ذكر الأخبار الواردة عن الشافعي في ذلك
الخبر الأول:
فأول هذه الأخبار ما قد سلف الحديث عنه، ونعيده هنا ونزيد فنقول:
روى البيهقي في "مناقب الشافعي" قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد جعفر بن محمد بن الحارث يقول: سمعت أبا عبد الله: الحسين بن محمد بن بحر يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: سمعت الشافعي يقول: لو أن رجلاً تصوَّف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق.
إسناد الخبر:
ذكرنا أن هذا الخبر في سنده المراغي ولا أعلم من وثقه سوى تلميذه الحاكم، وفي سنده ابن بحر ولا أعلم من وثقه سوى الدارقطني، وفي قبول تعديل الواحد خلاف بين أهل الحديث، وأهل المدينة لا يقبلون تعديل الواحد وهو قول محمد بن الحسن والطحاوي والفقهاء من الشافعية.
وأسلفنا أيضا أن توثيق الدارقطني كتوثيق ابن حبان وذكرنا نص كلامه الذي نقله الحافظ السخاوي، وهذه الطريقة مختلف فيها، والمحققون على عدم كفايتها، فهذا الخبر ليس مما يتفق أهل الحديث على تصحيحه، فلا ينهض حجة علينا في شيء لو كان مما يحتج به.
معنى الخبر:
وعلى فرض صحته بأن وجد موثقون آخرون لمن ذكرنا في السند فله أجوبة:
الجواب الأول:
أن لهذا الخبر معنى وتأويلا غير ما ظنه المخالف، فمقصود الشافعي أن الإنسان إذا بدأ بالتصوف فسرعان من يقع في المحاذير والأخطاء بسبب جهله وعدم فقهه، والصواب أن يبدأ المريد بالتفقه ثم يتصوف، وهذا شأن المحققين كداود بن نصير الطائي تعلم حتى برع ثم تصوف، فهذا مقصود الشافعي فمقصوده ذم التصوف دون تفقه.
فإن قلت : هل يشهد لما ذكرت كلام لأهل العلم؟
فالجواب : نعم يشهد لما ذكرته لك كلام الصوفية أنفسهم الذين لا يشك أنهم صوفية، وإليك بيان ذلك من لسانهم.
قال أبو طالب المكي في "قوت القلوب" ما نصه:
((حدثونا عن الجنيد قال : كنت إذا قمت من عند سري السقطي قال لي : إذا فارقتني من تجالس ؟ فقلت : الحارث المحاسبي فقال : نعم خذ من علمه وأدبه ودع عنك تشقيقه للكلام ورده على المتكلمين ، قال : فلما وليت سمعته يقول: "جعلك اللّه صاحب حديث صوفياً ولا جعلك صوفياً صاحب حديث" يعني أنك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن ثم تزهدت وتعبدت تقدمت في علم الصوفية وكنت صوفياً عارفاً، وإذا ابتدأت بالتعبد والتقوى والحال شغلت به عن العلم والسنن فخرجت إما شاطحاً أو غالطاً لجهلك بالأصول والسنن فأحسن أحوالك أن ترجع إلى العلم الظاهر وكتب الحديث لأنه هو الأصل الذي تفرع عليه العبادة والعلم وأنت قد بودئت بالفرع قبل الأصل))اهـ.
فهذا كلام السري السقطي وتفسير الجنيد وأهل التصوف، فكذلك الشافعي ذم من يبدأ بالفرع دون الأصل، فلا يأتي الظهر أي وقت الصلاة إلا وهو أحمق يعني بالحمق هنا أنه جاهل لا يعرف كيف يتعبد ربه، فكلام الشافعي منزل إذن على هذا الذي شرحناه لك لا على ذم التصوف والزهد فإن هذا محال على الشافعي أن يقصده، وهذا الجواب وحده كاف.
جواب ثان محرج:
يقال للمخالف لا حجة لك في الطعن على الصوفية بهذا الخبر، لأنك لا تدري على التحقيق ما الذي عناه الإمام الشافعي ـ على فرض صحة النقل عنه ـ ما الذي عناه بقوله : ((أحمق)) ؟؟ أعنى من عيوب الدنيا أم من عيوب الآخرة؟؟ فإنه جائز أن يكون عنى بأحمق عيبا من العيوب الدنيوية.
فقد يراد بالأحمق الجلف الجاف، قال في ابن الأثير: (شُبّه الأحْمقُ بهما لضَعْف عَقْله) اهـ. فقد يجوز أن يكون الشافعي أراد بالأحمق الجاف الغليظ، لأن الصوفية يكثرون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فربما استعمل بعضهم الغلظة في ذلك فسماها الشافعي حمقا لذلك المعنى، ويشهد لهذا ما رواه الحفاظ كمسلم والبيهقي والحاكم وغيرهم من أن عبد الله بن الزبير قال لابن عباس : (إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة) فرد عليه ابن عباس: ( إنك جلف جاف) . فسماه كذلك لما أغلظ عليه في الأمر والنهي، فإن وقع هذا بين الصحابة فكيف ينكر أن يقع ممن هو دونهم؟؟ فجائز أن يكون الشافعي عنى بأن من صحب بعض الصوفية الذين يستعملون الغلظة لم يبعد الوقت حتى يتأثر بهم فيصير غليظا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلهم. وإذا كان ذلك محتملا أن يكون الشافعي عناه وقصده لم يكن للمخالف حجة فيه على الطعن في الصوفية.
جواب ثالث:
وما المانع أن يكون الشافعي إنما عنى بالحماقة مفارقة بعض الباح من الطعام أو مفارقة الأهل والولد ونحو ذلك، فإن الرجل إذا صحب الصوفية ترك بعض الملذات وربما ساح معهم وترك أهله لغير ضرورة ملحة، ويشهد لهذا ما رواه أبو داود وغيره من قول ابن عباس لمن طلق امرأته ثلاثا: (ينطلق أحدكم فيركب الحموقة) فسمى الطلاق الثلاث حموقة، ومع هذا فإن الشافعي يرى هذه الحموقة مباحة فلا يحرم الطلاق الثلاث في مذهبه, وابن عباس سمى الطلاق حموقة لأن الرجل فارق بها أهله وحرم على نفسه امرأته، فما أنكرتم أن يكون الشافعي ربما عنى هذا المعنى لا ما توهمته عقولكم القاصرة؟.
جواب رابع:
وجائز أن يكون الشافعي إنما عنى بالأحمق الأخرق الذي لا صنعة له أو لا يحسن صنعته، يعني أن من صحب الصوفية ربما أخل بعمله لاشتغاله بالذكر والعبادة أو تركه تزهدا فهو أخرق وأحمق أي لا صنعة له، ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث : ( فتعين ضائعا أو تصنع لأخرق) فسمى من لا صنعة له أخرق وهو الأحمق عند أهل اللغة، فليس ببعيد أن يكون الشافعي أراد هذا المعنى من البطالة لا ما تعنونه أنتم من المعاني.
جواب خامس:
وليس ببعيد أن يريد الشافعي بالأحمق من كان كذلك في شؤون دنياه فهو غافل عن المعاصي والشهوات، أبله لا يتفطن لأمور دنياه، وهذا ليس من الذم، بل هو إلى المدح أقرب بدليل ما رواه مسلم في صحيحه وفيه قول الجنة: ( وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟) قال الإمام النووي: ( أي البله الغافلون الذين ليس لهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر أكثر أهل الجنة البله) اهـ كلام النووي. وعلى هذا المعنى وصف الله تعالى المؤمنات بالغافلات، فعلى هذا ليس ببعيد أن يكون الشافعي أراد مدحهم لا ذمهم.
جواب سادس:
وجائز جدا أن يكون الشافعي أراد أنه أحمق بمعنى أنه غير متكلف لرسوم الصناعات، أي لا يهتم بالزخارف والقوانين المحدثة للصناعات والفنون والحرف وبعض المهارات والتنطعات التي لا نفع ولا ضرر فيها، وينبؤك بإمكان ذلك من الشافعي ما أخرجه الإمام الخطابي في غريب الحديث - (2 / 506) قال:
((أخبرني محمد بن الحسين أخبرني محمد بن يوسف بن النضر أخبرنا ابن عبد الحكم قال رآني الشافعي وأنا أستمد من دواة من ناحية اليسار فقال أشعرت أنه يقال إنه من الحراضة أن يضع الرجل دواته من ناحية اليسار)) اهـ.
وهذا إسناد رجاله حفاظ : محمد بن الحسين هو الآبري محدث مشهور موصوف بالرحلة والحفظ، ألف كتابا في مناقب الشافعي لكن لم أقف على من وثقه من المتقدمين أما المتأخرون كالذهبي وابن ناصر فعبارتهم تفيد توثيقه ولا أعرف مستندهم غير طريقة التوثيق برواية الثقات، ومحمد بن يوسف هو بن بشر بن النضر بن مرداس أبو عبد الله الهروي أحد الحفاظ الثقات، وثقه الخطيب وغيره، وابن عبد الحكم هو الفقيه الإمام المعروف فالإسناد صحيح على طريقة كثير من أهل الحديث.
قال الأصمعي: يقال: (رجل حارضة وهو الأحمق) فهأنت ذا ترى الشافعي يعد وضع المحبرة على جهة اليسار من الحماقة يخاطب بذلك أنجب تلاميذه ! فما بالك بالصوفية الذين لا يبالون بهذه القوانين؟! فلا يبعد أن يكون الشافعي أراد هذا لا غيره.
ففي كل هذه المعاني ما هو مقبول ممكن أن يكون الشافعي عناه دون غيره، وأنه لا يلزم أن يكون الشافعي أراد النقص في العقل، ولو أردنا الزيادة في هذه الوجوه لخرج الأمر عن القصد وفي هذا كفاية.
***
فإن قال المخالف : لم يرد الشافعي من هذا كله شيئا وإنما أراد بالحماقة الضلالة والبدعة وأراد أن الصوفية من الفرق الضالة مثل الرافضة والقدرية والحرورية والمعتزولة .. وأنهم على شر وفسق !!
يقال له: أسمعت عمن سار إلى حتفه بظلفه أو جدع أنفه بكفه؟ فذلك هو أنت، قد جنيت على نفسك بقولك هذا، وانتهيت إلى الحماقة والعي في الفهم، ونحن نبين لك ما جهلته من وجهين إن شاء الله تعالى، فنقول لك:
الوجه الأول:
أرأيت قول الإمام ـ إن ثبت عنه ـ ((لو أن رجلا تصوف)) إن كان عندكم وفي ظنكم ورأيكم بمنزلة اعتناق الاعتزال والقدرية والرفض والحرورية والبدعة والضلالة أفليس الواجب يقضي على الإمام أن يقول: (لم يأت عليه الظهر إلا وجدته ضالا أو مضلا أو فاسقا فاجرا أو شيطانا)؟؟ فكيف عدل الإمام عن هذه الألفاظ الواضحة المعاني المتميزة إلى غيرها من المشتبه؟ أليس وصف الحماقة قد يطلق على كثير من خلق الله السذج الذين ليسوا برافضة ولا معتزلة ولا حرورية ولا قدرية ولا فساق ولا عصاة ؟؟ إن كان الشافعي أراد الفسق والضلال الذي عليه تلك الفرق الهالكة فما باله عدل عن وصف يميزهم إلى وصف يشتركون فيه مع غيرهم ويشتبه؟؟ أفترون هذا صنيع من يعرف اللغة أم من يجهلها، فهذا مآل كلامكم أن الإمام لا يعرف المنطق والكلام ولا يعرف كيف ينتقي الألفاظ ويضعها في مواضعها وحاشاه.
الوجه الثاني المسكت:
ويقال لهؤلاء المخالفين لو كان الشافعي أراد أن الصوفية مثل الرافضة والحرورية والمعتزلة وأن من تصوف صار أحمق أي ضالا مبتدعا فاسقا لقال : (من تصوف صار ضالا مبتدعا) ولم يترك مهلة من الزمن لا يكون فيها المتصوف ضالا، ولكن الشافعي لم يقل ذلك بل قال: (لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق) فذكر الشافعي مهلة من الزمن ممتدة من أول النهار إلى الظهر لا يكون فيها المتصوف أحمق حتى إذا جاء الظهر وزالت الشمس صار أحمق ! فما الحاجة إلى تأخير ضلالته عن وقت اعتناقه للضلالة يا عقلاء الناس؟؟؟!!! ومثل هذا الكلام لا يقال في البدعة والضلالة يا عقلاء، وإنما يقال فيما لا بأس به فيقال مثلا : من صحب الدباغ والسماك لم تمض عليه مدة حتى يتعود روائحهم. ويقال مثلا: من صحب البدو لم يمض عليه وقت إلا وقد صار جافيا مثلهم. فهذا كله معقول من القول يحتاج إلى وقت . وأما أن يقال (من ترفض أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته ضالا) فهذا كلام سخيف لأن من ترفض أو اعتزل .. صار ضالا في حين ترفضه أو اعتزاله لأنه يصير ضالا من حيث اعتناقه للبدعة، ولا مدة ولا تراخي إلى الظهر، فبمجرد اعتناقه واعتقاده الرفض والاعتزال يصير ضالا، فلو كان الشافعي فهم أن التصوف كالترفض لما أخر الضلال إلى الظهر، ومن خالفنا يزعم أن من تصوف صار ضالا مباشرة بتصوفه ولكن الشافعي يقول يصير أحمق عند الظهر، فدل ذلك على أن الشافعي لا يرى التصوف من جنس البدع بل يراه تنسكا يورث المرء طباعا تأتي على مهل.
وفي هذا كله ما يسقط احتجاج المخالف بهذا الخبر عن الشافعي.
الخبر الثاني :
ما رواه الإمام أبو سليمان الخطابي في "العزلة" قال:
((أخبرني محمد بن الحسين الآبري قال أخبرنا الزبير ابن عبد الواحد قال قال علي بن يحيى الوراق كان الشافعي رحمة الله عليه رجلا عطرا وكان يجيء غلامه كل غداة بغالية فيمسح بها الأسطوانة التي يجلس إليها وكان إلى جنبه إنسان من الصوفية وكان يسمى الشافعي البطال يقول هذا البطال وهذا البطال قال فلما كان ذات يوم عمد إلى شاربه فوضع فيه قذرا ثم جاء إلى حلقة الشافعي فلما شم الشافعي الرائحة أنكرها وقال فتشوا نعالكم فقالوا ما نرى شيئا يا أبا عبد الله قال فليفتش بعضكم بعضا فوجدوا ذلك الرجل فقالوا يا أبا عبد الله هذا فقال له ما حملك على هذا قال رأيت تجبرك فأردت أن أتواضع لله عز وجل قال خذوه فاذهبوا به إلى عبد الواحد وكان على الشرطة فقولوا له قال لك أبو عبد الله اعتقل هذا إلى وقت ننصرف قال فلما خرج الشافعي دخل إليه فدعا به فضربه ثلاثين درة أو أربعين درة قال هذا إنما تخطيت المسجد بالقذرة وصليت على غير الطهارة )) اهـ.
ورأيت الخبر كذلك عند البيهقي في المناقب (2/209) قال : ((وبلغني أنه رأى من بعض من تسمى باسم الصوفية ما كره، فخرج قوله في ذم أمثاله، وذلك فيما قرأته من كتاب أبي الحصن العاصمي: أخبرني الزبير بن عبد الواحد قال حدثني سعيد بن عبد الله بن سهل أبو عثمان البغدادي بمصر قال سمعت علي بن بحر الوراق يقول ..)) وذكر الخبر.
إسناد هذا الخبر:
أبو سليمان إمام ، وشيخه هو الآبري تقدم ذكره، وهو بعينه أبو الحسن العاصمي في سند البيهقي فإن البيهقي قد سمى أبا الحسن العاصمي هذا في كتابه "بيان من أخطأ على الشافعي" ونسبه فإذا هو الآبري، والزبير بن عبد الواحد حافظ وثقه غير واحد، ثم سقط رجل من سند الخطابي في العزلة وهو مذكور فيما نقله البيهقي عن الآبري وهو سعيد بن عبد الله بن سهل ذكره الخطيب البغدادي بدون تجريح أو تعديل، وأما علي بن يحيى الوراق فلم أعرفه، وسماه البيهقي علي بن بحر الوراق، ومن وقف على ترجمته فليخبرنا بها، ففي السند مجهول العين عندنا الآن، فالقصة لا تثبت والله أعلم.
معنى هذا الخبر:
ولو صحت هذه القصة فلا حجة فيها أن الشافعي ذام للتصوف، بل هذه القصة حجة على المخالف، لأن الشافعي لما عاقب هذا المتصوف بين له أنه إنما عاقبه لأمرين اثنين لا ثلاثة:
الأول : دخول المسجد بالنجاسة.
الثاني : إفساد الصلاة لحمل النجاسة فيها.
وهذان المعنيان يستحق هذا الجاهل بهما التعزير ولا شك، بل كان الجاهل يستحق التأديب بمعنى ثالث وهو استهزاؤه بعالم وقوله له (البطال) ولكن الشافعي عفى عن هذا ولم يذكر الشافعي علة غير الثنتين، وعند المخالف لنا أن هذا الصوفي لو كان لم يدخل المسجد بنجاسة وصلى على طهارة صحيحة لكان مع ذلك مستحقا للتعزير أو القتل حتى يدع التصوف، لأن التصوف عند المخالفين قريب من الكفر والردة !! وما فعله الشافعي دال على أنه لم يجد في الانتساب إلى التصوف ما يستوجب التعزير فاكتفى بتعزير الرجل على الخطأ الذي وقع فيه، فهذا لو صح لكان حجة على المخالف لا له.
وقد يجوز أن يكون ذاك الصوفي أحمق جدا حتى وضع على شاربه ما هو نجاسة باتفاق كنجاسة الآدمي .. ويحتمل أن يكون ذاك الصوفي على مذهب أهل المدينة ويرى طهارة فضلات ما يؤكل لحمه من روث البقر والغنم والإبل، وهذا لو وضعه على شاربه لا يكون مستعملا للنجاسة في المسجد ولا مفسدا لطهارته ولا لصلاته وعلى هذا عمل أهل المدينة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في مرابض الغنم اهـ وهي لا تخلو من البعر، فلو فرضنا أن هذا الصوفي فعل ذلك لم يلزمه تعزير على مذهب أهل المدينة ويكون الشافعي على هذا الاحتمال إما أنه لم يستفصل منه أخذا بالظاهر، أو عزره على رأيه في نجاسة الفضلات والله أعلم.
وهذه القصة لو صحت ففيها دليل على أن بعض جهال المتصوفة كانوا يتعرضون له، وكان هو يصبر عليهم، ويكون قوله السابق في من تصوف أول النهار لا يجيء الظهر إلا وهو أحمق يكون قوله هذا منزلا على أمثال هذا الصوفي المصلي بالنجاسة، وقد أيد هذا البيهقي فقال في "منقب الشافعي" : (وبلغني أنه رأى من بعض من تسمى باسم الصوفية ما كره، فخرج قوله في ذم أمثاله) فافهم ذلك.
ما رواه الإمام أبو سليمان الخطابي في "العزلة" قال:
((أخبرني محمد بن الحسين الآبري قال أخبرنا الزبير ابن عبد الواحد قال قال علي بن يحيى الوراق كان الشافعي رحمة الله عليه رجلا عطرا وكان يجيء غلامه كل غداة بغالية فيمسح بها الأسطوانة التي يجلس إليها وكان إلى جنبه إنسان من الصوفية وكان يسمى الشافعي البطال يقول هذا البطال وهذا البطال قال فلما كان ذات يوم عمد إلى شاربه فوضع فيه قذرا ثم جاء إلى حلقة الشافعي فلما شم الشافعي الرائحة أنكرها وقال فتشوا نعالكم فقالوا ما نرى شيئا يا أبا عبد الله قال فليفتش بعضكم بعضا فوجدوا ذلك الرجل فقالوا يا أبا عبد الله هذا فقال له ما حملك على هذا قال رأيت تجبرك فأردت أن أتواضع لله عز وجل قال خذوه فاذهبوا به إلى عبد الواحد وكان على الشرطة فقولوا له قال لك أبو عبد الله اعتقل هذا إلى وقت ننصرف قال فلما خرج الشافعي دخل إليه فدعا به فضربه ثلاثين درة أو أربعين درة قال هذا إنما تخطيت المسجد بالقذرة وصليت على غير الطهارة )) اهـ.
ورأيت الخبر كذلك عند البيهقي في المناقب (2/209) قال : ((وبلغني أنه رأى من بعض من تسمى باسم الصوفية ما كره، فخرج قوله في ذم أمثاله، وذلك فيما قرأته من كتاب أبي الحصن العاصمي: أخبرني الزبير بن عبد الواحد قال حدثني سعيد بن عبد الله بن سهل أبو عثمان البغدادي بمصر قال سمعت علي بن بحر الوراق يقول ..)) وذكر الخبر.
إسناد هذا الخبر:
أبو سليمان إمام ، وشيخه هو الآبري تقدم ذكره، وهو بعينه أبو الحسن العاصمي في سند البيهقي فإن البيهقي قد سمى أبا الحسن العاصمي هذا في كتابه "بيان من أخطأ على الشافعي" ونسبه فإذا هو الآبري، والزبير بن عبد الواحد حافظ وثقه غير واحد، ثم سقط رجل من سند الخطابي في العزلة وهو مذكور فيما نقله البيهقي عن الآبري وهو سعيد بن عبد الله بن سهل ذكره الخطيب البغدادي بدون تجريح أو تعديل، وأما علي بن يحيى الوراق فلم أعرفه، وسماه البيهقي علي بن بحر الوراق، ومن وقف على ترجمته فليخبرنا بها، ففي السند مجهول العين عندنا الآن، فالقصة لا تثبت والله أعلم.
معنى هذا الخبر:
ولو صحت هذه القصة فلا حجة فيها أن الشافعي ذام للتصوف، بل هذه القصة حجة على المخالف، لأن الشافعي لما عاقب هذا المتصوف بين له أنه إنما عاقبه لأمرين اثنين لا ثلاثة:
الأول : دخول المسجد بالنجاسة.
الثاني : إفساد الصلاة لحمل النجاسة فيها.
وهذان المعنيان يستحق هذا الجاهل بهما التعزير ولا شك، بل كان الجاهل يستحق التأديب بمعنى ثالث وهو استهزاؤه بعالم وقوله له (البطال) ولكن الشافعي عفى عن هذا ولم يذكر الشافعي علة غير الثنتين، وعند المخالف لنا أن هذا الصوفي لو كان لم يدخل المسجد بنجاسة وصلى على طهارة صحيحة لكان مع ذلك مستحقا للتعزير أو القتل حتى يدع التصوف، لأن التصوف عند المخالفين قريب من الكفر والردة !! وما فعله الشافعي دال على أنه لم يجد في الانتساب إلى التصوف ما يستوجب التعزير فاكتفى بتعزير الرجل على الخطأ الذي وقع فيه، فهذا لو صح لكان حجة على المخالف لا له.
وقد يجوز أن يكون ذاك الصوفي أحمق جدا حتى وضع على شاربه ما هو نجاسة باتفاق كنجاسة الآدمي .. ويحتمل أن يكون ذاك الصوفي على مذهب أهل المدينة ويرى طهارة فضلات ما يؤكل لحمه من روث البقر والغنم والإبل، وهذا لو وضعه على شاربه لا يكون مستعملا للنجاسة في المسجد ولا مفسدا لطهارته ولا لصلاته وعلى هذا عمل أهل المدينة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في مرابض الغنم اهـ وهي لا تخلو من البعر، فلو فرضنا أن هذا الصوفي فعل ذلك لم يلزمه تعزير على مذهب أهل المدينة ويكون الشافعي على هذا الاحتمال إما أنه لم يستفصل منه أخذا بالظاهر، أو عزره على رأيه في نجاسة الفضلات والله أعلم.
وهذه القصة لو صحت ففيها دليل على أن بعض جهال المتصوفة كانوا يتعرضون له، وكان هو يصبر عليهم، ويكون قوله السابق في من تصوف أول النهار لا يجيء الظهر إلا وهو أحمق يكون قوله هذا منزلا على أمثال هذا الصوفي المصلي بالنجاسة، وقد أيد هذا البيهقي فقال في "منقب الشافعي" : (وبلغني أنه رأى من بعض من تسمى باسم الصوفية ما كره، فخرج قوله في ذم أمثاله) فافهم ذلك.
