جمع وتحقيق فضيلة الشيخ سليم علوان
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي قهَر عباده بالموت وجعل سيف الموت مُسلطاً على رقبة كل واحد من البشر
والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيّد البشر والشفيع المشفَّع يومَ المحشر وفخر ربيعة ومُضّر وعلى ءاله وصحبه الطيبين ما اقبل ليلٌ وأدبر وأضاء صبحٌ وأسفر وبعدُ.
فإنَّ وفاةَ النبيّ الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأمة وإمام الأئمة ومن أرسله الله سبحانه وتعالى للناس هدى ورحمة هي مصيبة الأولين والآخرين، وهي المصيبة العظمى التي حلّت بالمسلمين إلى يوم الدين،لأن وفاته عليه الصلاة والسلام ليست كوفاة سائر الناس، فهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين، وبموته صلى الله عليه وسلم انقطعت النبوات وانقطع خبرُ السماء ووحي الله تبارك وتعالى عن هذه الأرض.
لقد كان هدفنا من كتابنا هذا"مصيبة المسلمين بموت سيد المرسلين" الذي يتحدث باستيعاب وإسهاب معتدلين من غير تطويل ممل ولا إيجاز مخل عن وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم النبيّ الأعظم والرسول المكرم سيّد المرسلين وحبيب ربّ العالمين وخير مولود عرفه هذا العالم وخير قائد عرفه التاريخ ليكون الحديث عن وفاته وعن مرض موته صلى الله عليه وسلم وما رافق ذلك من حوادث تتعلق بموته صلى الله عليه وسلم وكذلك عظيم المصيبة التي حلّت بالصحابة رضي الله عنهم بسبب فراق نبيهم عليه الصلاة والسلام وأثَّر ذلك على نفوسهم وقلوبهم ، وليكون ذلك كله تذكرة للمؤمنين وعبرة للمعتبرين وترقيقاً لقلوب المتقين المـُخْبتين الخاشعين، وصبراً وسلوانًا لهم عندما تعصف بهم المصائب وتكثر عليهم البلايا، وخاصة في هذه الأيام الصعبة والأمة الإسلامية تمر في أحرج أوقاتها العصيبة، حيث تمتحن بمصائب شتى جسيمة وتعصف بهم العواصف العاتية، فعسى أن يكون الحديث عن وفاة قائد الأمة وإمام الأئمة النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم رقة لقلوب المؤمنين وتذكرة لهم يستلهمون من قصة وفاته صلى الله عليه وسلم وهو أكرم خلق الله تعالى العبر والحكم والصبر والسلوان عند المصائب والشدائد.
وأخيراً، ما أحوجنا أن نتذكر بأنَّ هذه الدنيا دار ممر وليست دار مقر وبأن الآخرة هي دار القرار ، وبأن الموت حق قد كتبه الله عزَّ وجلَّ على كل العباد ولم يستثنِ منهم أحداً حتى الأنبياء الذين فضلهم الله تعالى على العالمين، فها هو سيد العالمين وأشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد مات، ولا بُدَّ لكل واحد منّا أن يموت كما قال الله عزَّ وجلَّ:" كلُّ نفسٍ ذآئقةُ الموت" 185 سورة ءال عمران.
قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم" إنَّكَ ميّتٌ وإنّهم ميّتـونَ" 30 سورة الزمر، أي إنك يا محمد ستموت وهم سيموتون ، وقال سبحانه " ومَا جَعَلنا لِبَشرٍ مِن قبلِكَ الخُلْدَ أفإيْن مِتَّ فَهُمُ الخَلِدوُنَ". 34 سورة الأنبياء.
وقال عزَّ من قائل:" ومَا مُحمَّدٌ إلاَّ رسُولٌ قَد خلَتْ مِن قبلِهِ الرُّسُلُ أفإيْن مَّاتَ أَو قُتِلَ انقلبتُمْ عَلَى أعقَبِكُم ومَن ينقَلِبْ عَلَى عَقِيبيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شيئًا وسيَجْزِي اللهُ الشَّكرينَ" 144 سورة ءال عمران.
فعسى أن نتّعظ من مصيبة الموت ونتخذ من موت نبيّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم سيد العالمين موعظة وعبرة فنستعدّ للموت ونعمل لآخرتنا ولاتغُرنا الحياة الدنيا فنستعدّ للموت ونعمل لآخرتنا ولا تغُرّنا الحياة الدنيا التي هي متاع الغرور حتى نكون في الآخرة معه عليه الصلاة والسلام ومع إخوانه النبيين ومع الصّديقين والشهداء وعباد الله الصالحين في جنات النعيم وحَسُن أولئك رفيقاً.
الاعتبارُ بمصيبة الموت(كَفَى بالموتِ واعظاً)
قال الله تبارك وتعالى:" كلُّ نفسٍ ذآئِقةُ الموتِ) 185(سورة ءال عمران)
وقال النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم " أكثروا ذكرَ هاذم اللَّذات"، يعني الموت. رواه الترمذي.
اعلم أن الموت حقٌ كتبه الله على كل حيّ من عباده ولم يستثن منهم أحدًا حتى أنبياءه ورسله الذين هم أفضل مخلوقاته, قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه": ومَا جَعَلنا لِبَشرٍ مِن قبلِكَ الخُلْدَ أفإيْن مِتَّ فَهُمُ الخَلِدوُنَ".( 34 ) كُلُّ نفسٍ ذآئقةُ الموتِ ونبلُوكُم بالشرِّ والخيرِ فِتنَةً وإلينَا تُرجَعُونَ(35) سورة الأنبياء.
خلقَ الله تبارك وتعالى جسد ءادم عليه السلام من مختلف تراب هذه الأرض ونفخ المَلك الموكَّل روح ءادم الشريف في فيه ـ أي فمه ـ بأمر من الله تعالى فكانت روحه عليه السلام في جسده، وكذلك جعل الله تبارك وتعالى أرواح ذريته في أجسادهم في هذه الدار الفانية كالعاريّة ـ والعاريّة هي ما تعطيه لغيرك لينتفع به على أن يرده ويعيده إليك.
وقضى الله سبحانه وتعالى على ءادم عليه السلام وعلى ذريته من أنه لا بدَّ من أن يستردَّ أرواحهم من هذه الأجساد بالموت، ثم يعيد أجسادهم إلى هذه الأرض التي خلقوا منها، ثم يوم القيامة يُبعثون فيخرجون من قبورهم بعد إعادة الجسد الذي أكله التراب إن كان من الأجساد التي يأكلها التراب وهي أجساد غير الأنبياء وشهداء المعركة وأجساد بعض الأولياء، قال الله تبارك وتعالى:" مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) سورة طه، وقال تعالى:" قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) سورة الأعراف، وقال عزَّ من قائل:" وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) سورة نوح.
فائدة: ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أنَّ صبيًا لها أو ابنًا في الموت فقال للرسول ـ أي لهذا المُرسَل من قبل بنته صلى الله عليه وسلم ـ : ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شىء عنده بأجل مسمّى فمُرها فلتصبر ولتحتسب" وذكر تمام الحديث، قال الإمام النووي: فهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين وفروعه والآداب والصبر على النوازل والهموم والأسقام وغير ذلك من الأعراض.
ومعنى "أن لله تعالى ما أخذ": أنَّ العالم ملك لله فلم يأخذ ما هو لكم بل أخذ ما هو له عندكم في معنى العاريّة ، ومعنى قوله "ما أعطى": أنَّ ما وهبه لكم ليس خارجًا عن ملكه له سبحانه يفعل فيه ما يشاء، "وكل شىء عنده بأجل مسمَّى" أي فلا تجزعوا فإنَّ من قبضه قد انقضى أجله المسمَّى فمحال تأخره أو تقدمه عنه، فإذا علمتم هذا كلَّه فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم والله أعلم.
وفي مسند البزار عن أنس, أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لمّا ناموا عن الصلاة: "أيها الناس إنّ هذه الأرواح عاريّة في أجساد العباد فيقبضها إذا شاء ويرسلها إذا شاء".
قال أحدهم:
استعدي يا نفس للموت واسعَي==لنجاةٍ فالحـازم المستَعِدُّ
قد تَيَقّنْت أنَّه ليس للحيّ== خلـود ولا مـن المــوت بُــد
إنمـا أنـت مُسْتَعيـرةٌ مـا== سوف تردين والعواري تُردُّ
واعلم يا أخي المسلم أن الموت كأس وكل الناس شاربه، والقبر بيت وكل الناس داخله، والكيّسُ العاقل الفطن هو من استعدّ لما بعد الموت بالتقوى والعمل الصالح، وقد أمر وحضّ الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكرالموت لِحكمٍ وفوائد كثيرة فقال عليه الصلاة والسلام: "أكثروا ذكرَ هاذم اللَّذات" ـ يعني الموت ـ رواه الترمذي.
وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد عظيمة منها: أنه يحث الإنسان على الاستعداد له قبل نزوله ، ويُقصّر الأمل ويُرضي بالقليل من الرزق ، ويُزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، ويُهوّن مصائب الدنيا، ، ويمنع من الأشر والبَطَر والتكبر والتوسع في لذات الدنيا الفانية.
يقول الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه :" كفى بالموت واعظًا، وكفى بالدهرمُفرقًا، اليومَ في الدور، وغذًا في القبور ".
وقد كان نقش خاتم الفاروق عمر رضي الله عنه ": كفى بالموت واعظًا يا عمر".
وما أحسن قول القائل:
اذكر الموت ولازم ذِكرَهُ== إن في الموت لذي اللُّبِ عِبَـرْ
وكفى بالموت فاعلم واعظًا== لمن الموت عليه قد قُدِرْ
حقاً من بدنياه اشتغل== وغَرّهُ طول الأمل
الموت يأتي فجأةً == والقبر صندوق العمــل
وقال غيره:
كلنـا فـي غفلة == والموت يغدو ويروْحُ
لبني الدنيا من الموت== غَبُوقٌ(1) وصَبُوحُ(2)
سيصيرُ المرءُ يوماً== جسداً ما فيه روحُ
بيـن عينــي كـل حـيّ == عَلَمُ المـوت يلُــوحُ
تُــحْ على نفسـك يا مسكيــن== إن كنـت تنــوحُ
لتَمُـوتّنَّ ولو عُمّـرتَ == مــا عُمّــرَ نُــوحُ
(1)معنى الغبوق: شرب العشي
(2) معنى الصَّبوح: ما شرب غدوة أي صباحاً
وقيل
لدوا للموت وابنوا للخراب == فكلكم يصيرُ إلى التراب
كيف يُطمع في البقاء وقد كتب الله تبارك وتعالى الموت على أنبيائه ورسله أم كيف يؤمن هجوم المنايا ولم ولن يَسْلَمَ منه الأصفياء والأخيار!
هيهــات ! هيهــات!
ما فـي الحيــاة بقــاء == مــا في الحيــاة ثبــوت
تمــوت كـل البـرايـا == سبحــان مــن لا يمــوت
يا أخي: الموتُ يعُمنا والقبر يضُمنا والكفن يلفُنا وإلى الله العزيز الحكيم مرجعنا.
قال الله تعالى:" واتقوا يومًا تُرجَعون َ فيهِ إلى اللهِ ثمَّ تُوفَّى كُلُّ نفس مَّا كسبَت وهُم لا يُظلمون" سورة البقرة.
ومن بديع الأمثال والعبر:
عجبتُ لمن أيقنَ بالموت كيف يفرح؟
عجبتُ لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟
عجبتُ لمن أيقن بالقَدَرِ كيف يَنصَبُ؟ أي يتعب.
عجبتُ لمن رأى الدنيا وسرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟
تذكّر يا أخي هجوم الموت على بني ءادم في كل لحظة ومكان واعلم أن الموت يقطع نعيم هذه الدنيا الفانية، فهذه الدنيا دار ممر وليست دار مقر، وأنَّ الموت منتظر منّا في كل ساعة، وأنَّ الذكي الفطن العاقل هو من تزود من هذه الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية، قال الله تبارك وتعالى:" وتّزّوَّدوا فإنَّ خير الزَّاد التقوى واتقُونِ يأُولي الألبَبِ".(197) سورة البقرة.
ولقد أحسن القائل:
إن لله عبــاداً فُطنــا == طلقوا الدنيا وخافوا الفِتَنــا
نظروا فيها فلمّــا علموا == أنها ليست لحي وَطَنــا
جعلوها لجّـة واتخدوا == صالح الأعمال فيهــا سُفُنــا
يروى عن الإمام الشافعي رضي الله عنه في تعزيته لرجل مات له ولد فجزع عليه جزعاً شديداً.
إني معزيك لا أني على طمع == من الحياة ولكن سُنَّةُ الدينِ
فما المُعزي بباق بعد صاحبهِ == ولا المُعزى ولو عاشا إلى حين
وإذا كنت يوماً حفرت قبراً لأخيك فسيأتي يوم يُحفر لك حفرة وتدفن فيها ثم لا تعود إلى أهلك.. وإذا كنت يوماً حملتَ نعشاً لأخيك.. فغداً أنت المحمــول..
وإذا كنت يوماً عزيتَ بقريب لك أو صديق، فسيأتي يومٌ يُعزّى بك وأنت تحت التراب.
يقول أحد العارفين بالله تعالى بعد أن ذكّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اذكروا هاذم اللّذات" رواه الترمذي.
ينبغي للمسلم في كل أيام السنة أن يتذكر الموت، وأن الموت ءاتٍ لا محالة، فيُحاسب نفسه وينظر ماذا أعدَّ لآخرته من العمل الصالح، لأن الآخرة دارُ القرار ولا ينفعُ فيها سوى الإيمان والعملُ الصالح.
قال الله تعالى:" يأيُّها الذين ءامنوا اتَّقوا اللهَ ولتنظُر نفسٌ مَّا قدَّمت لغدٍ واتَّقوا اللهَ إنَّ اللهَ خبيرٌ بما تعملون" (18) سورة الحشر.
معناه لينظر المرء أي ليتفكر ماذا أعدَّ لآخرته أي من العمل الذي يُرضي الله عزَّ وجلَّ وذلك يكونُ في كل الأيام والليالي التي يعيشها الإنسان، لأن أنفاسنا معدودة وءاجالنا محدودة وما فات وانقضى من عمرنا لن يعود، فالإكثار من الطاعات هو ذُخرُالمؤمن قال الله تعالى:" المالُ والبنون زينةُ الحيوةِ الدنيا والبقيتُ الصلحتُ خيرٌ عند ربِّكَ ثوابا وخير أملا" (46) سورة الكهف.
يقول أحدهم:
أمرُّ على المقابر كل حينٍ == ولا أدري بأي الأرض قبري
أفرحُ بالغنى إن زاد مالي == ولا أبكي على نقصان عمري
فالدنيا دار عمل والآخرة دار حساب على العمل، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه:" ارتحلت الدنيا وهي مدبرة وارتحلت الآخرة وهي مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، اليوم العمل ولا حساب وغداً الحساب ولا عمل".
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد == ذُخراً يكون كصالح الأعمال
إن سبيل النجاة يوم القيامة هو تقوى الله عزَّ وجلَّ بأداء ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، لأنَّ من كان يحبُّ الجنة ويريدها عليه أن يعمل لما يقربه للحصول عليها، ومن خاف النار وأراد البعد عنها عليه أن يعمل لما يقربه للحصول عليها، ومن خاف النار وأراد البعد عنها عليه أن يعمل لما يجنبه دخولها وذلك يكون بالتقوى، قال الله تعالى:" وتَزوَّدوا فإن خيرَ الزادِ التقوى" (197) سورة البقرة.
ولله دَرّ القائل:
يا من يُعانقُ دنيا لا بقاء لها == يُمْسي ويصبح مغروراً وغَرّراً
هَلاّ تركت من الدنيا معانقة == حتى تُعانقَ في الفردوس أبكاراً
إنْ كنتَ تبغي جنان الخُلد تسكنها == فينبغي لك أن لا تأمن النارا
تنبيهُ النبيّ أمتهُ إلى عظيم مُصيبتهم بموته
نبَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام أمته في حياته إلى عُظْمِ المُصيبة التي ستحِلُّ بالمسلمين بموته صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: فتحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بابًا بينهُ وبين الناس أو كشفَ سِتراً فإذا الناسُ يُصلون وراء أبي بكرٍ، فحمِد الله على ما رأى من حُسنِ حالهم رجاءَ أن يخْلُفَهُ الله فيهم بالذي رءاهم فقال: يا أيها الناس أيُّما أحدٍ منَ النَّاس أو من المؤمنين أُصيب فليَتَعَزَّ بمُصيبتهِ بِـي عن المصيبة التي تُصيبهُ بغيري فإنَّ أحدًا من أُمتي لنْ يُصابَ بمُصيبةٍ بعدي أشدَّ عليهِ من مُصيبتي". رواه ابن ماجه.
