل القبور".


"قف في باب الاستقامة، واسكن في باب المداومة، والزم الصبر على العمل، ومن طرق الباب بالخضوع، فتح له بالقبول".


"الذكر حفظ القلب من الوسواس وترك الميل الى الناس، والتخلي عن كل قياس".


"القلب جوهرة مظلمة مغمورة بتراب الغفلة، جلاؤها الفكر، ونورها الذكر، وصندوقها الصبر".


"الصدق سلم العناية، والتقوى بيت الهداية، والتسليم عين الرعاية، والإخلاص حسن الوقاية، والانكسار لله هو الولاية".


"لسان الورع يدعو إلى ترك الآفات، ولسان التعبد يدعو إلى دوام الاجتهاد".


"الحكمة خوف الله، والرباط التوكل على الله، والتدبير التفويض إلى الله، والتسليم العمل بسر {قل كلّ من عند الله(78)}" [سورة النساء].


"انّ الصلاة عليه (أي على النبي صلى الله عليه وسلم) تسهل المرور على الصراط، وتجعل الدعاء مستجابا، وان قدرتم أعطوا الصدقة فإنها تبرد النار وتزيل غضب الله، والإحسان للوالدين وبرهم يهوّن سكرات الموت".


"يا ولدي التصوف الإعراض عن غير الله، وعدم شغل الفكر بذات الله، والتوكل على الله، وإلقاء زمام الحال في باب التفويض، وحسن الظن به في جميع الحالات".


"يا ولدي إذا سمعت نقلا حسنا وتعلمت علما فاعمل به، ولا تكن من الذين يعلمون ولا يعملون، ولا تضيع أوقاتك باللهو والطرب وسماع الآلات وكلمات المضحكين، واترك الفرح فإن الفرح في الدنيا جنون، والحزن فيها عقل وكمال، والخلود فيها محال، والانكباب عليها فعل الجهال، واجعل فكرك مشغولا بمن سلف قبلك من الجبابرة والسلاطين ماتوا وكأنهم ما كانوا، هم السابقون ونحن اللاحقون، فسر على منهج الصالحين لتحشر في زمرتهم ولتكون من فرقتهم".


"اخواني ان غركم لباس الحكام والأعيان وزينتهم وضاقت صدوركم بهذا فاذهبوا إلى المقابر وانظروا ءاباءكم وءاباءهم تجدوا الكل في التراب والله أعلم بمن هو في النعيم وبمن هو في العذاب فأنتم كذلك مع هؤلاء تتساوون {وسيعلم الذين ظلموا أيّ مُنقلَب ينقلبون(227)} [سورة الشعراء]."


"يا ولدي إياك من الاشتغال بما لا يعنيك من الكلام والأعمال وغيرها، وارجع بنفسك عن طريق الغفلة، وادخل من باب اليقظة، وقف بميدان الذل والانكسار، واخرج من مقام العظمة والاستكبار فإنك مضغة ابتداؤك، وجيفة انتهاؤك، فقف بين الابتداء والانتهاء بما يليق لمقامها".


"واياك من الحسد فان الحسد أم الخطايا، والكذب والحسد والكره سبب لطرد العبد من باب الرب، فلا تعوّد نفسك على هذه الخصال قطعا، واقطع نفسك إلى الله، واعلم بأن الرزق مقسوم، فإذا تحققت من ذلك ما تكبرت، واعلم بأنك محاسَب، فإذا تحققت من ذلك ما كذبت، واغضض طرفك عن النظر إلى أعراض الناس فضلا عن العمل الردىء فإنك كما تدين تُدان، وكما أنّ لك عينا فلغيرك عيون، وكما يولى عليك، وأمسك لسانك عن مذمة الخلق فان للخلق ألسنا، نظرك فيك يكفيك، وكما تقول بالناس قد يقولون فيك، وحاسب نفسك في كل يوم، واستغفر الله كثيرا، وكن طبيب نفسك ومرشدها، ولا تغفل عن حساب نفسك، وإياك من الاشتغال بحظ النفس، وإياك والظهور فالظهور يقصم الظهور".



والحمدلله أولاً وءاخراً وصلى الله على سيدنا محمّدٍ الامين وءالهِ الطاهرين وصحابته الطيبين.


لا يصح الصوم كله فرضه ونفله مقيّده ومطلقه إلا بنية

 قال شيخ المالكية أبو القاسم بن الجلاب في التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، باب النية في الصوم، (فصل) النية (ولا يصح الصوم كله فر...