الخبر الثالث:
ما رواه البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/207) قال:
((أخبرنا محمد بن عبد الله قال سمعت أبا زرعة الرازي يقول سمعت أحمد بن محمد السندي يقول : سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي يقول :
ما رأيت صوفيا عاقلا قط إلا مسلم الخواص))اهـ.
يريد سلم أو سالم بن ميمون الخواص الزاهد.
إسناد الخبر:
أما محمد بن عبد الله فهو الحاكم النيسابوري الإمام الحافظ، وأما شيخه فهو أحمد بن الحسين بن علي أبو زرعة الرازي الصغير الحافظ الثقة، وأما أحمد بن محمد السندي فمتهم وهاك ترجمته من لسان الميزان:
((أحمد بن محمد السندي أبو الفوارس الصابوني البحتري صدوق إن شاء الله إلا أني رأيته قد تفرد بحديث باطل عن محمد بن حماد الطهراني كأنه أدخل عليه انتهى [أي كلام الذهبي وما سيأتي فكلام الحافظ ابن حجر]
وكان ينبغي ذكر ذلك الحديث ليجتنب وسأبحث عنه إن شاء الله ثم رأيت عن الماليني أن ابن المنذر قال: "هو كذاب" فأورد له الدارقطني في غرائب مالك حديثا رواه عن العباس بن الفضل بن عون التنوخي عن سوادة بن إبراهيم الأنصاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر في تجاوز الله عن الخطأ والنسيان الحديث وقال عقبه:لا يصح ومن دون مالك ضعفاء.
قلت مات في شوال سنة تسع وأربعين وثلاث مائة وقد جاوز المائة ووقع لنا من حديثه بعلو في الثقفيات وله رواية عن أبي إبراهيم المزني وهو آخر من حدث عنه ))اهـ.
فهذا السندي يقول عنه ابن المنذر "كذاب" ويضعفه الدارقطني، فلا يثبت هذا الخبر أيضا عن الإمام الشافعي.
ويقال للمخالف الذي يرى صحة هذا الخبر:
تقرر بإجماع أهل الحديث أن عدالة الراوي شرط لصحة روايته، فهل تعلم أيها المخالف أن رواة هذا الخبر عن الشافعي عدول أم لا تعلم؟ فإن قال فيهم من ليس بعدل. فقد خصم نفسه وسقطت حجته لأن رواية غير العدل مردودة.
وإن قال هم عدول كلهم. قلنا له: فهل تعلم أن أبا زرعة الرازي أحمد بن الحسين أحد رواته هل تعلم أنه صوفي؟؟؟ فقد قال عنه الحاكم في المستدرك - (3 / 235) : (حدثني أبو زرعة أحمد بن الحسين الصوفي) وقال عنه الرافعي في التدوين: ( أحمد بن الحسين بن علي الرازي الصوفي شيخ، قدم قزوين) فهذا الراوي لهذا الخبر صوفي كما ترى، فهل تراه عدلا على تصوفه أم لا تراه عدلا؟؟؟؟ فإن قال: هو عدل. فقد خصم نفسه إذ جعله عدلا عاقلا على تصوفه، وإن قال ليس بعدل. فقد خصم نفسه إذ سقطت حجته لأن رواية غير العدل لا تقبل.
معنى هذا الخبر:
فإن صح هذا الخبر فنقول لا حجة فيه على ذم الصوفية لعدة أجوبة:
الجواب الأول : أن نفي العقل لو كان بمعنى الجنون فليس من عيوب الآخرة بل غايته أن يكون من عيوب الدنيا، والمجنون مستريح من عذاب الله تعالى، فلا يكون الشافعي قد ذمهم ـ إن كان ذمهم ـ بشيء يشينهم في دينهم، وسلامة دينهم هو مقصودنا الأول.
الجواب الثاني : أن العقل المنفي هنا ليس ضد الجنون قطعا، بل جائز أن يكون ضد الفطانة والذكاء كما تقدم، وهذا العقل البالغ ليس بلازم لدخول الجنة، بل تقدم في صحيح مسلم أن الجنة قالت : (فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟) وقال الإمام النووي: ( أي البله الغافلون الذين ليس لهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر أكثر أهل الجنة البله) اهـ.
وإذا كان البله والسذج الغفلون هم أكثر أهل الجنة فلا ينبغي للصوفية إلا يكونوا كهؤلاء لا من أهل الفتك والحذق.
الجواب الثالث : أن الإمام الشافعي كان قد طلب علم النجوم والفراسة ورحل لجمع هذه الكتب كما ورد في كتب مناقبه كلها، فتأثر بها ثم أحرقها فبقي عنده تشديد في أحكام وشروط وعلامات الذكاء والعقل على أرفع ما يكون حتى خرج العقل عنده عما يعهد وليس على ما يتبادر إلى أذهان الناس، ويدلك على ذلك قوله في مارواه ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" :
ـ أخبرني أبي ثنا حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: (احذر الأعور، والأحول، والأعرج، والأحدب، والأشقر، والكوسج، وكل من به عاهة في بدنه، وكل ناقص الخلق، فاحذره؛ فإنه صاحب التواء، ومعاملته عسرة).
ـ وفي مناقبه للبيهقي عن حرملة عن الشافعي أنه قال: (إذا رأيت الرجل فضة خاتمه كثيرة وفصه صغير فذاك رجل عاقل )
ـ وفي مناقبه لابن أبي حاتم: ثنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: (ما رأيت سمينا عاقلا قط، إلا رجلا واحدا)
وهذه أسانيد لا يقدر المخالفون على الطعن فيها على طرائقهم، وأنت ترى ما في هذا الكلام وكيف حكم على العقل من خلال صفات الخاتم ! وكيف عمم على كل هؤلاء الزمنى أنهم ناقصو الأخلاق وأنهم أصحاب التواء ! وكيف حكم على كل سمين رآه أنه ناقص العقل واستثى واحدا فقط !! فدل كل هذا على أن العقل الذي يعنيه الشافعي ليس هو الذي إذا نقص اختل العلم والدين والفقه والفطنة الضرورية، وإلا فانظر أيها العاقل ما يلزم من حمل كلام الشافعي هنا على غير ما ذكرناه لك، فإذا عرفت هذا وفهمته جيدا عرفت أن قوله ما رأيت صوفيا عاقلا .. أنه لم يعن بهذا الكلام جنونا ولا سفها وحماقة وإنما عنى شيئا غامضا عميقا لا يخل بالعلم والسمت والفهم، وحسب الصوفية أن يكونوا من جنس أكثر أهل الجنة السذج.
الجوب الرابع : أن الشافعي هنا ـ على فرض صحة الخبر ـ قد حكم بالعقل لرجل صوفي استثناه وهو سلم بن ميمون الخواص الصوفي، وقد كان سلم أو سالم ممن أخذ عن مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي فهما قعدا وتفقها عند شيخ واحد، وهذا بحد ذاته ناقض لحجة المخالف الزاعم أن الصوفية أهل ضلال، لأننا نسألكم : ما أراد الشافعي باستثناء سالم وإثبات العقل له؟ هل أراد مدحه أم لا ؟ فإن قلتم لم يرد مدحه بذلك لأن إثبات العقل لإنسان لا مدحة فيه قلنا لكم فإذا كان إثبات العقل لا مدح فيه فإن نفي العقل لا ذم فيه، وهذا مسقط لحجتكم. وإن قالوا بل أراد مدح طبعه وسجاياه لا مذهبه ودينه وقد يكون الرجل عاقلا ولا دين له، قلنا لكم فإذا أقررتم أن الكلام على غير الدين وأنه في الطباع والسجايا فلا يوجب هذا الكلام من الشافعي إذن ذم الصوفية في دينهم، وبهذا أيضا سقطت حجتكم لأن مقصودكم الأول إنما هو الطعن على دين الصوفية.
الجواب الخامس : روى ابن ابي حاتم في مناقب الشافعي قال : ثنا يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: ( قلت لمحمد بن الحسن يوما، وذكر مالكا وأبا حنيفة، فقال لي محمد بن الحسن: ما كان ينبغي لصاحبنا أن يسكت يعني أبا حنيفة، ولا لصاحبكم أن يفتي يريد مالكا، قلت: نشدتك الله، أتعلم أن صاحبنا يعني مالكا كان عالما بكتاب الله؟ قال: اللهم نعم ".
قلت: فنشدتك الله، أتعلم أن صاحبنا كان عالما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم نعم.
قلت: وكان عالما باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قلت: أكان عاقلا؟ قال: لا. ...) وذكر باقي المناظرة.
فانظر إلى قول محمد بن الحسن عن شيخه وشيخ المسلمين وإمام الأمة إمام دار الهجرة الأعظم مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المبشر به في حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول عنه محمد بن الحسن بأنه لم يكن عاقلا، ويسكت عنه الشافعي، فنقول لهؤلاء المخالفين أتعلمون ما عناه محمد والشافعي بالعقل هنا؟ فإن زعموا أنه أراد السخافة والسفه فانظر كيف رموا إمام الأمة بهذه الآفة كما رموا الصوفية أيضا، وإن قالوا ليس يجوز أن يكون مالك غير عاقل وإنما أراد محمد بن الحسن والشافعي أن مالكا رضي الله عنه لم يكن ممن يكثرون من الرأي والقياس والجدل والمناظرة، وإنما ممن يؤثرون الاتباع، فقد سمى محمد والشافعي الرأي والقياس والجدل والمناظرة عقلا، فكذلك لما قال الشافعي ما رأيت صوفيا عاقلا إنما عنى ما رأيت صوفيا ذا رأي وقياس وجدل ومناظرة، وهكذا يستقيم الكلام ويصح فإن الصوفية كانوا من أبعد الناس عن هذه الخلال، وبهذا يستقيم الكلام وتسقط حجة المخالف لنا.
ما رواه البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/207) قال:
((أخبرنا محمد بن عبد الله قال سمعت أبا زرعة الرازي يقول سمعت أحمد بن محمد السندي يقول : سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي يقول :
ما رأيت صوفيا عاقلا قط إلا مسلم الخواص))اهـ.
يريد سلم أو سالم بن ميمون الخواص الزاهد.
إسناد الخبر:
أما محمد بن عبد الله فهو الحاكم النيسابوري الإمام الحافظ، وأما شيخه فهو أحمد بن الحسين بن علي أبو زرعة الرازي الصغير الحافظ الثقة، وأما أحمد بن محمد السندي فمتهم وهاك ترجمته من لسان الميزان:
((أحمد بن محمد السندي أبو الفوارس الصابوني البحتري صدوق إن شاء الله إلا أني رأيته قد تفرد بحديث باطل عن محمد بن حماد الطهراني كأنه أدخل عليه انتهى [أي كلام الذهبي وما سيأتي فكلام الحافظ ابن حجر]
وكان ينبغي ذكر ذلك الحديث ليجتنب وسأبحث عنه إن شاء الله ثم رأيت عن الماليني أن ابن المنذر قال: "هو كذاب" فأورد له الدارقطني في غرائب مالك حديثا رواه عن العباس بن الفضل بن عون التنوخي عن سوادة بن إبراهيم الأنصاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر في تجاوز الله عن الخطأ والنسيان الحديث وقال عقبه:لا يصح ومن دون مالك ضعفاء.
قلت مات في شوال سنة تسع وأربعين وثلاث مائة وقد جاوز المائة ووقع لنا من حديثه بعلو في الثقفيات وله رواية عن أبي إبراهيم المزني وهو آخر من حدث عنه ))اهـ.
فهذا السندي يقول عنه ابن المنذر "كذاب" ويضعفه الدارقطني، فلا يثبت هذا الخبر أيضا عن الإمام الشافعي.
ويقال للمخالف الذي يرى صحة هذا الخبر:
تقرر بإجماع أهل الحديث أن عدالة الراوي شرط لصحة روايته، فهل تعلم أيها المخالف أن رواة هذا الخبر عن الشافعي عدول أم لا تعلم؟ فإن قال فيهم من ليس بعدل. فقد خصم نفسه وسقطت حجته لأن رواية غير العدل مردودة.
وإن قال هم عدول كلهم. قلنا له: فهل تعلم أن أبا زرعة الرازي أحمد بن الحسين أحد رواته هل تعلم أنه صوفي؟؟؟ فقد قال عنه الحاكم في المستدرك - (3 / 235) : (حدثني أبو زرعة أحمد بن الحسين الصوفي) وقال عنه الرافعي في التدوين: ( أحمد بن الحسين بن علي الرازي الصوفي شيخ، قدم قزوين) فهذا الراوي لهذا الخبر صوفي كما ترى، فهل تراه عدلا على تصوفه أم لا تراه عدلا؟؟؟؟ فإن قال: هو عدل. فقد خصم نفسه إذ جعله عدلا عاقلا على تصوفه، وإن قال ليس بعدل. فقد خصم نفسه إذ سقطت حجته لأن رواية غير العدل لا تقبل.
معنى هذا الخبر:
فإن صح هذا الخبر فنقول لا حجة فيه على ذم الصوفية لعدة أجوبة:
الجواب الأول : أن نفي العقل لو كان بمعنى الجنون فليس من عيوب الآخرة بل غايته أن يكون من عيوب الدنيا، والمجنون مستريح من عذاب الله تعالى، فلا يكون الشافعي قد ذمهم ـ إن كان ذمهم ـ بشيء يشينهم في دينهم، وسلامة دينهم هو مقصودنا الأول.
الجواب الثاني : أن العقل المنفي هنا ليس ضد الجنون قطعا، بل جائز أن يكون ضد الفطانة والذكاء كما تقدم، وهذا العقل البالغ ليس بلازم لدخول الجنة، بل تقدم في صحيح مسلم أن الجنة قالت : (فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟) وقال الإمام النووي: ( أي البله الغافلون الذين ليس لهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر أكثر أهل الجنة البله) اهـ.
وإذا كان البله والسذج الغفلون هم أكثر أهل الجنة فلا ينبغي للصوفية إلا يكونوا كهؤلاء لا من أهل الفتك والحذق.
الجواب الثالث : أن الإمام الشافعي كان قد طلب علم النجوم والفراسة ورحل لجمع هذه الكتب كما ورد في كتب مناقبه كلها، فتأثر بها ثم أحرقها فبقي عنده تشديد في أحكام وشروط وعلامات الذكاء والعقل على أرفع ما يكون حتى خرج العقل عنده عما يعهد وليس على ما يتبادر إلى أذهان الناس، ويدلك على ذلك قوله في مارواه ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" :
ـ أخبرني أبي ثنا حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: (احذر الأعور، والأحول، والأعرج، والأحدب، والأشقر، والكوسج، وكل من به عاهة في بدنه، وكل ناقص الخلق، فاحذره؛ فإنه صاحب التواء، ومعاملته عسرة).
ـ وفي مناقبه للبيهقي عن حرملة عن الشافعي أنه قال: (إذا رأيت الرجل فضة خاتمه كثيرة وفصه صغير فذاك رجل عاقل )
ـ وفي مناقبه لابن أبي حاتم: ثنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: (ما رأيت سمينا عاقلا قط، إلا رجلا واحدا)
وهذه أسانيد لا يقدر المخالفون على الطعن فيها على طرائقهم، وأنت ترى ما في هذا الكلام وكيف حكم على العقل من خلال صفات الخاتم ! وكيف عمم على كل هؤلاء الزمنى أنهم ناقصو الأخلاق وأنهم أصحاب التواء ! وكيف حكم على كل سمين رآه أنه ناقص العقل واستثى واحدا فقط !! فدل كل هذا على أن العقل الذي يعنيه الشافعي ليس هو الذي إذا نقص اختل العلم والدين والفقه والفطنة الضرورية، وإلا فانظر أيها العاقل ما يلزم من حمل كلام الشافعي هنا على غير ما ذكرناه لك، فإذا عرفت هذا وفهمته جيدا عرفت أن قوله ما رأيت صوفيا عاقلا .. أنه لم يعن بهذا الكلام جنونا ولا سفها وحماقة وإنما عنى شيئا غامضا عميقا لا يخل بالعلم والسمت والفهم، وحسب الصوفية أن يكونوا من جنس أكثر أهل الجنة السذج.
الجوب الرابع : أن الشافعي هنا ـ على فرض صحة الخبر ـ قد حكم بالعقل لرجل صوفي استثناه وهو سلم بن ميمون الخواص الصوفي، وقد كان سلم أو سالم ممن أخذ عن مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي فهما قعدا وتفقها عند شيخ واحد، وهذا بحد ذاته ناقض لحجة المخالف الزاعم أن الصوفية أهل ضلال، لأننا نسألكم : ما أراد الشافعي باستثناء سالم وإثبات العقل له؟ هل أراد مدحه أم لا ؟ فإن قلتم لم يرد مدحه بذلك لأن إثبات العقل لإنسان لا مدحة فيه قلنا لكم فإذا كان إثبات العقل لا مدح فيه فإن نفي العقل لا ذم فيه، وهذا مسقط لحجتكم. وإن قالوا بل أراد مدح طبعه وسجاياه لا مذهبه ودينه وقد يكون الرجل عاقلا ولا دين له، قلنا لكم فإذا أقررتم أن الكلام على غير الدين وأنه في الطباع والسجايا فلا يوجب هذا الكلام من الشافعي إذن ذم الصوفية في دينهم، وبهذا أيضا سقطت حجتكم لأن مقصودكم الأول إنما هو الطعن على دين الصوفية.
الجواب الخامس : روى ابن ابي حاتم في مناقب الشافعي قال : ثنا يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: ( قلت لمحمد بن الحسن يوما، وذكر مالكا وأبا حنيفة، فقال لي محمد بن الحسن: ما كان ينبغي لصاحبنا أن يسكت يعني أبا حنيفة، ولا لصاحبكم أن يفتي يريد مالكا، قلت: نشدتك الله، أتعلم أن صاحبنا يعني مالكا كان عالما بكتاب الله؟ قال: اللهم نعم ".
قلت: فنشدتك الله، أتعلم أن صاحبنا كان عالما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم نعم.
قلت: وكان عالما باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قلت: أكان عاقلا؟ قال: لا. ...) وذكر باقي المناظرة.
فانظر إلى قول محمد بن الحسن عن شيخه وشيخ المسلمين وإمام الأمة إمام دار الهجرة الأعظم مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المبشر به في حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول عنه محمد بن الحسن بأنه لم يكن عاقلا، ويسكت عنه الشافعي، فنقول لهؤلاء المخالفين أتعلمون ما عناه محمد والشافعي بالعقل هنا؟ فإن زعموا أنه أراد السخافة والسفه فانظر كيف رموا إمام الأمة بهذه الآفة كما رموا الصوفية أيضا، وإن قالوا ليس يجوز أن يكون مالك غير عاقل وإنما أراد محمد بن الحسن والشافعي أن مالكا رضي الله عنه لم يكن ممن يكثرون من الرأي والقياس والجدل والمناظرة، وإنما ممن يؤثرون الاتباع، فقد سمى محمد والشافعي الرأي والقياس والجدل والمناظرة عقلا، فكذلك لما قال الشافعي ما رأيت صوفيا عاقلا إنما عنى ما رأيت صوفيا ذا رأي وقياس وجدل ومناظرة، وهكذا يستقيم الكلام ويصح فإن الصوفية كانوا من أبعد الناس عن هذه الخلال، وبهذا يستقيم الكلام وتسقط حجة المخالف لنا.
قال البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/207) :
((أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا عبد الله الرازي يقول سمعت إبراهيم بن المولد يحكي عن الشافعي أنه قال : "لا يكون الصوفي صوفيا حتى يكون فيه أربع خصال: كسول، أكول، نؤوم، كثير الفضول")) اهـ.
البيهقي هو الإمام المعروف، وشيخه هو أبو عبد الرحمن السلمي مشهور وقد تكلم فيه وترجمته في لسان الميزان فلتراجع، وشيخه أبو عبد الله الرازي هو الحسين بن أحمد بن جعفر وقد صرح السلمي باسمه في بعض الروايات، ولم أقف له على ترجمة حتى الآن فهو ـ عندنا ـ مجهول، ومن عرفه فليخبرنا بترجمته، وأما شيخه فهو إبراهيم بن أحمد بن محمد بن المولد أبو إسحاق الرقي الصوفي الواعظ، ترجم له أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقات الصوفية" والحافظ أبو نعيم في "حلية الأولياء" والحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، وغيرهم، وظاهر حاله أنه مستور، توفي سنة 342هـ قال الذهبي في وفيات هذه السنة: ((وفيها مات مسند همذان أبو جعفر أحمد بن عبيد الاسدي، وشيخ الصوفية إبراهيم بن المولد)) اهـ.
وابن المولد المتوفى سنة 342هـ لم يدرك الإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ.
فهذا الإسناد لا يصح لجهالة الرازي والانقطاع بين المولد والشافعي.
ولهذا الخبر طريق آخر أخرجه السلفي عن المبارك بن عبد الجبار الطيوري في "الطيوريات" قال:
((سمعت أحمد يقول: سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: سمعت أبا بكر الخلال يقول: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: لا يكون الصوفي صوفيا حتى يكون أكولا نؤوما، كثير الفضول )) اهـ.
والمبارك بن عبد الجبار كذبه المؤتمن الساجي ووثقه الباقون، وشيخه أحمد بن محمد العتيقي وثقه الخطيب وابن ماكولا .. وشيخه أبو الحسن ابن مقسم فهو القرئ وهاك ترجمته من " لسان الميزان" :
((أحمد بن محمد بن الحسن بن مقسم المقري حدث عن الباغندي قال أبو القاسم الأزهري: "كذاب"
وقال الخطيب حدثنا عنه أبو نعيم الحافظ ومحمد بن عمر بن بكر والخلال وكان يظهر النسك والصلاح ولم يكن في الحديث ثقة.
وقال حمزة السهمي حدث عمن لم يره.
وقال العتيقي توفي سنة ثمان وثلاث مائة انتهى [أي كلام الذهبي والآتي كلام ابن حجر]
وقال الحاكم: حدث بأحاديث شاذة عن قوم ثقات.
وقال حمزة سمعت الدارقطني وجماعة من المشائخ تكلموا فيه وكان أمره أبين من هذا.
وقال بن أبي الفوارس: كان سيء الحال في الحديث مذموما ذاهبا لم يكن بشيء البتة )) اهـ.
وشيخه أبو بكر الخلال ليس هو أحمد ابن هارون الحنبلي لأن الحنبلي مات 311هـ وابن مقسم مات 308هـ فلا يروي عن الحنبلي، ولأن الحنبلي يروي عن الشافعي بواسطتين وأكثر وهذا أبو بكر الخلال يروي عن أصحاب الشافعي فهو إذن أبو بكر أحمد بن العباس الخلال المترجم في لسان الميزان بما نصه :
(( أحمد بن العباس بن حمويه أبو بكر الخلال متهم روى أبو بكر بن شاذان عنه عن الزعفراني عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قال ملعون ملعون من سب أباه فذكر حديثا طويلا قال الخطيب ما في الإسناد من يحمل عليه سواه انتهى
ولفظ الخطيب: لا يثبت هذا الحديث بهذا الإسناد والحمل فيه على الخلال فإن كل من عداه من المذكورين في الإسناد ثقة وكان قد رواه عن أبي القاسم الأزهري عن بن شاذان وقال بن شاذان هذا الخلال ما حدث بغير هذا الحديث)) اهـ.
فهذا الإسناد كما تراه فيه متهمان فهو واه بمرة ولا يصلح لشيء ولا قيمة له.
ومن اللطيف أني وجدت في "الطيوريات" بهذا الإسناد نفسه ما يتعلق بمسألة العقل، مما نحب أن نطلعك عليه ليستفاد وينضم إلى ما تقدم، ففيه:
((سمعت أحمد يقول: سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: سمعت أبا بكر الخلال يقول: سمعت المزني يقول: قال لي الشافعي: يا مزني، دخلت العراق؟ قلت: أي العراق؟ قال: بغداد، قلت: لا، قال: ما رأيت بعينك الدنيا ولا رأيت عقلاء الرجال )) اهـ.