ومعنى "فليتَعَزَّ" أي فليُخفِّفْ على نفسه مؤونة تلك المصيبة التي أصابته بتذكّر هذه المصيبة العظيمة، وهي موتُهُ عليه الصلاة والسلام، إذ المصيبة الصغيرة تضمحلّ في جنب المصيبة الكبيرة، فحيث صبر على الكبيرة لا ينبغي أن يبالي بالصّغيرة.
وعن أنَسِ بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أُمّ أيمنَ حاضنة الرسول عليه الصلاة والسلام بكت لما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: ما يُبكيكِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت رضي الله عنها: إنّي قد علمتُ أن النبي صلى الله عليه وسلم سيموتُ ولكنْ إنَّما أبكي على الوحيِ الذي رُفِع عنَّا. أي وحي التشريع رواه الإمام أحمد.
وعن أبي بُردة عن أبيه قال: صلّينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتّى نُصلي معه العشاء. قال: فجلسنا فخرجَ علينا فقال: ما زلتم هاهُنا. قلنا: يا رسول الله صلَّينا معك المغرب ثم قُلنا نجلسُ نُصلّي معكَ العشاء. قال: " أحسنتم" أو " أصبتُم" قال: فرفع رأسهُ إلى السماء ، وكان كثيراً ما يرفعُ رأسهُ إلى السماء فقال: " النجومُ أمَنَةٌ السماءِ فإذا ذهبت النُجومُ أتى السماءَ ما تُوعد، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي فإذا ذهب اصحابي أتى أُمّتي ما يُوعدونَ، وأصحابي أَمَنَةٌ لأُمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أُمتي ما يُوعدون" رواه مسلم.
قال العلماء: " الأمنة بفتحِ الهمزة والميم، والأمْنُ والأمان بمعنًى .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " النجومُ أمَنَةٌ السماءِ فإذا ذهبت النُجومُ أتى السماء ما توعد" أي النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية فإذا انكدرت النجوم أي تناثرت وتساقطت ولم يبق لها ضوء في يوم القيامة وهَنَت السماء فانفطرتْ وانشقَّتْ وذهبتْ.
وقوله صلى الله عليه وسلم" وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي فإذا ذهب اصحابي أتى أُمّتي ما يُوعدونَ،" أي من الفتن والحُروب، وارتداد من ارْتدَّ عن الإسلام منَ الأعراب، واختلاف القلوب ونحو ذلك ممَّا أنذَرَ به صلى الله عليه وسلم صريحًا وقد وَقَع كلّ ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم:" وأصحابي أَمَنَةٌ لأُمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أُمتي ما يُوعدون" معناه من ظُهور البدع المخالفة للدّين، والحَوادِث في الدِّين ، والفِتن فيهِ، وطُلُوع قرْن الشيطان، وظهور الرُّوم وغيرهم من الأعداء عليهم، وكذلك انتهاك المدينة المنورة ومكة وغير ذلك من الفِتن.
وهذه كلَّها من أعلام نبوّتِهِ ومعجِزاتِهِ صلى الله عليه وسلم التي أخبر بها, فوقعت كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
معرفةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم باقترابِ آجله
أوحي إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في حياته وهو بين اصحابه وأهله باقتراب أجله في ءايات عدة في القرءان الكريم، منها قوله تبارك وتعالى في محكم تنزيله: " إنَّك ميِتٌ وإنَّهم ميِّتُونَ (سورة الزمر)
والمعنى إنك يا محمد ستموت، وقوله سبحانه وتعالى:" وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) سورة الأنبياء.
وقوله تعالى:" وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (144) سورة ءال عمران)
ومنها قوله تعالى:" اليوَم أكملتُ لكُم دينَكُم وأتممتُ عليكُم نِعمتي ورضيتُ لكُم الإسلَمَ دِينًا(3) سورة المائدة.
وكذلك نزلت سورة النصر على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نُعِيت له بها نفسه وعَرف منها صلى الله عليه وسلم أنه الوداع، فعنْ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أُنزلت هذه السورةُ( إذا جآءَ نصرُ اللهِ والفتح) على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطِ أيامِ التشريقِ ، وعَرف أنهُ الوداعُ.
رواه البيهقي في سننه.
فإنَّ المراد من هذه السورة أنك يا محمد، إذا فتح الله تعالى عليك البلاد، ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا فقد اقترب أجلك, فتهيأ للموت بالتحميد والاستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة بالتحميد والاستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرتَ به من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا لك بعد الموت خير لك من الدنيا فاستعدَّ للنقلة إلى حياة ما بعد الموت وهي حياة البرزخ.
وقد رُويَ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه السورة نُعِيتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة.
ورُوِيَ أن السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول قبل موته:" سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم فقال: إن ربي أخبرني أني سأرى علمًأ في أمتي وإذا رأيته أن أسبّحَ بحمده وأستغفره وقد رأيته.
فائدة : إذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إمامُ المتقين وسيّد المحسنين يُؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى ، فكيف يكون حال المذنب المسيء المتلوّث بالذنوب المحتاج إلى التطهير؟
وحي أنذره المشيبُ وسَلْبُ أقرانه بالموت.
كفـى مُؤذنا باقتراب الأجل== شبابٌ تولّـى وشيب نـزل
ومـوت الأقران وهـل بعـده == بقـاء يُـؤملُـهُ مـن عقل
وعن عبد الله بن عباس ترجمان القرءان أنَّ عمر رضي الله عنه سألهم عن قوله تعالى:" إذا جآءَ نصرُ اللهِ والفتحُ(1) قالوا: فتحُ المدائنِ والقُصُورِ ، قال: ما تقولُ يا ابنَ عبَّاس، قال : أجل أو مَثَلٌ ضُرِبَ لمحمدٍ نُعيَتْ له نفسُهُ . رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يرموا( وذلك أثناء أداء مناسك الحج) بمثل حصى الخذف وقال صلى الله عليه وسلم " لعلي لا أراكم بعد عامي هذا" رواه الترمذي.
وقد قيل إنه عليه الصلاة والسلام في حجّة الوداع كرّر مرارًا " لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذ، ولعلي لا أحجَّ بعد عامي هذا"
وكان نزول سورة النصر: إذا جآء نصرُ اللهِ والفتحُ(1) ورأيتَ النَّاس يدخُلونَ في دينِ اللهِ أفواجًا (2) فسبِّح بحمدِ ربِّك واستغفرهُ إنهُ كان توَّابا(3).إشعارًا بأنه صلى الله عليه وسلم فرغ من مهمته في الدنيا ولذلك سُمّيت الحَجَّة التي حجَّها صلى الله عليه وسلم بحَجَّة الوداع أي لأنه صلى الله عليه وسلم ودَّع فيها الناس
ومن الحوادث المؤثرة التي تضطرب لنا نفوس المؤمنين حُزنًا وتبكي منها العيون وتنسكب وتنهال منها الدموع شوقًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصل مع الصحابة عليهم السلام عندما علموا بدُنُوّ أجل نبيهم عليه الصلاة والسلام، فعن مُعاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه أنه لمَّا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرجَ معهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيهِ" يا معاذُ إنّك عسَى أن لا تلقاني بعد عامي هذا أو لعلَّك أن تمُرَّ بمسجدي هذا أو قبري". فبكى مُعاذٌ جَشَعًا( أي جزعًا) لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت(أي الرسول الكريم عليه السلام) فأقبل بوجهِهِ نحوَ المدينة فقال:" إنَّ أولى النَّاسِ بي المُتَّقونَ مَنْ كانُوا وحيثُ كانُوا" رواه أحمد.
وعن السيدة الجلية عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: اجتمع نساءُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يغادرْ منهنَّ امرأةً فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : مرحبا بابنتي . فأجلسها عن يمينه أو عن شماله ، ثم أنه أسرّ إليها حديثاً ، فبكت فاطمة ، ثم إنه سارّها ، فضحكت أيضا . فقلت لها : ما يبكيك ؟ فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن . فقلت لها حين بَكَتْ : أخصّك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه دوننا ثم تبكين ، وسألتها عما قال ، فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قُبض سألتها ، فقالت : إنه كان حدثني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل عام مرة ، وأنه عارضه به في العام مرتين ، ولا أراني إلا قد حضر أجلي ، وإنك أول أهلي لحوقاً بي ، ونعم السلف أنا لك ، فبكيت لذلك ، ثم إنه سارّني ، فقال : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة ، فضحكت لذلك . رواه البخاري ومسلم .
وعن الصحابي الجليل أبي هُريرة رضي الله عنه قال: كان (أي جبريل عليه السلام) يَعرِضُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم القرءانَ كُلَّ عام مرةً فعرضَ عليه مرتين في العام الذي قُبِضَ فيه وكان يعتكفُ كلّ عام عشرًا(أي في رمضان ) فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيهِ . رواه البخاري
سببُ مرضِ النبيّ صلى الله عليه وسلم
كان سببُ مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم مؤامرة المرأة اليهودية يوم خيبر حينَ دسَّت له السمَّ في طعامهِ صلى الله عليه وسلم الذي دعتهُ إليهِ ، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقبلُ الهديَّة ويأكُلُ منها ولا يأخذ الصَّدقة والزكاة، فأهدت له امرأة يهودية خبيثة يوم خيبر شاة مشوية مسمومة، سمَّتْها بسُمّ يقتل لساعته ، وكان معه بعض من الصحابة الكرام ، فأكَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فخذ هذه الشاة ، وأكل الصحابة فلما أكل منها عليه الصلاة والسلام قال لصاحبته:" ارْفعوا أيديَكم فإِنَّها أخبرتني أنَّها مسمومةٌ". ومات أحد الصحابة من أكله من هذه الشاة لساعته وهو بشرُ بن البراء ، مات رضي الله عنه شهيدًأ .
ولقد أخبر الصحابيُّ الجليلُ أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي مات فيه : ما زالت أكْلة خيبر تُعّادُّني فالآن أوان قطعت أبهري. ( الأبهر عرق وشريان مكانه القلب فإذا انقطع لم تبق معه حياة).
فقد مات النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم لما قُطِعَ عِرْقه الأبهر الشريف ، فجمع الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام بسبب أكله من الشاة المسمومة بين الشهادة والمرض والحُمّـى ، وفيهما ما فيهما من رفع الدرجات وعلو المقامات.
بداية المرض بالنبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم
لمـّا عاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من حجّة الوداع أقام بالمدينة المنورة أشهر ذي الحجّة والمُحرّم وصفر، وكان المرض قد بدأ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في ليالٍ بقينَ في مطلعِ شهر ربيع الأول، وذلك بعد رجوعه عليه الصلاة والسلام من جبّانة البقيع بعد شهود جنازة دفن فيها صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه، وكانت بداية مرضه صلى الله عليه وسلم صُداعًا في رأسه في بيت زوجته عائشة رضي الله عنها.
فعن السيّدة الجليلة عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجدُ صداعًا في راسي وأنا أقول وارأساه. فقال عليه الصلاة والسلام بل أنا يا عائشة وارأساه " قالت عائشة رضي الله عنها: ثم بديء بوجعه الذي مات فيه.
ولما اشتدّ المرض والوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت زوجته ميمونة رضي الله عنها، دعا نساءه واستأذنهن أن يُمرَّض في بيت عائشة فأذنَّ له صلى الله عليه وسلم ، فخرج عليه الصلاة والسلام وهو بين رجلين تخُطُّ رجلاه الأرض بين عمه العبّاس بن المطّلب وابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولمّا دخل صلى الله عليه وسلم بيت عائشة رضي الله عنها أمرهم أن يصبوا عليه الماء، قالت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها : فأجلسناه في مِخضبٍ ( وهو ما يشبه الإناء الكبير الذي تغسل فيه الثياب)
لحفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم طفِقْنا نصبُّ عليه من تلك القِرَبِ حتى طفِقَ يشير إلينا بيده أن قد فعلتنَّ ثم خرج عليه الصلاة والسلام إلى الناس فصلّى بهم وخطبهم.
وكان صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الصحابة عليهم الصلاة والسلام عاصبًا رأسه( أي شدّ عمامته على رأسه) فجلس صلى الله عليه وسلم على المنبر ثم كان أول ما تكلم به أنه دعا لأصحاب غزوة أُحُد ، واستغفر لهم، ثم واجه أصحابه وقال لهم صلى الله عليه وسلم وكله ثقة بخالقه ومولاه: إنّ عبدًا من عباد الله خيّرهُ الله بين الدنيا وبين ما عندهُ فاختار ما عند الله"، ففهمها الصّديق أبو بكرٍ رضي الله عنه وعرَف أنه صلى الله عليه وسلم يريدُ نفسهُ فقال له: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال له عليه الصلاة والسلام :" على رسلك يا أبا بكرٍ"، ثم قال لما رءاه يبكي حزينًا لما علم بقرب أجله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكرٍ لا تبكِ إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر ولو كنتُ مُتَّخذًا خليلاً من أُمتي لاتَّخذتُ أبا بكرٍ ولكن أُخُوَّةُ الإسلام ومودَّتُهُ"، ثم قال عليه الصلاة والسلام :" لا يبقيَنَّ في المسجد بابٌ إلا سُدَّ إلا بابُ أبي بكرٍ:.
وهذا الكلام من الرسول الأعظم والقائد الأكبر صلى الله عليه وسلم يحمل بين طياته فضل ومقام الصّديق أبي بكر رضي الله عنه
وتروي السيدّة الجليلة عائشة زوجُ النبيّ صلى الله عليه وسلم قصة مرضه الشديد عليه الصلاة والسلام ثم خروجه إلى الصحابة ليصلي بهم بعد أن خفَّ عنه المرض، فقالت رضي الله عنها: ثقُل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم (أي اشتد به الوجع والمرض) فقال:" أصلَّـى النَّاسُ؟" قُلنا : لا وهم ينتظرونكَ يا رسول الله قال:" ضعُوا لي ماء في المِخْضَبِ" (وعاء) ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لِيَنُوء ( أي لينهض) فأُغْمي عليه ثم أفاقَ، فقال:" أصلَّى النّاس؟ " قلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، قالت (عائشة رضي الله عنها) : والنَّاس عُكوفٌ في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء والآخرةِ ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يُصليَ بالناس فأتاه الرسول ( اي جاء من أرسله الرسول إلى أبي بكر) فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تصلي بالنَّاس ، فقال أبو بكر رضي الله عنه، وكان رجُلاً رقيقًا : يا عُمرُ صلِّ بالنّاس، فقال عُمَرُ رضي الله عنه: أنت أحقُّ بذلك. فصلّى بهم أبو بكر رضي الله عنه تلك الأيام ، ثم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَدَ في نفسه خِفَّة( أي خفّ عنه المرض) فخرج بين رجُلينِ أحدهما العبّاسُ لصلاة الظهر، وأبو بكرٍ رضي الله عنه ليُصلي بالنّاسِ ، فلما رأه أبو بكرٍ رضي الله عنه ذهب ليتأخرَ ( أي ليرجِعَ عن الإمامة في الصلاة بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم) فأومَأ إليه ( أي أشار) النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخّر وقال لهما: أجلساني إلى جنبهِ فأجلساه إلى جنبِ أبي بكرٍ رضي الله عنه ، فجعل أبو بكرٍ رضي الله عنه يصلي قائمًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من شدَّة مرضه يصلي قاعدًا.
وبذلك يتبيّن لنا أن أوّل مرضه صلى الله عليه وسلم كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمّى ، فإن الحمّى اشتدّت به صلى الله عليه وسلم في مرضه ، فكان عليه الصلاة والسلام يجلس في مِخضبٍ ( شبه الوعاء الكبير الذي تغسل فيه الثياب)
وكان يُصبّ عليه صلى الله عليه وسلم من سبع قِربٍ لم تُحلَّل أوكيتُهُنَّ ( الوكاء رباط القربة التي يُشدُّ به رأسها والقِربة من الأساقي) ، يتبّرد صلى الله عليه وسلم بذلك ، وكان عليه قطيفة ، فكانت حرارة الحمّى تُصيب من وضعَ يده عليه من فوقها ، فقيل له في ذلك فقال:" إنَّ (أي الأنبياء) كذلك يٌشدَّد علينا البلاء ويُضاعف لنا الأجر " .
