بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 أبريل 2021

شأن الدعاء والقضاء (والقدر المعلق )

قال تعالى {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
قال البيهقي "أصح ما قيل في تفسيرها عن الناسخ والمنسوخ يمحو الله ما يشاء أن ينسخه من القرءان ويثبت ما شاء أن لا ينسخه وكل أي الناسخ والمنسوخ في اللوح المحفوظ".
وأما بالنسبة للقدر المعلق فهو ما كتب في صحف الملائكة أن فلانا إذا وصل رحمه مثلا عاش ستين وإن لم يصل عاش أربعين.
والله تعالى عالم إن كان سيصل رحمه أم لا. وأما القدر المبرم فهو ما كتب من غير تعليق.
ليسَ مَعنى القضاءِ والقدَرِ الإجبارُ والقهرُ، وإنما المعنى إظهارُ ما عَلِمَ اللهُ تعالى أنه لا بدَّ كائنٌ، فالقدَرُ خيرُه وشرّه وحُلوُه ومرّه مِن الله لا خالقَ إلا هوَ سبحانه، لا يُسأل عمّا يفعلُ وهُم يُسألون.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين وصحبه الطاهرين وسلم، وبعد،
فقد رغّب الله تعالى عباده بالدعاء وجعله بابًا من أبواب الفرج ولا سيما في أيام الشدة التي يعانيها المسلم. وقد كان من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللجوء إلى ربّه في شؤونه كلها وبخاصّة حين الشدائد بالدعاء والرّجاء ليستنّ به المسلمون من بعده وهو الذي أرسله الله ليبيّن للناس ما نزّل إليهم من ربّهم كما هو في كتاب الله تعالى.
وفي سنن الترمذي (279هـ.) عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا "الدعاء مخّ العبادة"، وقال الله تعالى: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]{غافر:60}، قال القرطبي (ت671هـ) في تفسيره: يفسر الآية حديث الترمذي وأبي داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: "الدعاء هو العبادة"، فالمعنى وحّدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم، وهو قول أكثر المفسرين. وقيل هو الذكر والدعاء والسؤال وأن المعنى أستجب لكم إن شئتُ كما في الأنعام [بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ] {الأنعام:41}، فهو من باب المطلق والمقيّد، وهو لا يقضي الاستجابة مطلقًا وإنما المعنى أنه يجيب دعاء الداعين في الجملة، وذلك بشروط منها ما ذكر في حديث الأشعث الأغبر يرفع يديه وفي آخره "وأنى يُستجاب لذلك" كما في مسلم وغيره. اهـ.
وقال الإمام الخطابي (388هـ.) في شأن الدعاء إن الآية من العام المخصوص، وإنه قيل إن معنى الاستجابة أن الداعي يعوّض من دعائه عوضًا ما، فربما كان ذلك إسعافًا بطلبته التي دعا لها وذلك إذا وافق القضاء، فإن لم يساعده القضاء فإنه يُعطى سكينة في نفسه وانشراحًا في صدره وصبرًا يسهُل معه احتمال ثقل الواردات عليه، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة دعائه وهو نوع من الاستجابة. اهـ.
يدلّ على ذلك حديث مسلم وغيره عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنـزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَـنة عامة وأن لا يسلط عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسَـنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها حتى يكون يهلك بعضهم بعضًا"، وفي رواية لمسلم "وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها"، وفي كتاب الله تعالى: [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ] {الشُّورى:30}، وفيه كذلك [ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الأنفال:53} ، وهو ما نراه اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
فدلّ ما تقدّم على أن الله تعالى لا يغيّر شيئًا مما شاء في الأزل حصوله سواء بدعاء سيدنا محمد فمَن دونه صلى الله عليه وسلم أو بالصدقة، ويدل على هذا الأمر حديث البزار والبيهقي: "لا ينفع حذر من قدر"، قال البيهقي: معناه في ما كتب الله من القضاء المحتوم (يعني القضاء المبـرم) كما لا ينفع الدعاء والدواء في ردّ الموت إن جاء الأجل المحتوم، ثم إن النفع يكون في الحذر والدعاء والدواء إذا كان القلم قد جرى بإلحاق النفع بأحد هؤلاء، والعبد ميسّر لما كتِب له أو عليه من جميع ذلك لا يستطيع أن يعمل غيره. وعلى هذا يُحمل حديث ابن ماجه "لا يردّ القدر إلا الدعاء" على ما في إسناده من لين، وهو أن الله تعالى قد كتب ما يُصيب عبدًا من عباده من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك، وأنه إن دعا الله تعالى وأطاعه في صلة الرحم وغيرها لم يُصبه ذلك البلاء ورزقه كثيراً وعمّره طويلاً. ويدل عليه كذلك حديث عمر في الطاعون عند البخاري حين قيل له: أفرارًا من قدر الله؟ فقال رضي الله عنه: نعم، نـفِـرّ من قدر الله إلى قدر الله. أرأيتَ لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عَدْوَتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيتَ الخصبة رعيتَها بقدر الله، وإن رعيتَ الجدبةَ رعيتَها بقدر الله؟ اهـ.
وفي صحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري (261هـ.) عن يحيى بن يَـعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيتَ ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضيَ عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيّهم وثبتت الحجةُ عليهم، فقلتُ بل شيء قضيَ عليهم ومضى عليهم، قال فقال أفلا يكون ظلمًا، قال ففزعتُ من ذلك فزعًا شديدًا وقلتُ كلّ شيء خلق الله ومِلك يده، فلا يُـسأل عما يَفعل وهم يُسألون، فقال لي يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزرَ عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيتَ ما يعملُ الناسُ اليومَ ويكدحون فيه، أشيءٌ قضيَ عليهم ومضى فيهم من قدَر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيّهم وثبتت الحجةُ عليهم، فقال: لا، بل شيءٌ قضيَ عليهم ومضى فيهم، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل: [فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا] {الشمس:8} اهـ.
وهذا ما يدل عليه النقل والعقل إذ إن العقل يشهد أن للإنسان إرادةً لا يستطيع أن يفعل بها كل ما يريد إذ إنها تحت مشيئة الله تعالى، وهو ما يدل عليه قول الله تعالى: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {التَّكوير:29}، والعقل يشهد كذلك أن للإنسان أفعالاً يفعلها باختياره تغاير ما يفعله بغير اختياره كحركة النائم والمرتعش، فما يفعله باختياره هو محل التكليف، وكل ذلك على أي حال لا يخرج عن علم الله الأزلي الذي لا يتغيّر، [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] {الملك:14} ولا عن إرادته الأزلية، [فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ] {البروج:16}، فالكل بإرادته تعالى وليس الكل بأمره عز وجلّ، ويوضح ذلك قول الله تعالى: [وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ] {الزُّمر:36 37}،