فهذا السند من جنس ما تقدم وليس يعقل أنه لا يوجد عاقل إلا في بغداد ! فأين ذهب الناس؟ فلو صح هذا الإسناد لصار للصوفية عزاء في أن أهل مكة والمدينة والحجاز كله والشام ومصر .. بل وكل أهل الأرض بمحدثيهم وفقهائهم وغيرهم كلهم لا عقل لهم إلا أهل بغداد، على أن الصوفية في بغداد أكثر منهم في غيرها ! فهذا الكلام إما موضوع على الشافعي مكذوب عليه أو أن ينزل على سبيل المبالغة أو بعض المعاني التي ذكرناها لك من قبل، والله أعلم.
إلزام متكرر للمخالف :
ويقال للمخالف هذا البيهقي وشيخاه الحاكم والسلمي وشيخه الرازي وشيخه ابن المولد كلهم صوفية، فهل هم عدول عقلاء ثقات أهل ضبط عند المخالف أم لا ؟ فإن قال هم كذلك فقد رد على نفسه بجعله الصوفية ومشايخ الصوفية عدولا عقلاء ضابطين ثقات بعد أن ادعى عليهم أنهم لا عقل لهم ولا دين وأنهم كالرافضة والحرورية فرد على نفسه وخصم نفسه وقطع حجته، وإن قال ليسوا عدولا ولا ثقات ولا عقلاء ولا ضابطين، قلنا له فما بالك تحتج بأخبار أناس ليسوا عقلاء ولا ثقات ولا عدول ولا ضابطين؟؟ فمن هو ناقص العقل هنا؟؟!! فوجب عليك إذا كانوا غير عدول ولا عقل لهم أن تطرح أخبارهم وتسقط مروياتهم.
بيان أن هذا الخبر فاسد بالمعنى الظاهر:
اعلم أن هذا الخبر يجب بطلانه من ناحية أخرى غير السند، وهو معناه ـ من حيث الظاهر الذي يريده المخالف ـ القائل أن الصوفية يتصفون بكثرة الكسل والنوم والأكل وفضول الكلام !! وهذا الكلام إذا عرض على كتب التصوف كلها، وطبقات رجالهم أو عرض على كتب التاريخ والمؤرخين ومصنفات الناس في الطباق والتراجم والرجال والفرق قديما وحديثا حتى تلك التي تذكر معايب الصوفية كتلبيس إبليس ونحوه وكتب ابن تيمية وابن القيم ونحوها بل حتى تلك التي بين يدي المخالفين من كتب أشياخهم المعاصرين بل وكتب غير الإسلاميين من المؤرخين العجم والأدباء فإنك ستجد كل هذه الموارد مجمعة على أن الصوفية كانوا يبالغون في التعبد والتزهد في المأكل والمشرب واللباس ويشددون العبادة، وأن من عاب عليهم ونبه على خطأ بعضهم فإنما يتكلم على مبالغتهم وتشديدهم في ذلك، فهذا إجماع بين الناس لا خلاف بينهم فيه، وهذا الخبر عن الشافعي يعكس المسألة فيجعل الصوفية على النقيض من ذلك كله، ويجعلهم أقرب إلى أهل البطالة من عامة الناس بحيث لا يمتازون عن الكسالى منهم، وهذا تناقض، وإلا كيف يكون الصوفي مستحقا للنقد بسبب قلة طعامه وطيه الأيام والليالي حتى ييبس جلده كما يقول ابن الجوزي وغيره، ويكون في نفس الوقت أكولا؟! وكيف يكون الصوفي مبالغا في قيام الليل وإحيائه كله مع السياحة في النهار ثم يكون نؤوما؟! وكيف نجمع بين ما عرف عن الصوفية من إيثار الصمت وبين كونه كثير الفضول؟ فهذا كله لا يعقل ولا يمكن قبوله تاريخيا، وقد قال الإمام الشافعي في ما رواه ابن ابي حاتم في مناقبه بإسناد جيد :
((حدثني أبي، حدثنا حرملة، قال: سمعت الشافعي، يقول: «كل ما قلت لكم، فلم تشهد عليه عقولكم وتقبله، وتره حقا فلا تقبلوه، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق))اهـ.
فعرضنا هذا المنقول عن الشافعي في وصف الصوفية ونظرنا فيما هو معلوم متواتر لدى أهل الإسلام كلهم عن زهد الصوفية وتقللهم في المشرب والمأكل والملبس وتشددهم في العبادة فرأيناه منقولا لا يستقيم ولا يتفق مع الواقع ولا يقبله العقل، فتركناه وأخذنا بالحق المعلوم لدينا كما أوصى الشافعي.
معنى هذا الخبر الذي غفل عنه المخالف:
اعلم أن لهذا الخبر تأويلا ـ على فرض صحته ـ لم يصل إليه فهم المخالف، وذلك أن قول الشافعي ـ على فرض ثبوته ـ (لا يكون الصوفي صوفيا حتى يكون كسولا .. إلخ) معناه أن الصوفي لا يكون صوفيا بالنشأة والولادة، وإنما يترقى إلى التصوف وينتقل من حال إلى حال، فلا يرتقي إلى مرتبة التصوف إلا بترك ملذاته السابقة، فالتصوف حال لاحقة بعد حال سابقة، بأن يكون في أصله نشأ كسولا أكولا نؤوما كثير الفضول، فلا يزال يترقى بالمجاهدة، ويدع هذه الصفات فيقل أكله بالجوع والصيام ويقل نومه بطول القيام ويقل فضوله بكثرة الصمت وإمساك اللسان حتى يرتاض على ذلك فحينئذ يصير صوفيا، إذن فلا يكون الصوفي صوفيا فجأة بل لا يكون كذلك حتى يكون قبل ذلك غير متصوف أي كسولا نؤوما أكولا كثير الفضول، وأما من لم يكن كذلك أصلا بأن كان في أصله مقلا من الطعام والنوم طبعا وأصالة فهذا ليس صوفيا لفقد ركن المجاهدة، ومما يوضح هذا المعنى أكثر قولنا : (لا يكون الخل خلا حتى يكون خمرا) أو ( لا يكون التمر تمرا حتى يكون رطبا) أو ( لا يكون الشيخ شيخا حتى يكون مريدا) أو ( لا يكون الطبيب طبيبا حتى يكون متدربا) أو ( لا يكون الديك ديكا حتى يكون فرخا ولا يكون فرخا حتى يكون بيضة) أو ( لا يكون الجمل جملا حتى يكون حوارا) أو ( لا يكون الزبيب زبيبا حتى يكون عنبا) .. إلخ
ومن الحجة في ذلك كلام الفصحاء من الصحابة والتابعين ويغيرهم وهاك أمثلة:
ـ قول أبي الدرداء: لا يكون عالما حتى يكون متعلما ولا يكون عالما حتى يكون بالعلم عاملا.
ـ قال مسروق ابن الأجدع : لا يكون ميراث حتى يكون قبله صداق.
ـ وكان الحسن يقول : يا سبحان الله كانوا فقهاء علماء علم انه لا يكون عمل حتى يكون هم.
ـ وقال ابن حبان : لا يكون له الشفعة حتى يكون شريكا لبائع الدار.
فكذلك لا يكون الصوفي صوفيا حتى يكون قبل ذلك كسولا نؤوما أكولا .. ثم يقلل ذلك فيصير صوفيا.
فإن قلت : من أين أتيت بتقدير (قبل ذلك) و (يقلل ذلك) قلنا : هذا كما قال أبو الدرداء (لا يكون عالما حت يكون متعلما) أي لا يكون عالما حتى يكون قبل ذلك متعلما فيتعلم فيصيرعلما، فهذا إيجاز حذف معروف عند العرب، وهو التقدير اللازم في كلام الشافعي، وشاهده في القرآن الكريم (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) فمن كان ضعيف العقل ظن أن الله أمرهم بالفسق ففسقوا، ولكن المعنى أمرنا مترفيها بالإصلاح والطاعة فلم يأتمروا وفسقوا فيها، فهذا التقدير لا بد منه وإلا فسد المعنى، ولهذا لا يصلح للكلام على عبارات الشافعي ومن في مقامه إلا من عرف كلام العرب وطرائقه ومحامله، وبهذا التأويل الذي ذكرناه يصح المعنى ولا يضطرب ولا يتعارض مع العقل والواقع التاريخي، والله أعلم.
الخبر الخامس :
ما رواه الحافظ أبو نعيم في الحلية قال:
(( حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا أبو الحسن البغدادي ثنا ابن صاعد قال سمعت الشافعي يقول أسس التصوف على الكسل)) اهـ.
ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في تلبيس إبليس قال :
(( أخبرنا اسماعيل بن احمد السمرقندي نا حمد بن احمد الحداد نا أبو نعيم الأصفهاني)) وساق باقيه.
الكلام على إسناد هذا الخبر:
أبو نعيم الأصفهاني صاحب الحلية الإمام الحافظ الصوفي المشهور، وشيخه هو صاحب التصانيف أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر محدث مشهور صاحب تصانيف قيل ضعفه أبو أحمد العسال الحافظ.
وأما شيخه أبو الحسن البغدادي فقد حيرني فهو مشتبه جدا، فما أدري من هو ذا، وأقرب شيء أن يكون هو ابن السكن المترجم في طبقات محدثي أصبهان لأبي الشيخ ولأبي نعيم، قال أبو الشيخ في طبقاته:
((أحمد بن محمد بن السكن قدم علينا سنة أربع وثلاثمائة يحدث عن إسحاق الخطمي وعيسى الشيوزي وابن سهم الأنطاكي والجرشي والخلق ففتش عنه وكان ممن يسرق الحديث ويحدث بالبواطيل فتركوا حديثه ..)) ثم ذكر حديثا عنه.
وذكره الحافظ أبو نعيم في طبقاته وصرح بكنيته ونسبته (أبو الحسن البغدادي) فقال:
((أحمد بن محمد بن السكن بن عمير بن سيار أبو الحسن البغدادي القرشي: قدم علينا سنة أربع وثلاثمائة كان أبو أحمد حسن الرأي فيه وروى عنه روى عن المتقدمين إسحاق الخطمي وابن سهم الأنطاكي وطبقتهما من البصريين وغيرهم فيه لين فيما ذكره أبو محمد بن حيان)) اهـ.
وترجمته في لسان الميزان :
(( أحمد بن محمد بن السكن الحافظ عن إسحاق بن موسى الخطمي ونحوه ضعفه عبدان الشيرازي وقال بن مردويه كان ممن يسرق الحديث ..))اهـ.
وأما ابن صاعد فهو مشكل جدا، لأن المشهور هو الحافظ الكبير يحيى بن محمد بن صاعد المولود سنة 228هـ وله أخوان أحمد وهو الأوسط ويوسف وهو الأكبر، وليس واحد منهما يمكنه إدراك الشافعي ليقول سمعت الشافعي، قال الحافظ الدارقطني:
(( سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرزاز يقول : سمعت موسى بن هارون يقول : بنو صاعد ثلاثة : يحيى أثبتهم ، ويوسف كان أكبرهم ، وأحمد كان أوسطهم ، ولهم عم يقال له : عبد الله بن صاعد يحدث عن سفيان بن عيينة، وكان له مسائل ، سأل عنها سفيان في التصوف والزهد وغير ذلك )) اهـ.
وقد اختبرت تواريخ وطبقات شيوخ هؤلاء الإخوة الثلاثة فلم يدركوا الشافعي، فلم يبق إلا عمهم عبد الله بن صاعد صاحب مسائل التصوف، وهذا لم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، ومن أخباره كأنه من أقران الشافعي فلا أظنه هو أيضا، فلم يبق إلا أن يكون مجهولا أو يكون سقط بين ابن صاعد والشافعي رجل، وعلى كل حال فهو سند ضعيف.
معنى هذا الخبر:
إذا صح هذا الخبر فله أجوبة:
الأول: أن الشافعي ذكر ما تأسس عليه التصوف فلم يذكر زندقة ولا إلحادا ولا كفرا ولا بدعة ولا ضلالة، ولم يجد إلا الكسل، وهذا لا عيب فيه ما لم يقطع العبد عن واجب، فلو أن الشافعي رضي الله عنه أراد هذا المعنى الظاهر من الكسل لكان حجة على المخالفين لأن الشافعي لما ذكر أساس التصوف ذكر الكسل، ومخالفونا لو ذكروا أساس التصوف لذكروا الكفر والإلحاد وأشباه هذه التهم الباطلة فبان أنهم مخالفون للشافعي في فهمه.
الثاني : أنه تكلم عن تأسيس التصوف فجاز أنه يعني به من تصوفوا قبل صوفية الإسلام، وأولئك قد يجوز أن يكون التصوف كان فيهم كذلك، فلما جاء الإسلام صار أساس التصوف الزهد والورع والنشاط في العبادة، فيكون الشافعي يذكر أساسا بعيدا لا وجود له في الإسلام كما أن من سبق كانت فيهم رهبانية ورهبانية الإسلام الجهاد، وكانوا يطوفون عراة بمكاء وتصدية، ويحجون فيشركون، فكذلك التصوف الجاهلي كان كسلا، وأما تصوف الإسلام فالجد في العبادة.
الثالث : يجوز أن الشافعي يعني أن الكسل بمعنى التفرغ، أي عكس شغل اليد والبال والقلب، فتخلية البال والقلب والجوارح من الأشغال هو الكسل لكنه كسل عن الدنيا، كسل عما يشغل عن العبادة، فهو على هذا أول مراتب العبادة، لأن من لم يتفرغ للعبادة لا يجتهد فيها، فإذا تفرغ للعبادة صفا قلبه وذهنه وجوارحه للطاعة، فيكون أساس التصوف الكسل بمعنى ترك المشاغل فهو على هذا المعنى معين على العبادة، وبمثل هذا المعنى نطق الزاهد شقيق البلخي، فيما رواه أبو نعيم في الحلية قال:
(( حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا أبو بكر بن أبي عاصم قال سمعت أبا تراب يقول سمعت حاتما الأصم يقول سمعت شقيقا يقول الكسل عون على الزهد))اهـ.
ومصداق ذلك الحديث القدسي الذي صححه الحاكم ووافقه الذهبي وفيه :
((يقول الله عز و جل ابن آدم تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى و أسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا، و لم أسد فقرك))اهـ.
الرابع: ولا يبعد أن الشافعي أراد بالكسل هنا معنى الإكسال الوارد في الحديث المنسوخ (ليس في الإكسال إلا الوضوء) ومعناه هنا كما في التاج على القاموس: ((وأكسل الرجل في الجماع : خالطها ولم ينزل ، وذلك إذا لحقه فتور ، ومعناه صار ذا كسل )) اهـ. فاستعمل الشافعي الكسل بمعنى الفتور عن النكاح والزهد فيه، حال عدم تعلق النفس به، وهذا المعنى صرح به الشافعي في بعض كلامه. وقد قيل بهذا المعنى في تفسير وصف يحيى (سيدا وحصورا)، والله أعلم.
ما رواه الحافظ أبو نعيم في الحلية قال:
(( حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا أبو الحسن البغدادي ثنا ابن صاعد قال سمعت الشافعي يقول أسس التصوف على الكسل)) اهـ.
ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في تلبيس إبليس قال :
(( أخبرنا اسماعيل بن احمد السمرقندي نا حمد بن احمد الحداد نا أبو نعيم الأصفهاني)) وساق باقيه.
الكلام على إسناد هذا الخبر:
أبو نعيم الأصفهاني صاحب الحلية الإمام الحافظ الصوفي المشهور، وشيخه هو صاحب التصانيف أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر محدث مشهور صاحب تصانيف قيل ضعفه أبو أحمد العسال الحافظ.
وأما شيخه أبو الحسن البغدادي فقد حيرني فهو مشتبه جدا، فما أدري من هو ذا، وأقرب شيء أن يكون هو ابن السكن المترجم في طبقات محدثي أصبهان لأبي الشيخ ولأبي نعيم، قال أبو الشيخ في طبقاته:
((أحمد بن محمد بن السكن قدم علينا سنة أربع وثلاثمائة يحدث عن إسحاق الخطمي وعيسى الشيوزي وابن سهم الأنطاكي والجرشي والخلق ففتش عنه وكان ممن يسرق الحديث ويحدث بالبواطيل فتركوا حديثه ..)) ثم ذكر حديثا عنه.
وذكره الحافظ أبو نعيم في طبقاته وصرح بكنيته ونسبته (أبو الحسن البغدادي) فقال:
((أحمد بن محمد بن السكن بن عمير بن سيار أبو الحسن البغدادي القرشي: قدم علينا سنة أربع وثلاثمائة كان أبو أحمد حسن الرأي فيه وروى عنه روى عن المتقدمين إسحاق الخطمي وابن سهم الأنطاكي وطبقتهما من البصريين وغيرهم فيه لين فيما ذكره أبو محمد بن حيان)) اهـ.
وترجمته في لسان الميزان :
(( أحمد بن محمد بن السكن الحافظ عن إسحاق بن موسى الخطمي ونحوه ضعفه عبدان الشيرازي وقال بن مردويه كان ممن يسرق الحديث ..))اهـ.
وأما ابن صاعد فهو مشكل جدا، لأن المشهور هو الحافظ الكبير يحيى بن محمد بن صاعد المولود سنة 228هـ وله أخوان أحمد وهو الأوسط ويوسف وهو الأكبر، وليس واحد منهما يمكنه إدراك الشافعي ليقول سمعت الشافعي، قال الحافظ الدارقطني:
(( سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرزاز يقول : سمعت موسى بن هارون يقول : بنو صاعد ثلاثة : يحيى أثبتهم ، ويوسف كان أكبرهم ، وأحمد كان أوسطهم ، ولهم عم يقال له : عبد الله بن صاعد يحدث عن سفيان بن عيينة، وكان له مسائل ، سأل عنها سفيان في التصوف والزهد وغير ذلك )) اهـ.
وقد اختبرت تواريخ وطبقات شيوخ هؤلاء الإخوة الثلاثة فلم يدركوا الشافعي، فلم يبق إلا عمهم عبد الله بن صاعد صاحب مسائل التصوف، وهذا لم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، ومن أخباره كأنه من أقران الشافعي فلا أظنه هو أيضا، فلم يبق إلا أن يكون مجهولا أو يكون سقط بين ابن صاعد والشافعي رجل، وعلى كل حال فهو سند ضعيف.
معنى هذا الخبر:
إذا صح هذا الخبر فله أجوبة:
الأول: أن الشافعي ذكر ما تأسس عليه التصوف فلم يذكر زندقة ولا إلحادا ولا كفرا ولا بدعة ولا ضلالة، ولم يجد إلا الكسل، وهذا لا عيب فيه ما لم يقطع العبد عن واجب، فلو أن الشافعي رضي الله عنه أراد هذا المعنى الظاهر من الكسل لكان حجة على المخالفين لأن الشافعي لما ذكر أساس التصوف ذكر الكسل، ومخالفونا لو ذكروا أساس التصوف لذكروا الكفر والإلحاد وأشباه هذه التهم الباطلة فبان أنهم مخالفون للشافعي في فهمه.
الثاني : أنه تكلم عن تأسيس التصوف فجاز أنه يعني به من تصوفوا قبل صوفية الإسلام، وأولئك قد يجوز أن يكون التصوف كان فيهم كذلك، فلما جاء الإسلام صار أساس التصوف الزهد والورع والنشاط في العبادة، فيكون الشافعي يذكر أساسا بعيدا لا وجود له في الإسلام كما أن من سبق كانت فيهم رهبانية ورهبانية الإسلام الجهاد، وكانوا يطوفون عراة بمكاء وتصدية، ويحجون فيشركون، فكذلك التصوف الجاهلي كان كسلا، وأما تصوف الإسلام فالجد في العبادة.
الثالث : يجوز أن الشافعي يعني أن الكسل بمعنى التفرغ، أي عكس شغل اليد والبال والقلب، فتخلية البال والقلب والجوارح من الأشغال هو الكسل لكنه كسل عن الدنيا، كسل عما يشغل عن العبادة، فهو على هذا أول مراتب العبادة، لأن من لم يتفرغ للعبادة لا يجتهد فيها، فإذا تفرغ للعبادة صفا قلبه وذهنه وجوارحه للطاعة، فيكون أساس التصوف الكسل بمعنى ترك المشاغل فهو على هذا المعنى معين على العبادة، وبمثل هذا المعنى نطق الزاهد شقيق البلخي، فيما رواه أبو نعيم في الحلية قال:
(( حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا أبو بكر بن أبي عاصم قال سمعت أبا تراب يقول سمعت حاتما الأصم يقول سمعت شقيقا يقول الكسل عون على الزهد))اهـ.
ومصداق ذلك الحديث القدسي الذي صححه الحاكم ووافقه الذهبي وفيه :
((يقول الله عز و جل ابن آدم تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى و أسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا، و لم أسد فقرك))اهـ.
الرابع: ولا يبعد أن الشافعي أراد بالكسل هنا معنى الإكسال الوارد في الحديث المنسوخ (ليس في الإكسال إلا الوضوء) ومعناه هنا كما في التاج على القاموس: ((وأكسل الرجل في الجماع : خالطها ولم ينزل ، وذلك إذا لحقه فتور ، ومعناه صار ذا كسل )) اهـ. فاستعمل الشافعي الكسل بمعنى الفتور عن النكاح والزهد فيه، حال عدم تعلق النفس به، وهذا المعنى صرح به الشافعي في بعض كلامه. وقد قيل بهذا المعنى في تفسير وصف يحيى (سيدا وحصورا)، والله أعلم.
الخبر السادس :
ما رواه البيهقي في مناقب الشافعي قال : (( أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت عبد الله بن الحسين بن موسى السلامي يقول سمعت علي بن أحمد يقول سمعت أيوب بن سليمان يقول سمعت محمد بن محمد بن ادريس الشافعي يقول سمعت أبي يقول : صحبت الصوفية عشر سنين ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين الوقت سيف، ومن العصمة أن لا تقدر ))اهـ.
وأخرجه ابن الجوزي في التلبيس من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال:
((وقد سمعت أبا عبد الله حسين بن علي المقري يقول سمعت أبا محمد عبد الله بن عطاء الهروي يقول سمعت عبد الرحمن بن محمد بن المظفر يقول سمعت أبا عبد الرحمن بن الحسين يقول ... )) وذكره.
إسناد هذا الخبر :
البيهقي وشيخه السلمي تقدما، وأما عبد الله بن الحسين بن موسى فهو السلامي أبو الحسن ترجمته في تاريخ بغداد ودمشق، وقال في لسان الميزان:
((عبد الله بن موسى بن كريد أبو الحسن السلامي حدث بنيسابور عن بن صاعد وطبقته قال الخطيب حدث بخراسان وسمرقند وبخارى وفي رواياته غرائب ومناكير وعجائب روى حديثا ما له أصل سلسله بالشعراءمنهم الفرزدق عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه لكن المتن جيد قال الحاكم صحيح السماعات إلا أنه كتب عمن دب ودرج من المجهولين وأصحاب الروايات ثم قال وكان أبو عبد الله بن مندة سيء الرأي فيه وما أراه كان يتعمد الكذب في نقله قال غنجار مات سنة أربع وسبعين وثلاث مائة انتهى قال الإدريسي كان شاعرا كثيرا الحفظ للحكايات والنوادر صنف كتبا كثيرة وكان صحيح السماع إلا أنه كتب عمن دب ودرج وأعاده المؤلف بعد ترجمة واحدة مختصرا وغفل عن أن ينبه على ذلك)) اهـ.
وأما شيخه ففي مناقب البيهقي علي بن أحمد، وفي التلبيس علي بن محمد المصري وهو هو نسب إلى أبيه مرة وإلى جده مرة وهو أبو أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن الحسن البغدادي الواعظ المشهور بالمصري لإقامته مدة بمصر، وثقه الخطيب البغدادي وتوفي سنة 338هـ
وأما أيوب بن سليمان فمشتبه، وقد ذكر الخطيب في المتفق والمفترق ستة عشر راويا كلهم يسمى أيوب بن سليمان، ما فيهم واحد يصلح أن يكون هذا هنا، وأخشى أن يكون أيوب بن محمد بن أيوب بن سليمان أبو ميمون الصوري الذي كذبه الدارقطني، فنسب إلى جده والله أعلم.
