بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 2 سبتمبر 2024

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

 


حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري

تقديم

الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا

فمن ابتغى حظرًا بترك نبينا … ورآه حكمًا صادقًا وصوابا

قد ضل عن نهج الأدلة كلها … بل أخطأ الحكم الصحيح وخابا

لا حظر يمكن إلا إن نهى أتى … متوعدًا لمخالفيه عذابا

أو ذم فعل مؤذن بعقوبة … أو لفظ تحريم يواكب عابا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا سواء السبيل، ووفقنا لمعرفة الحجة والدليل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وءاله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.

أما بعد: فقد طلب مني تلميذنا الفاضل الأستاذ محمود سعيد أن أحرر رسالة في مسئلة الترك، تزيل عن قارئها كل حيرة وشك، وذكر أنه وجد في [إتقان الصنعة] إشارة إليها موجزة، فأجبت طلبه وأسعفت رغبته، وكتبت هذا المؤلف محررًا ليكون قارئه في ميدان الاستدلال على بصيرة من أمره، ويعرف الدليل المقبول من غيره، والله الموفق والهادي وعليه اعتمادي.

المقدمة

الأدلة التي احتج بها أئمة المسلمين جميعًا هي:

الكتاب والسنة -لا خلاف بينهم في ذلك- وإنما اختلفوا في الإجماع والقياس، فالجمهور احتج بهما وهو الراجح لوجوه مقررة في علم الأصول. وتوجد أدلة مختلف فيها بين الأئمة الأربعة، وهي الحديث المرسل، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستصحاب، والاستحسان، وعمل أهل المدينة والكلام عليها مبسوط في كتاب الاستدلال من جمع الجوامع للسبكي.

ما هو الحكم الشرعي؟

الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف، وأنواعه خمسة:

1- الواجب أو الفرض: وهو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه مثل الصلاة والزكاة وصوم رمضان وبر الوالدين.

2- الحرام: وهو ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه، مثل الربا والزنا والعقوق والخمر.

3- المندوب: وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، مثل نوافل الصلاة.

4- المكروه: وهو ما يثاب تاركه ولا عقاب على فاعله، مثل صلاة النافلة بعد صلاة الصبح أو العصر.

5- المباح أو الحلال: وهو ما ليس في فعله ولا تركه ثواب ولا عقاب، مثل أكل الطيبات والتجارة. فهذه أنواع الحكم التي يدور عليها الفقه الإسلامي. ولا يجوز لمجتهد صحابيًا كان أو غيره أن يصدر حكمًا من هذه الأحكام إلا بدليل من الأدلة السابقة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة لا يحتاج إلى بيان.

ما هو الترك؟

نقصد بالترك الذي ألفنا هذه الرسالة لبيانه:

أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يفعله أو يتركه السلف الصالح من غير أن يأتي حديث أو أثر بالنهي عن ذلك المتروك يقتضي تحريمه أو كراهته.

وقد أكثر الاستدلال به كثير من المتأخرين على تحريم أشياء أو ذمها، وأفرط في استعماله بعض المتنطعين المتزمتين، ورأيت ابن تيمية استدل به واعتمده في مواضع سيأتي الكلام عليها بحول الله.

أنواع الترك

إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فيحتمل وجوهًا غير التحريم:

1- أن يكون تركه عادة: قدم إليه صلى الله عليه وسلم ضب مشوي فمد يده الشريفة ليأكل منه فقيل: إنه ضب، فأمسك عنه، فسئل: أحرام هو؟ فقال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه!.. والحديث في الصحيحين وهو يدل على أمرين:

أحدهما: أن تركه للشيء ولو بعد الإقبال عليه لا يدل على تحريمه.

والآخر: أن استقذار الشيء لا يدل على تحريمه أيضًا.

2- أن يكون تركه نسيانًا، سها صلى الله عليه وسلم في الصلاة فترك منها شيئًا فسئل: هل حدث في الصلاة شيء؟ فقال: “إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني”.

3- أن يكون تركه مخافة أن يفرض على أمته، كتركه صلاة التروايح حين اجتمع الصحابة ليصلوها معه.

4- أن يكون تركه لعدم تفكيره فيه، ولم يخطر على باله. كان صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة إلى جذع نخلة ولم يفكر في عمل كرسي يقوم عليه ساعة الخطبة، فلما اقترح عليه عمل منبر يخطب عليه وافق وأقره لأنه أبلغ في الإسماع. واقتراح الصحابة أن يبنوا له دكة من طين يجلس عليها ليعرفه الوافد الغريب، فوافقهم ولم يفكر فيها من قبل نفسه.

5- أن يكون تركه لدخوله في عموم ءايات أو أحاديث، كتركه صلاة الضحى، وكثيرًا من المندوبات لأنها مشمولة لقول الله تعالى: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} وأمثال ذلك كثيرة.