فمَن اهتدى فبفضل مِن الله عليه، ومن أضله الله فلسابق علمه تعالى بما يكون منه، لا تبديل لكلماته تبارك وتعالى.
فالقدَر ليس معناه الإجبار والقهر، وإنما معناه إظهار ما سبق في علم الله تعالى من استعداد العبد، لا تبديل لحكمه ولا معقّب لأمره، فالعبد ينساق باختياره إلى ما علم الله أنه يكون منه. ولا يجوز اعتقاد أن الله تعالى يُعصى قهرًا، بل الله تعالى لا يجري في ملكه إلا ما يريد، من هداه فبفضله ومن أضله فبعدله، لا إله غيره، ولا خالق سواه. وفي حديث البخاري عن ابن مسعود وغيره مرفوعًا: أن الولد يُكتب وهو في بطن أمه ذكرًا أو أنثى وأجله ورزقه وشقيّ هو أو سعيد.
والقدر كما قال سيدنا علي رضي الله عنه: إنما هو أمر بين أمرين لا هو جبر ولا هو تفويض (رواه الحافظ ابن عساكر، 571 هـ
.)، أي أن الإنسان ليس كالريشة المعلقة التي يحركها الهواء يمنة ويسرة من غير اختيار ولا إرادة كما زعمت الجبرية، وليس مستقلاً عن مشيئة الله تعالى بحيث إنه يفعل كل ما يريده كما زعمت المعتزلة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه أبو داود في سننه "مجوس أمتي الذين يقولون لا قدَر"، اهـ. وفي هذا تشبيه بليغ لقول المجوس بمدبرين، النور للخير والظلمة للشر، فأشبهت القدرية المجوس في الشرك بالله تعالى، وهو ما فهمه الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه حين سئل عن تزويج القدري فقرأ قول الله تعالى:[وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ] {البقرة:221}، رواه البيهقي، ومثل ذلك قال الإمام الشافعي في حفص الفرد صريحًا لقول حفص بعد أن كفره الشافعي: أراد الشافعي ضرب عنقي، كما أفاده السيوطي (911هـ.) في كتاب تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، وهو قول الإمام أحمد بن حنبل (241هـ.) في أبي شعيب المعتزلي وقد جاءه وهو في السجن رضي الله عنه يناظره كما في كتاب محنة أحمد للمقدسي (600هـ.) وهو قول من لا يحصى من السلف الصالح والأئمة المجتهدين كما ذكر الحافظ اللالكائي (418هـ.) في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة.
وفي فتح الباري شرح الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ.) لصحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (256هـ.) في باب "من بسِـط له في الرزق لصلة الرحم" من كتاب الأدب شارحًا مسألة القضاء المبرم والقضاء المعلق ما نصه عند حديث أبي هريرة مرفوعًا "مَن سرّه أن يبسَـط له في رزقه وأن يُـنسَـأ له في أثره فليصِل رحمِـَه" ما نصه: "قوله وينسأ بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر في أجله وسمي الأجل أثراً لأنه يتبع العمر قال زهير:والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر، قال ابن التين ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {الأعراف:34}، والجمع بينهما من وجهين أحدهما أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة وصيانته عن تضييعه ذلك. ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر، وحاصله أن صلة الرحم تكون سبباً للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده والصدقة الجارية عليه والخلف الصالح وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى، ثانيهما أن الزيادة على حقيقتها وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى كأن يقال للملك مثلاً إن عُمْرَ فلان مائة مثلاً إن وصل رحمه وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدّم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، واليه الإشارة بقوله تعالى: [يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ]{الرعد:39}، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه ألبتة، ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق" اهـ. من فتح الباري في شرح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني.
وعلى ما تقدّم يدل قول الله تعالى: [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}، وقوله تعالى: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6}، وقوله عز وجل: [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا] {آل عمران:8}، فهذا كله يدل على أن الهداية والزيغ بيد الله لا بيد العبد، فلو كان الإنسان مستقلاً بإرادته عن إرادة الله تعالى فلأيّ غرض يستعين بالله في صلاته كل يوم سبع عشرة مرة، يقرأ الفاتحة في كل ركعة من الصلوات المفروضات سوى السنن والنوافل.
هذا وقد ثبت أن الإيمان بالقدر بمعنى ما قدّر الله تعالى على العباد من خير وشرّ وحلو ومرّ أنه بخلق الله تعالى وإرادته وعلمه لا يتغيّر من ذلك شيء، من أصول الإسلام وهو في كتاب الله تعالى: [وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ] {الزُّمر:36 37}.
وفي حديث البخاري ومسلم مرفوعًا "اعملوا فكلٌّ ميسّـرٌ لما خلق له"، وفيه كذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "فوالذي لا إله غيره إن أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدَكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"، وفي حديث ابن عباس المشهور "رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي.
وفي كتاب الله تعالى خطابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحبّ لعمه أبي طالب الهدى: [إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] {القصص:56} أي الله تعالى، وليس العبد، إذ إن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله وليست مشيئة الله تابعة لمشيئة العبد، يوضح ذلك ما في كتاب الله تعالى: [وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ] {الأنعام:111}، وكذلك قوله تعالى حكاية عن موسى: [إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ]{الأعراف:155}، وما في حديث جبريل الطويل الذي في آخره "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" وقد سأله عليه السلام عن الإيمان "وأن تؤمن بالقدر خيره وشره"، وفي رواية "وحلوه ومرّه"، وفي رواية "وأن تؤمن بالقدر كله" ذكرها جميعًا بالإسناد المتصل الإمام البيهقي في كتاب القدر.
فما كان وما يكون وما سـيكون إنما هو بخلق الله تعالى وبعلمه الذي لا يتغيّر وبإرادته التي لا يغلبها مغالب إذ هو تعالى القاهر فوق عباده والغالب على أمره والحافظ للعرش وما دونه، جميع الخلائق مقهورون بقدرته، لا تتحرّك ذرّة إلا بإذنه، ليس معه مدبّر في الخلق ولا شريك في الملك، [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] {الأنبياء:23} سبحانه، وهو المنـزّه عن الظلم، [وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] {فصِّلت:46}، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه كما في القاموس للفيروزآبادي (817هـ.)، والظلم فعل الجاهل بعواقب الأمور والله منـزّه عن ذلك إذ هو المتصرّف في ملكه ولا تخفى عليه خافية ولا ينازعه في ذلك منازع لأن فعله تعالى لا يخلو من حكمة إذ لم يخلق الله تعالى شيئًا عبثًا.