فهذا الخبر الآن بهذا الحال فيه صاحب مناكير يجب الحذر منه، وفيه مجهول عندنا الآن نحتاج إلى التعرف عليه فهذا الخبر عندنا الآن لا يصح.
معنى هذا الخبر :
فإن صح هذا الخبر فلنا معه كلام يجعله حجة للصوفية لا ضدهم:
أولا : متى صحب الشافعي الصوفية؟؟
يعرف كل من طالع سيرة الإمام الشافعي في كتب مناقبه أنه ولد في فلسطين وبعد سنتين نقل إلى مكة، وهناك نشأ والتحق بالكتاب وحفظ القرآن مع الغلمان وفي حدود الثامنة أو التاسعة صار يتجول في هذيل والبوادي يتعلم الشعر والأدب وأيام العرب وأخبارهم، فلامه بعض الناس على تضييع وقته في ذلك ورغبه في طلب الفقه، فحبب إليه طلب علوم الدين وهو في نحو العاشرة، فلزم سفيان بن عيينة في مكة ثم مسلم بن خالد الزنجي في مكة وحفظ الموطأ ورحل ابن ثلاثة عشرة سنة إلى المدينة للتلقي عن مالك بن أنس .. ولما بلغ الخامسة عشرة وقيل الثامنة عشرة وكان فرغ من الأخذ عن ابن عيينة ومالك أجازه شيخه الزنجي بالإفتاء.
هذا ملخص لسيرة الشافعي قبل الخامسة عشرة من عمرة وقبل أن يجاز بالإفتاء، فمتى تعرف الشافعي على الصوفية وصحبهم؟؟؟
هناك خياران أمام المخالفين لا ثالث لهما:
ـ إما أن يكون الشافعي بدأ صحبة الصوفية في مرحلة أخذه عن شيوخه كالزنجي وابن عيينة ومالك ! وهذا معناه أنه بقي يصحب الصوفية أثناء ذلك وبعد ذلك واستمر يصحبهم بعد أن أجيز بالإفتاء نحو سبع سنين !!!
ـ وإما أن يكون إنما صحبهم فيما بعد مرحلة إجازة الإفتاء.
وعلى كل حال منهما فمعنى ذلك أن الشافعي صحب الصوفية وهو عالم محدث فقيه مفت !!! واستمر يصحبهم، فكيف استمر الشافعي على ذلك الحال وهو عالم مفت فقيه إذا كان الصوفية كما يزعم المخالفون بأنهم بمنزلة المعتزلة والرافضة والقدرية والحرورية ؟؟!!!! هذا سؤال كبير جدا، أليست تلك المدة الطويلة من الصحبة دالة على أن الشافعي لم ير في الصوفية ما يراه المخالفون؟؟!! إي والله.
ثانيا : يزعم بعض المخالفين اليوم أن الشافعي لما عرف ضلالهم تركهم ؟!! وهذا عجيب فإن إماما كالشافعي ما كان يحتاج إلى عشر سنين ليكتشف ضلالهم إن كانوا ضالين وكان يكفي مثله في ذكائه وعلمه وفقهه وبلوغه مرتبة الإفتاء كان يكفيه يوم واحد أو شهر وأما أن يبقى عشر سنين معهم فهذا لا يقبله أقل المخالفين عقلا وفطنة على نفسه فكيف يقبلونه على ذكي أذكياء العالم في وقته؟؟!!
ثالثا : عبر الشافعي بكلمة الصحبة وهي أجل وأعظم خطرا وأشمل من مجرد اللقاء والأخذ فالصحبة لها معنى واسع، ولها شروط لا تجب في الشيخ بخلاف الصحبة، وهذا دليل على أن الشافعي وجد في القوم ما يستوجب أن يصحبهم عليه عشر سنين وهو لم يصحب أحدا من شيوخه هذه المدة قط .
رابعا : يظهر أن صحبته إياهم كانت في مكة والمدينة، والحجاز في ذلك الوقت كان خاليا من البدع ممتنعا عليها وعلى أهلها، بل إن أصحاب الرأي لا يملكون قاعدة في الحجاز فكيف يتصور أن يكون الصوفية ظاهرين في الحجاز بحيث يمكن للشافعي أن يصحبهم دون أن ينكر عليهم الولاة والأئمة من أهل الحجاز وهم يرون تلميذهم الشافعي يصحبهم، وهذا الشافعي لما أخذ عن ابن أبي يحيى الأسلمي وكانت فيه بدع تكلم الأئمة في ابن أبي يحيى وتعجبوا من أخذ الشافعي عنه فكيف بمن صحبهم الشافعي عشر سنين؟!!!! فدل ذلك على أنهم لم يكونوا أهل بدعة ولا ضلالة، ولو كانوا كذلك لطردوهم من مجالسهم ولم يحدثوهم، ولكن ذلك لم يحدث وقد حضر شيخ صوفية مصر إدريس بن يحيى الخولاني عند مالك، وحضر سالم بن ميمون الخواص عند مسلم بن خالد الزنجي، وتكرر الصوفية على مجالس سفيان بن عيينة حتى أتعبوه لكثرة سؤالهم عن الحديث:
الصوفية وسفيان بن عيينة شيخ مكة:
روينا ذلك في كامل ابن عدي بإسناد صحيح، قال:
((حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الكريم حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري حدثنا سفيان عن الأحوص يعني بن حكيم عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في شملة قد عقدها.
قال لنا أحمد: قال الزهري: قال لنا سفيان: "الصوفية قد عنوني كم يسألوني عن هذا الحديث")) اهـ.
وروينا في سؤالات السلمي للدارقطني عن الدارقطني أنه قال:
(((( سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرزاز يقول : سمعت موسى بن هارون يقول : بنو صاعد ثلاثة : يحيى أثبتهم ، ويوسف كان أكبرهم ، وأحمد كان أوسطهم ، ولهم عم يقال له : عبد الله بن صاعد يحدث عن سفيان بن عيينة، وكان له مسائل ، سأل عنها سفيان في التصوف والزهد وغير ذلك )) اهـ.
فهذا دليل اجتماع الصوفية في مجلس سفيان وغيره من الأئمة، فلم يطردهم واحد من هؤلاء الأئمة وما كانوا يمكنون أهل البدع والضلالة من مجالسهم، وهذا يقوي أن الشافعي إنما تعرف على الصوفية في مجالس الحديث بمكة والمدينة.
خامسا : وأما قوله (ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين)
ـ فليس في ذلك ذم، بل إن الشافعي إنما صحبهم وهو عالم بل أعلم منهم، فلم يكن ليستفيد منهم في العلم، وأكثر ما يستعمل لفظ الاستفادة في العلم دون الزهد وقلما يستعمل في الزهد، وأما في باب الحكمة فقد أخبر بما استفاد منهم، وكيف يتصور أن يستفيد منهم في العلم وهو أعلم منهم بل كان مفتيا ؟؟!! فالشافعي لم يقصد أنه لم يستفد منهم في شيء مطلقا بل يقصد أنه لم يستفد منهم في باب العلم والحكم وإن كان استفاد منهم في الزهد والورع وإلا فما باله صحبهم عشر سنين؟؟؟
ونؤيد هذا بمعان:
ـ منها ما في معجم الأدباء من أن المازني قال : (قرأ الرياشي علي كتاب سيبويه فاستفدت منه أكثر مما استفاد منى).
قال ياقوت : (يعني أنه أفادني لغته وشعره وأفاده هو النحو) فالمازني لما قال بأنه استفاد من الرياشي أكثر إنما قصد في فن الرياشي الذي يحسنه وهو اللغة، وإلا فإن المازني أعلم في النحو من الرياشي، فكذلك الشافعي إنما قصد بأنه لم يستفد من الصوفية أي في العلم والحكمة وإن كان استفاد منهم في مجالهم وهو الزهد والسلوك.
ـ ومنها ما في تاريخ بغداد ودمشق من قول أبي البختري : ( لأن أكون في قوم أعلم مني أحب إلي من أن أكون في قوم أنا أعلم منهم لأني إن كنت أعلمهم لم أستفد وإن كنت مع من هم أعلم مني استفدت)
فكذلك الشافعي لما كان في قوم هو أعلم منهم لم يستفد في العلم منهم شيئا سوى حرفين، وإن كان استفاد منهم في غير العلم.
ـ ومنها قول ابن الجوزي في صفة الصفوة عن شيخه الأنماطي: (فاستفدت ببكائه ما لم أستفد بروايته).
فكذلك الشافعي إنما استفاد منهم في الزهد لا العلم فافهم هذا.
وبهذا رجع هذا الخبر ـ إن صح ـ حجة على المخالف وليس له.
ما رواه البيهقي في مناقب الشافعي قال : (( أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت عبد الله بن الحسين بن موسى السلامي يقول سمعت علي بن أحمد يقول سمعت أيوب بن سليمان يقول سمعت محمد بن محمد بن ادريس الشافعي يقول سمعت أبي يقول : صحبت الصوفية عشر سنين ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين الوقت سيف، ومن العصمة أن لا تقدر ))اهـ.
وأخرجه ابن الجوزي في التلبيس من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال:
((وقد سمعت أبا عبد الله حسين بن علي المقري يقول سمعت أبا محمد عبد الله بن عطاء الهروي يقول سمعت عبد الرحمن بن محمد بن المظفر يقول سمعت أبا عبد الرحمن بن الحسين يقول ... )) وذكره.
إسناد هذا الخبر :
البيهقي وشيخه السلمي تقدما، وأما عبد الله بن الحسين بن موسى فهو السلامي أبو الحسن ترجمته في تاريخ بغداد ودمشق، وقال في لسان الميزان:
((عبد الله بن موسى بن كريد أبو الحسن السلامي حدث بنيسابور عن بن صاعد وطبقته قال الخطيب حدث بخراسان وسمرقند وبخارى وفي رواياته غرائب ومناكير وعجائب روى حديثا ما له أصل سلسله بالشعراءمنهم الفرزدق عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه لكن المتن جيد قال الحاكم صحيح السماعات إلا أنه كتب عمن دب ودرج من المجهولين وأصحاب الروايات ثم قال وكان أبو عبد الله بن مندة سيء الرأي فيه وما أراه كان يتعمد الكذب في نقله قال غنجار مات سنة أربع وسبعين وثلاث مائة انتهى قال الإدريسي كان شاعرا كثيرا الحفظ للحكايات والنوادر صنف كتبا كثيرة وكان صحيح السماع إلا أنه كتب عمن دب ودرج وأعاده المؤلف بعد ترجمة واحدة مختصرا وغفل عن أن ينبه على ذلك)) اهـ.
وأما شيخه ففي مناقب البيهقي علي بن أحمد، وفي التلبيس علي بن محمد المصري وهو هو نسب إلى أبيه مرة وإلى جده مرة وهو أبو أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن الحسن البغدادي الواعظ المشهور بالمصري لإقامته مدة بمصر، وثقه الخطيب البغدادي وتوفي سنة 338هـ
وأما أيوب بن سليمان فمشتبه، وقد ذكر الخطيب في المتفق والمفترق ستة عشر راويا كلهم يسمى أيوب بن سليمان، ما فيهم واحد يصلح أن يكون هذا هنا، وأخشى أن يكون أيوب بن محمد بن أيوب بن سليمان أبو ميمون الصوري الذي كذبه الدارقطني، فنسب إلى جده والله أعلم.
فهذا الخبر الآن بهذا الحال فيه صاحب مناكير يجب الحذر منه، وفيه مجهول عندنا الآن نحتاج إلى التعرف عليه فهذا الخبر عندنا الآن لا يصح.
معنى هذا الخبر :
فإن صح هذا الخبر فلنا معه كلام يجعله حجة للصوفية لا ضدهم:
أولا : متى صحب الشافعي الصوفية؟؟
يعرف كل من طالع سيرة الإمام الشافعي في كتب مناقبه أنه ولد في فلسطين وبعد سنتين نقل إلى مكة، وهناك نشأ والتحق بالكتاب وحفظ القرآن مع الغلمان وفي حدود الثامنة أو التاسعة صار يتجول في هذيل والبوادي يتعلم الشعر والأدب وأيام العرب وأخبارهم، فلامه بعض الناس على تضييع وقته في ذلك ورغبه في طلب الفقه، فحبب إليه طلب علوم الدين وهو في نحو العاشرة، فلزم سفيان بن عيينة في مكة ثم مسلم بن خالد الزنجي في مكة وحفظ الموطأ ورحل ابن ثلاثة عشرة سنة إلى المدينة للتلقي عن مالك بن أنس .. ولما بلغ الخامسة عشرة وقيل الثامنة عشرة وكان فرغ من الأخذ عن ابن عيينة ومالك أجازه شيخه الزنجي بالإفتاء.
هذا ملخص لسيرة الشافعي قبل الخامسة عشرة من عمرة وقبل أن يجاز بالإفتاء، فمتى تعرف الشافعي على الصوفية وصحبهم؟؟؟
هناك خياران أمام المخالفين لا ثالث لهما:
ـ إما أن يكون الشافعي بدأ صحبة الصوفية في مرحلة أخذه عن شيوخه كالزنجي وابن عيينة ومالك ! وهذا معناه أنه بقي يصحب الصوفية أثناء ذلك وبعد ذلك واستمر يصحبهم بعد أن أجيز بالإفتاء نحو سبع سنين !!!
ـ وإما أن يكون إنما صحبهم فيما بعد مرحلة إجازة الإفتاء.
وعلى كل حال منهما فمعنى ذلك أن الشافعي صحب الصوفية وهو عالم محدث فقيه مفت !!! واستمر يصحبهم، فكيف استمر الشافعي على ذلك الحال وهو عالم مفت فقيه إذا كان الصوفية كما يزعم المخالفون بأنهم بمنزلة المعتزلة والرافضة والقدرية والحرورية ؟؟!!!! هذا سؤال كبير جدا، أليست تلك المدة الطويلة من الصحبة دالة على أن الشافعي لم ير في الصوفية ما يراه المخالفون؟؟!! إي والله.
ثانيا : يزعم بعض المخالفين اليوم أن الشافعي لما عرف ضلالهم تركهم ؟!! وهذا عجيب فإن إماما كالشافعي ما كان يحتاج إلى عشر سنين ليكتشف ضلالهم إن كانوا ضالين وكان يكفي مثله في ذكائه وعلمه وفقهه وبلوغه مرتبة الإفتاء كان يكفيه يوم واحد أو شهر وأما أن يبقى عشر سنين معهم فهذا لا يقبله أقل المخالفين عقلا وفطنة على نفسه فكيف يقبلونه على ذكي أذكياء العالم في وقته؟؟!!
ثالثا : عبر الشافعي بكلمة الصحبة وهي أجل وأعظم خطرا وأشمل من مجرد اللقاء والأخذ فالصحبة لها معنى واسع، ولها شروط لا تجب في الشيخ بخلاف الصحبة، وهذا دليل على أن الشافعي وجد في القوم ما يستوجب أن يصحبهم عليه عشر سنين وهو لم يصحب أحدا من شيوخه هذه المدة قط .
رابعا : يظهر أن صحبته إياهم كانت في مكة والمدينة، والحجاز في ذلك الوقت كان خاليا من البدع ممتنعا عليها وعلى أهلها، بل إن أصحاب الرأي لا يملكون قاعدة في الحجاز فكيف يتصور أن يكون الصوفية ظاهرين في الحجاز بحيث يمكن للشافعي أن يصحبهم دون أن ينكر عليهم الولاة والأئمة من أهل الحجاز وهم يرون تلميذهم الشافعي يصحبهم، وهذا الشافعي لما أخذ عن ابن أبي يحيى الأسلمي وكانت فيه بدع تكلم الأئمة في ابن أبي يحيى وتعجبوا من أخذ الشافعي عنه فكيف بمن صحبهم الشافعي عشر سنين؟!!!! فدل ذلك على أنهم لم يكونوا أهل بدعة ولا ضلالة، ولو كانوا كذلك لطردوهم من مجالسهم ولم يحدثوهم، ولكن ذلك لم يحدث وقد حضر شيخ صوفية مصر إدريس بن يحيى الخولاني عند مالك، وحضر سالم بن ميمون الخواص عند مسلم بن خالد الزنجي، وتكرر الصوفية على مجالس سفيان بن عيينة حتى أتعبوه لكثرة سؤالهم عن الحديث:
الصوفية وسفيان بن عيينة شيخ مكة:
روينا ذلك في كامل ابن عدي بإسناد صحيح، قال:
((حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الكريم حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري حدثنا سفيان عن الأحوص يعني بن حكيم عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في شملة قد عقدها.
قال لنا أحمد: قال الزهري: قال لنا سفيان: "الصوفية قد عنوني كم يسألوني عن هذا الحديث")) اهـ.
وروينا في سؤالات السلمي للدارقطني عن الدارقطني أنه قال:
(((( سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرزاز يقول : سمعت موسى بن هارون يقول : بنو صاعد ثلاثة : يحيى أثبتهم ، ويوسف كان أكبرهم ، وأحمد كان أوسطهم ، ولهم عم يقال له : عبد الله بن صاعد يحدث عن سفيان بن عيينة، وكان له مسائل ، سأل عنها سفيان في التصوف والزهد وغير ذلك )) اهـ.
فهذا دليل اجتماع الصوفية في مجلس سفيان وغيره من الأئمة، فلم يطردهم واحد من هؤلاء الأئمة وما كانوا يمكنون أهل البدع والضلالة من مجالسهم، وهذا يقوي أن الشافعي إنما تعرف على الصوفية في مجالس الحديث بمكة والمدينة.
خامسا : وأما قوله (ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين)
ـ فليس في ذلك ذم، بل إن الشافعي إنما صحبهم وهو عالم بل أعلم منهم، فلم يكن ليستفيد منهم في العلم، وأكثر ما يستعمل لفظ الاستفادة في العلم دون الزهد وقلما يستعمل في الزهد، وأما في باب الحكمة فقد أخبر بما استفاد منهم، وكيف يتصور أن يستفيد منهم في العلم وهو أعلم منهم بل كان مفتيا ؟؟!! فالشافعي لم يقصد أنه لم يستفد منهم في شيء مطلقا بل يقصد أنه لم يستفد منهم في باب العلم والحكم وإن كان استفاد منهم في الزهد والورع وإلا فما باله صحبهم عشر سنين؟؟؟
ونؤيد هذا بمعان:
ـ منها ما في معجم الأدباء من أن المازني قال : (قرأ الرياشي علي كتاب سيبويه فاستفدت منه أكثر مما استفاد منى).
قال ياقوت : (يعني أنه أفادني لغته وشعره وأفاده هو النحو) فالمازني لما قال بأنه استفاد من الرياشي أكثر إنما قصد في فن الرياشي الذي يحسنه وهو اللغة، وإلا فإن المازني أعلم في النحو من الرياشي، فكذلك الشافعي إنما قصد بأنه لم يستفد من الصوفية أي في العلم والحكمة وإن كان استفاد منهم في مجالهم وهو الزهد والسلوك.
ـ ومنها ما في تاريخ بغداد ودمشق من قول أبي البختري : ( لأن أكون في قوم أعلم مني أحب إلي من أن أكون في قوم أنا أعلم منهم لأني إن كنت أعلمهم لم أستفد وإن كنت مع من هم أعلم مني استفدت)
فكذلك الشافعي لما كان في قوم هو أعلم منهم لم يستفد في العلم منهم شيئا سوى حرفين، وإن كان استفاد منهم في غير العلم.
ـ ومنها قول ابن الجوزي في صفة الصفوة عن شيخه الأنماطي: (فاستفدت ببكائه ما لم أستفد بروايته).
فكذلك الشافعي إنما استفاد منهم في الزهد لا العلم فافهم هذا.
وبهذا رجع هذا الخبر ـ إن صح ـ حجة على المخالف وليس له.
الخبر السابع :
ذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس عن الشافعي ما نصه :
((وعنه أيضا أنه قال ما لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد عقله إليه أبدا ))اهـ.
وهذا الخبر كما ترى لم يذكر ابن الجوزي سنده، وقد اجتهدت أن أقف عليه مسندا فلم أفلح بعد، فإذا جاء سنده تكلمنا عليه، وأما الآن فنتكلم على بطلانه من جهة المعنى فنقول:
لا يجوز أن يكون هذا الخبر ـ على ظاهره ـ صحيحا عن الشافعي عندنا ولا عند المخالفين من وجوه :
الأول: أننا نعلم على القطع أن كثيرا من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن سلكوا طريق التنسك والتصوف كانوا عقلاء حكماء فطناء، وأن فيهم المحدثين والمفسرين والفقهاء والنحويين .. وإليهم تنتهي أسانيد الكتاب والسنة، فوجب أن يكون هذا الخبر كذبا إن لم يحتمل تأويلا معقولا.
الثاني أن المخالفين زعموا فيما نقلوا أن الشافعي صحب الصوفية عشر سنين كما تقدم، فكيف يعقل أن يقر الشافعي على نفسه بصحبة الصوفية عشر سنين ثم يقول بأن من صحبهم أربعين يوما لا يعود عقله إليه !! فكأن الشافعي يقول بأن عقله لم يرجع إليه !! فهل عاد عقل الشافعي إليه لما صحبهم عشر سنين أم لا ؟ فإن كان عاد إليه فقد انتقض بهذه العودة معنى الخبر على ظاهره، وإن كان لم يعد إلى الشافعي عقله ـ وهو أعقل خلق الله ـ فلا يوجد في الدنيا عاقل بعده، وقيل إن يونس بن عبد الأعلى تلميذ الشافعي صحب الصوفية ثلاثين سنة !! فكيف عاد له عقله فصار إماما في العلم؟؟
الثالث تقدم أن المخالفين احتجوا بما روي ـ وقد تقدم ـ من أنه لم ير في الصوفية عاقلا إلا سلم بن ميمون الخواص ! وصح عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال مثل ذلك في حق إدريس بن يحيى الخولاني الصوفي ! فإذا كان ذلك كذلك وثبت العقل لصوفي أو أكثر عند الشافعي فكيف قال (ما لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد إليه عقله أبدا) فهذا التأبيد والقطع يتناقض مع حكمه بالعقل على الخواص وحكم يونس على الخولاني، فثبت بطلان هذا القول من هذه الجهة.
فبهذه الوجوه فقط ثبت بطلان هذا الخبر دون حاجة إلى النظر في إسناده.
ذكر وجوه من التأويل ترفع تناقض الخبر:
أولها : أن يحمل العقل في كلام الشافعي على مراتب عليا منه لا يحتاجها المسلم ويستغني عنها طالب الآخرة، وهذا المعنى قد سبق ذكره.
ثانيها : أن المقصود بالعقل هنا الامتناع والاحتباس، يريد أن من لزم التصوف أربعين يوما لم يعد إلى عقل قلبه ولسانه أي احتباس قلبه ولسانه وعجزه عن الحكمة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أخلص لله العبادة أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) ويؤيد هذا أن الشافعي خص الأربعين، وبما ذكرناه تظهر مناسبة هذا العدد.
ثالثها : أن المقصود بالعقل هنا المكر والدهاء، وهما شعبتان من النفاق، فإذا لزم العبد التصوف لا يعود له خلق المكر والدهاء فيتخلص من النفاق، ويؤيد هذا ما روي (من صلى لله أربعين يوما في جماعه يدرك التكبيرة الأولى ، كتبت له برائتان : براءه من النار ، وبراءه من النفاق) اهـ. وبهذا تظهر مناسبة تخصيص الشافعي الأربعين دون غيرها.
رابعها : أن العقل هنا بمعنى الدية، يريد أن من تصوف زهد في الدنيا حتى لو استحق دية لم يقبلها فلا تعود إليه لتصوفه وزهده.
خامسها : أن العقل بمعنى العاقلة، أي أن عاقلته ييأسون منه لزهده وفقره، فلا يطلبون منه معونة في دية ونحوها.