وقال عليه الصلاة والسلام:" إنّي أوعَكُ كما يوعَكُ رجُلين منكم" ( الوعكُ مغثُ الحمّى وهو إيلامها وما يكون منها في البدن).
وكان النبيّ! المصطفى صلى الله عليه وسلم من شدّة وجعه يغمى عليه في مرضه ، ثم يفيق وحصل له صلى الله عليه وسلم ذلك غير مرة.
فضل الصّديقِ أبي بكرٍ على غيره من الصّحابة
ومما ورد في أخر وصياه عليه الصلاة والسلام ما أخبرت به السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها
أنها قالت:لما استعزّ ( أي اشتد المرض) برسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:" مروا أبا بكرٍ فليصلي بالناس" قالت عائشة: قلتُ : يا نبيّ الله إن أبا بكرٍ رجلٌ رقيقٌ ضعيفُ الصوتِ كثيرُ البكاءِ إذا قرأ القرءان قال صلى الله عليه وسلم:" مروه فليصلي بالنّاس".
والمقصود من هذه الوصيّة في أخر أيامه عليه الصلاة والسلام التنويه والتنبيه على فضلِ أبي بكرٍ الصّديق
رضي الله عنه الذي هو أفضل الصحابة وأفضل أولياء الأمّةِ بإجماعِ علماء الإسلام
ثم الإشارة منه صلى الله عليه وسلم على أن أبا بكرٍ رضي الله عنه أولى من يصلحُ بخلافته
صلى الله عليه وسلم وإمامة المسلمين من بعده.
فلقد حرص الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام على تقديم الصّديق أبي بكرٍ رضي الله عنه إمامًا للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركانِ الإسلام العمليّة
وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فائدة: صرّح الإمام الشافعي بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلي بالنّاس في مرض موته بالمسجد إلا مرةً واحدة، وهي هذه المرّة التي صلّى فيها قاعدًا، وكان أبو بكر الصّيق
رضي الله عنه أولاً إمامًا ثم صار مأمومًا يُسمع النّاس التكبير .
عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، قال لما استُعيزَ برسول الله صلى الله عليه وسلم( أي اشتدّ عليه المرض) وأنا عنده في نفرٍ من المسلمين قال: دعاه بلالٌ إلى الصلاة فقال( أي النبي صلى الله عليه وسلم
مروا من يصلي بالنّاس) . قال: فخرجت فإذا عمرُ بالنّاس ، وكان أبا بكرٍ غائبًا ، فقلتُ: قُم يا عمر فصلي بالناس، قال : فقام ( أي عمر رضي الله عنه) فلما كبّر سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم صوتهُ وكان عمرُ رجلاً مجهرًا ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون"
قال فبعث إلى أبي بكرٍ فجاء بعد أن صلّى عمر تلك الصلاة فصلّى بالنّاس.
قال عبد الله بن زمعة : قال لي عمرُ ويحكَ ، ماذا صنعتَ بي با ابن زمعةَ والله ما ظننت حين أمرتني
إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك ولولا ذلك ما صليتُ بالنّاس.
قال: ( أي عبد الله بن زمعة) قلت: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولكني حين لم أرى أبا بكرٍ رأيتك أحقّ من حضر بالصلاةِ بالنّاسِ . رواه أحمد.
وعن ابي سعيدِ الخدري قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه
وهو معصوب الرأس فقام عن المنبر فقال:" إن عبدًا عُرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة"
قال: فلم يفطن لها أحدٌ من القوم إلا أبو بكرٍ فقال: بأبي وأمي نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا.
قال: ثم هبط عن المنبر فما رُئيَ عليه حتى الساعة، رواه أحمد
في المسند وابن حبان في صحيحه.
وفي المسند عن ابي مويْهِبةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلةً إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع وقال :" ليهْنِكُم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه النّاس , أقبلت الفتنُ كقطع الليل المظلم
ليتبع بعضه بعضا ، ليتبع أخرها أولّها ، الآخرة شرٌ من الأولى " ثم قال:" يا أبا مويْهبةَ إني قد أُعطيتُ خزائن الدنيا والخُلدِ ثم الجنّة، فخُيّرتُ بين ذلك وبين لقاء ربّي
فاخترتُ لقاء ربّي والجنّة " ثم انصرف فابتدأهُ وجعهُ الذي قبضهُ الله فيه.
رواه أحمد في المسند.
فائدة: ولما عرَّضَ الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر باختياره اللقاء على البقاء ولم يُصرّحَ ، خفِيَ المعنى على كثيرٍ ممن سمع ولم يفهم المقصود غيرُ صاحبهِ أبو بكرٍ الخصيصِ به
" ثانيَ اثنينِ إذْ هما في الغار " (40) < سورة التوبة> وكان أعلم الأمةِ بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديكَ بأموالنا وأنفسنا وأولادنا
فسكّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم جزعهُ وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر ليعلمَ النّاس كلهم فضلهُ فلا يقع عليه اختلافٌ في خلافتهِ ، فقال صلى الله عليه وسلم:" إنّ من أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته ومالهِ أبو بكرٍ" .
وفي روايةٍ أخرى أنه قال :" ما لأاحدٍ عندنا يد إلا وقد كافيناهُ ما خلى أبا بكرٍ فإنَّ له عندنا يدًا يكافئهُ الله يوم القيامة بها، وما نفعني مالُ أحدٍ قطُّ ما نفعني مال أبي بكرٍ"
أخرجه الترمذي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلا ولكن أُخُوّة الإسلام" رواه الترمذي.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سُدّوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكرٍ.
وفي هذا الإشارة إلى أن أبا بكرٍ هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والإستطراق فيه
بخلاف غيره وذلك من مصالح المسلمين المصلّين في المسجد ثم أكّد هذا المعنى
بأمره صريحًا أن يُصلّيَ بالناسِ أبو بكرٍ فروجِع في ذلك فغضب ، وقال: مروا أبا بكرٍ فليصلي بالنّاس"
فولاه إمامة الصلاة دون غيرهِ وأبقَى استطراقهُ " مروه"
من داره إلى مكان الصلاةِ وسدّ استطراق غيرهِ ، وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى أولوية وأحقيّة استخلافهِ على الأمةِ
من بعدهِ صلى الله عليه وسلم دون غيرهِ ولهذا قالت الصحابةُ عند بيعة أبي بكرٍ رضيَهُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم لديننا أفلا نرضاهُ لدُنيانا.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتبَ لأبي بكرٍ كتابًا لئلاّ يختلف عليه
ثم أعرض عن ذلك لعلمهِ أنه لا يقع غيره ، وقال عليه الصلاة والسلام:" يأبى الله والمؤمنون
إلا أبا بكرٍ " رواه البخاري ومسلم .
شدّة وجعه صلى الله عليه وسلم في مرضه
إنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أشدُّ الناس بلاءً ومصائب في الدنيا، والحكمة في ذلك ليضاعف لهم الأجر وليقتدي بهم أتباعهم المؤمنون في الدنيا عند هجوم البلايا والمصائب عليهم، ثم لتعلو درجاتهم ويكثر ثوابهم في الآخرة.
وليعلم أنه ليس نزول المصائب في جميع الأحيان علامة هوان عند الله تبارك وتعالى بل قد يكون ذلك علامة خير لأنَّ فيها تكفير سيئات ورفع درجات، يقول النبيّ العظيم صلى الله عليه وسلم:" من يُرد الله به خيرًا يُصب منه" أي يبتليه بالمصائب، ويقول صلى الله عليه وسلم :" ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة" رواه الترمذي.
ويقول ايضًا عليه الصلاة والسلام:" إنَّ عِظم الجزاء مع عِظم البلاء وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرّضا ومن سخِط فله السُّخط" رواه الترمذي.
ولذلك كان أنبياء الله تعالى والصالحون هم أشدّ الناس بلاءً في الدنيا، لأن كثرة نزول المصائب الشديدة على الأنبياء والصالحين فيها رفع درجات لهم عند الله تبارك وتعالى.
يقول النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ": أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل"
ولقد كان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو اشرف وافضل الأنبياء والمرسلين وإمام المتقين وسيد الأولين والآخرين أشدّ الأنبياء بلاءً، لذلك لما دخل الصحابي الجليل ابو سعيدٍ الخُدريّ رضي اله عنه على النبيّ الأعظم عليه الصلاة والسلام وكان عليه الصلاة والسلام قطيفٌ وهي كساء له خمل فوضع يدهُ عليه فوجد حرارتها فوق هذه القطيفة, فقال رضي الله عنه :ما اشدّ حُمَّاكَ ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :" أنَّـا معاشر الأنبياء يُضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجرُ.
ويقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوعك وعكًا شديدًا( أي يتوجع صلى الله عليه وسلم من شدة الحمى) فمسستهُ بيدي فقلت: يا رسول الله إنك لتُوعَكُ وعكا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أجل إني أُوعَكُ كما يوعَكُ رجُلانِ منكم"، فقلت : ذلك أنَّ لك أجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أجل"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما من مسلم يُصيبه أذى ، مرضٌ فما سواه إلا حطَّ الله له سيئاتهِ كما تحُطُّ الشجرة ورقها" رواه البخاري ومسلم.
ولقد ورد أنه لما ثقُل النبيّ صلى الله عليه وسلم واشتد عليه مرضه الذي تُوفي منه جعل يتغشاه الكرب صلى الله عليه وسلم فلما رأت ابنته فاطمة رضي الله عنها ما ينتاب أباها النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد وشدة المرض قالت رضي الله عنها حزينة مكروبة:" واكربَ ابتاه، فقال لها عليه الصلاة والسلام وكله ثقة وتوكل على الله تبارك وتعالى خالقه ومولاه:" ليس على أبيكِ كربٌ بعد اليوم"رواه البخاري.
وعن السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها:" ما رايت الوجع على أحد اشدّ منه على النبي صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري.
بركة يدي النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفَثَ على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده( والنَّفْثُ نفخٌ لطيف بلا ريق) فلما اشتكى وجعه الذي تُوفي فيه طفِفْتُ لأنفِثُ على نفسه بالمعوذات التي كان ينفِثُ وأمسحُ بيد النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه. رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية مالك" وأمسحُ بيده رجاء بركتها".
وفي رواية لمسلم أيضًا :" فلما مرض مرضَهُ الذي مات فيه جعلتُ أنفُثُ عليه وأمسحُ بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي
فائدة في التبرك بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم
الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم كله بركة وكل أجزائه يتبرك بها كما يقول الأئمة الأعلام، وافضالُهُ وبركاته ومنافعه صلى الله عليه وسلم على أمته في حياته وبعد مماته كثيرة جدًا لا تُحصى، وقد ثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بآثار النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته.
وقد قسّم النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم شعره وأظفاره بين صحابته الكرام ليتبركوا بآثاره صلى الله عليه وسلم بعد موته وليكون بركة باقيةً بينهم في حياتهم وتذكرة لهم على مرّ الأيام والعصور، وقد تبع الصحابة رضوان الله عليهم في طريقتهم المباركة الميمونة في التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم من أسعده الله تبارك وتعالى، وتوارث ذلك الخلف عن السلف الصالح إلى يومنا هذا، ولا ينكر هذه الحقيقة الثابتة إلا من أعمى الله قلبه وبصيرته فأنكر بركته صلى الله عليه وسلم وبركة أجزائه في حياته أو بعد وفاته.
وما أحسن قول أحدهم في مدح شعرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم:
هي شعرة المختار فاحتْ بالشَّذا== فبِطيبها تتعطّر النّسمات
فادعُ الإله بسرها متوسلا== فعسى تُجاب بسرها الدعوات
أما عن كيفية حالة وفاته صلى الله عليه وسلم فقد قالت السيدة الجليلة عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم : إن من نِعم الله عليّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفّيَ في بيتي وفي يومي وبين سحْري ونحْري ( والمراد أنه صلى الله عليه وسلم مات ورأسه بين حَنَكها وصدرها رضي الله عنه) ثم تابعت السيدة الجليلة عائشة كلامها فقالت رضي الله عنها: دخل عليّ عبد الرحمن (أخو عائشة) وبيده السواك وأنا مُسندةٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه وعرفتُ أنه يُحب السواك، فقلتءاخذه لك فأشار برأسه أن نعم ، فتناولته فاشتدّ عليه وقلت: أُليّنُهُ لك، فأشار برأسه أن نعم، فلينتهُ فأمرّه وبين يديه ركوة أو عُلبةٌ فيها ماء، فجعل عليه الصلاة والسلام يدخِل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول:" لا إله إلا الله إنّ للموت سكرات" ، ويقول صلى الله عليه وسلم:" اللهم أعني على سكرات الموت" ثم نَصبَ يده صلى الله عليه وسلم وجعل يقول " في الرّفيق الأعلى" ( أي جبريل وميكائيل) حتى قبض( اي مات صلى الله عليه وسلم وقُبضت روحه الشريفة) ومالت يدهُ عليه الصلاة والسلام.
وأخبرت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها أنها: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصْغت إليه قبل أن يموت وهو مسندُ ظهره يقول: اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرّفيق" رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أيضا قالت: كنت اسمع أنه لا يموت نبيّ حتى يُخَيّر بين الدنيا والأخرة، فسمعت النّبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه وأخذته بُحّةٌ يقول:" مع الذّين أنعمَ اللهُ عليهِم مِنَ النّّبيين والصّديقين والشُّهداءِ والصَّلحينَ وحَسُنَ أُولئكَ رفيقَا" سورة النساء. فظننت أنهُ خُيّـر ، رواه البخاري ومسلم.
ورفي رواية صحّحها ابن حبان : فقال_ أي النبي صلى الله عليه وسلم_:" أسأل الله الرّفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل".
فائدة: الرفيق الأعلى جبريل وميكائيل عليهما السلام وليس الله تعالى، وقد فسره بذلك الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم فقال:" الرفيقُ الأعلى جبريل وميكائيل" وبعض الناس يظنون أن الرفيق الأعلى معناه الله وهذا غلط وإن فهموا منه معنى الصحبة فهذا كفر والعياذ بالله، وأما إن فهموا من كلمة الرفيق الأعلى الله الرحيم فهذا ما فيه كفر، فالله تبارك وتعالى لا يوصف بأوصاف المخلوقات.
فائدة: ما يقوله بعض الناس أن جبريل عليه السلام لما جاء للرسول صلى الله عليه وسلم قُبيل وفاته وقال له : هذا ءاخر عهدك بالدنيا وءاخر عهدي بها فهو كلام غير صحيح، بل قد ينزل جبريل عليه السلام على بعض الأولياء ليس للوحي بل للنفحة والتبريك والتنشيط على العبادة.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمتْ بنباْ موته ابنته الجليلة فاطمة الزهراء أم الحسنين رضي الله عنهم قالت والحزن يعتصر فؤادها:" يا أبتاه أجابَ ربًّا دعاه، يا أبتاه من جنّة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه".وعن مصباح التوحيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما رُمِسَ (أي دفن) رسول الله صلى الله عليه وسلم جائت فاطمة رضي الله عنها فوقفت على قبره صلى الله عليه وسلم وأخذت قبضةً من تراب القبر ووضعت على عينيها وبكتْ، وأنشأت تقول:
ماذا على من شمَّ تربةَ أحمدِ == أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا(1)
صُبَّت عليَّ مصائبٌ لو أنّها == صُبَّت على الأيام عُدنَ لياليّا
رواه ابن عساكر في التحفة.
فائدة: افضل نساء العالمين مريم ابنة عمران أمّ النبيّ عيسى المسيح عليه السلام، ثم فاطمة عليها السلام بنت النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم خديجة بنت خويلد زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ءاسية بنت مزاحم زوجة فرعون موسى، ثم السيدة الجليلة عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن.