ثم إن الله تعالى بيّـن سبب إرسال الرسل بقوله عز وجل: [رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] {النساء:165}، وذلك منه تعالى فضل وليس ذلك بواجب عليه تعالى، [قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] {آل عمران:73} [وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] {البقرة:105}، وذلك لقيام الدليل على وجوده عز وجل بما هو مشاهد من مخلوقاته على ما فيها من تباين ما يدلّ على كمال قدرته تبارك وتعالى، [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] {آل عمران:190} .
على أن كثيرًا من الناس يسأل بعضهم بعضًا هل الإنسان مخير أو مسيّر؟، وهو سؤال الجواب عنه سهل إذ يقال إن الإنسان مختار تحت مشيئة الله تعالى، فللعبد الكسب الذي لا خلق فيه، [لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] {البقرة:286}، ولله الخلق الذي لا يشاركه فيه أحد إذ هو الله الخالق لكل شيء كما نص عليه القرآن [قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] {الرعد:16}، فمن خاصم في ذلك من المعتزلة عن الحق كان نصيبه ما في صحيح مسلم أن مشركي قريش جاؤوا يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فأنزل الله تعالى:[يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] {القمر:48 49}. وقد كان من أول من ألف في الرد عليهم سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (101هـ.) في رسالة طويلة سردها الحافظ أبو نعيم الأصبهاني (430هـ.) في حلية الأولياء، وفيها قال رضي الله عنه: "لو أرادَ الله أن لا يُعصى ما خلق إبليس".
وفي شأن الدعاء للإمام أبي سليمان الخطابي (388هـ.):فإن قال قائل فإذا كان الأمر على ما ذكرتموه من أن الدعاء لا يدفع ضررًا ولا يجلب نفعًا لم يكن جرى به القضاء، فما فائدته وما معنى الاشتغال به؟، فالجواب أن هذا من جملة الباب الذي وقع التعبّد فيه بظاهر من العلم يجري مجرى الإمارة المبشّرة أو المنذِرة دون العلة الموجِبة، وذلك والله أعلم، لِتكون المعاملة فيه على معنى الترجّي والتعلق بالطمع الباعثَين على الطلب دون اليقين الذي يقع معه طمأنينة النفس، فيُفضي بصاحبه إلى ترك العمل والإخلاد إلى دَعة العُطلة، فإن العمل الدائر بين الظفر بالمطلوب وبين مخافة فوته يحرّك على السعي له والدأب فيه، وأما اليقين فيسكّن النفس ويريحها، كما اليأس يُبلّدها ويُطفئها. وقد قضى الله سبحانه أن يكون العبدُ ممتحَنًا ومعلّقًا بين الرجاء والخوف اللذين هما مدرَجتا العبودية ليُستخرج منه بذلك الوظائف المضروبة عليه التي هي سِمة كلّ عبد ونصبة كل مربوب مدبَّر، وعلى هذا بُنيَ الأمر في معاني ما نعتقده في مبادئ الأمور التي هي الأقدار والأقضية مع التزامنا الأوامر التي تعبّدنا اللهُ تعالى بها ووعدنا عليها في المعاد الثوابَ والعقابَ. ولما عرَض هذا الإشكال سألت الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرأيتَ أعمالنا هذه، أشيء قد فُرغ منه أم أمرٌ نستأنِفه، فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو أمر قد فُرِغ منه، فقالوا ففيمَ العمل إذًا؟، قال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خلِق له، قالوا: فنعمل إذًا.
ألا تراه صلى الله عليه وسلم كيف علّقهم بين الأمرين، فرَهَنهم بسابق القدَر المفروغ منه، ثم ألزمهُم العملَ الذي هو مَدرَجة التعبّد لتكون تلك الأفعال أمائر مبشّرة ومنذرة فلم يَبطل الثوابُ الذي هو كالفرع بالعلة التي هي له كالأصل، ولم يَترك أحد الأمرين للآخر. وأخبر مع ذلك أن فائدة العمل هو القدر المفروغ منه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فكلّ ميسّـرٌ لما خلق له"، يريد أنه ميسّـر في أيام حياته إلى العمل الذي سبق له القدر به قبل وقت وجوده وكونه، إلا أن الواجب أن تعلم فرق ما بين الميسّر والمسخّر، فتفهّم ذلك. وكذلك القول في باب الرزق وفي التسبب إليه بالكسب وهو أمر مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا يُنقصه الترك، ونظير ذلك أمر العمر والأجل المضروب فيه في قوله عز وجلّ: [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ]{الأعراف:34}، ثم قد جاء في الطب والعلاج ما جاء وقد استعمله عامة أهل الدين من السلف والخلف مع علمهم بأن ما تقدّم من الأقدار والأقضية لا يدفعه العلاج بالعقاقير والأدوية. فإذا تأملت هذه الأمور علمتَ أن الله سبحانه قد لطف بعباده فعلّل طباعهم البشرية بوضع هذه الأسباب ليأنسوا بها فيخفف عنهم ثقل الامتحان الذي تعبّدهم به وليتصرفوا بذلك بين الرجاء والخوف، وليستخرج منهم وظيفتي الشكر والصبر في طورَي السرّاء والضرّاء والشدة والرّخاء، ومِن وراء ذلك عِلمُ الله تعالى فيهم، ولله عاقبة الأمور وهو العليم الحكيم لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه لا يُسأل عمّا يَفعلُ وهُم يُسألون. اهـ. كلام الخطابي وهو عجيبٌ لمن تأمله فرحمه الله من إمام بَرّ وعالم بحر.
وليُعلم أن مسألة القضاء والقدر مما يخشى فيه الزلل والزيغ إذ هي من أدق مسائل التوحيد التي أوضحها أهل العلم فلم يتركوا فيها مجالاً لشبهة لمعتزلي ولا لجبري، هذا ومن المهم التنبيه إلى أن القدَر بمعنى المقدور المخلوق ينقسم إلى خير وشرّ وحلو ومرّ، أما صفة الله تعالى، [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا] {الفرقان:2} فلا تنقسم إلى خير وشرّ. فالتقدير والتدبير صفتان أزليّتان لله تعالى تفيدان أن اللهَ سبحانه دبّر الأشياء وقدّرها على وفق علمه الأزلي كما أفادت الآية الكريمة. وأما القضاء هنا فمعناه الخلق كما في قوله تعالى: [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ] {فصِّلت:12}، [وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] {البقرة:117}.
ولله درّ عالم قريش الذي ملأ طباق الأرض علمًا كما نص عليه حديث البيهقي (458 هـ.) وغيره، أعني الإمام محمد بن إدريس الشافعي (204هـ.) الذي قـال رضي الله عنه:
ما شـئتَ كان وإن لم أشـأ وما شئتُ إن لم تَشأ لم يَكن
خلقتَ العبـادَ على ما علمتَ ففي العلم يجري الفتى والمسِن
على ذا مننـتَ وهذا خذلتَ وهـذا أعنـتَ وذا لم تعِـن
فمنهم شـقيٌّ ومنهم سـعيدٌ ومنهم قبيـحٌ ومنهم حسَـن
ومنـهم غـنيّ ومنـهم فقيرٌ وكُـلّ بأعمـالـه مُرتـهن
والحمد لله رب العالمين