وهذه التأويلات وإن كان بعضها متكلفا لكنه محتمل، وما كان محتملا لمعنى لا يحصل معه تناقض وكذب كان حريا أن يحمل عليه الخبر.
ذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس عن الشافعي ما نصه :
((وعنه أيضا أنه قال ما لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد عقله إليه أبدا ))اهـ.
وهذا الخبر كما ترى لم يذكر ابن الجوزي سنده، وقد اجتهدت أن أقف عليه مسندا فلم أفلح بعد، فإذا جاء سنده تكلمنا عليه، وأما الآن فنتكلم على بطلانه من جهة المعنى فنقول:
لا يجوز أن يكون هذا الخبر ـ على ظاهره ـ صحيحا عن الشافعي عندنا ولا عند المخالفين من وجوه :
الأول: أننا نعلم على القطع أن كثيرا من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن سلكوا طريق التنسك والتصوف كانوا عقلاء حكماء فطناء، وأن فيهم المحدثين والمفسرين والفقهاء والنحويين .. وإليهم تنتهي أسانيد الكتاب والسنة، فوجب أن يكون هذا الخبر كذبا إن لم يحتمل تأويلا معقولا.
الثاني أن المخالفين زعموا فيما نقلوا أن الشافعي صحب الصوفية عشر سنين كما تقدم، فكيف يعقل أن يقر الشافعي على نفسه بصحبة الصوفية عشر سنين ثم يقول بأن من صحبهم أربعين يوما لا يعود عقله إليه !! فكأن الشافعي يقول بأن عقله لم يرجع إليه !! فهل عاد عقل الشافعي إليه لما صحبهم عشر سنين أم لا ؟ فإن كان عاد إليه فقد انتقض بهذه العودة معنى الخبر على ظاهره، وإن كان لم يعد إلى الشافعي عقله ـ وهو أعقل خلق الله ـ فلا يوجد في الدنيا عاقل بعده، وقيل إن يونس بن عبد الأعلى تلميذ الشافعي صحب الصوفية ثلاثين سنة !! فكيف عاد له عقله فصار إماما في العلم؟؟
الثالث تقدم أن المخالفين احتجوا بما روي ـ وقد تقدم ـ من أنه لم ير في الصوفية عاقلا إلا سلم بن ميمون الخواص ! وصح عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال مثل ذلك في حق إدريس بن يحيى الخولاني الصوفي ! فإذا كان ذلك كذلك وثبت العقل لصوفي أو أكثر عند الشافعي فكيف قال (ما لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد إليه عقله أبدا) فهذا التأبيد والقطع يتناقض مع حكمه بالعقل على الخواص وحكم يونس على الخولاني، فثبت بطلان هذا القول من هذه الجهة.
فبهذه الوجوه فقط ثبت بطلان هذا الخبر دون حاجة إلى النظر في إسناده.
ذكر وجوه من التأويل ترفع تناقض الخبر:
أولها : أن يحمل العقل في كلام الشافعي على مراتب عليا منه لا يحتاجها المسلم ويستغني عنها طالب الآخرة، وهذا المعنى قد سبق ذكره.
ثانيها : أن المقصود بالعقل هنا الامتناع والاحتباس، يريد أن من لزم التصوف أربعين يوما لم يعد إلى عقل قلبه ولسانه أي احتباس قلبه ولسانه وعجزه عن الحكمة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أخلص لله العبادة أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) ويؤيد هذا أن الشافعي خص الأربعين، وبما ذكرناه تظهر مناسبة هذا العدد.
ثالثها : أن المقصود بالعقل هنا المكر والدهاء، وهما شعبتان من النفاق، فإذا لزم العبد التصوف لا يعود له خلق المكر والدهاء فيتخلص من النفاق، ويؤيد هذا ما روي (من صلى لله أربعين يوما في جماعه يدرك التكبيرة الأولى ، كتبت له برائتان : براءه من النار ، وبراءه من النفاق) اهـ. وبهذا تظهر مناسبة تخصيص الشافعي الأربعين دون غيرها.
رابعها : أن العقل هنا بمعنى الدية، يريد أن من تصوف زهد في الدنيا حتى لو استحق دية لم يقبلها فلا تعود إليه لتصوفه وزهده.
خامسها : أن العقل بمعنى العاقلة، أي أن عاقلته ييأسون منه لزهده وفقره، فلا يطلبون منه معونة في دية ونحوها.
وهذه التأويلات وإن كان بعضها متكلفا لكنه محتمل، وما كان محتملا لمعنى لا يحصل معه تناقض وكذب كان حريا أن يحمل عليه الخبر.
هذا كل ما وقفت عليه عن الإمام الشافعي في شأن الصوفية مما يكثر الحشوية من ذكره للتشنيع به على الصوفية، وقد رأى كل من قرأ ضعف أسانيد هذه الأخبار، ورأى وجوه التأويل المحتملة على فرض صحتها، ورأى كيف انقلب أكثر هذه الأخبار على المخالفين، وبقي أن نذكر أخبارا يتحاشاها الحشوية هي أصح وأقوى مما مضى لا يذكرونها:
الخبر الأول: (شيخ صوفي يعلم الشافعي دليل الإجماع) :
هذه الحكاية أخرجها البيهقي في "المدخل" كما قال الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية، ولم أجدها في المدخل إلى السنن الكبرى المطبوع لأنه طبع على نسخة ناقصة، فلعل هذه الرواية في الناقص، وأخرجها الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريقين إلى الزبير بن عبد الواحد، وأخرجها من طريق البيهقي الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء كما سيأتي، قال التاج السبكي في طبقاته:
((قال البيهقى فى كتاب المدخل أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنى أبو عبد الله الزبير بن عبد الواحد الحافظ الأسداباذى قال سمعت أبا سعيد محمد بن عقيل الفريابى يقول قال المزنى أو الربيع: كنا يوما عند الشافعى بين الظهر والعصر عند الصحن فى الصفة والشافعى قد استند إما قال إلى الأسطوانة وإما قال إلى غيرها إذجاء شيخ عليه جبة صوف وعمامة صوف وإزار صوف وفى يده عكازه قال فقام الشافعى وسوى عليه ثيابه واستوى جالسا قال وسلم الشيخ وجلس وأخذ الشافعى ينظر إلى الشيخ هيبة له إذ قال له الشيخ أسأل؟
قال الشافعى سل قال أيش الحجة فى دين الله؟
فقال الشافعى كتاب الله.
قال وماذا؟ قال وسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
قال وماذا؟ قال: اتفاق الأمة.
قال من أين قلت اتفاق الأمة.
قال من كتاب الله.
قال من أين فى كتاب الله.
قال فتدبر الشافعى ساعة.
فقال الشيخ قد أجلتك ثلاثة أيام ولياليها فإن جئت بحجة من كتاب الله فى الاتفاق وإلا تب إلى الله عز وجل.
قال فتغير لون الشافعى ثم إنه ذهب فلم يخرج ثلاثة أيام ولياليهن.
قال فخرج إلينا فى اليوم الثالث فى ذلك الوقت يعنى بين الظهر والعصر وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه وهو مسقام فجلس قال فلم يكن بأسرع من أن جاء الشيخ فسلم وجلس فقال: حاجتى؟
فقال الشافعى نعم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) لا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض.
فقال: صدقت. وقام وذهب.
قال الفريابى قال المزنى أو الربيع قال الشافعى لما ذهب الرجل قرأت القرآن فى كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه. انتهت القصة.
قال الذهبي في النبلاء : ((أنبئت بهذه القصة، عن منصور الفراوي، أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي، أخبرنا أبو بكر البيهقي، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا الزبير، فذكرها))اهـ وهذا إسناد مضيء.
قال الإمام التاج على إثرها: ((قلت: إن ثبتت هذه الحكاية فيمكن أن يكون هذا الشيخ الخضر عليه السلام وقد فهمه الشافعى حين أجله واستمع له وأصغى لإغلاظه فى القول واعتمد إشارته، وسند هذه الحكاية صحيح لا غبار عليه)) اهـ
وبعد تصحيح التاج السبكي لا نتكلم في السند، فإن كان هو الخضر فقد جاء في صورة رجل صوفي، وهذه منقبة للصوفية، وإن لم يكن فهو شيخ صوفي أراد الله تعليم الشافعي التواضع على يديه، وفي القصة إجلال الشافعي لهذا الشيخ الصوفي وتأدبه معه، فإن صحت بعض الأخبار الماضية من قول الشافعي أنه صحب الصوفية فلم ير فيهم عاقلا ولم يستفد منهم سوى حرفين فلعل الشافعي لما قال ذلك أراد الله تعالى أن يسوق له صوفيا عاقلا يستفيد الشافعي بسببه الدليل من كتاب الله على أحد أهم مصادر التشريع الإسلامي فلهذا الشيخ الصوفي منا الشكر والتحية وإن رغمت أنوف الحشوية.
الخبر الأول: (شيخ صوفي يعلم الشافعي دليل الإجماع) :
هذه الحكاية أخرجها البيهقي في "المدخل" كما قال الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية، ولم أجدها في المدخل إلى السنن الكبرى المطبوع لأنه طبع على نسخة ناقصة، فلعل هذه الرواية في الناقص، وأخرجها الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريقين إلى الزبير بن عبد الواحد، وأخرجها من طريق البيهقي الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء كما سيأتي، قال التاج السبكي في طبقاته:
((قال البيهقى فى كتاب المدخل أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنى أبو عبد الله الزبير بن عبد الواحد الحافظ الأسداباذى قال سمعت أبا سعيد محمد بن عقيل الفريابى يقول قال المزنى أو الربيع: كنا يوما عند الشافعى بين الظهر والعصر عند الصحن فى الصفة والشافعى قد استند إما قال إلى الأسطوانة وإما قال إلى غيرها إذجاء شيخ عليه جبة صوف وعمامة صوف وإزار صوف وفى يده عكازه قال فقام الشافعى وسوى عليه ثيابه واستوى جالسا قال وسلم الشيخ وجلس وأخذ الشافعى ينظر إلى الشيخ هيبة له إذ قال له الشيخ أسأل؟
قال الشافعى سل قال أيش الحجة فى دين الله؟
فقال الشافعى كتاب الله.
قال وماذا؟ قال وسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
قال وماذا؟ قال: اتفاق الأمة.
قال من أين قلت اتفاق الأمة.
قال من كتاب الله.
قال من أين فى كتاب الله.
قال فتدبر الشافعى ساعة.
فقال الشيخ قد أجلتك ثلاثة أيام ولياليها فإن جئت بحجة من كتاب الله فى الاتفاق وإلا تب إلى الله عز وجل.
قال فتغير لون الشافعى ثم إنه ذهب فلم يخرج ثلاثة أيام ولياليهن.
قال فخرج إلينا فى اليوم الثالث فى ذلك الوقت يعنى بين الظهر والعصر وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه وهو مسقام فجلس قال فلم يكن بأسرع من أن جاء الشيخ فسلم وجلس فقال: حاجتى؟
فقال الشافعى نعم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) لا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض.
فقال: صدقت. وقام وذهب.
قال الفريابى قال المزنى أو الربيع قال الشافعى لما ذهب الرجل قرأت القرآن فى كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه. انتهت القصة.
قال الذهبي في النبلاء : ((أنبئت بهذه القصة، عن منصور الفراوي، أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي، أخبرنا أبو بكر البيهقي، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا الزبير، فذكرها))اهـ وهذا إسناد مضيء.
قال الإمام التاج على إثرها: ((قلت: إن ثبتت هذه الحكاية فيمكن أن يكون هذا الشيخ الخضر عليه السلام وقد فهمه الشافعى حين أجله واستمع له وأصغى لإغلاظه فى القول واعتمد إشارته، وسند هذه الحكاية صحيح لا غبار عليه)) اهـ
وبعد تصحيح التاج السبكي لا نتكلم في السند، فإن كان هو الخضر فقد جاء في صورة رجل صوفي، وهذه منقبة للصوفية، وإن لم يكن فهو شيخ صوفي أراد الله تعليم الشافعي التواضع على يديه، وفي القصة إجلال الشافعي لهذا الشيخ الصوفي وتأدبه معه، فإن صحت بعض الأخبار الماضية من قول الشافعي أنه صحب الصوفية فلم ير فيهم عاقلا ولم يستفد منهم سوى حرفين فلعل الشافعي لما قال ذلك أراد الله تعالى أن يسوق له صوفيا عاقلا يستفيد الشافعي بسببه الدليل من كتاب الله على أحد أهم مصادر التشريع الإسلامي فلهذا الشيخ الصوفي منا الشكر والتحية وإن رغمت أنوف الحشوية.
الخبر الثاني: (الشافعي يثني على أبي عمران الصوفي)
أخرج أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في "آداب الشافعي ومناقبه" قال:
(( ثنا الحسين بن الحسن الرازي، ثنا عبد الله بن الحسن السجستاني: سمعت إسماعيل الطيان الرازي، يقول: " قدمت مكة، فلقيت الشافعي، فقال لي: أتعرف موسى الرازي؟ ما قدم علينا من ناحية المشرق، أنزع لكتاب الله منه، فقلت له: يا أبا عبد الله، صفه لي، فقال: كهل قدم علينا من الري، فوصفه لي فعرفته بالصفة، أنه أبو عمران الصوفي، فقلت: أعرفه، هو أبو عمران الصوفي، قال: هو، هو " )) اهـ.
إسناد الخبر:
الحسين بن الحسن أبو معين الرازي ثقة، وشيخه هو عبد الله بن الحسن الهسنجاني، والسجستاني تحريف وقع في المطبوعة فيما أرى، وهو رازي صدوق، وأما شيخه إسماعيل الطيان فلم أر من ترجمه.
فإن قيل: فالخبر ضعيف لجهالة الطيان؟ قلنا : رأيناكم تحتجون بأخبار أضعف من هذا لا تلتفتون إلى فساد أسانيدها فإن كان هذا عندكم جائزا لزمكم قبول هذا، وإن كان لا يجوز لزمكم رد ما تذكرونه من الأخبار الضعيفة المتقدمة.
أخرج أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في "آداب الشافعي ومناقبه" قال:
(( ثنا الحسين بن الحسن الرازي، ثنا عبد الله بن الحسن السجستاني: سمعت إسماعيل الطيان الرازي، يقول: " قدمت مكة، فلقيت الشافعي، فقال لي: أتعرف موسى الرازي؟ ما قدم علينا من ناحية المشرق، أنزع لكتاب الله منه، فقلت له: يا أبا عبد الله، صفه لي، فقال: كهل قدم علينا من الري، فوصفه لي فعرفته بالصفة، أنه أبو عمران الصوفي، فقلت: أعرفه، هو أبو عمران الصوفي، قال: هو، هو " )) اهـ.
إسناد الخبر:
الحسين بن الحسن أبو معين الرازي ثقة، وشيخه هو عبد الله بن الحسن الهسنجاني، والسجستاني تحريف وقع في المطبوعة فيما أرى، وهو رازي صدوق، وأما شيخه إسماعيل الطيان فلم أر من ترجمه.
فإن قيل: فالخبر ضعيف لجهالة الطيان؟ قلنا : رأيناكم تحتجون بأخبار أضعف من هذا لا تلتفتون إلى فساد أسانيدها فإن كان هذا عندكم جائزا لزمكم قبول هذا، وإن كان لا يجوز لزمكم رد ما تذكرونه من الأخبار الضعيفة المتقدمة.
الخبر الثالث: (الجنيد يصف الشافعي بأنه من المريدين الناطقين)
قال الإمام البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/178) :
(( وذكر أبو نعيم الأصبهاني في كتابه أن الصاحب ابن عباد ذكر في تصنيف له في مناقب الشافعي رحمه الله أنه سمع جعفر الصوفي يقول : سمعت الجنيد يقول : كان الشافعي من المريدين الناطقين بلسان الحق في الدين .. )) اهـ.
والصاحب هو الوزير المشهور إسماعيل بن عباد الطالقاني صاحب فضائل على اعتزال وتشيع، وجعفر هو ابن محمد بن نصير الخلدي، وثقه الخطيب، والجنيد إمام معروف.
ففي هذا الخبر شهادة الجنيد للشافعي أنه من المريدين الناطقين، أي أنه من أهل التصوف السالكين والعارفين، وهذه الشهادة صادرة من أعرف الناس به، لأن الجنيد تلميذ طبقة أبي ثور الذي هو تلميذ الشافعي، فلو كان الشافعي مباينا لطريق أهل التصوف فما الذي أحوج الجنيد البغدادي إلى هذا الكلام في حق الشافعي؟
فإن قيل إن الصاحب بن عباد مبتدع.
قلنا: أما أنتم فلا يسعكم رد رواية المبتدع إذا كان صادقا، لأنكم تذهبون في رواية المبتدع مذهب أكثر أهل الحديث، وهم يقبلون رواية المبتدع في غير ما يوافق بدعته ـ كمسألتنا ـ وعلى هذا المنوال جرى البخاري وغيره في روايتهم عن مثل عباد بن يعقوب الرافضي وعمران بن حطان الخارجي، وإنما رد رواية المبتدع أهل المدينة وأنتم لا تقولون بقولهم فلزمكم قبول هذا الخبر، وهو أحسن من أخبار كثيرة تحتجون بها تقدمت.
ويقال لهم كذلك: ألستم ترون الصوفي مبتدعا ؟ وقد قبلتم أخبار مثل إبراهيم بن المولد الصوفي وأبي زرعة الصغير الصوفي وأبي عبد الرحمن السلمي والبيهقي والحاكم وكلهم مبتدعة عندكم لأنهم صوفية ! فكيف تحتجون بهؤلاء وتقبلون أخبارهم ومهم مبتدعة عندكم ثم لا تقبلون خبر الصاحب ابن عباد لأنه مبتدع؟!!؟ فيلزمكم قبول خبره إذا كان صدوقا، وقد اتفقت كلمة المنصفين من أهل التأريخ على فضله وجلالة قدره في الآداب والعلوم، واعتبروا ما يضاد ذلك مكذوبا عليه، ومن شاء رجع إلى ترجمته في "التدوين" للإمام الرافعي.
قال الإمام البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/178) :
(( وذكر أبو نعيم الأصبهاني في كتابه أن الصاحب ابن عباد ذكر في تصنيف له في مناقب الشافعي رحمه الله أنه سمع جعفر الصوفي يقول : سمعت الجنيد يقول : كان الشافعي من المريدين الناطقين بلسان الحق في الدين .. )) اهـ.
والصاحب هو الوزير المشهور إسماعيل بن عباد الطالقاني صاحب فضائل على اعتزال وتشيع، وجعفر هو ابن محمد بن نصير الخلدي، وثقه الخطيب، والجنيد إمام معروف.
ففي هذا الخبر شهادة الجنيد للشافعي أنه من المريدين الناطقين، أي أنه من أهل التصوف السالكين والعارفين، وهذه الشهادة صادرة من أعرف الناس به، لأن الجنيد تلميذ طبقة أبي ثور الذي هو تلميذ الشافعي، فلو كان الشافعي مباينا لطريق أهل التصوف فما الذي أحوج الجنيد البغدادي إلى هذا الكلام في حق الشافعي؟
فإن قيل إن الصاحب بن عباد مبتدع.
قلنا: أما أنتم فلا يسعكم رد رواية المبتدع إذا كان صادقا، لأنكم تذهبون في رواية المبتدع مذهب أكثر أهل الحديث، وهم يقبلون رواية المبتدع في غير ما يوافق بدعته ـ كمسألتنا ـ وعلى هذا المنوال جرى البخاري وغيره في روايتهم عن مثل عباد بن يعقوب الرافضي وعمران بن حطان الخارجي، وإنما رد رواية المبتدع أهل المدينة وأنتم لا تقولون بقولهم فلزمكم قبول هذا الخبر، وهو أحسن من أخبار كثيرة تحتجون بها تقدمت.
ويقال لهم كذلك: ألستم ترون الصوفي مبتدعا ؟ وقد قبلتم أخبار مثل إبراهيم بن المولد الصوفي وأبي زرعة الصغير الصوفي وأبي عبد الرحمن السلمي والبيهقي والحاكم وكلهم مبتدعة عندكم لأنهم صوفية ! فكيف تحتجون بهؤلاء وتقبلون أخبارهم ومهم مبتدعة عندكم ثم لا تقبلون خبر الصاحب ابن عباد لأنه مبتدع؟!!؟ فيلزمكم قبول خبره إذا كان صدوقا، وقد اتفقت كلمة المنصفين من أهل التأريخ على فضله وجلالة قدره في الآداب والعلوم، واعتبروا ما يضاد ذلك مكذوبا عليه، ومن شاء رجع إلى ترجمته في "التدوين" للإمام الرافعي.
مقدمة الخبر الرابع :
لا بد لهذا الخبر من مقدمة تتعلق بالتعريف برجل مهم، ربطته بالشافعي علاقة حميمة وطيدة في الحجاز في مجالس الأئمة كإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وفي مصر عندما هاجر إليها الشافعي، هذا الرجل هو الإمام الزاهد الصوفي العارف بالله إدريس بن يحيى الخولاني.
ويقال للجهال الطاعنين في السادة الصوفية بما نقلوه عن الإمام الشافعي وجهلوا صحيحه من سقيمه، ولم يعرفوا تأويل ما صح منه، يقال لهم:
لو صح تنزلا أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قد قصد الطعن في الصوفية من أهل عصره لم يجز لكم الأخذ بذلك، لما تقرر من وجوب رد كلام الأقران بعضهم في بعض، ومن أحسن الناس كلاما في هذه المسألة الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتابه الجليل "جامع بيان العلم وفضله" فقد عقد فصلا في ذلك سماه (باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض) ونحن نلخص لك ما ذكره:
أسند رحمه الله الخبر المرفوع (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء ..)
وأسند إلى ابن عباس قوله : (استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض ..)
وقوله: (خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون ..)
وأسند إلى مالك بن دينار قوله : (يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض ..)
ثم قال ابن عبد البر كلاما ننقله لك بحروفه لنفاسته:
((.. هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت أمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والاتقان روايته فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه.
والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد كما قال ابن عباس ومالك بن دينار وابن حازم ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان ولا حجة توجبه ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقاة السادة بعضهم في بعض ما لا يجب أن يلتفت فيهم إليه ولا يخرج عليهم ما يوضح لك صحة ما ذكرنا وبالله التوفيق ..)) اهـ
ثم ذكر ابن عبد البر جماعة من أئمة السلف تكلم بعضهم في بعض من الصحابة والتابعين وتابعيهم وطول في ذلك، وقد كرهنا نشر ذلك وتفصيله هنا، فمن شاء الوقوف على التفصيل راجع كتابه في الباب المذكور ثم قال ابن عبد البر:
(( فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الاثبات بعضهم في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بعضهم في بعض فإن فعل ذلك ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة وفي الشعبي والنخعي وأهل الحجاز وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة وفي مالك والشافعي وسائر من ذكرنا في هذا الباب ما ذكرنا عن بعضهم في بعض، فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده فليقف عند ما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون وكان خيره غالبا، وشره أقلّ عملِه، فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله .. )) اهـ.
وقد دار علماء الحديث على كلام ابن عبد البر هذا وجعلوه من قواعد مصطلح الحديث التي يلزم طالب علم الحديث معرفتها ليتخلص من القول بجهل في أهل العلم.
وقد تكلم الإمام تقي الدين بن دقيق العيد على هذا في كتابه الاقتراح ـ وذكر الصوفية ـ فقال في كلامه على الجرح:
((وهذا الباب تدخل فيه الآفة من وجوه : ))
فذكر وجهين ثم قال:
((وثالثها : الاختلافُ الواقع بين المتصوِّفة وأصحاب العلوم الظاهرة .
فقد وقع بينهم تنافر، أوجب كلام بعضهم في بعض . وهذا غَمْرَةٌ لا يخلصُ / منها إلاَّ العالم الوافِر بقواعد الشريعة .
ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع ( المذهبية ) ، فإنَّ كثيراً من أحوال ( المُحِقِّين ) من الصوفية لا يَفي بتمييز حقِّه من باطله علم الفروع ، بل لا بُدَّ مع ذلك من معرفة القواعد الأصولية ، والتمييز بين الواجب ، والجائز ، والمستحيل العقلي ، والمستحيل العادي فقد يكون المتميِّز في الفقه جاهلاً بذلك ، حتى يَعُدَ المُستحيلَ عادة مستحيلاً عقلاً.
وهذا المقام خطر شديد ، فإن القادح في المُحِقِّ من الصوفيَّة مُعَادٍ لأولياء الله تعلى ، وقد قال ( سبحانه ) فيما أخبر عنه نبيّه صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ عَادى لي ولياً فقد بارزني بالمُحاربة ) .. ))اهـ المقصود منه.
ونقله عنه تلميذه الحافظ الذهبي في "الموقظة"، وقال الذهبي في "الميزان" : ((كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهل من ذلك سوى النبيين والصديقين فلو شئت سردت من ذلك كراريس )) انتهى
فهذه جملة من القول أطبق عليها أهل الحديث، فلهذا نقول بناء على هذه القاعدة وجريا على ما أصلوه :
إن ثبت قول الشافعي في الصوفية ـ وليس بثابت كما بينا ـ وأنه أراد الطعن فيهم والتجريح، فالواجب أن لا يقبل كلامه فيهم ولا كلامهم فيه من أجل المعاصرة والخصومة، فلا يحل أن يقبل قول الشافعي فيهم لأنهم أقرانه، وفي قبول الجهال قول الشافعي في الصوفية فتح للباب الذي حذر منه ابن عبد البر وذكر سوء مغبته وشناعة مؤداه. فسقط بذلك ما تمسك به الجهال مما روي عن الشافعي في الطعن على الصوفية.
قد علم الخلق أجمعون أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قد استخلف قبيل موته الإمام الجليل يوسف بن يحيى القرشي أبو يعقوب البويطي المصري، وهو الغني عن التعريف والترجمة ولكننا نشير هنا ـ لمن لا يعلم ـ بترجمته من طبقات ابن قاضي شهبة لاختصارها إذ يقول:
((الفقيه أحد الأعلام من أصحاب الشافعي وأئمة الإسلام، قال الربيع: وكان له من الشافعي منزلة وكان الرجل ربما يسأله عن المسألة فيقول سل أبا يعقوب فإذا أجاب أخبره فيقول هو كما قال. وربما جاء إلى الشافعي رسول صاحب الشرطة فيوجه الشافعي أبا يعقوب البويطي ويقول هذا لساني. وخلف الشافعي في حلقته بعده، قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من أبي يعقوب، وليس أحد من أصحابي أعلم منه، وقال النووي في مقدمة شرح المهذب: إن أبا يعقوب البويطي أجل من المزني والربيع المرادي. وقال الحاكم سمعت أبا العباس الأصم يقول: رأيت في المنام أبي فقال: لي عليك بكتاب البويطي فليس في كتب الشافعي كتاب أقل خطأ منه. كان يصوم ويقرأ القرآن لا يكاد يمر يوم وليلة إلا ختم مع صنائع المعروف إلى الناس. وقال ابن أبي الجارود: كان البويطي جاري فإن انتبهت ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي. مات ببغداد في السجن والقيد في المحنة في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقال ابن يونس سنة اثنتين وثلاثين )) اهـ.
فإذا عرفتم منزلة أبي يعقوب البويطي من الشافعي، وأنه خليفته من بعده، وإذا عرفتم أن أبا يعقوب أبى أن يوافق المبتدعة في القول بخلق القرآن حتى حملوه مقيدا وحبس في بغداد حتى مات رضي الله عنه، فإذا علمتم منزلة هذا الإمام فاعلموا مع ذلك أن أبا يعقوب هذا قد رشح الإمام عيسى بن المنكدر المالكي الصوفي للقضاء:
قال الكندي في أخبار قضاة مصر 327 :
((أخبرني علي بن أحمد بن محمد بن سلامة عن أبيه عن يحيى بن عثمان عن البويطي قال .. : أنا أذكر للأمير ستة يجعل هذا الأمر فيمن رآه منهم، قال من هم؟ قلت : عبد الله بن عبد الحكم، قال ومن؟ قلت سعيد بن هاشم، قال ومن؟ قلت عيسى بن المنكدر ..)) اهـ المقصود منه.
وعلي بن أحمد بن محمد بن سلامة هو الفقيه الورع ابن الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي الشهير صاحب متن العقيدة الطحاوية.
وأبوه غني عن التعريف وقد تابعه ابن قديد عند ابن يونس.
ويحيى بن عثمان هو ابن صالح وقد تقدم ذكره.
فهذا إسناد حسن.
وذكر الحافظان المزي في تهذيب الكمال والذهبي في النبلاء وتاريخ الإسلام طرفا من قصة البويطي هذه من طريق ابن يونس في ترجمة أصبغ بن الفرج.
وذكرها بتمامها جازما الحافظ ابن حجر في رفع الإصر.
وقد استجاب الأمير لترشيخ البويطي وولي ابن المنكدر قضاء مصر برضى شيوخ مصر كلهم.
فهذا الإمام البويطي خليفة الشافعي الثاني والتقي الورع الذي مات لئلا ينطق بخلق القرآن قد رشح صوفيا كان على خصومة مع الشافعي رشحه لقضاء مصر. ورضي بهذا شيوخ مصر وعلماؤها ! فعلى قول أهل الجهالة يكون البويطي وعلماء مصر قد رشحوا ضالا مضلا أو زنديقا لقضاء مصر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعلى قول أهل الحق والفهم أنه رشح رجلا صالحا تقيا ورعا عالما يصلح للقضاء، وهذا الذي ينبغي أن يقول به أهل العلم والعقل لا ذاك.
فهذا الإمام الشافعي يصحب الصوفية عشر سنين ويطلب منهم الدعاء، وهذا البويطي يرشح شيخهم لمنصب القضاء، فماذا بعد الحق إلا الضلال والمراء؟؟ والحمد لله رب العالمين.
لا بد لهذا الخبر من مقدمة تتعلق بالتعريف برجل مهم، ربطته بالشافعي علاقة حميمة وطيدة في الحجاز في مجالس الأئمة كإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وفي مصر عندما هاجر إليها الشافعي، هذا الرجل هو الإمام الزاهد الصوفي العارف بالله إدريس بن يحيى الخولاني.
العارف بالله زاهد مصر وصوفيها
أبو عمرو إدريس بن يحيى المعافري الأصل
الخولاني الدار، الزاهد المالكي الصوفي المصري
الصدوق الثقة المتوفى سنة 211هـ
أبو عمرو إدريس بن يحيى المعافري الأصل
الخولاني الدار، الزاهد المالكي الصوفي المصري
الصدوق الثقة المتوفى سنة 211هـ
هذا العارف ترجم له الحافظ الكبير الصوفي أبو نعيم الأصبهاني في طبقات الصوفية من كتابه "حلية الأولياء" فقال (8 / 319):
((ومنهم العاقل الرباني إدريس بن يحيى الخولاني.
حدثنا محمد بن علي ثنا أحمد بن علي بن أبي الصقر بمصر قال سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: ما رأيت في الصوفية عاقلا إلا إدريس الخولاني.
حدثنا علي بن هارون ثنا موسى بن هارون الحافظ قال سمعت ابن زنجوية فيما أرى يذكر أن إدريس بن يحيى الخولاني كان بمصر كبشر بن الحارث عندنا ببغداد قال موسى ولا أظنهم كانوا يقدمون عليه أحدا .. )) اهـ.
فأبو نعيم يعده من الصوفية ويذكر في الدلالة على تصوفه روايتين الأولى منهما أصرح شيء في ذلك، وهذان السندان صحيحان على طريقة أكثر أهل الحديث، وإليك بيان ذلك:
رجال السند الأول:
أما (محمد بن علي) فهو الحافظ والمحدث الكبير الجوال مسند وقته: محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم أبو بكر ابن المقرئ، وقد أكثر عنه الحفاظ أبو نعيم فتارة يقول محمد بن علي فينسبه جده وتارة يقول محمد بن علي بن عاصم وتارة محمد بن إبراهيم بن علي يلون اسمه وهو هو ابن المقرئ.
وشيخه (أحمد بن علي بن أبي الصقر) صوابه ابن أبي الصغير، وهو أبو علي أحمد بن علي بن الحسن بن شعيب بن أبي الصغير ـ واسمه زياد ـ الصغيري المدائني المصري حدث عنه الحفاظ منهم ابن عدي واعتمده كثيرا واعتمده في الجرح والتعديل ورورى عنه ابن حبان خرج له ابن حبان في صحيحه فهو ثقة عنده، ذكره الذهبي في الميزان قال:
((أحمد بن علي بن الحسين المدائني حدث عن محمد بن البرقي بتاريخه قال بن يونس لم يكن بذاك انتهى )) اهـ وهذا الكلام من الذهبي فيه اختصار مخل وقد كمله الحافظ.
قال الحافظ في لسان الميزان:
((وبقية كلام بن يونس وكان ذا دعابة وكان جوادا كريما حسن الحفظ مات في ربيع الأول سنة سبع وعشرين وثلاث مائة.
وقال مسلمة بن قاسم: يكنى أبا علي ويعرف بابن الحسين بن أبي الصغير واسم جد أبيه شعيب بن زياد وكان أحمد بن علي عيارا من الشطار كثير المجون ولا نحب أن يكتب مثله شيء مات في صفر سنة سبع وعشرين وثلاث ومائة.
وقال بن حبان في صحيحه أخبرنا أحمد بن الحسين بن أبي الصغير بمصر ثنا إبراهيم بن سعيد حديثا فكأنه نسبه إلى جده ومقتضاه أنه ثقة.
قلت وذكر عبد الغني في المشتبه أنه حدث عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي بكتاب التاريخ وروى هو أيضا عن يونس بن عبد الأعلى والمزني ويزيد بن سنان والربيع وبكار وبحر بن نصر وغيرهم وروى عنه أيضا بن المقرئ وأبو الشيخ وأبو الحسين بن المظفر والطبراني وآخرون )) اهـ.
فالرجل ثقة وإنما عابوا عليه الدعابة فقط.
وشيخه (يونس بن عبد الأعلى) ثقة إمام حافظ، فثبت بذلك أن إدريس بن يحيى صوفي.
رجال السند الثاني:
أما (علي بن هارون) فهو ابن محمد بن أحمد أبو الحسن الحربي السمسار تلميذ موسى بن هارون الحمال الحافظ وشيخ أبي نعيم الأصفهاني، ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد وقال: "وكان صالح الأمر إن شاء الله".
وأما (موسى بن هارون) فهو الحمال الحافظ الثقة المشهور.
وأما (ابن زنجويه) فهو محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادى ، أبو بكر الغزال جار أحمد بن حنبل وصاحبه، وهو حافظ ثقة.
فثبت أن إدريس بن يحيى عند أهل مصر كبشر بن الحارث الحافي في العراق، وهو كبير صوفية مصر.
قال الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي عن إدريس بن يحيى كما في "الجرح والتعديل" :
((نا الفضل بن يعقوب الرخامي نا إدريس بن يحيى الخولاني ـ وكان يقال إنه من الابدال ـ وروى عنه أبو الربيع بن أخى رشدين.
سئل أبو زرعة عنه فقال: رجل صالح من أفاضل المسلمين.
قال أبو محمد: وهو صدوق))اهـ.
قال الفقير الأزهري: أبو زرعة وأبو حاتم إمامان في هذا الشأن ثقتان، والفضل بن يعقوب الرخامي هذا الذي ذكر أن إدريس بن يحيى من الأبدال هو الثقة الحافظ أحد شيوخ البخاري.
وقال الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي :
((أنا علي بن أحمد بن ابراهيم البزاز بالبصرة نا الحسن بن محمد ابن عثمان الفسوي نا يعقوب بن سفيان قال ذاكرني زيد بن بشر .. فأخبرني أبو عمرو إدريس بن يحيى الخولاني وكنا نقول انه من الأبدال بل كان كذلك))
وقال عنه الحافظ محمد بن طاهر المقدسي ابن القيسراني في "أطراف الغرائب والأفراد" (4 / 45) : ((كان من عباد أهل مصر))
وعلى هذا وبناء عليه ترجمه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء قائلا (10 / 165) :
((إدريس بن يحيى الإمام القدوة الزاهد، شيخ مصر، أبو عمرو الأموي مولاهم المصري، المعروف بالخولاني، أحد الأبدال، كان يشبه ببشر الحافي في فضله وتألهه.
روى عن: حيوة بن شريح، ورجاء بن أبي عطاء، وبكر بن مضر وحرملة الكبير.
وعنه: أبو الطاهر بن السرح، ويونس بن عبد الأعلى، وسعيد بن أسد بن موسى، وحرملة بن يحيى.
قال يونس: ما رأيت في الصوفية عاقلا سواه.
وقال أبو عمر الكندي: كان أفضل أهل زمانه، وأعظمهم قدرا.
وقال أبو زرعة: صدوق صالح من أفاضل المسلمين.
قلت: وصحح له الحاكم.
توفي سنة إحدى عشرة ومئتين))اهـ.
إذا تقرر هذا وأن ابا عمرو إدريس بن يحيى الخولاني المصري الزاهد كان شيخ الصوفية في مصر فاعلم أيضا أنه كان مالكي المذهب أخذ عن الإمام مالك، وعند مالك نرجح أن يكون اجتماع الشافعي به أول مرة.
قال الإمام القاضي عياض في "ترتيب المدارك" في تراجم علماء المالكية :
((أبو عمر [قال الأزهري: الصواب أبو عمرو] إدريس بن يحيى مولى بني أمية يعرف بالخولاني. من أصحاب مالك توفي في أول سنة إحدى عشرة ومائتين وغلبت عليه العبادة)) اهـ.
إذا ثبت هذا فنتكلم على القصة التي جرت بينه وبين الشافعي.
((ومنهم العاقل الرباني إدريس بن يحيى الخولاني.
حدثنا محمد بن علي ثنا أحمد بن علي بن أبي الصقر بمصر قال سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: ما رأيت في الصوفية عاقلا إلا إدريس الخولاني.
حدثنا علي بن هارون ثنا موسى بن هارون الحافظ قال سمعت ابن زنجوية فيما أرى يذكر أن إدريس بن يحيى الخولاني كان بمصر كبشر بن الحارث عندنا ببغداد قال موسى ولا أظنهم كانوا يقدمون عليه أحدا .. )) اهـ.
فأبو نعيم يعده من الصوفية ويذكر في الدلالة على تصوفه روايتين الأولى منهما أصرح شيء في ذلك، وهذان السندان صحيحان على طريقة أكثر أهل الحديث، وإليك بيان ذلك:
رجال السند الأول:
أما (محمد بن علي) فهو الحافظ والمحدث الكبير الجوال مسند وقته: محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم أبو بكر ابن المقرئ، وقد أكثر عنه الحفاظ أبو نعيم فتارة يقول محمد بن علي فينسبه جده وتارة يقول محمد بن علي بن عاصم وتارة محمد بن إبراهيم بن علي يلون اسمه وهو هو ابن المقرئ.
وشيخه (أحمد بن علي بن أبي الصقر) صوابه ابن أبي الصغير، وهو أبو علي أحمد بن علي بن الحسن بن شعيب بن أبي الصغير ـ واسمه زياد ـ الصغيري المدائني المصري حدث عنه الحفاظ منهم ابن عدي واعتمده كثيرا واعتمده في الجرح والتعديل ورورى عنه ابن حبان خرج له ابن حبان في صحيحه فهو ثقة عنده، ذكره الذهبي في الميزان قال:
((أحمد بن علي بن الحسين المدائني حدث عن محمد بن البرقي بتاريخه قال بن يونس لم يكن بذاك انتهى )) اهـ وهذا الكلام من الذهبي فيه اختصار مخل وقد كمله الحافظ.
قال الحافظ في لسان الميزان:
((وبقية كلام بن يونس وكان ذا دعابة وكان جوادا كريما حسن الحفظ مات في ربيع الأول سنة سبع وعشرين وثلاث مائة.
وقال مسلمة بن قاسم: يكنى أبا علي ويعرف بابن الحسين بن أبي الصغير واسم جد أبيه شعيب بن زياد وكان أحمد بن علي عيارا من الشطار كثير المجون ولا نحب أن يكتب مثله شيء مات في صفر سنة سبع وعشرين وثلاث ومائة.
وقال بن حبان في صحيحه أخبرنا أحمد بن الحسين بن أبي الصغير بمصر ثنا إبراهيم بن سعيد حديثا فكأنه نسبه إلى جده ومقتضاه أنه ثقة.
قلت وذكر عبد الغني في المشتبه أنه حدث عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي بكتاب التاريخ وروى هو أيضا عن يونس بن عبد الأعلى والمزني ويزيد بن سنان والربيع وبكار وبحر بن نصر وغيرهم وروى عنه أيضا بن المقرئ وأبو الشيخ وأبو الحسين بن المظفر والطبراني وآخرون )) اهـ.
فالرجل ثقة وإنما عابوا عليه الدعابة فقط.
وشيخه (يونس بن عبد الأعلى) ثقة إمام حافظ، فثبت بذلك أن إدريس بن يحيى صوفي.
رجال السند الثاني:
أما (علي بن هارون) فهو ابن محمد بن أحمد أبو الحسن الحربي السمسار تلميذ موسى بن هارون الحمال الحافظ وشيخ أبي نعيم الأصفهاني، ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد وقال: "وكان صالح الأمر إن شاء الله".
وأما (موسى بن هارون) فهو الحمال الحافظ الثقة المشهور.
وأما (ابن زنجويه) فهو محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادى ، أبو بكر الغزال جار أحمد بن حنبل وصاحبه، وهو حافظ ثقة.
فثبت أن إدريس بن يحيى عند أهل مصر كبشر بن الحارث الحافي في العراق، وهو كبير صوفية مصر.
قال الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي عن إدريس بن يحيى كما في "الجرح والتعديل" :
((نا الفضل بن يعقوب الرخامي نا إدريس بن يحيى الخولاني ـ وكان يقال إنه من الابدال ـ وروى عنه أبو الربيع بن أخى رشدين.
سئل أبو زرعة عنه فقال: رجل صالح من أفاضل المسلمين.
قال أبو محمد: وهو صدوق))اهـ.
قال الفقير الأزهري: أبو زرعة وأبو حاتم إمامان في هذا الشأن ثقتان، والفضل بن يعقوب الرخامي هذا الذي ذكر أن إدريس بن يحيى من الأبدال هو الثقة الحافظ أحد شيوخ البخاري.
وقال الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي :
((أنا علي بن أحمد بن ابراهيم البزاز بالبصرة نا الحسن بن محمد ابن عثمان الفسوي نا يعقوب بن سفيان قال ذاكرني زيد بن بشر .. فأخبرني أبو عمرو إدريس بن يحيى الخولاني وكنا نقول انه من الأبدال بل كان كذلك))
وقال عنه الحافظ محمد بن طاهر المقدسي ابن القيسراني في "أطراف الغرائب والأفراد" (4 / 45) : ((كان من عباد أهل مصر))
وعلى هذا وبناء عليه ترجمه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء قائلا (10 / 165) :
((إدريس بن يحيى الإمام القدوة الزاهد، شيخ مصر، أبو عمرو الأموي مولاهم المصري، المعروف بالخولاني، أحد الأبدال، كان يشبه ببشر الحافي في فضله وتألهه.
روى عن: حيوة بن شريح، ورجاء بن أبي عطاء، وبكر بن مضر وحرملة الكبير.
وعنه: أبو الطاهر بن السرح، ويونس بن عبد الأعلى، وسعيد بن أسد بن موسى، وحرملة بن يحيى.
قال يونس: ما رأيت في الصوفية عاقلا سواه.
وقال أبو عمر الكندي: كان أفضل أهل زمانه، وأعظمهم قدرا.
وقال أبو زرعة: صدوق صالح من أفاضل المسلمين.
قلت: وصحح له الحاكم.
توفي سنة إحدى عشرة ومئتين))اهـ.
إذا تقرر هذا وأن ابا عمرو إدريس بن يحيى الخولاني المصري الزاهد كان شيخ الصوفية في مصر فاعلم أيضا أنه كان مالكي المذهب أخذ عن الإمام مالك، وعند مالك نرجح أن يكون اجتماع الشافعي به أول مرة.
قال الإمام القاضي عياض في "ترتيب المدارك" في تراجم علماء المالكية :
((أبو عمر [قال الأزهري: الصواب أبو عمرو] إدريس بن يحيى مولى بني أمية يعرف بالخولاني. من أصحاب مالك توفي في أول سنة إحدى عشرة ومائتين وغلبت عليه العبادة)) اهـ.
إذا ثبت هذا فنتكلم على القصة التي جرت بينه وبين الشافعي.
الخبر الرابع: (الخولاني يرشد الشافعي، والشافعي يسأله الدعاء)
أخرج الحافظ أبو نعيم الإصفهاني في حلية الأولياء - (9 / 135) قال:
((حدثنا محمد بن المظفر ثنا أبو الحديد عبدالوهاب بن سعد حدثني عباس بن محمد المصري ثنا أبو الربيع سليمان بن داود قال كان الشافعي إذا حدث كأنما يقرأسورة من القرآن وكان فصيحا فمرض مرضا شديدا فقال اللهم إن كان هذا لك رضي فزد فبلغ ذلك إدريس بن يحيى الخولاني فبعث إليه يا أبا عبدالله لست أنا ولا أنت من رجال البلاء قال فبعث إليه يا أبا عمرو ادع الله لي بالعافية )) اهـ.
أسناد هذا الخبر:
أما (محمد بن المظفر) فهو ابن موسى بن عيسى أبو الحسين الحافظ الكبير المجمع على توثيقه.
وأما (أبو الحديد عبد الوهاب بن سعد) فهو محدث مصر روى عنه الدارقطني وذكره بالشهرة وكثرة الكتابة، ووثقه ابن ماكولا قائلا: "من الثقات المجودين، مصرى كثير، الكتاب والرواية مشهور بالجمع" اهـ.
تنبيه: تحرفت كنيته إلى (أبي الشريد) في جمهرة الأجزاء الحديثية، وإلى (أبي الخليل) في معجم ابن المقرئ، والصواب أبو الحديد.
وأما (العباس بن محمد) فهو ابن العباس المصري، اعتمد عليه الحافظ ابن عدي كثيرا في الرواية والجرح والتعديل، وصحح له الحاكم ووافقه الذهبي.
وأما (أبو الربيع) فهو سليمان بن داود بن حماد بن سعد المهرى ، أبو الربيع المصرى الفقيه المالكي الثبت، مجمع على فضله.
فالإسناد صحيح.
وقد أخرج هذه الرواية الحافظ البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/159) من طريق أبي الحديد قال :
((أخبرنا محمد بن الحسين الصوفي قال أخبرنا علي بن عمر الحافظ ببغداد قال حدثني إبراهيم بن محمد بن إبراهيم قال حدثنا أبو الحديد عبد الوهاب ...)) اهـ وساق باقي الرواية فهي متابعة جيدة .
وسندها جيد، فمحمد بن الحسين هو أبو عبد الرحمن السلمي الحافظ المشهور، وأما علي بن عمر فهو الحافظ الدارقطني، وأما شيخه إبراهيم بن محمد بن إبراهيم فهو أبو إسحق الرعيني المصري حدث عنه الحفاظ كالدارقطني واعتمد على روايته ووصفه الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي بالعدل الرضا، وذكره صاحب الأزدي يحيى ابن الطحان في "تاريخ علماء أهل مصر" قال: "إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الرعيني المعدل أبو إسحق، سمعت منه، توفي في صفر سنة خمس وستين وثلاثمائة" اهـ.
طريق ثان لهذه الحكاية:
أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/159) قال:
((وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت علي بن عمر الحافظ يقول سمعت أبا بكر النيسابوري يقول : سمعت الربيع بن سليمان يقول : كان الشافعي يختم في كل شهر ثلاثين ختمة وفي شهر رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة.