قال أبو سعيد البزار بسندٍ جيّد:" وما نفضنَا أيدينا من دفنه حتّى أنكرنا قلوبنا"، يريد أنّهم وجدوها تغيّرت عمّا عهدوه في حياته من الالفة والصّفاء والرّقّة لفقدان ما كان يمُدّهم به من التعليم والتأديب
مدّة مرضه صلى الله عليه وسلم وزمان وفاته وعمره حين مات
اختلف العلماء في مدة مرضه عليه الصلاة والسلام وأكثر العلماء قالوا إن مدة مرض وفاته صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثة عشر يومًا.
وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم في ضُحى يوم الإثنين في الثاني عشر من شهر ربيع الاول.
وقد أخبرت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم والتي هي من أحبّ نسائه إليه، وهي رضي الله عنها أفقه نساء هذه الأمة بل هي أعلم النساء على الإطلاق:" أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تُوفيَ وهو ابن ثلاث وستين سنة" رواه البخاري ومسلم، وصحّ مثله عن ترجمان القرءان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فيما رواه البخاري.
تعزيةُ الخَضِر عليه السلام بوفاةِ النبيّ الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم
لقد كانت مصيبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بموت الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام كبيرة جدا، أثّرت تأثيرًا بليغًا على نفوسهم وقلوبهم، وقد ورد أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم سمعوا لما مات الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وكان مُسجّى بينهم قائلاً يقول:" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أهل البيت، إن في الله عِوضًا من كل تالِف وخلفًا من كلّ هالك وعزاء من كل مصيبة فاصبروا واحتسبوا، إن الله مع الصابرين وهو حسبنا ونعم الوكيل".
فكانوا يرون أنه الخضر صلى الله على نبيّنا وعليه وعلى جميع إخوانه النّبيين والمرسلين.
وورد في رواية: وجاءت التعزية يسمعون الشخص: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته " كل نفسٍ ذائقةُ الموت وإنّما تُوفّون أُجورَكُم يوم القيَمة" سورة ءال عمران، إنّ في الله عزاء من كل مصيبة وخلفًا من كل هالِك ودركًا من كل فائت، فبالله ثقوا وإياه فارجوا، إنما المُصاب مَن حُرِم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما تركه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ وفاته
عن عمرو بن الحارث قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمةً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضًا جعلها لابن السّبيل صدقة. رواه البخاري
وقالت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها :" تُوفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودِرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير". رواه البخاري وغيره.
وصايا النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته
لا ريب أن اقوال النبيّ العظيم جميعها موضعٌ للعبرة والعِظة والفائدة لكنه عليه الصلاة والسلام اختصّ أمّته ببعض النصح والوصايا وهو في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم وهو مقبلٌ على الآخرة مُدبرٌ عن هذه الدنيا الفانية ، ونذكر بعضا من نصائحه ووصاياه صلى الله عليه وسلم للإعتبار والعظة:
_ الوصية بالأنصار:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي في مرض موته) وعليه مِلحفة ( وهو اللباس فوق سائر اللباس) مُتعطّفًا بها ( أي مُتوشّحًا مرتديًا) على منكبيه وعليه عِصابةٌ ( أي ما يشد به الرأس) دَسمَاءُ ( أي سوداء ليست خالصة السواد) جلس على المنبر وكان ءاخر مجلس جلسه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:" أما بعد، أيها النّاس فإنّ النّاس يَكثُرون وتَقِلّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطّعام فمن ولِي منكم أمرًا يضُرُّ فيه أحدًا أو ينفعه فليقبَل من مُحسِنِهم ويتجاوز عن مُسِيئِهِم" رواه البخاري.
وهذه الوصية من الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم تدل على عظيم فضل الأنصار وهم أهل المدينة المنورة الذين ناصروا النبيّ صلى الله عليه وسلم ودعوته وءاوَوْا المهاجرين واحتضنوا دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ونصروها، وهذه الوصية من النبيّ عليه الصلاة والسلام بالأنصار تدل على عظيم أخلاق النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم ومقابلته المعروف والإحسان بالمثل فجزَى الله تعالى نبيّنا محمدًا عن أمته خيرًا على ما نصح ووصّى وعلّم وأرشد.
ومن نصائح ووصايا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم السّتارة والنّاس صفوفٌ خلف ابي بكر(أي في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم) فقال: أيّها النّاس إنّه لم يبق من مُبشّرات النّبوّة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، ألا وإنّي نُهيتُ أن أقرأ القرءان راكعًا أو ساجدًا فأما الركوع فعظّموا فيه الرّبَّ عزّ وجلّ وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء فقمِنٌ ( أي حقيقٌ وجدير) أن يُستجاب لكم" رواه مسلم.
الوصية بالصلاة وحقوق مِلك اليمين
وعن عليّ بن ابي طالب رضي الله عنه قال: كان ءاخر كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم " الصلاة وما ملكت أيمانكم" رواه ابن ماجه.
كذلك ورد عن أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه الذي تُوفي فيه:" الصلاة وما ملكت ايمانكم" فما زال يقولها حتى ما يفيضُ بها لسانهُ, رواه ابن ماجه.
وعن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت عامّةُ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يُغرغِر بنفسه:" الصلاة وما ملكت أيمانكم" رواه ابن ماجه.
ومعنى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التي حضّ عليها أمته حضًّا بليغًا لعظم أهميتها ، المحافظة على الصلوات بأدائها كما أمر الله تعالى وعدم تضييعها، والمحافظة على حقوق ما ملكت أيمانكم وهم الرقيقُ والعبيدُ الذين لهم في الشريعة الإسلامية أحكام خاصة.
فائدة في أهمية الصلوات الخمس:
ومما ورد عن النبيّ العظيم صلى الله عليه وسلم في فضل الصلاة قوله عليه الصلاة والسلام:" خمسُ صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهنّ بتمامهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهنّ فليس له عند الله عهد أن يدخله الجنة إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة" رواه الإمام أحمد.
وقد ورد في وعيد تارك الصلاة أنه لا نور ولا نجاة ولا برهان يوم القيامة وأنه يكون مع فرعون وهامان وقارون وأبيّ بن خلف.
ومع ذلك فتاركها كسلاً ليس بخارج من الإسلام بل هو مسلم عاصٍ يستحق العذاب يوم القيامة للحديث المذكور ءانفًا .
ومما ورد عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في وصيّة مالك العبيد بعبيده الأرقاء قوله عليه الصلاة والسلام :" إخوانكم خوَلُكم( أي حشمكم) ملّكَكُم الله إياهم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسهُ مما يلبَس ولا يكلفهُ من العمل ما يغلبهُ فإن كلفتموهم فأعينوهم" رواه البخاري.
ثم أن ابا بكر رضي الله عنه من رباطة جأشه وقوة صبره وثباته ويقينه خرج إلى الصحابة الذين كانوا لموت نبيهم عليه الصلاة والسلام في غاية الاضطراب، وكان الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينهم مضطربًا اضطرابًا شديدًا يحلفُ لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه إلى الناس قال لعمر رضي الله عنه : ايها الحالفُ على رٍسلكَ( أي هِينتِك ولا تستعجل) وأمره بالجلوس ، ولكن عمر رضي الله عنه لذهوله ودهشته أبى إلا أن يتلكم ولم يجلس، عندها أقبل ابو بكر رضي الله عنه وجلس واقبل الصحابة إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو يكلمهم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال قولته المشهورة:" ايها الناس إنه مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت".
ثم تلا قول الله تعالى:" وما محمدٌ إلاّ رسولٌ قد خلت مِن قبلهِ الرُّسُل افأِين ماتَ أو قُتِل انقلبتُم على أعقَبِكُم ومَن ينقلِب على عَقِبيهِ فلن يضُرَّ اللهَ شيئًا وسيجزى اللهُ الشاكرينَ" سورة ءال عمران.
وعندما قرأ ابو بكر رضي عنه هذه الأية الكريمة على الصحابة الكرام كلهم فكأنهم لم يعلموا أن الله تعالى أنزل هذه الأية، فتلقَّاها منه الصحابة كلهم وصاروا يتلونها حتى قال عمر الفاروق رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعَقِرْتُ( أي دهشت)
حتى ما تُقلّني( اي ما تحملني) رجلاي وحتى أهويتُ إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.
وأما السيدة الجليلة فاطمة الزهراء بنت النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام فقد قالت رضي الله عنها عند وفاة ابيها المصطفى صلى الله عليه وسلم : يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاهُ جنَّة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه".
ومما قالت السيدة فاطمة رضي الله عنها في رثاء أبيها النبيّ الأعظم عليه الصلاة والسلام بعد وفاته:
اغبرَّ ءافاق السماءِ وكورت ***** شمس النهار وأظلم العصران
فالارض من بعد النبي كئيبة **** اسفا عليه كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها ****** ولتبكهِ مُضٌر وكل يماني
وليبكه الطودُ الاشعر جوُّه ******* والبيت والاستار والأركان
ياخاتم الرسل المبارك ضوؤه ***** صلى عليك منزلُّ الفرقان
ومما قالته صفية بنت عبد المطلب عمةُ النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن حزني على النبي طويل** وذاك مني على الرسول قليل
بكت الأرض والسماءُ عليه ** وبكاهُ نديمه جبريل
بيعةُ الصحابةِ لأبي بكر الصّديق بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم
بعد موت الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم اهتمَّ الصحابة الكرام لنصب خليفة عليهم يكون إمامًا لهم وأميرًا ويقومُ مقامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في إدارة شؤون العباد والبلاد ، فاجتمع بعضُ أكابر وأعيان الصحابةِ في سقيفةِ بني ساعدَة فبايعوا أبا بكرٍ رضي الله عنه خليفة عليهم، وكان ذلك يوم الاثنين وهو اليوم الذي تُوفّيَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الغدُ اجتمع الصحابة رِضوانُ الله عليهم في مسجد نبيّهم عليه الصلاة والسلام فبايع عامةُ المسلمين أبا بكرالصديق رضي الله عنه خليفة وإمامًا عليهم، فهم كانوا يعلمون أنّ أبا بكر رضي الله عنه هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار يوم هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة وهم يعلمون يقينًا أن الرسول المصطفى قدّمهُ ليُصلي بالناس إمامًا ، والصلاة هي أفضلُ الأعمال بعد الإيمانِِ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال الصحابة الكرام رضي الله عنهم عند بيعة الصّديق أبي بكر رضي الله عنه: رضيهُ الله لديِنِنَا أفلاَ نرضاهُ لدُنيانَا.
لذلك رضيَ الصحابة الكرام كلهم ببيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكذلك رضي ببيعته أهل بيتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومنهم الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه الذي ثبتَ أنه بايع أبا بكرٍ رضي الله عنه بعد ذلك على المِنبرِ.
خطبةُ أبي بكرٍ رضي الله عنه بعد مُبايعته خليفة
بعد مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إمامًا وأميرًا لإدارة شؤون المسلمين وشؤون البلاد من قبل أكابر الصحابة من أهل الحلّ والعقد ومِن ثم بعد ذلك من قبل عامة المسلمين ، ألقى الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه في المسلمين خطبته المشهورة التي تُكتبُ بأحرف من نور، حيث تكلمَ أبو بكرٍ رضي الله عنه فحمِدَ الله وأثنى عليه بالذي هوَ أهلُهُ ثم قال: " أما بعد ، أيها الناسُ فإنّي قد وُليتُ عليكم ولست بخيرِكم فإن أحسنتُ فأعينُوني وإن اسأتُ فقوّمونِي ، الصّدقُ أمانةٌ والكذِبُ خيانةٌ، والضعيفُ فيكم قويّ عندي حتى أُرِيحَ عليه حقّهُ إن شاء الله ، والقويّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى ءاخذ الحقّ منه إن شاء الله ، لا يدعُ قومٌ الجهادَ في سبيل اللهِ إلا ضربَهُمُ اللهُ بالذّلّ، ولا تشيعُ الفاحشةُ في قومٍ قطّ إلا عمّهمُ اللهُ بالبلاءِ ، أطيعوني ما أطعتُ اللهَ ورسولَهُ فإذا عصَيتُ اللهَ ورسولَهُ فلا طاعة لي عليكُمْ قومُوا إلى صلاتِكُمْ يرحمكُمُ اللهُ".
وهكذا انشغل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيةَ يوم الاثنين وبعض يوم الثلاثاء عن تجهيز النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم بِبيعةِ الصّديق أبي بكر رضي الله عنه فلما تمهدت وتوطدت وتمّت شرَعوا بعد ذلك في تجهيزه عليه الصلاة والسلام معتدّينَ في كل ما اشكلَ عليهم بالصديق أبي بكرٍ رضي الله عنه الخليفة الراشد والتقي وأفضل الصحابة بل وافضل المسلمين على ذلك علماء أهل السُّنة والجماعة بل هو أفضل البشر بعد الأنبياء.
فائدة: يقول ابنُ إسحاق : ولما تُوفيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَظُمَتْ به مصيبة المسلمين فكانت عائشة فيما بلغني تقولُ: لما تُوفيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّتِ العربُ ( أي بعض منهم) واشرابّت اليهودية والنصرانية ونجم النفاقُ ( اي طلع وظهرَ) وصار المسلمون كالغنم المطيرةِ في الليلة الشّاتيةِ لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى جمعهم الله على ابي بكرٍ.
غُسلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وتكفينهُ ودفنهُ
_ كيف غُسل الرسول صلى الله عليه وسلم
لما أراد الصحابة غُسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في ذلك فقالوا: والله ما ندري أنُجرّد رسول الله من ثيابه كما نُجرّد موتانا أو نُغسّلُهُ وعليه ثيابه صلى الله عليه وسلم؟
فلما اختلفوا في ذلك ألقى الله تعالى عليهم النّومَ حتى ما منهم رجلٌ إلا ذقنُهُ في صدرهِ ثم كلّمهم مُكلّمٌ من ناحيةِ البيت لا يدرونَ من هو :" أن اغسِلوا النبِيّ صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابهُ".
فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسّلوه وعليه قميصُهُ يصبُّون الماء فوق القميصِ ويُدَلّكونَهُ والقميصُ دون أيديهم.
( القميص في المصطلح الشرعي هو الثوب الذي يسترُ معظم البدن).
من تولّى غسل الرسول صلى الله عليه وسلم :
لما اجتمع الصحابة عليهم السلام لغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في البيت إلا أهلهُ : عمُّهُ العبّاسُ وعليُّ بن أبي طالبٍ والفضلُ بنُ العبَّاسِ وقُثَمُ بنُ العبَّاسِ وأسامةُ بنُ زيدِ بنِ حارثة وصالحٌ مولاهُ، نادى من وراء الباب أوسُ بنُ خولِيِّ الأنصاريّ وكان من أهل بدر نادى عليّا بن أبي طالبٍ رضي الله عنه فقال:" يا عليُّ ناشدتُكَ الله حظَّنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عليّ عليه السلام : ادخُل، فدخل هذا الصحابي الجليل وحضرَ غُسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لم يَلِ من غسلهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا، وأسند عليّ رضي الله عنه النبيَّ العظيم صلى الله عليه وسلم إلى صدرهِ وعليه قميصُهُ يدلكه به من ورائه لا يُفْضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان العباس عمُّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ابنان الفضلُ وقُثَم يُقلّبونهُ مع عليّ بن ابي طالبٍ رضي الله عنهم وكان أسامة بنُ زيدٍ وصالحٌ يصبّان الماء على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجعل ابن عمه عليّ رضي الله عنه يُغسّله صلى الله عليه وسلم.
ولم يُرَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شىءٌ مما يُرى من الميّت وكان عليّ رضي الله عنه وكرم وجهه أثناء غسله وتدليكه للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يشمُّ الأعطار والروائح الزكية وهي تعبَق من النبيّ عليه الصلاة والسلام فصار رضي الله عنه يقول: بأبي أنت وأُمّي ما أطيبَكَ حيًّا وميّتًا.
فائدة: رُوي أنه أثناء غسل النبي صلى الله عليه وسلم كان الماء يستنقعُ في جفون النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان عليّ رضي الله عنه يحسوه تبركًا بالنبي عليه الصلاة والسلام.
تكفينُ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم
لما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفّن عليه الصلاة والسلام في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ ليس فيها قميصٌ ولا عمامة، ( القميص هو الثوب الذي يستر معظم البدن).
فعن السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: كُفّن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سُحُولِ ( أي بيض) كُرْسُفٍ ( أي قطن) ليس فيها قميصٌ ولا عِمامةٌ.