الاثنين، 26 أبريل 2021

تفسير قول الله تعالى ( الرحمن على العرش استوى)[5 سورة طه] .

 الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله



يَجِبُ أن يكونَ تفسيرُ هذه الآية بغيرِ الاستِقرارِ والجلوسِ ونحوِ ذلكَ ويَكفُر من يعتَقِدُ ذَلِكَ .
 فالذي يعتقدُ أن معنى قولِ الله تعالى: ﴿ الرحمن على العرش استوى) (5) ﴾ جَلَسَ أو استقرَ أو حاذَى العرشَ يَكفُر.
لذا يَجِبُ تَركُ الحَملِ على الَظاهِر بَل يُحَملُ على مَحْملٍ مُستَقيمٍ في العُقُول ،ِ فتُحمَلُ لفظَةُ الاستِواءِ على القَهرِ  ،  ففي لُغَةِ العَرَبِ يُقالُ : استَوى فُلانٌ على المَمَالِكِ إذا احتَوَى على مَقَالِيدِ المُلكِ واستَعلى على الرقَابِ.  ومعنى (( واستعلى على الرقَابِ )) اي استولى على الأشخاصِ اي على أهل البلد ِ.
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ :

   قَد اسْتَوَى بِشْرٌ علَى العِراقِ    

مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ


 ( مهراق) تُلفظ القافُ المكسورة وكأَنَّ في ءاخرِها ياءً ولو لم تكن الياءُ مكتوبةً ، والمعنى أنه سَيطَرَ على العراقِ ومَلَكَهَا من غير حَربٍ وإراقَةِ دِمَاءٍ .

 

فثفسير  ءاية الاستواءَ:

1- إما أن تُأوّل  تأويلاً إجماليًّا فيُقَالُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَع تَنزِيْهِهِ عن اسْتِواءِ المخْلُوقِيْنَ كَالجُلوسِ والاسْتِقرارٍ ، أو يقال : ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ بلا كيف ٍ.


2-  وإما أن  تُأوّل  تأويلاً تفصيليَا فيُقَالُ:  (استوى) اي قَهَرَ ، ويجوزُ أن يقولَ استولى . 

فمَن شَاءَ قال: استوى استواءً يليقُ بهِ من غير أن يُفَسّرَهُ بالقهرِ أو نحوهِ فيكونُ أوَّل تأويلاً إجماليًّا، ومن شَاءَ قال: استوى أي قَهَرَ فيكونُ أوَّلَ تأويلاً تفصيليًّا.