6- أن يكون تركه خشية تغير قلوب الصحابة أو بعضهم. قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: “لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام فإن قريشًا استقصرت بناءه” وهو في الصحيحين. فترك صلى الله عليه وسلم نقض البيت وإعادة بنائه حفظًا لقلوب أصحابه القريبي العهد بالإسلام من أهل مكة. ويحتمل تركه صلى الله عليه وسلم وجوهًا أخرى تُعلم من تتبع كتب السنة. ولم يأت في حديث ولا أثر تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك شيئًا لأنه حرام.

الترك لا يدل على التحريم

قررت في كتاب [الرد المحكم المتين] أن ترك الشيء لا يدل على تحريمه، وهذا نص ما ذكرته هناك:

والترك وحده إن لم يصحبه نص على أن المتروك محظور لا يكون حجة في ذلك بل غايته أن يفيد أن ترك ذلك الفعل مشروع. وإما أن ذلك الفعل المتروك يكون محظورًا فهذا لا يستفاد من الترك وحده، وإنما يستفاد من دليل يدل عليه.

ثم وجدت الإمام أبا سعيد بن لب ذكر هذه القاعدة أيضًا، فإنه قال في الرد على من كره الدعاء عقب الصلاة: غاية ما يستند إليه منكر الدعاء أدبار الصلوات أن [التزامه] على ذلك الوجه لم يكن من عمل السلف، وعلى تقدير صحة هذا النقل، فالترك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه، وأما تحريم أو لصوق كراهية بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصل جملي متقرر من الشرع كالدعاء.

وفي [المحلى] [ج:2 ص:254] ذكر ابن حزم احتجاج المالكية والحنفية على كراهية صلاة ركعتين قبل المغرب بقول إبراهيم النخعي أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يصلونها، ورد عليهم بقوله: لو صح لما كانت فيه حجة، لأنه ليس فيهم أنهم رضي الله عنهم نهوا عنهما.

قال أيضًا: وذكروا عن ابن عمر أنه قال: ما رأيت أحدًا يصليهما. ورد عليه بقوله: وأيضًا فليس في هذا لو صح نهى عنهما، ونحن لا ننكر ترك التطوع ما لم ينه عنه.

وقال أيضًا في [المحلى] [ج2 ص271] في الكلام عن ركعتين بعد العصر: وأما حديث علي، فلا حجة فيه أصلاً، لأنه ليس فيه إلا إخباره بما علم من أنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما، وليس في هذا نهي عنهما ولا كراهة لهما، فما صام عليه السلام قط شهرًا كاملاً غير رمضان وليس هذا بموجب كراهية صوم شهر كامل تطوعًا اهـ. فهذه نصوص صريحة في أن الترك لا يفيد كراهة فضلاً عن الحرمة.

وقد أنكر بعض المتنطعين هذه القاعدة ونفى أن تكون من علم الأصول فدل بإنكاره على جهل عريض، وعقل مريض. وها أنذا أبيّن أدلتها في الوجوه الآتية:

أحدها: أن الذي يدل على التحريم ثلاثة أشياء:

[1] النهي، نحو: {ولا تقربوا الزنا}، {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.

[2] لفظ التحريم، نحو: {حرّمت عليكم الميتة}..

[3] ذم الفعل أو التوعد عليه بالعقاب، نحو: “من غش فليس منا”، والترك ليس واحدًا من هذه الثلاثة، فلا يقتضي التحريم.

ثانيهما: أن الله تعالى قال: {وَمَا ءاتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ولم يقل وما تركه فانتهوا، فالترك لا يفيد التحريم.

ثالثها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أمرتكم به [فأتوا] منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه” ولم يقل: وما تركته فاجتنبوه. فكيف دلّ الترك على التحريم؟

رابعها: أن الأصوليين عرّفوا السنة بأنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره ولم يقولوا: وتركه، لأنه ليس بدليل.

خامسها: تقدّم أن الحكم خطاب الله، وذكر الأصوليين: أن الذي يدل عليه قرءان أو سنة أو إجماع أو قياس، والترك ليس واحدًا منها فلا يكون دليلا.

سادسها: تقدم أن الترك يحتمل أنواع غير التحريم، والقاعدة الأصولية أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال، بل سبق أنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك شيئا لأنه حرام، وهذا وحده كاف لبطلان الاستدلال به.

سابعها: أن الترك أصل لأنه عدم فعل، والعدم هو الأصل والفعل طارىء والأصل لا يدل على شيء لغة ولا شرعًا، فلا يقتضي الترك تحريمًا.

أقوال غير محررة

قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا وجب علينا متابعته فيه، واستدل بأن الصحابة حيت رأوا النبي صلى الله عليه وسلم أمسك يده عن الضب توقفوا وسألوه عنه.