حفرُ قبرِ الرسول صلى الله عليه وسلم
أراد الصحابة الكرام عليهم السلام أن يحفروا قبرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة يضرحُ أي يحفر القبر كحفرِ أهل مكة وكان الصحابي أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري هو الذي يحفر القبر لأهل المدينة، فكان يلحد( واللحد هو الشق في جانب القبر) فدعا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم رجلين فقال لأحدهما: اهب إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقال للآخر : اذهب إلى ابي طلحة ، ثم قال رضي الله عنه: اللهم خِرْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
دفنُ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه
لما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد تُوفيَ يوم الاثنين وُضِع صلى الله عليه وسلم على سريره الشريف المبارك في حُجرة السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها وكان الصحابة عليهم السلام قد اختلفوا في دفنه صلى الله عليه وسلم ، فقال قائلٌ منهم: ندفنه في مسجده وقال قائل ءاخر: بل ندفنه مع اصحابه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما قُبض نبيّ إلا دُفن حيث يُقبض" اي في المكان الذي أماته الله فيه
فرُفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تُوفي عليه فحُفر له تحته عليه الصلاة والسلام ثم هُيء لدفنه صلى الله عليه وسلم ثم وُضع النبيُّ المصطفى صلى الله عليه وسلم على شفير القبر ثم دخل الصحابة الكرام عليهم السلام يصلون على نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم أرسالا اي جماعات متتابعين فوجًا بعد فوج لا يؤُمّهم أحدٌ, دخل أولا الرجال حتى إذا فرغوا أُدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أُدخِل الصبيان.
متى دُفن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تولى دفنه صلى الله عليه وسلم
دُفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء ودُفن في اللحد( واللحد هو الشق في جانب القبر) وبُني عليه صلى الله عليه وسلم في لحده اللُبن ( وهو ما يعمل من الطين ويُبنى به) ثم أهالوا عليه صلى الله عليه وسلم التراب، وجُعل قبره الشريف عليه الصلاة والسلام مُسطّحًا ورُشّ عليه الماء رشًا.
وأما الذين نزلوا في قبر النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة وتولوا دفنه فهم: عمه العباس بن عبد المطلب وعليّ بن ابن طالب والفضل بن العباس وقُثم بن العباس وشُقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الصحابي الجليل أوس بن خولِيّ الأنصاري البدري رضي الله عنه لعليّ بن ابي طالب كرم الله وجهه أثناء دفن النبي عليه الصلاة والسلام:" يا عليّ ، أنشدك الله حظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له علي رضي الله عنه : انزِل، فنزل مع القوم الذين تولّوا دفن النبيّ صلى الله عليه وسلم تطيبًا لخاطر الأنصار ولعظيم فضلهم ومآثرهم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
ولما دفن الصحابة الكرام الرسول الأعظم قالت السيدة الجليلة فاطمة بنت النبيّ عليه الصلاة والسلام لأنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلبها يعتصر حُزنًا على فراق أبيها المصطفى صلى الله عليه وسلم:" يا أنس أطابت أنفسكم أن تحْثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب" أي ترموا التراب بايديكم عليه صلى الله عليه وسلم.
ثم جاءت عليها السلام فوقفت على قبر أبيها النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم قبضت من تراب القبر الشريف المبارك الطيّب ووضعت منه على عينيها تبركًا به وتيمنًا، ثم بكت بكاءً مريرًا وأنشأت تقول حزينة وكلها شوق إلى أبيها المصطفى عليه الصلاة والسلام:
ماذا على من شمّ تربةَ أحمدٍ ** أن لا يَشمّ مدى الزمان غواليا(1)
صبّت عليّ مصائب لو أنها * صُبّت على الأيام عُدن لياليا
(1) غواليا جمع غالية، والغالية خليط من عدة عطور
فوائد نافعة
فائدة: رُوي أن السيدة الجليلة عائشة زوج النبي عليه الصلاة والسلام كانت قد رأت في المنام أن ثلاثة أقمار سقطت في حُجرها اي بيتها فقصّت على أبيها ابي بكر رضي الله عنهما فقال لها رضي الله عنه: إن صدقت رؤياك يُدفن في بيتك ثلاثةٌ هم خيرُ أهل الأرض .
فلما دُفن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم قال لها: هذا خيرُ أقمارك الثلاثة الذين نزلوا حُجرتك قد حلَّ الدار، ثم دفن بعد ذلك في حجرة عائشة اي بيتها رضي الله عنها صاحباه صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنهما اللذان دفنا معه صلى الله وسلم عليه وعلى ءاله وصاحبيه, فهما رضي الله عنهما الضجيعان الشريفان المباركان للمصطفى صلى الله عليه وسلم من الاقمار الثلاثة اللذان جاورا في اللحد النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام أفضل وأشرف الأنبياء، فهو صلى الله عليه وسلم خيرُ جار في الممات وهو خير جار في الحياة ، فهنيئًا لمن كان في جواره عليه الصلاة والسلام في الحياة وفي الممات وهنيئًا لمن أسعده الله تعالى برفقته وصحبته في جنات النعيم.
فائدة: قال بعض العلماء إن التراب الذي ضمّ النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم افضل عند الله تعالى من العرش المجيد.
فائدة: روى ابن النجار عن كعب الأحبار أنه قال" ما مِن فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفًا من الملائكة حتى يحفّوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويُصلّون على النبي حتى إذا أُمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقّت الأرض خرج في سبعين ألفًا من الملائكة صلى الله عليه وسلم ، وفي سنن الدارمي نحوه من رواية عائشة رضي الله عنها، وقال فيه: سبعون ألفًا بالليل وسبعون ألفًا بالنهار ، ذكره في باب ما أكرم الله به نبيّه صلى الله عليه وسلم بعد موته. ورواه البيهقي في شعبه.
أثر مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم على قلوب الصحابة
لقد كان لموت الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ومفارقته وفقدانه أثر كبير على قلوب صحابته عليهم السلام وقد ظهر ذلك من خلال اقوالهم وأحوالهم وما أحسوا به من أحوال بعد موته عليه الصلاة والسلام.
فعن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اضاء منها كل شىء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شىء، ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الايدي وإنّا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
وفي رواية عن أحد الصحابة أنه قال:" وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" يريدون بذلك أنهم وجدوا قلوبهم قد تغيرت عما عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرّقة، وذلك لفقدان ما كان يمدّهم به عليه الصلاة والسلام من التعليم والتأديب والأنوار والفوائد العظيمة.
فيا لها من مصيبة جلَل ما اصيب المسلمون بمثلها قطُّ ، ويا لها من مصيبة كبرى أظلمت لها المدينة المنورة التي تنوّرت بأنوار النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ويا لها من مصيبة جَلل حزنت بعدها قلوب الصحابة وتغيرت لفقدان الأمداد النبوية التي كان الرسول الأعظم يمدُّ بها صحابته عليهم السلام من تعليم وتأديب وحكم ومواعظ وأحكام.
_ الجمادات تتصدّع وتحنّ وتئنّ لفراق الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد كان مُصاب الصحابة الكرام عليهم السلام بفراق نبيّهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم كبيرًا وعظيمًا لما عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرقة في نفوسهم وقلوبهم، وكان شوقهم لرؤية مُحياه الجميل بعد مفارقته صلى الله عليه وسلم إيّاهم عظيمًا وليس أمرًا سهلا وصفه والتعبير عنه بالبيان أو اللسان ، وكيف لا تحنّ قلوب الصحابة شوقًا إليه وكيف لا تضطرب نفوسهم وتتلوع لمفارقته والجذع الخشبيّ اليبيس قد حنّ وبكى شوقًا وحُبًّا للنبي عليه الصلاة والسلام عندما فارقه بعدما كان عليه الصلاة والسلام يخطب مستندًا إليه فكيف بقلوب المؤمنين من الصحابة الكرام الذين صاحبوا نبيّهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياتهم وعاشروه سنين طويلة وكانوا معه في حياته وكان صلى الله عليه وسلم يمدّهم بإذن الله تبارك وتعالى بالأنوار والبركات والخيرات والنفحات المباركة.
قصة حنين جذع النخلة لفراق النبي صلى الله عليه وسلم
إن معجزة حنين الجذع الخشبي إلى النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم خبرها متواتر يفيد العلم القطعيّ كما قال العلماء، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه فحنّ الجذع فأتاه فمسح يده عليه" رواه البخاري والبيهقي.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة فقالت امرأةٌ من الأنصار أو رجلٌ : يا رسول الله ألا نجعل لك منبرًا ؟ قال:" إن شئتم"، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة رُفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبيّ ثم نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم فضمّها إليه تئنُّ أنين الصبي الذي يسكنُ، رواه البخاري.
اي أن الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم نزل من منبره فالتزمه أي ضمّه واعتنقه حتى سكت.
ومن الروايات الواردة في معجزة حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه:" والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حُزنًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر به فدُفن" أخرجه أبو عوانة وابن خزيمة.
وفي حديث الحسن البصري عن أنس إذا حدّث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شوقاً إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه .
وفي رواية ايضًا لمعجزة الجذع شوقًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث بريدة عند الدارمي أن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم قال للجذع عندما ضمه واعتنقه بعد صياحه وحنينه :" اختر أن أَغْرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت_ يعني قبل أن تصير جذعًا_ وإن شئت أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسُن نبْتك وتثمر فيأكل منك أولياء الله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم اختار أن أغرسه في الجنة".
فهذا الجذع الذي حنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، الله تبارك وتعالى خلق فيه الإدراك والمحبة والشوق لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العالمين، فحنّ من شدة الشوق .
وفي إحدى روايات هذا الحديث:" خَارَ ذلك الجذع كخُوارِ الثّور"، وفي رواية أيضًا أنه تصدّع وانشقّ من شدة شوقه للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وكان هذا الجذع الخشبيّ في قبلة المسجد.
وحديث حنين الجذع للنبيّ صلى الله عليه وسلم ثابت متواترٌ عند علماء الحديث، وهذه المعجزة من أعجب المعجزات التي يؤيد الله تبارك وتعالى بها أنبياءه لتدلّ على صدقهم فيما جاؤوا به من عند الله تعالى، ويصح أن نقول إن معجزة الجذع لنبينا عليه الصلاة والسلام أعجب من معجزة إحياء الموتى التي حصلت للمسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، لأن إحياء الموتى يتضمن رجوع هؤلاء الأشخاص إلى مثل ما كانوا عليه قبل أن يموتوا ، وأما الجذع الخشبيّ حنّ للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو من الجماد الذي لم يكن من عادته أن يتكلم بإرادة فهو أعجبُ، وبذلك تكون معجزة حنين الجذع الخشبي للنبيّ المصطفى عليه الصلاة والسلام من أعجب وأظهر المعجزات.
وقد نقل ابن أبي حاتم في كتاب "مناقب الشافعي" عن أبيه عن عمر ابن سواد عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: ما أعطى الله نبيًا ما أعطى محمدًا ، قلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال( أي الشافعي) : أعطيَ محمدٌ حنين الجذع حتى سُمع صوته ، فهذا أكبر من ذلك.
فائدة: قال الإمام البيهقي رضي الله عنه: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان بل كأشرف الحيوان وفيه تأييد لقول من يحمِل قوله تعالى:" وإن من شىءٍ إلاّ يُسبّحُ بحمده(44) على ظاهره.
وأنشد لسان الحال:
ويح قوم جَفَوا نبياً بأرض --- ألِفته ضِبابها والظباء
وسلوهُ وحنّ جـذع إليه --- وقَلَوه وَوَدَّه الغربـــاء
أخرجوه منها وأواهُ غار--- وَحَمته حَمامة وَرقَاء
صلى عليك الله يا علم الهدى ما هبّت النسائم وما ناحت على الأيكِ الحمائم
محبةُ السلف الصالح للنبيّ الأعظم وشدة شوقهم إليه في حياته ومماته
كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن اتّبعهم بإحسان قلوبهم عامرة بحبّ الله تعالى وحُبّ رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان من علامات حبّهم للنبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا كثيري الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم، لأن كل حبيب يحب لقاء محبوبه وحبيبه، وكانوا رضي الله عنهم يكثرون من ذكره صلى الله عليه وسلم وتوقيره عند ذكره وإظهار الخشوع والانكسار عند سماع اسمه صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد أنّ أصحاب النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم كانوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرّت جلودهم وبكوْا شوقًا إليه, وكان كثيرٌ من التابعين من يفعل ذلك محبة له وشوقًا إليه، ومنهم من يفعله تهيّبًا له وتوقيرًا، وكيف لا يكون ذلك والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم قد جمع وحَوى جَمال الصورة والظاهر وكمال الأخلاق والباطن
وله صلى الله عليه وسلم فضل عظيم على أمته من حيث إحسانه وإنعامه عليهم من أوصاف وصفه الله تعالى بها من رأفته بالمؤمنين ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليهم واستنقاذهم به من النار وأنه صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، ورحمة للعالمين ومُبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله تعالى بإذنه، ويتلو عليهم ءاياته ويُزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فايّ إحسان أجلّ قدرًا من إحسانه إلى جميع المؤمنين ، وأي إفضال أعم منفعة وأكثر قدرًا من إحسانه إلى كافة المسلمين؟ إذ كان عليه الصلاة والسلام ذريعتهم إلى الهداية ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربهم وشفيعهم يوم القيامة والمتكلم عنهم والشاهد لهم والمُوجبَ لهم البقاء الدائم والنّعيم السَّرْمَد في الآخرة وذلك لإيمانهم وإسلامهم واتباعهم له صلى الله عليه وسلم.
وبذلك يكون النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم مُستوجبًا شرعًا للمحبة الحقيقية ، قال الله تعالى :" لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليهِ ما عنتُم حريصٌ عليكم بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيمٌ(128) سورة الزمر.
وقال سبحانه وتعالى: قل إن كنتم تحبونَ اللهَ فاتَّبعوني يُحببكمُ اللهُ ويغفر لكم ذُنوبَكُم والله غفورٌ رحيمٌ (31) قل أطيعوا اللهَ والرّسولَ فإن تولّوا فإنَّ اللهَ لا يحبُّ الكفرين(32) سورة ءال عمران.
يقول الإمام الجنيدُ رضي الله عنه: الطريقُ إلى الله مسدودٌ على خلق الله عزّ وجلّ إلا على المقتفين ءاثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لسنته كما قال الله عزّ وجل:" لقد كان لكم في رسولِ اللهِ أُسوةٌ حسنةٌ (21) سورة الأحزاب.
مظاهرُ محبةِ السلف والأئمة الأعلام للنبيّ صلى الله عليه وسلم وشوقهم إليه
كثُرت الروايات والأخبار عن السلف الصالح والأئمة الأعلام فيما يدل على عظيم محبتهم لنبيّهم صلى الله عليه وسلم وشدة شوقهم له، وقد قال عليه الصلاة والسلام:" مِن أشدّ أمتي لي حُبّـًا أناسٌ يكونون بعدي يوَدُّ أحدهم لو رءاني بأهله ومالِهِ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" وددتُ لو رايتُ أحبابي " قالوا: أولسنا أحبابك يا رسول الله، قال " أنتم أصحابي، أحبابي الذين يأتون من بعدي يود أحدهم أن لو رءاني بأهله وماله".
وممّا ورد عن السّلف الصالح من أقوال وروايات وأخبار فيما يتعلق بحُبهم لنبيّهم عليه الصلاة والسلام وشوقهم إليه في حياته وبعد مماته أن عمرو بن العاص قال: ما كان أحدٌ أحبُّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عبْدةَ بنت خالد بن مَعدن تُخبرُ عن أبيها فتقول: ما كان خالدٌ يأوي إلى فراش إلا وهو يذكرُ من شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار يُسمّيهم ويقول: هم اصلي وفصْلي وإليهم يحِنُّ قلبي ، طال شوقي إليهم فعجّل ربّ قبضي إليك، حتى يغلبه النوم.
وردَ أن امرأةً من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أُحُدٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما فعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا لها : خيرًا هو بحمد الله كما تُحبّين، قالت: أرِنيهِ حتى أنظر إليه فلما رأته صلى الله عليه وسلم قالت: كلّ مصيبةٍ بعدك جَلَل ( أي هيّن).
وسُئل يومًا عليّ بن ابي طالب كرم الله وجهه كيف كان حُبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال رضي الله عنه: كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وءابائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.