ومعنى قًَهْر الله للعرشِ الذي هو أعظمُ المخلوقاتِ : أن العرشَ تحت تصرُّف الله هو خلقَهُ وهو يحفظهُ ، يحفظُ عليهِ وجودهُ ولولا حفظُ الله تعالى له لهَوى إلى الأسفلِ فتحطَّمَ ، فالله تعالى هو أوجدَهُ ثم هو حفظهُ وأبقاهُ ، هذا معنى قَهَرَ العرشَ ، هو سبحانَهُ قاهرُ العالم كلّه ، هذه الشّمسُ والقمرُ والنّجومُ لولا أن الله يحفظُها على هذا النّظامِ الذي هي قائمةٌ عليه لكانت تهاوَت وحطَّم بعضُها بعضًا واختلَّ نظامُ العالمِ .

والإنسانُ قهرَهُ الله بالموتِ ، أيُّ مَلِكٍ وأيُّ إنسانٍ رُزِقَ عمرًا طويلاً لا يملكُ لنفسِهِ أن يحميَ نفسَهُ من الموتِ فلا بدَّ أن يموتَ .

وليُعلَم أن الاستواءَ في لغةِ العربِ له خمسة عشرَ معنًى كما قالَ الحافظُ أبو بكر بن العربيّ ومن معانيهِ : الاستقرارُ والتَّمامُ والاعتدَال والاستعلاءُ والعلوُّ والاستيلاءُ وغير ذلك ، ثم هذه المعاني بعضُها تليقُ بالله وبعصُها لا تليقُ بالله . فما كان من صفات الأجسام فلا يليق بالله .

يقولُ حسن البنّا رحمه الله تعالى في كتابِ العقائدِ الأسلاميَّةِ : ( السَّلفُ والخلفُ ليس بينهم خلافٌ على أنه لا يجوزُ حملُ ءايةِ الاستواءِ على المعنى المتبادرِ ) وهذا الكلام من جواهِرِ العلمِ .

فإن قالَ الوهَّابيُّ : ﴿ الرحمن على العرش استوى  ﴾

[طه 5 ] ( على ) أي فوق ، يقالُ لهم : ماذا تقولونَ في قولِهِ تعالى : ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ سورة المجادلة 10  ] ؟ هل يفهمونَ من هذه الآية أن العبادَ فوق الله ؟  فإن ( على ) تأتي لعلوّ القدرِ وللعلوّ الحِسّيّ ، وقد قالَ الله تعالى مُخبرًا عن فرعون أنه قال : ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى  ﴾ [ سورة النازعات24  ]

 أرادَ علوَّ القهرِ بقولِِهِ : ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى  ﴾ .

وقد ذَكَرَ الإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ في تأويلاتِهِ في قولِهِ تعالى ﴿ ثُمَّ استوى على العرش ) [ سورة الأعراف 54]

 يقولُ : ( أي وقد استوى ) ، ومعناهُ أنَّ الله كانَ مستويًا على العرشِ قبلَ وجودِ السمواتِ والأرضِ ، وبعضُ الناس يتوهَّم من كلمة ( ثم ) أن الله استوى على العرشِ بعد أن لم يكن يظنُّونَ أن ثُمَّ دائمًا للتأخُّر ، ويصحُّ في اللُّغة أن يقالَ أنا أعطيتُكَ يوم كذا كذا وكذا ثم إني أعطيتُكَ قبلَ ذلك كذا وكذا ، فإن ( ثم ) ليست دائمًا للتَّأخُّرِ في الزَّمن ، أحيانًا تأتي لذلكَ وأحيانًا تأتي لغيرِ ذلك ، قال الشَّاعر :

إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ        ثُمّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ


ويُروى عن أمّ سلمةَ إحدى زوجاتِ الرّسولِ ويروى عن سفيانَ بنِ عيينةَ ويروى عن مالكِ بن أنسٍ أنهم فسَّروا استواء الله على عرشِهِ بقولهم : الاستواءُ معلومٌ ولا يقالُ كيفٌ والكيفُ غيرُ معقولٍ .
 ومعنى قولهم :  ( الاستواء معلومٌ ) معناهُ معلومٌ ورودُهُ في القرءانِ أي بأنه مستوٍ على عرشِهِ استواءً يليقُ به . ومعنى : ( والكيفُ غير معقولٍ ) أي الشَّكلُ والهيئةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا غير معقولٍ أي لا يقبلُهُ العقلُ ولا تجوزُ على الله لأنها من صفات الأجسام .

 وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه عن الاستواء فقال : ( استوى كما أخبَرَ لا كما يَخطُرُ للبشرِ) .

وقد ثبَت عن الإمامِ مالكٍ بإسنادٍ قويّ جيدٍ أنه قال في استواء الله : ( استوى كما وَصَفَ نفسَهُ ولا يقالُ كيف وكيف عنه مرفوعٌ ) ، ولا يصحُّ عن مالكٍ ولا عن غيرِهِ من السلفِ أنه قال الاستواءُ معلومٌ والكيفيةُ مجهولةٌ، فهذه العبارةُ لم تَثبُت من حيثُ الإسنادُ عن أحدٍ من السلفِ ، وهي موهِمَةٌ معنًى فاسدًا وهو أن استواءَ الله على العرشِ هو استواءٌ له هيئةٌ وشكلٌ لكن نحنُ لا نعلمُهُ وهذا خلافُ مرادِ السلفِ بقولهم : ( والكيفُ غيرُ معقول ) . وهذه الكلمةُ قالها بعض الأشاعرة مع تنزيهِهِم لله عن الجسميةِ والتحيزِ في المكان والجهةِ وهي كثيرةُ الدورانِ على ألسنةِ المشبهةِ والوهابيةِ لأنهم يعتقدونَ أن المرادَ بالاستواءِ الجلوسُ والاستقرارُ أي عند أغلبِهم وعندَ بعضِهم المحاذاةُ فوق العرش من غير مماسة ، ولا يدرونَ أن هذا هو الكيفُ المنفيُّ عن الله عند السلفِ ، ولا يُغْتَرُّ بوجودِ هذه العبارةِ في كتابِ إحياء علومِ الدينِ ونحوهِ ولا يريدُ مؤلفُهُ الغزاليُّ ما تفهمُهُ المشبهةُ لأنه مُصَرّحٌ في كتبِهِ بأن الله منزهٌ عن الجسميةِ والتحيزِ في المكانِ وعن الحَدّ والمقدارِ لأن الحدَّ والمقدارَ من صفاتِ المخلوقِ قال الله تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار ﴾[ سورة الرعد 8]