قال وكان يحدث وطست [تحته] فقال يوما: اللهم إن كان لك فيه رضى فزد، قال فبعث إليه إدريس بن يحيى المعافري: لست من رجال البلاء، فسل الله العافية)) اهـ.
إسناده صحيح مسلسل بالحفاظ.
السلمي وعلي بن عمر الدارقطني حافظان تقدم ذكرهما، وأبو بكر النيسابوري هو الحافظ الكبير محمد بن عبد الله بن زياد النيسابوري مشهور مترجم بكل جميل.
ومن طريق الحافظ البيهقي أخرجه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق (51 / 393) قال : أخبرنا أبو المعالي الفارسي أنبأنا أبو بكر البيهقي . وأبو المعالي الفارسي إمام ثقة.
ونقل القصة الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء - (10 / 83)
طريق ثالث لبعض هذه الرواية:
أخرجه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي ومناقبة" (ص63) قال:
((أخبرني أبي، حدثنا حرملة، قال: سمعت الشافعي، أو قال لي: " اذهب إلى إدريس بن يحيى العابد، وقل له: يدعو الله لي ")) اهـ.
وابن أبي حاتم عبد الرحمن وأبوه محمد بن إدريس الرازي حافظان كبيران مشهوران، وحرملة هو ابن يحيى الفقيه تلميذ الشافعي، صدوق من أوعية العلم وهو من رجال صحيح مسلم.
ومن طريق ابن أبي حاتم أخرجها البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/160) قال:
((أخبرنا محمد بن عبد الله الحفاظ قال أخبرني الحسين بن علي قال أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثني أبي ..)) اهـ.
وهذا إسناد مسلسل بالحفاظ أيضا، والحسين بن علي هنا هو الحافظ الإمام النبيل أبو أحمد الحسين بن علي بن محمد بن يحيى التميمي النيسابوري الملقب بحسينك، واسطة الحاكم النيسابوري إلى كتب ابن أبي حاتم، وترجمته مبثوثة.
فببعض هذه الطرق ثبتت القصة وحصلت الثقة بها فكيف بمجموعها؟
وقد وصلت هذه الحكاية إلى العارف الزاهد الصوفي محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب المتوفى سنة 386هـ فأشار إليها في القوت في موضعين قال في أحدهما(2 / 47):
((وقد حكي أنّ الشافعي مرض مرضة شديدة بمصر فكان يقول : اللّهم ، إن كان في هذا رضاك فزدني منه ، فكتب إليه بعض العلماء وهو إدريس بن يحيي المعافري ، يا أبا عبد اللّه ، لست من رجال البلاء فسل اللّه العافية ، فرجع عن قوله هذا واستغفر منه ، فبعد هذا واللّّه أعلم ، لعلّه ما حكي عنه أنه كان يقول في دعائه : اللّهم إجعل خيرتي فيما أحببت)) اهـ.
تنبيه: ذكر هذه القصة الإمام عبد الوهاب الشعراني في العهود المحمدية فوقع عنده خطأ: مسلم بن خالد الزنجي بدلا من إدريس بن يحيى الخولاني، وهو خطأ ظاهر.
معنى القصة والشاهد فيها:
كان الإمام الشافعي رضي الله عنه قد أصيب بالبواسير حتى كان الدم يسيل منه، فاستعان بطست يضعه تحته، فقال كلمته (اللهم إن كان هذا لك رضي فزد) يعني فزدني من هذا البلاء ! فبلغ هذا الكلام إلى العارف بالله إدريس بن يحيى الصوفي فأرسل إلى الشافعي يقول له: ( يا أبا عبد الله لست أنا ولا أنت من رجال البلاء فسل الله العافية) فجمع إدريس في هذه الكلمة فهما عظيما، وهو أن رجال البلاء ـ هم الأنبياء ـ كما فسره بعض السلف، ولا يحتمل البلاء إلا من كان منهم من أهل العصمة، ومع هذا فقد سألوا الله العافية، وأما من لم يكن من الأنبياء فربما افتتن إذا زاد عليه البلاء ولا يصبر، وهنا انتبه الإمام الشافعي إلى قصد العارف بالله إدريس بن يحيى، وتذكر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما كان قد غاب عنه تلك الساعة من الأحاديث والآثار المرغبة في طلب العافية التي منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا) فلما انتبه الإمام الشافعي لهذا وتذكر رجع عن دعوته وصار يسأل الله العافية، وتوسل إلى الله بطلب دعاء العارف بالله إدريس بن يحيى الخولاني (فبعث إليه يا أبا عمرو ادع الله لي بالعافية).
فهذا ثابت صحيح عن الشافعي، وهو أصح شيء روي عن الشافعي في شأن صوفي، فما بال المخالفين يتركون هذا الصحيح الثابت إلى الباطل الضعيف؟؟ وإذا صح وثبت أن الإمام الشافعي طلب من هذا الصوفي الدعاء فهذه شهادة جليلة القدر غالية الثمن تصدر من إمام عظيم من طراز الشافعي في شأن إدريس نفسه وهي شهادة في حق التصوف أنه قد يكون سلوكا وهديا إسلاميا رفيعا يوصل صاحبه إلى درجات الكمال والصلاح والتقوى، فأين المتعصبون الظانون أن التصوف مساو للبدعة أين هم من هذا الخبر الصحيح المروي بأسانيد هي أثبت مائة مرة من الضعيف الذي اعتمدوا عليه للطعن في كل صوفي وأرادوا السلف من الصوفية على الخصوص، وجهلوا تأويل الأخبار، نسأل الله العافية ونعوذ بالله من الوقيعة في أولياء الله تعالى، فهذا هو مسلك الشافعية من بعد الإمام الشافعي، والتصوف الجنيدي الذي يتبناه أهل السنة والجماعة إنما هو مأخوذ عن مثل سالم الخواص وإدريس الخولاني وهذه الطبقة، نسأل الله العفو والعافية.
أخرج الحافظ أبو نعيم الإصفهاني في حلية الأولياء - (9 / 135) قال:
((حدثنا محمد بن المظفر ثنا أبو الحديد عبدالوهاب بن سعد حدثني عباس بن محمد المصري ثنا أبو الربيع سليمان بن داود قال كان الشافعي إذا حدث كأنما يقرأسورة من القرآن وكان فصيحا فمرض مرضا شديدا فقال اللهم إن كان هذا لك رضي فزد فبلغ ذلك إدريس بن يحيى الخولاني فبعث إليه يا أبا عبدالله لست أنا ولا أنت من رجال البلاء قال فبعث إليه يا أبا عمرو ادع الله لي بالعافية )) اهـ.
أسناد هذا الخبر:
أما (محمد بن المظفر) فهو ابن موسى بن عيسى أبو الحسين الحافظ الكبير المجمع على توثيقه.
وأما (أبو الحديد عبد الوهاب بن سعد) فهو محدث مصر روى عنه الدارقطني وذكره بالشهرة وكثرة الكتابة، ووثقه ابن ماكولا قائلا: "من الثقات المجودين، مصرى كثير، الكتاب والرواية مشهور بالجمع" اهـ.
تنبيه: تحرفت كنيته إلى (أبي الشريد) في جمهرة الأجزاء الحديثية، وإلى (أبي الخليل) في معجم ابن المقرئ، والصواب أبو الحديد.
وأما (العباس بن محمد) فهو ابن العباس المصري، اعتمد عليه الحافظ ابن عدي كثيرا في الرواية والجرح والتعديل، وصحح له الحاكم ووافقه الذهبي.
وأما (أبو الربيع) فهو سليمان بن داود بن حماد بن سعد المهرى ، أبو الربيع المصرى الفقيه المالكي الثبت، مجمع على فضله.
فالإسناد صحيح.
وقد أخرج هذه الرواية الحافظ البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/159) من طريق أبي الحديد قال :
((أخبرنا محمد بن الحسين الصوفي قال أخبرنا علي بن عمر الحافظ ببغداد قال حدثني إبراهيم بن محمد بن إبراهيم قال حدثنا أبو الحديد عبد الوهاب ...)) اهـ وساق باقي الرواية فهي متابعة جيدة .
وسندها جيد، فمحمد بن الحسين هو أبو عبد الرحمن السلمي الحافظ المشهور، وأما علي بن عمر فهو الحافظ الدارقطني، وأما شيخه إبراهيم بن محمد بن إبراهيم فهو أبو إسحق الرعيني المصري حدث عنه الحفاظ كالدارقطني واعتمد على روايته ووصفه الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي بالعدل الرضا، وذكره صاحب الأزدي يحيى ابن الطحان في "تاريخ علماء أهل مصر" قال: "إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الرعيني المعدل أبو إسحق، سمعت منه، توفي في صفر سنة خمس وستين وثلاثمائة" اهـ.
طريق ثان لهذه الحكاية:
أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/159) قال:
((وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت علي بن عمر الحافظ يقول سمعت أبا بكر النيسابوري يقول : سمعت الربيع بن سليمان يقول : كان الشافعي يختم في كل شهر ثلاثين ختمة وفي شهر رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة.
قال وكان يحدث وطست [تحته] فقال يوما: اللهم إن كان لك فيه رضى فزد، قال فبعث إليه إدريس بن يحيى المعافري: لست من رجال البلاء، فسل الله العافية)) اهـ.
إسناده صحيح مسلسل بالحفاظ.
السلمي وعلي بن عمر الدارقطني حافظان تقدم ذكرهما، وأبو بكر النيسابوري هو الحافظ الكبير محمد بن عبد الله بن زياد النيسابوري مشهور مترجم بكل جميل.
ومن طريق الحافظ البيهقي أخرجه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق (51 / 393) قال : أخبرنا أبو المعالي الفارسي أنبأنا أبو بكر البيهقي . وأبو المعالي الفارسي إمام ثقة.
ونقل القصة الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء - (10 / 83)
طريق ثالث لبعض هذه الرواية:
أخرجه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي ومناقبة" (ص63) قال:
((أخبرني أبي، حدثنا حرملة، قال: سمعت الشافعي، أو قال لي: " اذهب إلى إدريس بن يحيى العابد، وقل له: يدعو الله لي ")) اهـ.
وابن أبي حاتم عبد الرحمن وأبوه محمد بن إدريس الرازي حافظان كبيران مشهوران، وحرملة هو ابن يحيى الفقيه تلميذ الشافعي، صدوق من أوعية العلم وهو من رجال صحيح مسلم.
ومن طريق ابن أبي حاتم أخرجها البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/160) قال:
((أخبرنا محمد بن عبد الله الحفاظ قال أخبرني الحسين بن علي قال أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثني أبي ..)) اهـ.
وهذا إسناد مسلسل بالحفاظ أيضا، والحسين بن علي هنا هو الحافظ الإمام النبيل أبو أحمد الحسين بن علي بن محمد بن يحيى التميمي النيسابوري الملقب بحسينك، واسطة الحاكم النيسابوري إلى كتب ابن أبي حاتم، وترجمته مبثوثة.
فببعض هذه الطرق ثبتت القصة وحصلت الثقة بها فكيف بمجموعها؟
وقد وصلت هذه الحكاية إلى العارف الزاهد الصوفي محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب المتوفى سنة 386هـ فأشار إليها في القوت في موضعين قال في أحدهما(2 / 47):
((وقد حكي أنّ الشافعي مرض مرضة شديدة بمصر فكان يقول : اللّهم ، إن كان في هذا رضاك فزدني منه ، فكتب إليه بعض العلماء وهو إدريس بن يحيي المعافري ، يا أبا عبد اللّه ، لست من رجال البلاء فسل اللّه العافية ، فرجع عن قوله هذا واستغفر منه ، فبعد هذا واللّّه أعلم ، لعلّه ما حكي عنه أنه كان يقول في دعائه : اللّهم إجعل خيرتي فيما أحببت)) اهـ.
تنبيه: ذكر هذه القصة الإمام عبد الوهاب الشعراني في العهود المحمدية فوقع عنده خطأ: مسلم بن خالد الزنجي بدلا من إدريس بن يحيى الخولاني، وهو خطأ ظاهر.
معنى القصة والشاهد فيها:
كان الإمام الشافعي رضي الله عنه قد أصيب بالبواسير حتى كان الدم يسيل منه، فاستعان بطست يضعه تحته، فقال كلمته (اللهم إن كان هذا لك رضي فزد) يعني فزدني من هذا البلاء ! فبلغ هذا الكلام إلى العارف بالله إدريس بن يحيى الصوفي فأرسل إلى الشافعي يقول له: ( يا أبا عبد الله لست أنا ولا أنت من رجال البلاء فسل الله العافية) فجمع إدريس في هذه الكلمة فهما عظيما، وهو أن رجال البلاء ـ هم الأنبياء ـ كما فسره بعض السلف، ولا يحتمل البلاء إلا من كان منهم من أهل العصمة، ومع هذا فقد سألوا الله العافية، وأما من لم يكن من الأنبياء فربما افتتن إذا زاد عليه البلاء ولا يصبر، وهنا انتبه الإمام الشافعي إلى قصد العارف بالله إدريس بن يحيى، وتذكر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما كان قد غاب عنه تلك الساعة من الأحاديث والآثار المرغبة في طلب العافية التي منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا) فلما انتبه الإمام الشافعي لهذا وتذكر رجع عن دعوته وصار يسأل الله العافية، وتوسل إلى الله بطلب دعاء العارف بالله إدريس بن يحيى الخولاني (فبعث إليه يا أبا عمرو ادع الله لي بالعافية).
فهذا ثابت صحيح عن الشافعي، وهو أصح شيء روي عن الشافعي في شأن صوفي، فما بال المخالفين يتركون هذا الصحيح الثابت إلى الباطل الضعيف؟؟ وإذا صح وثبت أن الإمام الشافعي طلب من هذا الصوفي الدعاء فهذه شهادة جليلة القدر غالية الثمن تصدر من إمام عظيم من طراز الشافعي في شأن إدريس نفسه وهي شهادة في حق التصوف أنه قد يكون سلوكا وهديا إسلاميا رفيعا يوصل صاحبه إلى درجات الكمال والصلاح والتقوى، فأين المتعصبون الظانون أن التصوف مساو للبدعة أين هم من هذا الخبر الصحيح المروي بأسانيد هي أثبت مائة مرة من الضعيف الذي اعتمدوا عليه للطعن في كل صوفي وأرادوا السلف من الصوفية على الخصوص، وجهلوا تأويل الأخبار، نسأل الله العافية ونعوذ بالله من الوقيعة في أولياء الله تعالى، فهذا هو مسلك الشافعية من بعد الإمام الشافعي، والتصوف الجنيدي الذي يتبناه أهل السنة والجماعة إنما هو مأخوذ عن مثل سالم الخواص وإدريس الخولاني وهذه الطبقة، نسأل الله العفو والعافية.
قاعدة جليلة نبه عليها الأئمة الأعلام
وغفل عنها الجهال في هذا المقام
وغفل عنها الجهال في هذا المقام
ويقال للجهال الطاعنين في السادة الصوفية بما نقلوه عن الإمام الشافعي وجهلوا صحيحه من سقيمه، ولم يعرفوا تأويل ما صح منه، يقال لهم:
لو صح تنزلا أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قد قصد الطعن في الصوفية من أهل عصره لم يجز لكم الأخذ بذلك، لما تقرر من وجوب رد كلام الأقران بعضهم في بعض، ومن أحسن الناس كلاما في هذه المسألة الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتابه الجليل "جامع بيان العلم وفضله" فقد عقد فصلا في ذلك سماه (باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض) ونحن نلخص لك ما ذكره:
أسند رحمه الله الخبر المرفوع (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء ..)
وأسند إلى ابن عباس قوله : (استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض ..)
وقوله: (خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون ..)
وأسند إلى مالك بن دينار قوله : (يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض ..)
ثم قال ابن عبد البر كلاما ننقله لك بحروفه لنفاسته:
((.. هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت أمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والاتقان روايته فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه.
والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد كما قال ابن عباس ومالك بن دينار وابن حازم ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان ولا حجة توجبه ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقاة السادة بعضهم في بعض ما لا يجب أن يلتفت فيهم إليه ولا يخرج عليهم ما يوضح لك صحة ما ذكرنا وبالله التوفيق ..)) اهـ
ثم ذكر ابن عبد البر جماعة من أئمة السلف تكلم بعضهم في بعض من الصحابة والتابعين وتابعيهم وطول في ذلك، وقد كرهنا نشر ذلك وتفصيله هنا، فمن شاء الوقوف على التفصيل راجع كتابه في الباب المذكور ثم قال ابن عبد البر:
(( فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الاثبات بعضهم في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بعضهم في بعض فإن فعل ذلك ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة وفي الشعبي والنخعي وأهل الحجاز وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة وفي مالك والشافعي وسائر من ذكرنا في هذا الباب ما ذكرنا عن بعضهم في بعض، فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده فليقف عند ما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون وكان خيره غالبا، وشره أقلّ عملِه، فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله .. )) اهـ.
وقد دار علماء الحديث على كلام ابن عبد البر هذا وجعلوه من قواعد مصطلح الحديث التي يلزم طالب علم الحديث معرفتها ليتخلص من القول بجهل في أهل العلم.
وقد تكلم الإمام تقي الدين بن دقيق العيد على هذا في كتابه الاقتراح ـ وذكر الصوفية ـ فقال في كلامه على الجرح:
((وهذا الباب تدخل فيه الآفة من وجوه : ))
فذكر وجهين ثم قال:
((وثالثها : الاختلافُ الواقع بين المتصوِّفة وأصحاب العلوم الظاهرة .
فقد وقع بينهم تنافر، أوجب كلام بعضهم في بعض . وهذا غَمْرَةٌ لا يخلصُ / منها إلاَّ العالم الوافِر بقواعد الشريعة .
ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع ( المذهبية ) ، فإنَّ كثيراً من أحوال ( المُحِقِّين ) من الصوفية لا يَفي بتمييز حقِّه من باطله علم الفروع ، بل لا بُدَّ مع ذلك من معرفة القواعد الأصولية ، والتمييز بين الواجب ، والجائز ، والمستحيل العقلي ، والمستحيل العادي فقد يكون المتميِّز في الفقه جاهلاً بذلك ، حتى يَعُدَ المُستحيلَ عادة مستحيلاً عقلاً.
وهذا المقام خطر شديد ، فإن القادح في المُحِقِّ من الصوفيَّة مُعَادٍ لأولياء الله تعلى ، وقد قال ( سبحانه ) فيما أخبر عنه نبيّه صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ عَادى لي ولياً فقد بارزني بالمُحاربة ) .. ))اهـ المقصود منه.
ونقله عنه تلميذه الحافظ الذهبي في "الموقظة"، وقال الذهبي في "الميزان" : ((كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهل من ذلك سوى النبيين والصديقين فلو شئت سردت من ذلك كراريس )) انتهى
فهذه جملة من القول أطبق عليها أهل الحديث، فلهذا نقول بناء على هذه القاعدة وجريا على ما أصلوه :
إن ثبت قول الشافعي في الصوفية ـ وليس بثابت كما بينا ـ وأنه أراد الطعن فيهم والتجريح، فالواجب أن لا يقبل كلامه فيهم ولا كلامهم فيه من أجل المعاصرة والخصومة، فلا يحل أن يقبل قول الشافعي فيهم لأنهم أقرانه، وفي قبول الجهال قول الشافعي في الصوفية فتح للباب الذي حذر منه ابن عبد البر وذكر سوء مغبته وشناعة مؤداه. فسقط بذلك ما تمسك به الجهال مما روي عن الشافعي في الطعن على الصوفية.
اعتراض وجوابه:
وجائز للمخالفين أن يقولوا :
لا نسلم أن كلام الشافعي في صوفية عصره من باب كلام الأقران بعضهم في بعض لأنكم لم تثبتوا أن ثم خصومة بينهم وبين الشافعي ليندرج كلام الشافعي عنهم في قاعدة كلام الأقران بعضهم في يعض، فما لم تثبتوا خصومة لا يتم لكم الاستدلال بهذه القاعدة.
فنقول جوابا على هذا الاعتراض:
بيان الخصومة التي كانت بين الشافعي وصوفية مصر وسببها:
أعلم أن الإمام الشافعي رضي الله عنه لما دخل مصر، كان عامة أهل مصر على قول أهل المدينة في الفقه، فلما اجتهد الإمام الشافعي في بعض المسائل وجاء فيها ما يخالف قول الإمام مالك رضي الله عنه سكت بعض علماء مصر من المالكية ورأوا أن الشافعي مجتهد وله أن يقول ما أداه إليه اجتهاده، وكره بعض أهل العلم منه ذلك ـ وكانوا من أقرانه ـ فشددوا ورأوا أنه ليس له أن يخالف أهل المدينة ومذهب مالك، وكانوا يرون أن ما خالف قول أهل المدينة فهو بدعة, فمن هنا نشأت الخصومة بين الشافعي وبين بعض أهل العلم من أصحاب مالك، وكان عامة الصوفية في مصر على مذهب الإمام مالك، وكانوا يشددون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان رئيسهم في عصر الشافعي القاضي أبو محمد عيسى بن محمد بن المنكدر، فالخصومة بينهم وبين الشافعي كان سببها المذهب وليس التصوف.
مصادر ترجمته في الجملة:
أخبار قضاة مصر للكندي 326، وأخبار القضاة لوكيع 3/240، والمرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا للنباهي 1/24، وترتيب المدارك للقاضي عياض 1/582، وفتوح مصر لعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم 226، وتاريخ الإسلام للذهبي، ونهاية الأرب للشهاب النويري 22/173، ورفع الإصر عن قضاة مصر للحافظ ابن حجر 1/294، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي، والتحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة، وتاج العروس من جواهر القاموس 14/415، وغيرها.
نسبه:
قال الحافظ في "رفع الإصر عن قضاة مصر" (1 / 294) :
((عيسى بن المُنْكَدِر بن محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن محرز بن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي المنكدري المدني الأصل ، نزيل مصر ، أبو محمد، ولد بقصر عمران بن النعمان المعافري بالفسطاط . وكانت ولايته من قبل عبد الله ابن طاهر لما أمره المأمون على مصر)) اهـ.
يشير الحافظ إلى ولايته القضاء، وهو تيمي من قبيلة أبي بكر الصديق ويتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم في النسب .. وهم آل بيت علم وصلاح.
آل بيت المنكدر:
وفي كتاب "نسب قريش" لأبي عبد الله مصعب الزبيري (8 / 295) قال:
(( وفي آل المنكدر صلاح وعلم ، منهم : محمد بن المنكدر ، وأبو بكر بن المنكدر ، وعمر بن المنكدر ، وكلهم يذكر بالصلاح والعبادة ، ويحمل عنه الحديث ..)) اهـ.
سيرته في القضاء:
قال الحافظ ابن حجر:
((وقال ابن يونس ومحمد بن محمد بن الأشعث : ذُكر عيسى بن المُنْكَدر عنده أبي شَرِيك المُراديّ فقيل كان لا يحسن القضاء ، فقال : معاذ الله ، بل كان رجلاً صالحاً . ولقد كانت فيه خصلة حسنة نافعة للمسلمين لما ولي القضاء جعل له صاحب مسائل يسال له عن الشهود ، ولم يقنع بذلك حتى يتنكَّر بالليل ويغطي رأسه ويمشي في السِكك يسأل عن الشهود . وقد رآه غير واحد من الثقات كذلك )) اهـ.
تصوفه وتعاهده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الصوفية:
قال محمد بن يوسف الكندي في "قضاة مصر" 330 :
((حدثني قيس بن حملة الغافقي قال حدثنا أبو قرة الرعيني قال :
كان عيسى بن المنكدر يتقرأ [قال الأزهري : أي يتعبد ويتنسك] وكانت له طائفة قد أحاطت به يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلما ولي القضاء كانت تأتيه وهو في مجلس حكمه فتقول : أيها القاضي ذهب الإسلام فُعِلَ كيت وكيت. فيترك مجلس الحكم ويمضي معهم، فكلمه إخوانه مثل ابن عبد الله الحكم وغيره فقال: لا بد من القيام لله عز وجل بحقوقه. ثم أتت تلك الطائفة فقالوا: إن أمير المؤمنين المأمون قد ولى أبا إسحق [قال الأزهري : هو المعتصم] بن الرشيد مصر وإنا نخافه ونخشى أن يشد على يد أهل العدوان فاكتب لنا كتابا إلى المأمون بأنك لا ترضى بولايته ففعل ذلك ابن المنكدر وبلغ الكتاب المأمون فأحضر أبا إسحق فقال: ما الذي فعلت في أهل مصر. فقال : ما فعلت فيهم شيئا. فقال: هذا قاضيهم يزعم أنه لا يرضى بولايتك عليهم. فقال : ما أسأت إلى واحد منهم ولأفعلن بابن المنكدر وأفعلن فعزله أبو إسحق)) اهـ.