وعن زيد بن اسلم خرج عُمرُ رضي الله عنه ليلةً يحرسُ الناس فرأى مصباحًا في بيت وإذا عجوزٌ تنفُشُ صوفًا وتقولُ:
على محمد صلاة الأبرارْ ~~ صلّى عليه الطيّبون الأخيار
قد كنت قوّمًا بُكًا بالاسحار ~~ يا ليت شِعري والمنايا أطورْ
هل تجمعني وحبيبي الدار
( تعني النبيّ صلى الله عليه وسلم).
فجلس عمر رضي الله عنه يبكي وطلب منها أن تشاركه وتذكره في كلامها.
وثبت أن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خدرت رِجله، فقيل له: اذكر أحبّ الناس إليك يُزل عنك، فقال يا مُحمّــد. فكأنما نشط من عقال_ اي تعافى فورًا (1)
فائدة: نص الإمام البخاري في كتابه" الأدب المفرد" على جواز نداء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته بيا محمد، وذلك خلاف معتقد الوهابية نفاة التوسل فإنه عندهم شرك، وأورده ابن السني في كتابه عمل اليوم والليلة ، ونص الحديث في كتاب البخاري المذكور:" خدرتْ رجل ابن عمر فقال له رجل: اذكر أحبّ الناس إليك فقال يا محمد ".
والخِدر غير التنميل الذي نعرفه، هو مرض من نوع الشلل يتعطل منه العضو عن الحسّ والشعور.
ولما احتُضرَ بلال الحبشي رضي الله عنه وكان مؤذّن الرسول صلى الله عليه وسلم نادت امرأته: واحُزناه فقال رضي الله عنه: واطَرباه غدًا ألقى الأحبّة محمدًا وحِزبَه.
ويُروى أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها بعد وفاة النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم اكشفي لي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشفته لها فصارت تبكي أمام القبر الشريف حتى ماتت من عظيم شوقها ووَجدها وحبّها للنبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وممّا ورد في شدة حبّ الصحابة رضوان الله عليهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وتفاديهم في إبعاد الأذى والضر عنه أنه لمّا أخرج أهل مكة زيد بن الدئنة من الرم ليقتلوه قال له سفيان بن حرب: أنشُدُكَ الله يا زيد أتُحِبُّ أنّ محمدًا الأن عندنا مكانكَ يُضرب عُنُقه وأنَّك في أهلك؟ فقال زيدٌ رضي الله عنه : والله ما أحبُّ أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تُصيبُه شوكةٌ وإنّي جالسٌ في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يُحبُّ أحدًا كحُبّ أصحاب محمّدٍ محمّدًا.
وممّا يدلنا على عظيم تعلق الصحابة عليهم السلام وحُبهم للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ما حصل في غزوة أُحُد عندما خالف الرماة أوامر النبيّ صلى الله عليه وسلم وانكشف المسلمون واندفع المشركون من خلف المسلمين يُوقعون فيهم الضرر والأذى، ويُوجعون فيهم قتالا ، وهنا تجلّت روائع مظاهر الدفاع والفداء من الصحابة الكرام لنبيهم عليه الصلاة والسلام حيث تحولوا كالسور المنيع حول نبيّهم صلى الله عليه وسلم وراحوا يذودون عنه ويحمونه بأجسادهم من قتال المشركين وضرباتهم الموجعة ويتساقطون الواحد تلو الآخر تحت وابل السهام حتى قُتل كثير منهم، وهذا كله حُبّـًا وعشقًا لنبيهم وقائدهم الأعظم صلى الله عليه وسلم وفداءً له عملا بقوله تعالى:" النبيُّ أولَى بالمؤمنينَ مِن أنفسِهِم(6) سورة الأحزاب.
ومما ورد أيضًا في فداء الصحابة رضوان الله عليهم لنبيّهم عليه الصلاة والسلام بأرواحهم وأجسادهم في يوم أُحُد حيث انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ،موقفُ الصحابي الجليل أبي طلحة رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم للذود عنه، حيث وقف رضي الله عنه مُتَرّسًا بنفسه عليه بترس له، وكان أبو طلحة رضي الله عنه رجُلاً راميًا شديد النزع فكان النبي عليه الصلاة والسلام يُشْرِفُ لينظر إلى القوم فيقول له أبو طلحة رضي الله عنه:" بابي أنت وأمي لا تشرفُ يُصيبك سهمٌ من سهام القوم، نَحري دون نَحْرُكَ".
وكذلك تَرّسَ أبو دجانة رضي الله عنه نفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبل يتلاحق في ظهره وهو منحنٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتِل هو ومعه خمسة ممن كانوا يذودون عن نبيّهم عليه الصلاة والسلام ويقاتلون دونه حتى فدوه صلى الله عليه وسلم بأرواحهم ونالوا شرف الشهادة
وكان ءاخرهم الصحابي الجليل عمارة بن يزيد رضي الله عنه الذي قاتل دون النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يحميه بنفسه حتى أثخنته الجراح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبُ القلب الرحيم:" أدنوه مني" فوسده صلى الله عليه وسلم قدمهُ الشريفة المباركة فمات رضي الله عنه وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما ورد ايضًا في شدة محبة الصحابة لنبيّهم عليه الصلاة والسلام وشدة تعلق قلوبهم برؤيته وعدم تحمل مفارقته أنّ رجلا أتى النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لأنت أحبُّ من أهلي ومالي وإني لأذكرك فما اصير حتى أجىء إليك فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك فعرفت أنك دخلت الجنة رُفعت مع النبيين وإن دخلتها لا أراك، فأنزل الله تبارك وتعالى :" ومن يُطِع اللهَ والرسولَ فأولئكَ مع الذينَ أنعمَ اللهُ عليهِم منَ النّبيين والصّديقين والشُهداء والصلحين وحسُنَ أولئِك رفيقًا" سورة النساء.
فدعا صلى الله عليه وسلم به فقرأها عليه.
وفي حديث ءاخر كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه صلى الله عليه وسلم لا يطرفُ_ أي لا يصرف بصره عنه_ فقال له صلى الله عليه وسلم :" ما بالك؟" قال: بابي أنت وأمي أتمتع من النظر إليك ، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله فأنزل الله هذه الآية.
وفي حديث أنس رضي الله عنه :" منْ أحبّني كان معي في الجنة".
فائدة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المرءُ مع منْ أحبّ" معناه الله تعالى يجمعه بهم يوم القيامة وينتفع بهم إن كانوا صلحاء.
ومن النماذج الرائعة في حُبّ الصحابة لنبيهم صلى الله عليه وسلم وشدة تعلّق قلوبهم بملازمته وصحبته حتى بعد مماته ما رواه مسلم من أنَّ ربيعة ابن كعب الأسلميّ الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب حب المكافأة" سلْني" فطلب من رسول الله أن يكون رفيقه في الجنة فقال له: اسألك مرافقتك في الجنة، فلم يُنكر عليه رسول الله سؤاله بل قال له من باب التواضع :" أو غير ذلك" فقال هذا الصحابي : هو ذاك، فقال له صلى الله عليه وسلم:" فأعني على نفسك بكثرة السجود".
فائدة: هذا الحديث الشريف الذي سأل فيه هذا الصحابي الجليل ربيعة بن كعب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة مكافأة له على خدمته له صلى الله عليه وسلم في الدنيا، هذا الحديث فيه دليل واضح وجليّ على المشوشون نفاة التوسل المحرفون من قولهم: لا يجوز سؤال غير الله تعالى وما لم تجرِ به العادة، وأما قولهم على وجه إنكار ذلك: تسأل محتاجًا !! فالردّ عليهم أننا نقول لهم: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغني عن ربه طرفة عين ومع ذلك قال لخادمه ربيعة رضي الله عنه:" سلني" فسأله فاين هم من هدْي الرسول عليه الصلاة والسلام!!
قال أهل الحق من العلماء: يجوز سؤال النبي حيًا وميتًا وكذلك سؤال الولي حيًا وميتًا ، وليس ذلك مخالفًا للشرع ولا يعد ذلك عبادة لغير الله كما يقول ويزعم هؤلاء المشوشون نفاة التوسل، إذ العبادة كما عرّفها اللغويون هي غاية الخشوع والخضوع ، فيفهم من ذلك أن مجرد التوسل أو الاستعانة او الاستغاذة بنبيّ أو وليّ أو سؤاله حيًا أو ميتًا لا يُعد ذلك عبادةً له وشركًا ، فالأنبياء والأولياء كما قال العلماء من أهل الحق لهم تصرف في حياتهم وبعد مماتهم بإذن الله تعالى ومشيئته.
وممّا ورد في شدة عشق الصحابة لنبيّهم المصطفى صلى الله عليه وسلم وزيارتهم له صلى الله عليه وسلم بعد موته والتبرك بقبره الشريف ما رُوي أن بلالا الحبشي رضي الله عنه مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك المدينة المنورة وتوجه إلى الشام وأقام فيها، فرأى رضي الله عنه في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: " ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما ءان لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه بلال رضي الله عنه من نومه حزينًا وجِلا خائفًا فركب راحلته، وقصد المدينة المنورة على ساكنها افضل الصلاة وأتم التسليم ، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده ويُمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يضمهما ويقبلهما رضي الله عنهما ، فقالا له: نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ففعل، فعَلا سطح مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فوقف موقفه الذي كان يقف فيه فلما أنْ قال: الله أكبر الله أكبر ارتجت المدينة، فلما أن قال اشهد أن لا إلا الله ازدادت رجّتها ، فلما أن قال اشهد أن محمدًا رسول الله خرجت العواتق ( أي النساء الشابات) من خدورهن وقالت: أبُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما رؤِيَ يومٌ باكيًا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.
وأنشد لسان الحال:
ذنبي عظيمٌ يا عفُوٌّ وإنني ~~ بمحمد أرجو التسامح فيه
فبِهِ توسلَ ءادم من ذنبه ~~ وقد اهتدى منْ يقتدي بأبيه
تنبيه: ذنب ءادم ذنبٌ صغيرٌ لا خسّة ولا دناءة فيه.
ماذا ترك الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عند موته
عن عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أمُّ المؤمنين رضي الله عنهما قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمةً ولا شيئًا إلا بغلتُه البيضاء التي كان يركبُها وسلاحه وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة" رواه البخاري.
ذكر أسمائه الشريفة صلى الله عليه وسلم
للرسول الأعظم أسماء كثيرة ذكرها العلماء ، عدّ منها بعض العلماء ثلاثين اسمًا تدل معانيها على عظيم فضله وشرفه وجاهه صلى الله عليه وسلم عند الله تبارك وتعالى، ولا ينافي كثرة أسمائه عليه الصلاة والسلام ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لي خمسة اسماء: أنا محمد ، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" رواه البخاري ومسلم.
ولأنّ مراده صلى الله عليه وسلم خمسة اختصتْ بي لم يتسمّ بها أحدٌ قبلي، أو هي معظة أو مشهورة في أمم الأنبياء الماضية أو في الكتب السابقة، إذاً فليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم حصر أسمائه في هذه الاسماء الخمسة التي ذكرها.
وهاكُم معاني اسمائه صلى الله عليه وسلم كما ذكرها بعض العلماء:
الأول: " محمّــد" وهو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم وأشرفها لإنبائه ودلالة معناه عن كمال الحمد المُنبي عن كمال ذاته صلى الله عليه وسلم. سُمّي به عليه الصلاة والسلام إمّا لكثرة خصاله الحميدة عليه الصلاة والسلام وإمّا لأن الله تبارك وتعالى وملائكته حمدوه حمدًا كثيرًا بالغًا غاية الكمال، وحمدُ الرسول صلى الله عليه وسلم هنا على معنى الثناء عليه.
فالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم محمودٌ عند الله تعالى وعند ملائكته وعند إخوانه المرسلين وعند خيار أهل الأرض ، وأمته صلى الله عليه وسلم الحمّادون لأنهم يحمدون الله تعالى في السراء والضراء، وصلاته صلى الله عليه وسلم وصلاة أمته مُفتتحةٌ بالحمد، وبيده صلى الله عليه وسلم لواء الحمد يوم القيامة ، وهو صلى الله عليه وسلم صاحبُ الشفاعة،وصاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون صلى الله عليه وسلم وجزاه الله تعالى عن أمته افضل الجزاء.
وقد قال القاضي عياض في كتابه " الشفا بتعريف حقوق المصطفى" وقد حمَى الله هذا الاسم فلم يتسم به أحدٌ ممّن ادعى النبوة في الإسلام مع كثرتهم ولم يتسمَّ قبله، وإنما سمّت العرب محمدًا قرْب ميلاده صلى الله عليه وسلم لما أخبر الأخبار والكهان أن نبيًّا يبعثُ في ذلك الزمان يُسمّى محمدًا فسَمّوا أبناءهم بذلك".
الثاني: " أحمــد" من أعظم أسمائه صلى الله عليه وسلم وابلغها ، وهو على صيغة المبالغة التي على وزن " أفعل" والتي تنبىء عن الوصول إلى غاية ليست وراءها غاية، إذ يكون معنى اسمه صلى الله عليه وسلم " أحمـــد" أي أحمد الحامدين لربّه عزّ وجلّ ، وسببه ما ورد في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم يُفتح عليه في المقام المحمود بمحامِدَ لم يُفتح بها على أحد قبله، ويقال: الأنبياء حمّادون وهو صلى الله عليه وسلم أحمدهم حمدًا وأعظمهم في صفة الحمد.
وفي الآخرة وفي إحدى مواقف القيامة يحمدُ الرسولُ الأعظم صلى الله عليه وسلم ربّه فيُشفّعه الله تعالى فيحمده الناس.
وقد خصّ صلى الله عليه وسلم بسورة الحمدِ " الفاتحة" وبلواء الحمد وبالمقام المحمود وشُرِع له صلى الله عليه وسلم الحمد بعد الأكل والشرب والدعاء والقدوم من السفر وسُمّيت أمته بالحمّادين، فجُمعت له معاني الحمد وأنواعه فلذلك كان النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم " أحمـــد".
الثالث: "المقفّى" أي التابع للأنبياء، ولغةً: قافية كل شىء ءاخره فكان عليه الصلاة والسلام ءاخر الأنبياء.
الرابع: " الحــاشـر" أي الذي يُحشرُ الناس على قدمه اي يتقدّهم في الحشر وهم خلفه، لأنه صلى الله عليه وسلم أول من تنشقُّ عنه الأرض.
الخامس: " العــاقِــب" أي الذي لا نبيّ بعده ، إذ العاقب هو الآخر وهو عقِبُ الأنبياء اي آخرهم.
السادس: " الماحـي" وقد فسّره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر اي أهله، وهذا محمول على الأغلب لأن الكفر ما انمحى في خلال حياته صلى الله عليه وسلم في الدنيا ومن جميع البلاد، أو أنه سينمحى أولا فأولا إلى أن يضمحلّ بعد نزول عيسى عليه السلام فإنه يرفعُ بنزوله الذي هو من علامات يوم القيامة الجزية ولا يُقبل إلا الإسلام أو السيف كما ورد ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
السابع: " نبيّ الرحمـة" و" نبيّ المَرحَمة" كما ورد تسميته به في صحيح مسلم وغيره أي نبيّ التراحم بين الأمة، أو أنه صلى الله عليه وسلم مخْبرٌ عن رحمة الله لرحمة دينه الإسلام لقوله تعالى:" ومَا أرسلنَك إلاَّ رحمةً للعلمين(107) سورة الأنبياء، فهو رحمة للعالمين، قال عليه الصلاة والسلام :" إنما أنا رحمة مُهداة".
الثامن: " نبيُّ التوبة" كما ورد ذلك في حديث مسلم أيضًا أي أنه صلى الله عليه وسلم مُخبرٌ عن الله تعالى بقبوله التوبة أي بشروطها ، أو ءامرٌ بها.
التاسع: نبي الملحمة" كما سميّ به في حديث مسلم ايضا، والملحمة الحرب وسميّ به عليه الصلاة والسلام لحرصه على الجهاد ومُسارعته إليه
العاشر: " المُتوكّل" سمّاه الله به في التوراة، أي الذي يكِلُ أُمورَهُ إلى الله تعالى
الحادي عشر والثاني عشر: " طه " و" يـس" وقد قيل في تفسير معنى " طه" يا رجل عظيم، و" يس" يا إنسان عظيم.