 . فالتحيز في المكان والجهة من صفات الحجم والله ليس حجمًا .
 وما يوجد في بعض كتب الأشاعرة من هذه العبارة  [الاستواء معلوم والكيفية مجهولة] غلطة لا أساس لها عن السلف لا عن مالك ولا عن غيره وهي شنيعة لأنها يفهم منها المشبه الوهابيّ وغيره أن الاستواء كيفٌ  لكن لا نعلمه مجهول عندنا .  وأما من أوردها من الأشاعرة فلا يفهمون هذا المعنى بل يفهمون أن حقيقة الاستواء غير معلوم للخلق فالوهابية تقصد بها ما يناسب معتقدها من أن الله حجم له حيّز . والعجب منهم كيف يقولون إنّ الاستواء على العرش حسيّ ثم يصفونه بالكون مجهولا . ولعلهم يريدون بهذا هل هو قعود على شكل تربيع أم على شكل ءاخر.

فإن قيلَ : لماذا قالَ الله تعالى بأنه استوى على العرشِ على حَسَبِ تفسيرِكم بمعنى قَهَر وهو قَاهرُ كلّ شئٍ ؟ نقول لهم : أليسَ قال : ﴿ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [ سورة التوبة 129 ]

 مع أنه ربُُّ كلّ شئٍ؟!


 وفَائِدَةِ تَخْصِيص العَرْشِ بالذّكْرِ أنَّهُ أعْظَمُ مَخلُوقَاتِ الله تَعَالى حجمًا فيُعْلَمُ شُمُولُ ما دُوْنَه مِنْ بَابِ الأَوْلَى . قَالَ الإمَامُ عَلِيٌّ : ( إنَّ الله تَعَالى خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لقُدْرَتِهِ ، ولمْ يَتّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ ). رواهُ الإمامُ المحدثُ الفقيهُ اللغويُّ أبو منصورٍ التميميُّ في كتابهِ التبصرة .

 

فإذا قلنا : "الله تعالى قهر العرش" معناهُ قَهَرَ كلَّ شئٍ وإنما خصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات حجمًا وهو محدود لا يعلم حده إلا الله .

 وبئسَ معتقدُ ابن تيمية فإنه قال : "الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو"  اهـ  فيقال لمن يقول قوله هذا قد قلت الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو  فقد شبهته بالعرش ؛ فإنّ  العرش محدود ولا يعلم حده إلا الله ، فماذا يفيد قولكم في الله إن له حدًا لكن لا يعلم حده إلا هو؟

فإن قيلَ : كيفَ تقولونَ خَلقَهُ إظهارًا لقدرتِهِ ونحنُ لا نَراهُ ؟ نقولُ : الملائكةُ الحافُّون حولَهُ يرونَهُ والملائكةُ لما ينظرونَ إلى عِظَمِ العرشِ يزدادونَ خوفًا ويزدادونَ عِلمًا بكمالِ قدرةِ الله ، لهذا خَلَقَ الله العرشَ . وقولُ سيدنا علي الذي مرّ ذكره رواهُ الإمام أبو منصورٍ البغداديُّ في كتابه التبصرة.

 وليعلم أَنَّه يَجِبُ الحَذَرُ مِنْ هؤلاءِ الذينَ يُجِيزُوْنَ علَى الله القُعُودَ علَى العَرْشِ والاسْتِقْرارِ عليه مُفَسّرينَ لِقَوله تعالى : ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾[طه 5 ]

  بالجُلُوسِ أو المحاذاةِ من فوق.و هؤلاءِ هم الوهّابيّةُ في عصرنا هذا وقَبلهم أناسٌ كانوا يعتقدونَ ذلكَ كالكرامية اسلاف هؤلاء الوهّابيّةُ ففسَّروا الآيةَ بالجلوسِ فقالوا : الله تعالى قاعدٌ على العرشِ ، هؤلاءِ يجبُ الحَذَرُ منهم .

هؤلاء يحتجون  بقولهم  أَنَّه لا يُعقَلُ مَوْجُودٌ إلا في مَكَانٍ ، يقولون : كيفَ يكونُ موجودٌ بلا مكانٍ ، والموجودُ لا بدَّ له من مكانٍ ، الله موجود إذًا له مكانٌ ، وحجَّتُهم هذِهِ داحضةٌ باطلةٌ ؛ لأنهُ ليسَ من شرطِ الوجودِ التحيزُ في المكانِ أليسَ الله كان موجودًا قبل المكانِ والزمانِ وكلّ ما سواهُ بشهادةِ حديثِ : ( كان الله ولم يكن شئٌ غيرُهُ ) فالمكانُ غيرُ الله والجهاتُ الحجمُ غيرُ الله فإذًا صحَّ وجودُهُ تعالى شرعًا وعقلاً قبلَ المكانِ والجهاتِ بلا مكانٍ ولا جهةٍ ، فكيفَ يستحيلُ على زعم هؤلاءِ وجودُهُ تعالى بلا مكانٍ بعد خلقِ المكانِ والجهاتِ ؟!! . ومصيبةُ هؤلاءِ أنهم قاسوا الخالقَ على المخلوقِ ؛ قالوا : كما لا يُعقَلُ وجودُ إنسانٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلكَ من الأجسامِ بلا مكانٍ يستحيلُ وجودُ الله بلا مكانٍ فَهَلَكوا .
 وزعموا  أيضًا أنَّ قَوْلَ السَّلَفِ استوى بلا كَيْفٍ مُوافِقٌ لذَلِكَ وَلم يَدْرُوا أنَّ الكَيْفَ الذي نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الجُلُوسُ والاسْتِقْرارُ والتّحَيُّزُ إلى المَكَانِ والمُحَاذاةُ وكلُّ الهيئاتِ من حركةٍ وسكونٍ وانفعَالٍ .
 
فالمحاذاةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا الكيفُ الذي نفاهُ السَّلفُ الذين قالوا في قوله تعالى : ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ 

[طه 5 ] استوى بلا كيفٍ ، ومرادُهُم بقولهم بلا كيفٍ ليسَ استواءَ الجلوسِ والاستقرارِ والمحاذاةِ .  المحاذاةُ معناهُ كونُ الشّئِ في مقابلِ شئٍ ، فنحنُ حينَ نكونُ تحتَ سطحٍ فنحنُ في محاذاتِهِ ، وحينَ نكونُ في الفضاءِ نكونُ في محاذاةِ السماءِ ، والسماءُ الأولى تحاذي السماءَ التي فوقَها ، والكرسيُّ يحاذي العرشَ ، والعرش يحاذي الكرسيّ من تحت ، والله تَعَالَى لا يجوزُ عليهِ أن يكونَ مضطجِعًا عليهِ ولا أن يكونَ في محاذاتِهِ ، إذ المحاذي إما أن يكونَ مساويًا للمحاذَى وإما أن يكونَ أكبر منهُ وإما أن يكونً أصغر منهُ ، وكلُّ هذا لا يصحُّ إلا للشّئ الذي له جِرمٌ  ومساحةٌ والذي له جِرمٌ ومساحةٌ محتاجٌ إلى من رَكَّبَهُ ، والله منزَّهٌ عن ذلك ، سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا.


الايات التي فيها كلمة (استوى) مضافة الى الله تعالى (2) الاية الثانية في سورة الاعراف رقم 54

1- تفسير جامع البيان في تفسير القرآن للطبري


{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ

{ثُمَّ اسْتَوَى على العَرْشِ}
وقد ذكرنا معنى الاستواء واختلاف الناس فيه فيما مضى قبل لما أغنى عن إعادته.

2- تفسير البحر المحيط لأبي حيان

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي} لما ذكر تعالى أشياء من مبدأ خلق الإنسان وأمر نبيّه وانقسام إلى مؤمن وكافر وذكر معادهم وحشرهم إلى جنة ونار ذكر مبدأ العالم واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالّة على التوحيد وكما القدرة والعلم والقضاء ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة.....

وأما استواؤه على العرش:
1- فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم

2-

والجمهور من السّلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها على ما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد





3- وقوم تأوّلوا ذلك على عدّة تأويلات.



وقال سفيان الثوري فعل فعلاً في العرش سماه استواء

وعن أبي الفضل بن النحوي أنه قال {الْعَرْشِ } مصدر عرش يعرش عرشاً والمراد بالعرش في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } هذا وهذا ينبو عنه ما تقرر في الشريعة من أنه جسم مخلوق معين .

ومسألة الاستواء مذكورة في علم أصول الدين وقد أمعن في تقرير ما يمكن تقريره فيها القفال وأبو عبد الله الرازي وذكر ذلك في التحرير فيطالع هناك.



ولفظة {الْعَرْشِ } مشتركة بين معان كثيرة:

1- فالعرش سرير الملك ومنه (ورفع أبويه على العرش)( نكروا لها عرشها).
2- و {الْعَرْشِ } السّقف وكل ما علا وأظل فهو عرش.

3- و {الْعَرْشِ } الملك والسلطان والعزّ، وقال زهير:

تداركتما عبساً وقد ثل عرشها وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل

وقال آخر:

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعتيبة بن الحارث بن شهاب

4- والعرش الخشب الذي يطوى به البئر بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة.
5- والعرش أربعة كواكب صغار أسفل من العواء يقال لها: عجز الأسد ويسمّى عرش السّماك

6- والعرش ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع.

واستوى

أيضاً يستعمل
1- بمعنى استقرّ
2- وبمعنى علا
3- وبمعنى قصد
4- وبمعنى ساوى
5- وبمعنى تساوى
6-وقيل بمعنى استولى وأنشدوا:

هما استويا بفضلهما جميعا على عرش

الملوك بغير زور

وقال ابن الأعرابي لا نعرف استوى بمعنى استولى والضمير في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يحتمل أن يعود على المصدر الذي دلّ عليه خلق ثم استوى خلقه على العرش وكذلك في قوله {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لا يتعين حمل الضمير في قوله استوى على الرحمن إذ يحتمل أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف والضمير في {اسْتَوَى } عائد على الخلق المفهوم من قوله{تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَـواتِ الْعُلَى}أي هو الرحمن استوى خلقه على العرش لأنه تعالى لما ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق ما هو أكبر وأعظم وأوسع من السموات والأرض ومع الاحتمال في العرش وفي استوى وفي الضمير العائد

لا يتعيّن حمل الآية على ظاهرها هذا مع الدلائل العقلية التي أقاموها على استحالة ذلك. وقال الحسن استوى أمره وسأل مالك بن أنس رجل عن هذه الآية فقال: كيف استوى فأطرق رأسه مليّاً وعلّته الرخصاء ثم قال: الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج.

3- تفسير الجامع لأحكام القرأن للقرطبي



قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} هذه مسألة الاستواء؛ وللعلماء فيها كلام وإجراء.


وقد بينا أقوال

العلماء فيها في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى) وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً. والأكثر من المتقدّمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيّز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدّمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم ؛ لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث.


والاستواء في كلام العرب هو:

1-

العلوّ والاستقرار. قال الجوهريّ: واستوى من اعوجاج، واستوى على ظهر دابته؛ أي استقرّ.