قلت: لكن جوابه بأنه ليس بحرام -كما سبق- يدل على أن تركه لا يقتضي التحريم. فلا حجة له في الحديث، بل الحجة فيه عليه.

وسبق أن الترك يحتمل أنواعًا من الوجوه، فكيف تجب متابعته في أمر محتمل لأن يكون عادة أو سهوًا أو غير ذلك مما تقدّم؟!

كلام ابن تيمية

سئل عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور، في مرض به أو بفرسه أو بعيره، ويطلب إزالة الذي بهم ونحو ذلك؟

فأجاب بجواب مطول، وكان مما جاء فيه قوله: “ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر به أحد من الأئمة”، يعني أنهم لم يسألوا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما كانوا يسألونه في حال حياته.

وقلت في الرد عليه: وأنت خبيربأن هذا لا يصح دليلا لما يدعيه وذلك لوجوه:

أحدها: أن عدم فعل الصحابة لذلك يحتمل أن يكون أمرًا اتفاقيًا، أي اتفق أنهم لم يطلبوا لم يطلبوا الدعاء منه بعد وفاته. ويحتمل أن يكون ذلك عندهم غير جائز، أو يكون جائزًا وغيره أفضل منه فتركوه إلى الأفضل.. ويحتمل غير ذلك من الاحتمالات.. والقاعدة أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال انتهى المراد منه.

وقلن يوؤيّد أنه لم يتركوه لعدم جوازه أن بلال بن الحارث المزني الصحابي ذهب عام الرمادة إلى القبر النبوي وقال: “يا رسول الله استسق لأمتك” فأتاه في المنام وقال له: “اذهب إلى عمر وأخبره أنكم مُسقون وقل له: عليك الكيس الكيس”. فأخبر عمر فبكى وقال: “اللهم ما ءالوا إلا ما عجزت عنه” ولم يعنفه على ما فعل ولو كان غير جائز عندهم لعنّفه عمر.

[ذكر] حديث صحيح لا يرد قولنا

قال البخاري في صحيحه: “باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم” وروى فيه ابن عمر قال: “اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب. فقال: إني اتخذت خاتمًا من ذهب”. فنبذه وقال: “إني لن ألبسه أبدًا” فنبذ الناس خواتيمهم. قال ابن الحافظ: اقتصر على هذا المثال لاشتماله على تأسيهم به في الفعل والترك.

قلت: في تعبيره في الترك تجوز، لأن النبذ فعل، فهم تأسوا به في الفعل، والترك ناشئ عنه.

وكذلك لما خلع نعله في الصلاة، وخلع الناس نعالهم، تأسوا به في خلع النعل، وهو فعل نتيجته الترك.

وليس هذا محل بحثنا كما هو ظاهر.

وأيضًا فإننا لا ننكر اتباعه صلى الله عليه وسلم في كل ما يصدر عنه، بل نرى فيه الفوز والسعادة لكن ما لم يفعله كالاحتفال بالمولد النبوي وليلة المعراج، لا نقول إنه حرام، لأنه افتراء على الله، إذ الترك لا يقتضي التحريم.

وكذلك ترك السلف لشيء -أي عدم فعلهم له- لا يدل على أنه محظور. قال الإمام الشافعي: “كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف”. لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أولما هو أفضل منه أو لعله لم يبلغ، جميعهم علم به.

ماذا يقتضي الترك؟

بيّنا فيما سبق أن الترك لا يقتضي تحريمًا، وإنما يقتضي جواز المتروك، ولهذا المعنى أورده العلماء في كتب الحديث. فروى أبو داود والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: “كان ءاخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيّرت النار”.

وأورده تحت ترجمة: [ترك الوضوء مما مسّت النار].

والاستدلال به في هذا المعنى واضح، لأنه لو كان الوضوء مما طبخ بالنار واجبًا ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وحيث تركه دل على أنه غير واجب.

قال الإمام عبد الوهاب التلمساني في مفتاح الوصول: “ويلحق في الفعل بالدلالة، الترك. فإنه كما يستدل بفعله صلى الله عليه وسلم على عدم التحريم يستدل بتركه على عدم الوجوب. وهذا كاحتجاج أصحابنا على عدم وجوب الوضوء مما مسّت النار به”.

روى أنه صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ، وكاحتجاجهم على أن الحجامة لا تنقض الوضوء، بما روى أنه صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يتوضأ وصلى. أنظر مفتاح الوصول ص: 93 طبعة مكتبة الخانجي ومن هنا نشأت القاعدة الأصولية: جائز الترك ليس بواجب.

إزالة اشتباه

قسّم العلماء ترك النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ما، على نوعين: نوع لم يجد ما يقتضيه في عهده ثم حدث له مقتض بعده صلى الله عليه وسلم، فهذا جائز على الأصل.