قال الكندي أيضا :
((أخبرني ابن قديد عن أبي الرقراق قال :
كان سبب موجدة المعتصم على ابن المنكدر أن أصحابه الصوفية كلموه لما علموا أن ابن طاهر قد صُرِف عن مصر وصار الأمر إلى أبي إسحق، قالوا: ماذا نلقى من الفضل بن مسرون [قال الأزهري : صوابه الفضل بن مروان صار وزير المعتصم وكان ظالما شريرا] فسألوه الكتاب إلى المأمون بكراهية ولاية أبي إسحق فقال له ابن عبد الحكم: لا تفعل. فأبى وكتب إلى المأمون فدفع المأمون كتابه إلى أبي إسحق، فقال: والله ما سرت فيهم بسيرة أنكروها، فلما قدم أبو إسحق مصر عزله وحبسه ..)) اهـ.
قال وكيع في أخبار القضاة وابن عبد الحكم في فتوح مصر وغيرهما :
((كلمه فِيْهِ ابن أبي داود فأمره فوقف عَن الحكم ثم أشخص إِلَى العراق فمات)) اهـ
وابن أبي دؤاد هذا هو القاضي المعتزلي صاحب فتنة خلق القرآن.
قال القاضي عياض في ترتيب المدارك:
((قال سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم: لما ولي ابن المنكدر، وكانت حاشيته الصوفية، فكان إذا بلغ أبي أنه كان منه ما ينكره الناس بعث له أخي عبد الحكم ينهاه عن ذلك، ويأمره بما يراه. فبعث إليه مرة، فالتفت إلى أخي وقال: ما يظن أبوك إلا أنه أعتق المنكدر ! فأمسك عبد الله أن ينهاه عن شيء. وغلبت عليه الصوفية ..)) اهـ.
وقال الحافظ في رفع الإصر:
((وكان سبب عزله أنه كان بمصر جماعة من الصوفية وكانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . كان عيسى معهم . فلما ولي القضاء كانوا يأتونه فيقولون : جرى كذا وكذا فينهض معهم ، فإذا لامه إخوانه قال : لا بد من القيام بحق الله . فاتفق أن المأمون ولي أخاه أبا إسحاق إِمْرَة مصر فخافوا من سطوته ، فسألوا القاضي أن يكتب إلى المأمون أنهم لا يرضون بولاية أبي إسحاق . فأقرأه المأمون الكتاب فغضب وقال : لأفعلن بعيسى كذا وكذا ، وأمر بعزله ، فلما دخل مصر أمر بحبسه وحُبس ابن عبد الحكم لكونه من جهته فمات ، وأقام ابن المنكدر للناس فخاصموه وادعوا عليه دعاوي ، فاستمر محبوساً حتى خرج أبو إسحاق من مصر . وكان عزله في رمضان سنة أربع عشرة ، ثم أمر أبو إسحاق بإحضاره إلى العراق ، فاخرج في ذي القعدة سنة خمس عشرة فسجنه حتى مات هناك)) اهـ.
فرحم الله هذا الإمام الذي عزل عن القضاء ومات في سجن المعتصم بسبب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في زمن الفتنة الكبرى.
الخصومة بينه وبين الإمام الشافعي:
قال الكندي في قضاة مصر:
((حدثنا أبو سلمة أسامة قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: سمعت الشافعي يقول لعيسى بن المنكدر : اشكر الله وعائشة فهي جعلت لكم قرطين من ذهب)) اهـ. ونقله كذلك الحافظ في رفع الإصر.
ومعنى هذا الكلام من الشافعي ـ والله أعلم ـ تعيير لعيسى بن المنكدر أنه من قوم فقراء تصدقت عليهم أم المؤمنين عائشة.
قال الزبيري في "نسب قريش" عن جده المنكدر:
((وهم لأم ولد، كان المنكدر جاء إلى عائشة أم المؤمنين ؛ فشكا إليها الحاجة ؛ فقالت : " أي شيء يأتيني أبعث به إليك " . فجاءتها عشرة آلاف درهم ؛ فبعث بها إليه ؛ فاتخذ منها جارية ، فولدت له)) اهـ.
فأظن الشافعي يرمي إلى هذا المعنى.
قال الكندي :
((أخبرني ابن قديد عن يحيى بن عثمان أن عيسى بن المنكدر كان دخوله مصر قديما. قال يحيى فأخبرني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: سمعت ابن المنكدر يصيح بالشافعي، والشافعي يسمع : "يا كذا يا كذا ، دخلت هذه البلدة وأمرنا واحد، ورأينا واحد، ففرَّقت بيننا، وألقيت بيننا الشرّ، فرَّق الله بين روحك وجسمك)) اهـ.
هذا إسناد حسن، فابن قديد هو علي بن الحسن بن خلف بن قديد المصري أبو القاسم
قال الذهبي : "الإمام المحدث الثقة المسند".
ويحيى بن عثمان هو ابن صالح بن صفوان أبو زكريا السهمي المصري.
قال الذهبي : "العلامة، الحافظ، الاخباري" وفيه جرح غير مفسر.
قال الحافظ في التقريب: "صدوق رمى بالتشيع و لينه بعضهم لكونه حدث من غير أصله"
وذكره الذهبي فيمن تكلم فيه وهو موثق.
وقال القاضي عياض في ترتيب المدارك:
((قال ابن أخي ابن وهب: سمعت القاضي ابن المنكدر يصيح بالشافعي: يا كذا يا كذا، دخلت هذه البلدة وأمرنا ورأينا واحد، ففرّقت بيننا، ودعا عليه)) اهـ.
قال الحافظ في رفع الإصر بعد أن ذكر هذه القصة:
((وكان ذلك قبل أن يلي عيسى بن المنكدر، وأشار بالتفرقة إلى ما وقع من الاختلاف بين الشافعي وأهل مصر ، وكانوا لا يعرفون إلا رأي مالك ، فلما خالفه الشافعي وافقه جماعة كثيرة منهم فصار يقع بينهم الجدال والمنازعة . وإنما ولي عيسى القضاء بعد موت الشافعي بمدة طويلة )) اهـ.
قلت : ولي القضاء بعد موت الشافعي بسبع سنوات.
والخلاصة:
فهذا ما يدل على وقوع الخصومة من أجل المخالفة في المذهب بين هذين الإمامين الجليلين، الإمام القاضي أبي محمد عيسى بن المنكدر القرشي التيمي المالكي الصوفي وطائفته، والإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وقد بيناه من كلام أهل العلم، وإذا كان الأمر كذلك بينهما على ما وصفنا، صح أنه لا بد من تطبيق القاعدة التي تقدم ذكرها من وجوب ترك كلام بعض أهل العلم في بعضهم، وأنه من باب تناطح الأقران، والله الموفق للصواب.
وجائز للمخالفين أن يقولوا :
لا نسلم أن كلام الشافعي في صوفية عصره من باب كلام الأقران بعضهم في بعض لأنكم لم تثبتوا أن ثم خصومة بينهم وبين الشافعي ليندرج كلام الشافعي عنهم في قاعدة كلام الأقران بعضهم في يعض، فما لم تثبتوا خصومة لا يتم لكم الاستدلال بهذه القاعدة.
فنقول جوابا على هذا الاعتراض:
بيان الخصومة التي كانت بين الشافعي وصوفية مصر وسببها:
أعلم أن الإمام الشافعي رضي الله عنه لما دخل مصر، كان عامة أهل مصر على قول أهل المدينة في الفقه، فلما اجتهد الإمام الشافعي في بعض المسائل وجاء فيها ما يخالف قول الإمام مالك رضي الله عنه سكت بعض علماء مصر من المالكية ورأوا أن الشافعي مجتهد وله أن يقول ما أداه إليه اجتهاده، وكره بعض أهل العلم منه ذلك ـ وكانوا من أقرانه ـ فشددوا ورأوا أنه ليس له أن يخالف أهل المدينة ومذهب مالك، وكانوا يرون أن ما خالف قول أهل المدينة فهو بدعة, فمن هنا نشأت الخصومة بين الشافعي وبين بعض أهل العلم من أصحاب مالك، وكان عامة الصوفية في مصر على مذهب الإمام مالك، وكانوا يشددون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان رئيسهم في عصر الشافعي القاضي أبو محمد عيسى بن محمد بن المنكدر، فالخصومة بينهم وبين الشافعي كان سببها المذهب وليس التصوف.
الإمام القدوة الزاهد الناسك القاضي أبو محمد
عيسي بن محمد بن المنكدر القرشي
التيمي المدني الأصل ثم المصري
المالكي المتوفى سنة 215هـ
في سجن المعتصم
عيسي بن محمد بن المنكدر القرشي
التيمي المدني الأصل ثم المصري
المالكي المتوفى سنة 215هـ
في سجن المعتصم
مصادر ترجمته في الجملة:
أخبار قضاة مصر للكندي 326، وأخبار القضاة لوكيع 3/240، والمرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا للنباهي 1/24، وترتيب المدارك للقاضي عياض 1/582، وفتوح مصر لعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم 226، وتاريخ الإسلام للذهبي، ونهاية الأرب للشهاب النويري 22/173، ورفع الإصر عن قضاة مصر للحافظ ابن حجر 1/294، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي، والتحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة، وتاج العروس من جواهر القاموس 14/415، وغيرها.
نسبه:
قال الحافظ في "رفع الإصر عن قضاة مصر" (1 / 294) :
((عيسى بن المُنْكَدِر بن محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن محرز بن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي المنكدري المدني الأصل ، نزيل مصر ، أبو محمد، ولد بقصر عمران بن النعمان المعافري بالفسطاط . وكانت ولايته من قبل عبد الله ابن طاهر لما أمره المأمون على مصر)) اهـ.
يشير الحافظ إلى ولايته القضاء، وهو تيمي من قبيلة أبي بكر الصديق ويتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم في النسب .. وهم آل بيت علم وصلاح.
آل بيت المنكدر:
وفي كتاب "نسب قريش" لأبي عبد الله مصعب الزبيري (8 / 295) قال:
(( وفي آل المنكدر صلاح وعلم ، منهم : محمد بن المنكدر ، وأبو بكر بن المنكدر ، وعمر بن المنكدر ، وكلهم يذكر بالصلاح والعبادة ، ويحمل عنه الحديث ..)) اهـ.
سيرته في القضاء:
قال الحافظ ابن حجر:
((وقال ابن يونس ومحمد بن محمد بن الأشعث : ذُكر عيسى بن المُنْكَدر عنده أبي شَرِيك المُراديّ فقيل كان لا يحسن القضاء ، فقال : معاذ الله ، بل كان رجلاً صالحاً . ولقد كانت فيه خصلة حسنة نافعة للمسلمين لما ولي القضاء جعل له صاحب مسائل يسال له عن الشهود ، ولم يقنع بذلك حتى يتنكَّر بالليل ويغطي رأسه ويمشي في السِكك يسأل عن الشهود . وقد رآه غير واحد من الثقات كذلك )) اهـ.
تصوفه وتعاهده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الصوفية:
قال محمد بن يوسف الكندي في "قضاة مصر" 330 :
((حدثني قيس بن حملة الغافقي قال حدثنا أبو قرة الرعيني قال :
كان عيسى بن المنكدر يتقرأ [قال الأزهري : أي يتعبد ويتنسك] وكانت له طائفة قد أحاطت به يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلما ولي القضاء كانت تأتيه وهو في مجلس حكمه فتقول : أيها القاضي ذهب الإسلام فُعِلَ كيت وكيت. فيترك مجلس الحكم ويمضي معهم، فكلمه إخوانه مثل ابن عبد الله الحكم وغيره فقال: لا بد من القيام لله عز وجل بحقوقه. ثم أتت تلك الطائفة فقالوا: إن أمير المؤمنين المأمون قد ولى أبا إسحق [قال الأزهري : هو المعتصم] بن الرشيد مصر وإنا نخافه ونخشى أن يشد على يد أهل العدوان فاكتب لنا كتابا إلى المأمون بأنك لا ترضى بولايته ففعل ذلك ابن المنكدر وبلغ الكتاب المأمون فأحضر أبا إسحق فقال: ما الذي فعلت في أهل مصر. فقال : ما فعلت فيهم شيئا. فقال: هذا قاضيهم يزعم أنه لا يرضى بولايتك عليهم. فقال : ما أسأت إلى واحد منهم ولأفعلن بابن المنكدر وأفعلن فعزله أبو إسحق)) اهـ.
قال الكندي أيضا :
((أخبرني ابن قديد عن أبي الرقراق قال :
كان سبب موجدة المعتصم على ابن المنكدر أن أصحابه الصوفية كلموه لما علموا أن ابن طاهر قد صُرِف عن مصر وصار الأمر إلى أبي إسحق، قالوا: ماذا نلقى من الفضل بن مسرون [قال الأزهري : صوابه الفضل بن مروان صار وزير المعتصم وكان ظالما شريرا] فسألوه الكتاب إلى المأمون بكراهية ولاية أبي إسحق فقال له ابن عبد الحكم: لا تفعل. فأبى وكتب إلى المأمون فدفع المأمون كتابه إلى أبي إسحق، فقال: والله ما سرت فيهم بسيرة أنكروها، فلما قدم أبو إسحق مصر عزله وحبسه ..)) اهـ.
قال وكيع في أخبار القضاة وابن عبد الحكم في فتوح مصر وغيرهما :
((كلمه فِيْهِ ابن أبي داود فأمره فوقف عَن الحكم ثم أشخص إِلَى العراق فمات)) اهـ
وابن أبي دؤاد هذا هو القاضي المعتزلي صاحب فتنة خلق القرآن.
قال القاضي عياض في ترتيب المدارك:
((قال سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم: لما ولي ابن المنكدر، وكانت حاشيته الصوفية، فكان إذا بلغ أبي أنه كان منه ما ينكره الناس بعث له أخي عبد الحكم ينهاه عن ذلك، ويأمره بما يراه. فبعث إليه مرة، فالتفت إلى أخي وقال: ما يظن أبوك إلا أنه أعتق المنكدر ! فأمسك عبد الله أن ينهاه عن شيء. وغلبت عليه الصوفية ..)) اهـ.
وقال الحافظ في رفع الإصر:
((وكان سبب عزله أنه كان بمصر جماعة من الصوفية وكانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . كان عيسى معهم . فلما ولي القضاء كانوا يأتونه فيقولون : جرى كذا وكذا فينهض معهم ، فإذا لامه إخوانه قال : لا بد من القيام بحق الله . فاتفق أن المأمون ولي أخاه أبا إسحاق إِمْرَة مصر فخافوا من سطوته ، فسألوا القاضي أن يكتب إلى المأمون أنهم لا يرضون بولاية أبي إسحاق . فأقرأه المأمون الكتاب فغضب وقال : لأفعلن بعيسى كذا وكذا ، وأمر بعزله ، فلما دخل مصر أمر بحبسه وحُبس ابن عبد الحكم لكونه من جهته فمات ، وأقام ابن المنكدر للناس فخاصموه وادعوا عليه دعاوي ، فاستمر محبوساً حتى خرج أبو إسحاق من مصر . وكان عزله في رمضان سنة أربع عشرة ، ثم أمر أبو إسحاق بإحضاره إلى العراق ، فاخرج في ذي القعدة سنة خمس عشرة فسجنه حتى مات هناك)) اهـ.
فرحم الله هذا الإمام الذي عزل عن القضاء ومات في سجن المعتصم بسبب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في زمن الفتنة الكبرى.
الخصومة بينه وبين الإمام الشافعي:
قال الكندي في قضاة مصر:
((حدثنا أبو سلمة أسامة قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: سمعت الشافعي يقول لعيسى بن المنكدر : اشكر الله وعائشة فهي جعلت لكم قرطين من ذهب)) اهـ. ونقله كذلك الحافظ في رفع الإصر.
ومعنى هذا الكلام من الشافعي ـ والله أعلم ـ تعيير لعيسى بن المنكدر أنه من قوم فقراء تصدقت عليهم أم المؤمنين عائشة.
قال الزبيري في "نسب قريش" عن جده المنكدر:
((وهم لأم ولد، كان المنكدر جاء إلى عائشة أم المؤمنين ؛ فشكا إليها الحاجة ؛ فقالت : " أي شيء يأتيني أبعث به إليك " . فجاءتها عشرة آلاف درهم ؛ فبعث بها إليه ؛ فاتخذ منها جارية ، فولدت له)) اهـ.
فأظن الشافعي يرمي إلى هذا المعنى.
قال الكندي :
((أخبرني ابن قديد عن يحيى بن عثمان أن عيسى بن المنكدر كان دخوله مصر قديما. قال يحيى فأخبرني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: سمعت ابن المنكدر يصيح بالشافعي، والشافعي يسمع : "يا كذا يا كذا ، دخلت هذه البلدة وأمرنا واحد، ورأينا واحد، ففرَّقت بيننا، وألقيت بيننا الشرّ، فرَّق الله بين روحك وجسمك)) اهـ.
هذا إسناد حسن، فابن قديد هو علي بن الحسن بن خلف بن قديد المصري أبو القاسم
قال الذهبي : "الإمام المحدث الثقة المسند".
ويحيى بن عثمان هو ابن صالح بن صفوان أبو زكريا السهمي المصري.
قال الذهبي : "العلامة، الحافظ، الاخباري" وفيه جرح غير مفسر.
قال الحافظ في التقريب: "صدوق رمى بالتشيع و لينه بعضهم لكونه حدث من غير أصله"
وذكره الذهبي فيمن تكلم فيه وهو موثق.
وقال القاضي عياض في ترتيب المدارك:
((قال ابن أخي ابن وهب: سمعت القاضي ابن المنكدر يصيح بالشافعي: يا كذا يا كذا، دخلت هذه البلدة وأمرنا ورأينا واحد، ففرّقت بيننا، ودعا عليه)) اهـ.
قال الحافظ في رفع الإصر بعد أن ذكر هذه القصة:
((وكان ذلك قبل أن يلي عيسى بن المنكدر، وأشار بالتفرقة إلى ما وقع من الاختلاف بين الشافعي وأهل مصر ، وكانوا لا يعرفون إلا رأي مالك ، فلما خالفه الشافعي وافقه جماعة كثيرة منهم فصار يقع بينهم الجدال والمنازعة . وإنما ولي عيسى القضاء بعد موت الشافعي بمدة طويلة )) اهـ.
قلت : ولي القضاء بعد موت الشافعي بسبع سنوات.
والخلاصة:
فهذا ما يدل على وقوع الخصومة من أجل المخالفة في المذهب بين هذين الإمامين الجليلين، الإمام القاضي أبي محمد عيسى بن المنكدر القرشي التيمي المالكي الصوفي وطائفته، والإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وقد بيناه من كلام أهل العلم، وإذا كان الأمر كذلك بينهما على ما وصفنا، صح أنه لا بد من تطبيق القاعدة التي تقدم ذكرها من وجوب ترك كلام بعض أهل العلم في بعضهم، وأنه من باب تناطح الأقران، والله الموفق للصواب.
الخاتمة
وفيها فائدة جليلة محرجة للمخالفين
وعائدة نبيلة مبهجة للشافعيين
وفيها فائدة جليلة محرجة للمخالفين
وعائدة نبيلة مبهجة للشافعيين
قد علم الخلق أجمعون أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قد استخلف قبيل موته الإمام الجليل يوسف بن يحيى القرشي أبو يعقوب البويطي المصري، وهو الغني عن التعريف والترجمة ولكننا نشير هنا ـ لمن لا يعلم ـ بترجمته من طبقات ابن قاضي شهبة لاختصارها إذ يقول:
((الفقيه أحد الأعلام من أصحاب الشافعي وأئمة الإسلام، قال الربيع: وكان له من الشافعي منزلة وكان الرجل ربما يسأله عن المسألة فيقول سل أبا يعقوب فإذا أجاب أخبره فيقول هو كما قال. وربما جاء إلى الشافعي رسول صاحب الشرطة فيوجه الشافعي أبا يعقوب البويطي ويقول هذا لساني. وخلف الشافعي في حلقته بعده، قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من أبي يعقوب، وليس أحد من أصحابي أعلم منه، وقال النووي في مقدمة شرح المهذب: إن أبا يعقوب البويطي أجل من المزني والربيع المرادي. وقال الحاكم سمعت أبا العباس الأصم يقول: رأيت في المنام أبي فقال: لي عليك بكتاب البويطي فليس في كتب الشافعي كتاب أقل خطأ منه. كان يصوم ويقرأ القرآن لا يكاد يمر يوم وليلة إلا ختم مع صنائع المعروف إلى الناس. وقال ابن أبي الجارود: كان البويطي جاري فإن انتبهت ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي. مات ببغداد في السجن والقيد في المحنة في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقال ابن يونس سنة اثنتين وثلاثين )) اهـ.
فإذا عرفتم منزلة أبي يعقوب البويطي من الشافعي، وأنه خليفته من بعده، وإذا عرفتم أن أبا يعقوب أبى أن يوافق المبتدعة في القول بخلق القرآن حتى حملوه مقيدا وحبس في بغداد حتى مات رضي الله عنه، فإذا علمتم منزلة هذا الإمام فاعلموا مع ذلك أن أبا يعقوب هذا قد رشح الإمام عيسى بن المنكدر المالكي الصوفي للقضاء:
قال الكندي في أخبار قضاة مصر 327 :
((أخبرني علي بن أحمد بن محمد بن سلامة عن أبيه عن يحيى بن عثمان عن البويطي قال .. : أنا أذكر للأمير ستة يجعل هذا الأمر فيمن رآه منهم، قال من هم؟ قلت : عبد الله بن عبد الحكم، قال ومن؟ قلت سعيد بن هاشم، قال ومن؟ قلت عيسى بن المنكدر ..)) اهـ المقصود منه.
وعلي بن أحمد بن محمد بن سلامة هو الفقيه الورع ابن الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي الشهير صاحب متن العقيدة الطحاوية.
وأبوه غني عن التعريف وقد تابعه ابن قديد عند ابن يونس.
ويحيى بن عثمان هو ابن صالح وقد تقدم ذكره.
فهذا إسناد حسن.
وذكر الحافظان المزي في تهذيب الكمال والذهبي في النبلاء وتاريخ الإسلام طرفا من قصة البويطي هذه من طريق ابن يونس في ترجمة أصبغ بن الفرج.
وذكرها بتمامها جازما الحافظ ابن حجر في رفع الإصر.
وقد استجاب الأمير لترشيخ البويطي وولي ابن المنكدر قضاء مصر برضى شيوخ مصر كلهم.
فهذا الإمام البويطي خليفة الشافعي الثاني والتقي الورع الذي مات لئلا ينطق بخلق القرآن قد رشح صوفيا كان على خصومة مع الشافعي رشحه لقضاء مصر. ورضي بهذا شيوخ مصر وعلماؤها ! فعلى قول أهل الجهالة يكون البويطي وعلماء مصر قد رشحوا ضالا مضلا أو زنديقا لقضاء مصر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعلى قول أهل الحق والفهم أنه رشح رجلا صالحا تقيا ورعا عالما يصلح للقضاء، وهذا الذي ينبغي أن يقول به أهل العلم والعقل لا ذاك.
فهذا الإمام الشافعي يصحب الصوفية عشر سنين ويطلب منهم الدعاء، وهذا البويطي يرشح شيخهم لمنصب القضاء، فماذا بعد الحق إلا الضلال والمراء؟؟ والحمد لله رب العالمين.
انتهت الرسالة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق