رد بعض الشبه حول المولد النبوي الشريف
رد شبهة احتجاج المنكرين لعمل المولد بكلام الفاكهاني
يحتج المنكرون لعمل المولد النبوي الشريف بكلام ابي حفص تاج الدين عمر بن علي الفاكهاني المالكي، فيوردون كلاما قاله عن المولد في كتاب المورد في عمل المولد ونص عبارته (أما بعد فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد هل له أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين وقصدوا الجواب عن ذلك فقلت وبالله التوفيق لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولم ينقل عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إما أن يكون واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين). انتهى
والجواب على هذه الشبهة أن يقال أن تحليل أمر أو تحريمه إنما هو وظيفة المجتهد كالإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، وليس لأي شخص ألّف مؤلفًا صغيرًا أو كبيرًا أن يأخذَ وظيفة الأئمة الكرام فيُحلل ويحرّم دون الرجوع إلى كلام الأئمة المجتهدين. ثم ان علماء المذاهب الأربعة المعتبرة ينقسمون إلى مراتب المجتهد المطلق والمجتهد المنتسب وأصحاب الوجوه وأصحاب الترجيح و النقلة والعبرة في كل مذهب بأقوال المجتهدين وأصحاب الوجوه، وأما من هم دون ذلك فليس لهم الأهلية لاستنباط الأحكام.
والتاج الفاكهاني لم يقل عنه واحد من الفقهاء ولا من أصحاب طبقات المالكية أنه كان من المجتهدين أو من أصحاب الوجوه، فلا عبرة بكلامه إذا خالف كلام من هو أعلى درجة منه في العلم كالإمام محمد بن أحمد عليش المالكي المتوفى سنة 1299هـجري، حيث قال في كتابه القول المنجي ما نصه (لا زال أهل الإسلام يحتفلون ويهتمون بشهر مولده عليـه الصلاة والسلام ويعملون الولائم ويتصدقـون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم، وأول من أحدث فعل المولد الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل فكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل احتفالاً هائلاً). انتهى
وقد تكلم ابن عليش في كتابه فتح العلي المالك عن بعض المنكرات التي قد تحصل في المولد وحذر منها فقال عمل المولد ليس مندوبًا، خصوصًا إن اشتمل على مكروه، كقراءة بتلحين أو غناء، ولا يسلم في هذه الأزمان من ذلك وما هو أشدّ. انتهى
ولم يطلق ابن عليش بتحريم المولد ان سلم من المنكرات كما يزعم بعض المُنكرين.
وقد خالف الفاكهاني أيضا كبار أئمة المالكية أيضا ومنهم:
أبو العباس السبتي المتوفى سنة 633 هـجري، حيث قال في الدُّر الـمُنَظَّم في مولد النبي المعظم ما نصه (كان الحجاج الأتقياء والمسافرون البارزون يشهدون أنه في يوم المولد في مكة لا يتم بيع ولا شراء، كما تنعدم النشاطات ما خلا وفادة الناس إلى هذا الموضع الشريف، وفي هذا اليوم أيضاً تفتح الكعبة وتزار). انتهى
محمد بن أبي إسحق بن عباد النفزي المتوفى سنة 805 هـجري، حيث نقل عنه صاحب المعيار المعرب بخصوص الاحتفال بذكرى المولد النبوي قوله الذي يظهر أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسمٌ من مواسمهم، وكل ما يقتضيه الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، من إيقاد الشمع وإمتاع البصر، وتنزه السمع والنظر، والتزين بما حسن من الثياب، وركوب فاره الدواب أمر مباح لا ينكر قياساً على غيره من أوقات الفرح. انتهى
وقال وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان، أمر مستثقل تشمئز منه النفوس السليمة، وترده الآراء المستقيمة. انتهى
ثم إن الفاكهاني كان من كبار الصوفية، فهو عندهم مشرك بالله، فقد نقل عنه الإمام ابن حجر في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة أن الشيخ تاج الدين الفاكهاني قال كان الشيخ أبو العباس الشاطر الدمنهوري يقول لا يحجبني عن أصحابي التراب فكان فطلبت من الله تعالى عنده ثلاث حوائج تزويج البنات من فقراء صالحين، وحفظ كتاب الله كان تعسر علي، والحج وكنت أعوز من النفقة ألف درهم…. انتهى
أي أنه يثبت تصرف الأولياء بعد موتهم، فما معنى احتجاجهم برأيه في المولد؟
والفاكهاني أيضا ليس ممن يرضاه القوم في مسألة الزيارة التي يبدعون الناس بها، وله في ذلك كتاب أسماه التحفة المختارة في الرد على منكر الزيارة.
وقد تصدى الحافظ السيوطي للرد على رسالة الفاكهاني فقال وقد ادعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية أن عمل المولد بدعة مذمومة، وألف في ذلك كتابا سماه المورد في الكلام على عمل المولد، وأنا أسوقه هنا برمته وأتكلم عليه حرفا حرفا… انتهى
ثم قال السيوطي أما قوله لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، فيقال عليه نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل ابن حجر أصلا من السنة، واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً، وسيأتي ذكرها بعد هذا.
وقوله بل هو بدعة أحدثها البطالون… إلى قوله ولا العلماء المتدينون يقال عليه قد تقدم أنه أحدثه ملك عادل عالم، وقصد به التقرب إلى الله تعالى، وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم، وارتضاه ابن دحية، وصنف له من أجله كتاباً، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه.
وقوله ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع يقال عليه إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص، وتارة يكون بالقياس، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتي ذكرهما.
وقوله ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين كلام غير مسلم، لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه، بل قد تكون أيضا مباحة ومندوبة وواجبة.
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله علبه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة، قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة.
وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثلة إلى أن قال وللبدع المندوبة أمثلة منها إحداث الربط والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها التراويح، والكلام في دقائق التصوف، وفي الجدل، ومنها جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى.
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة.
والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة.
وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان (نعمت البدعة هذه) يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.
هذا آخر كلام الشافعي.
فعرف بذلك منع قول الشيخ تاج الدين ولا جائز أن يكون مباحا… إلى قوله وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة إلى آخره لأن هذا القسم مما أحدث، وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع، فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي، وهو من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان فهو من البدع المندوبة كما في عبارة ابن عبد السلام.
وقوله والثاني …إلى آخره، هو كلام صحيح في نفسه غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه الأشياء المحرمة التي ضمت إليه، لا من حيث الاجتماع لإظهار شعار المولد، بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلا لكانت قبيحة شنيعة، ولا يلزم من ذلك ذم أصل الاجتماع لصلاة الجمعة كما هو واضح، وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليالي من رمضان عند اجتماع الناس لصلاة التراويح، فهل يتصور ذم الاجتماع لأجل هذه الأمور التي قرنت بها، كلا، بل نقول أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربة وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح شنيع، وكذلك نقول أصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع.
وقوله مع أن الشهر الذي ولد فيه … إلى آخره جوابه أن يقال:
أولاً إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم، والصبر والسلوان والكتم عند المصائب، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته.
وقد قال ابن رجب في كتاب اللطائف في ذم الرافضة حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لأجل قتل الحسين لم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف ممن هو دونهم. انتهى