2-

واستوى إلى السماء أي قصد.
3- واستوى أي استولى وظهر

. قال:

قد

استوى بِشرٌ على العِراق من غير سيف ودمٍ مهراق

4- واستوى الرجل أي انتهى شبابه.
5- واستوى الشيء إذا اعتدل. وحكى أبو عمر بن عبد البر عن أبي عبيدة في قوله تعالى: {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال: علا . وقال الشاعر:



فأوردتهم ماء بفَيْفَاء قفْرَةٍ وقد حَلّق النجمُ اليمانِيّ فاستَوَى



أي علا وارتفع.

قلت: فعلوّ الله تعالى وارتفاعه عبارة عن علوّ مجده وصفاته وملكوته.

أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد، ولا معه من يكون العلوّ مشتركاً بينه وبينه؛ لكنه العليّ بالإطلاق سبحانه.


قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ}

لفظ مشترك يطلق على أكثر من واحد.
1- قال الجوهري وغيره: العرش سرير الملِك. وفي التنزيل {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} (النمل: 41)، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى

الْعَرْشِ} (يوسف: 100).
2- والعرش: سقف البيت.
3- وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها وفيه الأصابع.
4- وعرش السِّماك: أربعة كواكب صغار أسفل من العَوّاء، يقال: إنها عَجُز الأسد.
5- وعرش البئر: طيُّها بالخشب، بعد أن يُطْوَى أسفلها بالحجارة قدر قامة؛ فذلك الخشب هو العرش،
والجمع عروش.
6- والعرش اسم لمَكَّة.
7- والعرش الملك والسلطان. يقال: ثُلّ عرش فلان إذا ذهب ملكه وسلطانه وعزّه. قال زهير:

تداركتما عَبْساً وقد ثُلَّ عَرْشُهَا وذُبْيَانُ إذ ذَلّتْ بأقدامها النّعْل

وقد يؤوّل العرش في الآية بمعنى المُلْك، أي ما استوى المُلْك إلا له جل وعز. وهو قول حَسَن وفيه نظر، وقد بيّناه في جملة الأقوال في كتابنا. والحمد لله.




4- تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل للبيضاوي


{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي في ستة أوقات كقوله: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } أو في مقدار ستة أيام، فإن المتعارف باليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ، وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور.

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استوى أمره أو استولى، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف، والمعنى: أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن، والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك.

 

5- تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي



{ثمّ استوى} استولى {على العرش} أضاف الاستيلاء إلى العرش وإن كان سبحانه وتعالى مستولياً على جميع المخلوقات، لأن العرش أعظمها وأعلاها. وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل، لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان وهو الآن كما كان، لأن التغير من صفات الأكوان. والمنقول عن الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهم، أن الاستواء معلوم، والتكييف

غير معقول ، والإيمان به واجب، والجحود له كفر، والسؤال عنه بدعة.


6- تفسير بحر العلوم للسمرقندي


{

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } قال بعضهم: هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله: الإيمان به. وذكر أن رجلاً دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال: الاستواء غير مجهول والكيفية غير معقولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً. فأخرجوه. وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا.

وقد تأوله بعضهم وقال {ثُمَّ } بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف، لا على معنى التراخي والترتيب.

ومعنى قوله: {اسْتَوَى} أي استولى، كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني: استولى عليه فكذلك هذا. معناه: خالق السموات والأرض، ومالك العرش.

ويقال: ثم صعد أمره إلى العرش. وهذا معنى قول ابن عباس. قال صعد على العرش. يعني: أمره، ويقال قال له: كن فكان،

ويقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أي كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض، ويكون {عَلَى } بمعنى العلو والارتفاع، ويقال استوى يعني استولى.

وذكر أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ثم اللوح. فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة. ثم خلق ما شاء. ثم خلق العرش ثم حملة العرش ثم خلق السموات والأرض.

وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيّروا في دعائهم، كما خلق الكعبة علماً لعبادتهم، ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة. فكذلك خلق العرش علماً لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم.


7- تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي



وقوله سبحانه: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } معناه عند أبي المعالي وغيره من حُذَّاق المتكلمين: الملك، والسلطان، وخصّ العرش بالذِّكْرِ تشريفاً له ؛ إذ هو أَعْظَمُ المخلوقات.

وقوله سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ } «ألا»: استفتاح كلام. وأخذ المفسرون «الخَلْق» بمعنى المخلوقات، أي: هي كلها مِلْكُهُ، واختراعه


8 - تفسير تفسير القرآن الكريم لإبن كثير

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، لا يشبهه شيء من خلقه و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ} (الشورى: 11)

بل الأمر كما قال الأئمة، منهم: نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري، قال: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى،

9- تفسير النكت والعيون للماوردي


{

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} فيه قولان:

أحدهما: معناه استوى أمره على العرش، قاله الحسن.
والثاني: استولى على العرش، كما قال الشاعر:

قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودم مُهْرَاقٍ

وفي{الْعَرْشِ}ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه المُلْك كني عنه بالعرش والسرير كعادة ملوك الأرض في الجلوس على الأسر ة، حكاه ابن بحر.
والثاني: أنه السموات كلها لأنها سقف، وكل سقف عند العرب هو عرش، قال الله تعالى:

{خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا}

[الكهف: 42][الحج: 45] أي على سقوفها.
والثالث: أنه موضع في السماء في أعلاها وأشرفها، محجوب عن ملائكة السماء.



10- تفسير ارشاد العقل السليم لأبي السعود




{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

}

أي استوى أمرُه واستولى

وعن أصحابنا أن

الاستواءَ على العرش صفة الله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن،


والعرشُ الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبـيه بسرير الملِك فإن الأمورَ والتدابـير تنزِل منه وقيل: الملك.


لا يصح الصوم كله فرضه ونفله مقيّده ومطلقه إلا بنية

 قال شيخ المالكية أبو القاسم بن الجلاب في التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، باب النية في الصوم، (فصل) النية (ولا يصح الصوم كله فر...