وقسم تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضى لفعله في عهده، وهذا الترك يقتضي منع المتروك، لأنه لو كان فيه مصلحة شرعية لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فحيث لم يفعله دل على أنه لا يجوز.

ومثل ابن تيمية في ذلك بالأذان لصلاة العيدين الذي أحدثه بعض الأمراء وقال في تقريره: فمثل هذا الفعل تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضيًا له مما يمكن أن يستدل به من ابتدعه، لكونه ذكر الله ودعاء للخلق إلى عبادة الله وبالقياس على أذان الجمعة.

فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأذان للجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، دل تركه على أن ترك الأذان هو السنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك.. +إلخ كلامه.

وذهب إلى هذا أيضًا الشاطبي وابن حجر الهيثمي وغيرهما، وقد اشتبهت عليهم هذه المسئلة بمسئلة السكوت في مقام البيان.

صحيح أن الأذان في العيدين بدعة غير مشروعة، لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه ولكن لأنه صلى الله عليه وسلم بيّن في الحديث ما يعمل في العيدين ولم يذكر الأذان، فدل سكوته على أنه غير مشروع.

والقاعدة: أن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر.

وإلى هذه القاعدة تشير الأحاديث التي نهت عن السؤال ساعة البيان.

روى البزار عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرّم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا: {وما كان ربك نسيا}”.

قال البزار إسناده صالح، وصححه الحاكم.

وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها”.

في هذين الحديثين إشارة واضحة إلى القاعدة المذكورة. وهي غير الترك الذي هو محل بحثنا في هذه الرسالة، فخلط إحداهما بالأخرى مما لا ينبغي.

ولذا بيّنت الفرق بينهما حتى لا يشتبها على أحد. وهذه فائدة لا توجد إلا في هذه الرسالة والحمد لله.

تتميم

قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا سلام بن أبي مطيع عن ابن أبي دخيلة عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فقال: “نهى رسول الله عن الزبيب والتمر يعني أن يخلطا”.

فقال لي رجل من خلفي ما قال؟ فقلت: “حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر والزبيب” فقال عبد الله بن عمر: “كذبت”! فقلت: “ألم تقل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟ فهو حرام” فقال: “أنت تشهد بذلك؟” قال سلام كأنه يقول: ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم فهو أدب.

قلت: انظر إلى ابن عمر -وهو من فقهاء الصحابة- كذب الذي فسّر نهى بلفظ حرّم، وإن كان النهي يفيد التحريم. لكن ليس صريحًا فيه بل يفيد الكراهة أيضًا وهي المراد بقول سلام: فهو أدب. ومعنى كلام ابن عمر: أن المسلم لا يجوز له أن يتجرأ على الحكم بالتحريم إلا بدليل صريح من الكتاب أو السنة، وعلى هذا درج الصحابة والتابعون والأئمة.

قال إبراهيم النخعي وهو تابعي: كانوا يكرهون أشياء لا يحرمونها، وكذلك كان مالك والشافعي وأحمد كانوا يتوقون وقف إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمه لنوع شبهة فيه، أو اختلاف أو نحو ذلك، بل أحدهم يقول أكره كذا، لا يزيد على ذلك.

ويقول الإمام الشافعي تارة: أخشى أن يكون حرامًا، ولا يجزم بالتحريم يخاف أحدهم إذا جزم بالتحريم أن يشمله قول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.

فما لهؤلاء المتزمتين اليوم يجزمون بتحريم أشياء مع المبالغة في ذمها بلا دليل إلا دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها، وهذا لا يفيد تحريمًا ولا كراهة، فهم داخلون في عموم الآية الذكورة.

نماذج من الترك

هذه نماذج لأشياء لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم:

1. الاحتفال بالمولد النبوي.

2. الاحتفال بليلة المعراج.

3. إحياء ليلة النصف من شعبان.

4. تشييع الجنازة بالذكر.

5. قراءة القرءان على الميت في الدار.

6. قراءة القرءان عليه في القبر قبل الدفن وبعده.

7. صلاة التراويح أكثر من ثمان ركعات.

فمن حرّم هذه الأشياء ونحوها بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها فاتل عليه قول الله تعالى {ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}.

لا يقال: وإباحة هذه الأشياء ونحوها داخلة في عموم الآية لأنا نقول: ما لم يرد نهي عنه يفيد تحريمه أو كراهيته، فالأصل فيه الإباحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “وما سكت عنه فهو عفو” أي مباح.

وبعد: فقد أوضحنا مسئلة الترك، وأبطلنا قول من يحتج به بما أبديناه من الدلائل التي لم تدع قولا لمُنصف ولا تركت هربًا لصاحب جدل ولحاج.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...