الثالث عشر: " عبدُ الله" وفيه وصفُ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بالعبودية الذي هو وصف شريف، وقد جاء وصفه صلى الله عليه وسلم به في التنزيل ، قال الله تعالى:" وأنهُ لمّا قامَ عبدُ اللهِ يدعُوهُ(19) سورة الجن.
فائدة: قيل لما وصل النبيّ عليه الصلاة والسلام الى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعراج أوحى الله سبحانه إليه: " يا محمّد" بماذا اشرفك؟ قال صلى الله عليه وسلم: بأن تنسُبني إلى نفسك بالعبوديّة" فأنزل الله تبارك وتعالى قوله:" سبحن الذي اسرَى بعبدهِ ليلاً"، الآية ومعناه أن هذه النسبة وهي نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بوصف العبودية هي شرف للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، لأنّ عباد الله تعالى كثير فلمّا خصّ الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في الآية بالذكر كان ذلك لتخصيصه صلى الله عليه وسلم بالشرف الأعظم.
الرابع عشر: " النبيّ الأمـيّ" أي الذي لا يكتب ولا يقرأ وذلك في حقّه صلى الله عليه وسلم معجزة وفي حق غيره عجزٌ، فإنه صلى الله عليه وسلم مع كونه أميًّـا لا يعرف الكتابة ولا القراءة فقد أعطاه الله تبارك وتعالى عِلم الأولين والآخرين.
الخامس عشر: " الرّءوف الرحيمُ" ودليله من القرءان الكريم قوله تعالى:" حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ(128) سورة التوبة.
والرأفة شدة الرحمة فهو عليه الصلاة والسلام شديد الرحمة على المؤمنين كما أخبر الله تبارك وتعالى.
السادس عشر" الشَّاهِدُ" أي يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ، والشاهد ايضًا على أمته صلى الله عليه وسلم كما قال الله تبارك وتعالى" وجِئنَا بك على هؤلاءِ شهيدًا( 41) سورة النساء.
السابع عشر والثامن عشر: " السّراج المنير" قال الله تبارك وتعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم" وسِراجًا مُنيرًا" (46) سورة الأحزاب).
والمعنى في هذين الاسمين أنه به صلى الله عليه وسلم انجلت ظلمات الشرك كما ينجلي ظلام الليل بالسّراج واهتدت بنور نبوته البصائر كما يهتدي بنور السّراج الأبصار.
التاسع عشر والعشرون: " المُزمّل والمُدَّثّر كما في سورتيهما.
الحادي والعشرون :" المُذّكر" كما قال الله تبارك وتعالى :" إنّما أنت مُذّكِرٌ ( 26) سورة الغاشية.
الثاني والعشرون: " نِعمةُ الله" إذ هو صلى الله عليه وسلم نعمة من الله تعالى على منْ آمن به صلى الله عليه وسلم في الدارين.
الثالث والعشرون:" الهادي إلى الصراط المستقيم" اي بواضح الحُجَجِ وساطعِ البراهين كما قال الله تبارك وتعالى: وإنَّك لتهدى الى صراط مستقيم"(52) سورة الشورى وله عليه الصلاة والسلام غيرُ ذلك من الأسماء التي تعظم عن العدّ لكثرتها.
ومن أسماء الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم المشهورة: المختارُ والمصطفى، والشّفيع، والصّادق، والمَصدوقُ، وغير ذلك .
فائدة: قال علماء التوحيد: إنَّ أسماء الله تعالى توقيفية ولا يقال في أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، ودليل ذلك أنَّ بعض المسلمين سَمَّى اسم " المصطفى " ومع ذلك فهذا الاسم للرسول صلى الله عليه وسلم مشهورٌ بين الناس.
فائدة: عندما تشرّفَت السيدةُ ءامنة بنت وهب رضي الله عنها أمُّ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بحملِ النبيّ العظيم صلى الله عليه وسلم في بطنها، أُتيت عليها السلام في المنام فقيل لها:" إنَّكِ قد حملتِ بسيّد العالمين وخيرِ البرية فسمّيه إذا وضعتهِ " محمّدا" فإنه ستُحمدُ " عقباه" ومعنى" محمّد مَن كثُر حمدُ الناس له لكثرة خصائصه الحميدة، فيا سعدنا ويا فرحةَ قلوبنا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العالمين وخير البرية وسيد العرب والعجم
ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم من الذّكور والإناث
كان للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أولاد ذكورٍ وهم:
الأول: " القاسم" وكانوا يُكَنّون النبيّ صلى الله عليه وسلم به بمكة قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ووُلد القاسم هذا بمكة قبل النبوة، وهو أول أولاده وبه كان صلى الله عليه وسلم يُكنّى " ابا القاسم" وهو أول من مات من أولاده وعاش سنتين.
الثاني: " الطيّب الطاهر" وهو ولد واحد سمّي بهما معا لأنه وُلد في الإسلام على القول الصحيح ، واسمه الذي سُمّي به أولا عبد الله ثم سُمّي بعد ذلك الطيّب الطاهر.
الثالث" إبراهيم" وُلِد بالمدينة المنورة في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة وعاش بها سنة ونصف ثم مات.
وأما أولاد النبيّ صلى الله عليه وسلم الإناث فاربعة اتفاقًا وهُنّ :
الأولى: " فاطمة البتُول" سُمّيت به لأن الله فطمها وذريتها عن النار، وُلدت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، زوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًّـا رضي الله عنه وسِنُّها رضي الله عنها خمس عشرة سنة ونصف تقريبًا وعُمر عليّ رضي الله عنه يؤمئذ نحو العشرين.
الثانية" " زينب" زوّجها النبيّ المصطفى من ابن خالتها أبي العاص بن الربيع وكان وفيّا بما يعد، صاحب إخلاص بوعده، فإنه شهد بدرًا مع الكفار وكان كافرًا فأسر فأطلقه النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم على أن يخلي سبيل ابنته زينب رضي الله عنها ففعل وّوّفى بوعده، وبعد زمن طويل اسلم فردّها النبي صلى الله عليه وسلم عليه بنكاح جديد.
الثالثة والرابعة: " رُقيّة وأمُّ كلثوم" : زوّجهما النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تعاقبًا اي واحدة عَقِبَ أخرى عثمان بن عفان رضي الله عنه الملقب بذي النورين ، سُمي كذلك لزواجه من رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما بِنتَيْ رسول الله عليه الصلاة والسلام، تزوج أولا رقية ثم بعد وفاتها زوّجه النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم من أختها أم كلثوم.
فائدة: جملة أولاد النبي صلى الله عليه وسلم الذكور والإناث من زوجته خديجة رضي الله عنها إلا إبراهيم فهو من سُرّيتِهِ مارية القبطية التي أهداها إليه" المقوقس" ملك الإسكندرية بعد أن دعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ولكنه لم يسلم، وقد اتخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم " مارية القبطية" سُرّية له ودخل بها أن دخلت في دين الإسلام فولدت له صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم الذي مات طفلاً صغيرًا لم يجاوز السنتين.
وجميع أولاد النبيّ عليه الصلاة والسلام الذكور والإناث ماتوا في حياته إلا السيدة الجليلة فاطمة البتول رضي الله عنها وطاب اصلاها اي أبوها وأمها، وقد عاشت فاطمة رضي الله عنها بعد وفاة النبيّ ستة أشهر ثم توفّاها الله تعالى.
فائدة: لُقِّبت السيدة الجليلة فاطمة ب " الزهراء" لأنّ وجهها رضي الله عنها كان مُشرِقًا.
فائدة: بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يجوز أن يُكنى من اسمه محمد بـ " أبي القاسم" إنما كان ذلك حرامًا في حال حياته عليه الصلاة والسلام.
ذكرُ أزواجه صلى الله عليه وسلم
عددُ زوجات النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم اللاتي دخل بهِنّ اثنتا عشرة وقيل:
أولهنّ على الترتيب: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ثم سَودة بنت زمعة وأصدقها النبيّ صلى الله عليه وسلم( أي جعل مهرها) أربعمائة درهم ثم عائشة بنت الصّديق ابي بكر رضي الله عنها وعن ابيها، عقّد عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي ابنة سِت وبنى بها وهي ابنة تِسع ومات صلى الله عليه وسلم عنها وهي بنت ثماني عشرة.
ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها وعن أبيها الفاروق ثم زينب بنت خُزيمة الحارثية وكانت تسمّى أمّ المساكين لرحمتها لهم رضي الله عنها.
ثم أمّ سلَمة هند بنت أبي أمية بن الغيرة المخزومية ثم زينبُ بنت جحش وكان اسمها برَة فسمّاها النبيّ عليه الصلاة والسلام زينب وكانت رضي الله عنها كثيرة الصدقة والإيثار وكانت هي التي تسامي السيدة الجليلة عائشة في المنزلة عنده صلى الله عليه وسلم وكانت رضي الله عنها أوّاهة قوّامة صوّامة.
فائدة: روى البخاري والبيهقي أن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم:" زوّجكُنَّ أهاليكُنَّ وزوّجني الله من فوق سبع سموات".
فمعنى هذا الحديث أن تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم بها مسجّل في اللوح المحفوظ ، وهذا كتابة خاصة بزينب بها مُسجّل في اللوح المحفوظ ، وهذه كتابة خاصة بزينب رضي الله عنها ليست الكتابة العامة، وأما الكتابة العامة فهي لكل شخص، فكل شىء يحصل إلى ما لا نهاية الدنيا من زواج وغيره فهو مُسجّل في اللوح المحفوظ الذي هو جرمٌ كبير جدا فوق السموات السبع، وحديث زينب هذا فيه بيان أن زينبَ رضي الله عنها تزوّجها النبيّ العظيم صلى الله عليه وسلم بالوحي من غير ولي وشاهدين.
وليس معنى هذا الحديث أن الله تبارك وتعالى يسكنُ ويتحيّز فوق السموات السبع فهذا مستحيل على الله تعالى لأنّ المكان والحيّز من أوصاف الأجسام والأحجام والله تعالى مُنزّه عن الجِسميّة والحيّز والمكان ، يقول الإمام السلفي أبو جعفر الطحاوي المتوفى سنة 327 للهجرة في عقيدته:" تعالى ( أي الله) عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات" أي المخلوقات، معناه: الله تبارك وتعالى موجود بلا مكان ولا جهة ولا يسكن جهة فوق ولا جهة تحت ولا أيّ مكان لأنه سبحانه وتعالى ليس جسمًا لأن الجسم هو الذي يتخذُ مكانًا ويتحيّز في جهة من الجهات والله تبارك وتعالى كما أخبر في القرءان الكريم" ليسَ كمثله شىءٌ وهو السميع البصيرُ (11) سورة الشورى.
يقول أيضًا الإمام الطحاوي في عقيدته :" ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر".
ثم تزوّج النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد زينب بنت جحش السيدة جويرية بنت الحارث المصطلقية سبَاها النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع وأعتقها وتزوجها
ثم ريحانة بنت زيد من بني النضير أعتقها وتزوجها عليه الصلاة والسلام
ثم أمُّ حبيبة رَمْلة بنت أبي سفيان بن حرب، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش للحبشة فتنصر زوجها هناك ومات وثبتت هي رضي الله عنها على الإسلام، وبعثَ النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية إلى النجاشي فزَوّجه إيّاها.
ثم ميمونة بنت الحارث وكان اسمها بَرّة فسمّاها النبيّ عليه الصلاة والسلام ميمونة وهي خالة عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد رضي الله عنهما وهي ءاخر من تزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من النساء ولكنه لم يدخل بهنّ وخطبَ جماعة منهنّ ولكن لم يتمّ نكاحهُنَّ وتزوجُهُنَّ
ذِكرُ أعمامِ النبيّ وعمّاتِهِ صلى الله عليه وسلم
اختُلف في عدد أعمام النبيّ صلى الله عليه وسلم فقيل: اثنا عشر وقيل: عشرة وقيل: تسعة، فعلى القول الأول هم:
الأول: حمزة بن عبد المطلب : أسد الله واسدُ رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ، قُتل شهيدًا سعيدًا في غزوة أُحُد.
الثاني: العبّاس: جدّ الخلفاء العباسيين أسلم وحَسُنَ إسلامه وكان إسلامه عِزٌ ومنعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخِزْيّ وذلٌّ للمشركين.
الثالث: الزُّبير ، وكان من أشراف قريش رئيسُ بني هاشم ، شاعرًا عاقلاً ولكنه لم يدرك الإسلام.
الرابع: الحارث وهو أكبر ولد عبد المطلب وبه كان يُكنى مات في حياة أبيه ولم يُدرك الإسلام.
الخامس: حجْلٌ، لم يدرك الإسلام.
السادس: قُثَمُ ، مات صغيرًا.
السابع: ضِرار: مات في مبادىء نُزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثامن: الغَيداق: سُميَ كذلك لأنه كان أجود قريش والغَيداق في اللغة المطر الكثير.
التاسع: المُقوّم.
العاشر: ابو طالب واسمه عبد مناف وهو الذي كفل النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم في صغره ودافع عنه عند بعثته من أذى المشركين ومع ذلك لم يُسلم.
الحادي عشر: عبدُ الكعبة لم يدرك الإسلام .
الثاني عشر: أبو لهب ، واسمه عبد العُزّى وكان من ألَدّ أعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن أشدّهم في محاربة دعوته صلى الله عليه وسلم وفيه نزل قوله تعالى:" ما آغنَى عنهُ مالُهُ وما كَسَب (2) سيصلى نارًا ذاتَ لهبٍ(3) سورة المسد.
وأما عماتُ النبي صلى الله عليه وسلم فهنَّ ستٌّ : صفية أمُّ الزُبير بن العوام رضي الله عنه اسلمت وهاجرت وكانت ذات جَلْدٍ وصبرٍ وقوةٍ ، وعاتكةُ، وأمُّ حكيم واسمها البيضاء، وبَرّة، وأُميمةُ، وأروى، ولم يُسلم منهنَّ سوى صفيّة على الأصح. وقيل: إنَّ عاتكة وأروى أسلمتا وهاجرتا إلى المدينة
ذِكرُ خُدّامهِ صلى الله عليه وسلم من الرجال والنّساء
أولُ خُدامه صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وكان ألزمهم لخدمته صلى الله عليه وسلم، قال أنس رضي الله عنه:" خدَمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين فما قال لي أُفّ ولا لِمَ لا صنعتَ ولا ألا صنعتَ" رواه البخاري.
ومن خُدامه صلى الله عليه وسلم أيضا بلال بن رباح المؤذن رضي الله عنه، وعُقبة ابن عامر الذي كان صاحب بغلته صلى الله عليه وسلم يقود به في الاسفار، وسعدٌ مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذو مِخمر ابن أخي النجاشي رضي الله عنه أوابن أخته، وربيعة بن كعب الاسلمي، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وكان صاحب نعله صلى الله عليه وسلم ووسادته، وابو ذر الغفاري رضي الله عنه، واسلع بن شريك وكان صاحب راحلته صلى الله عليه وسلم
وبكير ( ويقال بكر) بن شريح الليثي وابن أخيه الحدرجان بن مالك، جزر بن الحدرجان، وسابق وسالم، وقيس بن سعد بن عبادة كان من النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من السُّلطان ، وأيمن ابن أم ايمن حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري ونعيم بن ربيعة بن كعب، وأبو السمح، وابو الحمراء هلال بن الحارث.
وأما خُدامه صلى الله عليه وسلم من النساء فمن أولهن اسماء وهند ابنتا حارثة الاسلميان، ثم ماريا وهما اثنتان مارية جدة المثنى بن صالح، ومارية أم الرباب، ورزينة وبنتها أمة الله، وصفية، وخولة، وخضرة، وسلمى، وأم ايمن، وإسمها بركة وهي حاضنته صلى الله عليه وسلم ورثها صلى الله عليه وسلم من ابيه فأعتقها حين تزوج خديجة رضي الله عنها، ومن خادماته صلى الله عليه وسلم أم عياش وميمونة،
فائدة: روى الإمام مسلم أن الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسلميّ الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من باب حُبّ المكافأة) " سلني" فقال: اسألك مرافقتك في الجنة، فلم يُنكر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك، بل قال له عليه الصلاة والسلام :" فأعِني على نفسك بكثرة السجود" وهذا دليل على جواز سؤال ما لم تجر به العادة من غير الله خلافًا للوهابية.
ذكرُ صفاته صلى الله عليه وسلم وصورتهِ الخِلقيّة الطاهرة
تتجلّى عظمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في أنّ الله تبارك وتعالى كمّل صورته وخِلقته، وخَلقَه سبحانه وتعالى على صورة بهية وأعطاه جمالا رائعًا في وجهه الشريف لم يعطه سبحانه وتعالى أحدًا غيره من إخوانه الأنبياء، فهو صلى الله عليه وسلم أجمل الخلق قاطبة وهو أجمل الأنبياء صورة بما فيهم نبي الله يوسف عليه السلام، فلقد كان جمالُ وجهه عليه الصلاة والسلام ممزوجًا ومقرونًا بالهيبة العظيمة مما يدل على عُلو قدره صلى الله عليه وسلم ومكانته وجاهه عند خالقه وبارئه على غيره من إخوانه الأنبياء والمرسلين، وفي هذا يقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم:" ما بعثَ الله نبيًا إلا حسن الوجه حسَن الصوت وإنّ نبيّكم _ يعني نفسه صلى الله عليه وسلم_ أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا" رواه الإمام أحمد في مسنده.
وعن جبير بن مُطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " والطّور" فكاد قلبي يطير_ اي من حسن صوته صلى الله عليه وسلم_ وكان ذلك في بدء إسلام جبير.
وأما عن أوصافه الخِلقيّة وصورته البهيّة التي وردت في كتُب الحديث الشريف فهي كما يلي:
كان صلى الله عليه وسلم مرفوع القامة، رُبعة معتدلا إلى الطول لم يكن صلى الله عليه وسلم من قصار الرجال ولا من الطِوال ، لكنه كان صلى الله عليه وسلم معتدلا إلى الطول اقرب، وكان صلى الله عليه وسلم بعيد ما بين المنكبين أي عريض ما أعْلى الظهر والصدر وهو دليلُ النجابة ( والمنكب مجمع العضد والكتف) .
كان المصطفى عليه الصلاة والسلام مُشرق الوجه، وجهه أبيض مشربًا بحمرة ( والإشراب خلطُ لون بلون كأن أحد اللونين سقي بالآخر) يقول خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه في وصف النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم كان أزهر اللون أي أبيض مشربًا بحمرة ، رواه البخاري.
ويقول واصفه ابو هريرة رضي الله عنه :" ما رأيت شيئًا أحسنَ من النبيّ صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه " رواه أحمد والترمذي.
كان المصطفى عليه الصلاة والسلام دقيق الحاجبين لم يكن غليظهما، وكان حاجباه صلى الله عليه وسلم متقاربين من غير اتصال وكان أهدبَ الاشفار اي كثير شعر الجفون.
وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم واسع الجبين، أجلى الجبهة أي أنّ شعر رأسه غير متدل على جبهته ، وكان صلى الله عليه وسلم أقنى الأنف أي ليس في طرف أنفه نتوء عن أعلاه بحيث لا يكون جميلاً
وكان النبيّ المصطفى عليه الصلاة والسلام سواء البطن والصدر، جهير الصوت، طويل الذراع، قوي المشي إذا مشى كأنما ينحط مِن صبَب أي كأنه ينحدر من مكان عالي، وكان من قوة مشيه صلى الله عليه وسلم إنه كان يرفعُ رجليه من الأرض رفعًا قويًا مُسرعًا ولا يمشي صلى الله عليه وسلم اختيالا وكان صلى الله عليه وسلم يقارب خطاه.
وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم يُقبلُ ويُدبر بكل جسمه اي بكل أجزاء بدنه إذا التفت، فكان صلى الله عليه وسلم لا يسارق النظر ولا يلوي عُنقه وإذا توجّه إلى شىء توجه إليه بكليته ولا يُخالف ببعض جسده بعضًا.
وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام أنه كان طيّب الرائحة سواء تطيَب أم لم يتطَيَب ، وكان عرقه صلى الله عليه وسلم الذي يرشح عن جسده الشريف كاللؤلؤ في البياض والصفاء، وكان ريحُهُ صلى الله عليه وسلم أطيب من المسك، فقد روى خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا مرّ في طريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك فيقال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وورد أيضا أنّ الصحابي عقبة بن غزوان قد اصابه مرض الشّرَى في ظهره وهو ورم كالدرهم حكّاك مزعج يُحدث كربًا وإزعاجًا شديدًا لصاحبه، فقال له النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تجرد أي جرّد ظهرك من ثوبك، فلمّا فعل وضَع الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم يده عليه فشفي من مرضه بإذن الله تعالى وعبق الطيب به بعد ذلك إلى ءاخر حياته، وكان هذا الطيب أحسن من طيب المسك والعنبر أو غير ذلك من الأطياب.
يقول الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خُلُقًا.
وروى البيهقي والطبراني عن أبي عبيدة بن محمد بن عمّار بن ياسر قال: قلتُ للرُبيّع بنت معوّذ : صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لو رأيته لقلتَ الشمس طالعة.
وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم شديد سواد الشعر لم يظهر في شعره من الشيب إلا نحو عشرين شعرة بعضها في أول رأسه وبعضها في لحيته وما سوى ذلك بقي على لونه الأصلي .
وكان شعرُهُ عليه الصلاة والسلام ليس بالجَعدِ القَطَط وليس بالسَبِط أي ليس بالشديد الجعودة ولا بالمُنبَسط المسترسل بل كان شعره صلى الله عليه وسلم بين ذلك، ( والقطط هو شديد الجعودة والسَبط هو المُنبسط المُسترسل).
وكان شعرهُ عليه الصلاة والسلام قد تحلق حِلقًا حِلقًا ، وكان أحيانًا يضرب ويصل إلى أنصاف أذنيه وأحيانًا إلى منكبيه الشريفين.
وكان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم متماسك البدن لم يكن نحيلاً ولا سمينًا وكان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم شثْنَ الكفين والقدمين أي غليظهما من غير قصر ولا خشونة ( والمراد غلظ العضو في الخِلقة لا خشونة الجلد، وذلك يستلزم قوة في القبض والمشي).
وصفُ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم كما جاء عن بعض الصحابة
قال أحدُ الصحابة في وصف النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم :"
ما رأيت من ذي لمّةٍ حمراء... أحسن من رسول الله ( اللّمة الشعر يلمُّ بالمنكب)
مرفوع القامة أبيض اللون... جميل الصورة
فصيح الكلام كاملاً في ذاته ... مكمّلاً في أوصافه الخُلقية
ما خلقَ الله قبله ولا بعده مثله في الأنام.. عظيم الرأس اسود الشعر
تَتيهُ في محاسنه العقول الذكيّة... وتتحيّر في كمال جماله الأفهام
قمريّ الجبين حواجبهُ هلاليّة... كحيل الطرف أهدبَ العينين
وظريف القوام... أبيض الخدين مشربًا بالحمرة
ووجهه كأنه البدر ليلة التمام... يجري الحُسن في خديه كما تجري الشمس في مشارقها الفلكية
كوكبيّ الأنف.... يزول من ضياء طلعته الظلام
وإذا تكلم خرج النور من ثناياه اللؤلؤية
مُفلّج الأسنان خاتم الفم... سلسبيل الريق وجميل الابتسام
عظيم اللحية معتدل العنق.. في صفاء الفضة النقيّة
وإذا نامت عيناه ..... فقلبه الشريف لا ينام
عطوف رءوف ... رحيمٌ كريم
صلوا على رسول الله ... كلما طلعت شمس أو غربت
ما جاد سجاجُ الغمام.
صلى الله عليك يا علم الهدى ما هبت النسائم وما ناحت على الأيك الحمائم.
صلى الإله ومن يحِفُّ بعرشه... والطيبون على المبارك أحمد
فائدة: روى الترمذ وأحمد عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت شيئًا أحسن من النبيّ صلى الله عليه وسلم كأنّ الشمس تجري في وجهه، وكان رضي الله عنه ايضًا يقول: " ما رأيت قبله ولا بعده مثله".
وما أحسن ما قيل في وصف النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم :
الشمس تشبههُ والبدر يُحكيهِ ... والدُّرُّ يضحك والمَرجان من فيه
ومنْ سرى وظلام الليل مُعتكر... فوجهه عن ضياء البدر يُغنيه
هذا النبيّ الذي ما مثله أحدٌ ..... بين الورى شرفًا بالروح أفديه
فائدة في جواز التبرك بآثار الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم
يجوز التبرك بآثار الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم كشعرهِ وعَرَقهِ وغير ذلك كما قال العلماء المعبترون ، والأدلة على ذلك كثيرة منها أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم حين حلقَ شعره أعطى الحلاق نصف شعره وقال له عن الباقي: " أقسمه بين الناس" . ففعل فجعل الصحابة هذا يأخذ شعرة وءاخر يأخذ شعرتين وهكذا, ونال خالد بن الوليد شعر الناصية فجعله في قلنسوته ، قال رضي الله عنه:" ما خُضْتُ معركة وهي على رأسي إلا ربحتها". فهذا دليل على أنه يُتبرك برسول الله والنبيين وإلا فلماذا يُوزّع رسول الله النبيّ الأعظم شعَره بين الناس والشّعر لا يؤكل.
وقد روى مسلم في الصحيح عن أنس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل بين أم سليم فينام على فراشها وليست فيه، قال : فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأُتيت فقيل لها: هذا النبيّ صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق واستنقعَ عرقُه (أي اجتمع) على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها فجعلت تُنشّف ذلك العرق فتعصره في قواريها ، ففَزع النبيّ ( أي استيقظ من نومه) فقال :" ما تصنعين يا أمّ سُليم ؟" فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا. قال " أصبت".
والعتيدة هي كصندوق الصغير تجعل المرأة ما يعزُّ من متاعها، فانظر إلى تصويب النبيّ جَمعَها عرقه للبركة وعدم الإنكار عليها.
ذكرُ أخلاقه الشريفة صلى الله عليه وسلم
الخُلق الحسن من صفات وشيم جميع الأنبياء لأنّ الله تبارك وتعالى لا يُرسل لهداية عباده مَطعونًا فيه بسفاهة أو بخيانة أو رذالة أو كذب في الحديث، لا يُرسل الله عزّ وجل لهداية عباده إلا إنسانًا نشأ على الصدق والعفة والنزاهة في العِرض والخُلُق وحُسن معاملة الناس.
ولقد كان النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أوفر الأنبياء حظّـًا في ذلك لا يسبِقُه في ذلك أحدٌ بعده ولا سبَقه أحدٌ قبله، فقد أخبر الصحابي الجليل أنسُ بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وسلم :" أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسنَ الناس خًلقًا".
وقالت السيدة عائشة الجليلة رضي الله عنها عندما سُئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لم يكن فاحشًا ولا مُتفحِشًا ولا سخّابًا في الأسواق، ولا يُجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفُو ويصفحُ أو قالت يعفو ويغفر أي يسامح". رواه ابو داود.
ولقد دلّت الآية الكريمة :" وإنّكَ لعَلَى خُلُق عظيم". سورة القلم. على عظيم أخلاقه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت عندما سُئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فإنّ خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرءان" رواه مسلم في الصحيح.
فما أكرمه صلى الله عليه وسلم على الله تعالى إذ جعل خُلُقه القرءان، يرضى بما يرضاه القرءان ويتأدب بآدابه ويلتزم أوامره ولا يغضب صلى الله عليه وسلم لنفسه وإنّما يغضب إذا انتهكت محارم الله تعالى، فإذا انتكهت حرمة الله تعالى كان اشدّ الناس غضبًا لله كما ورد في الحديث الشريف.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يقول في حالة الرضا والغضب إلا الحق قطعًا لأنه صلى الله عليه وسلم معصومًا.
ومن جملة أخلاقه عليه الصلاة والسلام أن الله عزّ وجلّ بعثه بالإرفاق اي رِفقًا بهذه الأمة لكي يتممَ مكارم الأخلاق ، قال الله تبارك وتعالى في وصف رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم :" حريصٌ عليكم بالمؤمنينَ رءُوفٌ رحيمٌ" سورة التوبة.
وكان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأقواهم قلبًا وأكثرهم جراءة لملاقاة العدو، فقد روى الإمام أحمد بإسناده عن عليّ بن ابي طالب رضي الله عنه أنه قال: لمّا كان يوم بدرٍ اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشدّ الناس بأسًا.
وكان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أسْخَى الناس كفًّا وأجود الناس بذلا في سبيل الله وأخبارُ كرمه صلى الله عليه وسلم عديدة منها ما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاسلام شيئًا قط إلا أعطاه، فأتاه رجل فسأله فأمر له بغنم بين جبلين، فأتى قومه فقال: أسلِموا فإنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يُعطي عطاء من لا يخافُ الفاقة.
وكان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أصدقُ الناس لهجةً اي كلامًا وأوفى الناس ذمةً أي عهدًا وأمانًا، وكان أحسنهم معاشرة فقد كان صلى الله عليه وسلم على الغاية من التواضع ، وكان أكرمهم في عشرة أي في حُسن صحبة من يصاحبه ويعاشره ، لا يحسبُ من يجالسه أنّ سواه اقرب إليه منه لعظم إكرامه له.
وكان عليه الصلاة والسلام اشدُّ حياءً من العذراء في خِدرها وكان نظره صلى الله عليه وسلم إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، لأنه كان أكثر الناس حياءً وأدبًا مع ربه سبحانه وتعالى.
وكان النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تواضعًا كيف وقد خُيّر بين أن يكون نبيًا أو ملكًا أو نبيّا عبدًا فاختار صلى الله عليه وسلم الثاني وهو أن يكون نبيًّا عبدًا.
وكان عليه الصلاة والسلام يُجيب كل من دعاه من بعيد أو من قريب من عبد أو حر أو فقير أو غني أو دني أو شريف ، وكان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بكل مؤمن وبكل طائف عليه فلا يختص برحمته من لا يعقل كالوحش والطير حتى إنّ الهرة كانت تأتيه فيصغي لها الإناء أي يُميله لها لتشرب منه
وكان النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أعفُ الناس عن فعل المحرمات فلم تمسّ يده الشريفة صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له، وكان صلى الله عليه وسلم يقول:" إني لا اصافح النساء". وكان عليه الصلاة والسلام أشدّ الناس لأصحابه إكرامًا لهم، ومن ذلك أنه كان لا يمُدّ رجليه بين جلسائه احترامًا لهم.
من رءاه صلى الله عليه وسلم بديهة يعني فجأة من غير مخالطته هابَهُ وعظّمه، ومن خالطه وعاشره أحبّه لما يشاهده من محاسن أخلاقه ومزيد شفقته وتواضعه صلى الله عليه وسلم وباهر عظيم تألفه وأخذه بالقلوب، فكانت تحنّ إليه صلى الله عليه وسلم الافئدة وتَقَرُّ به العيون وتأنس به القلوب، فكان كلامهُ عليه الصلاة والسلام نورٌ ومدخلهُ نور ومخرجهُ نور وعملهُ نور، إنْ سكت علاهُ الوقار وإن نطق أخذ بالقلوب والبصائر والأبصار.
وكان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم غاية في التواضع يمشي مع المسكين والأرملة إذا أتياه في حاجة من غير ما أنفة، وكان صلى الله عليه وسلم يخدمُ نفسه بنفسه من غير أن ينتظر خدمة غيره له، فكان عليه الصلاة والسلام يخْصفُ نعله أي يخرزها، ويخيط ثوبه اي يرقعه ويعمل في بيته كما يعمل ءاحاد الناس، وكان يحلب شاته ويتعاطى خدمة نفسه بنفسه ولا يعيبه ذلك.
وكان عليه الصلاة والسلام في بيته في مهنة أزواجه أي خدمتهم يتعاطى ذلك معهم وربما تحمّله عنهم جملة، وذلك مثل تقطيع اللحم الذي يقدم إليه للأكل بالسكين ، فإنه كان يتولى ذلك بنفسه ولا يأنف من ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يُردِف خلفه عبده أو خادمه أو قريبه يفعل ذلك على الحمار وغيره من نحو ناقة أو بغلة ولا يأنف من ذلك.
ومن عظيم أخلاقه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجالسُ الفقراء والمساكين والعبيد والإماء ويعودهم ويزورهم ويتفقد حالهم ويشهد جنائزهم ويكرم أهل الفضل والكرام حين يأتون إليه،وربما بسط لبعضهم رداءه المبارك وكان يقول صلى الله عليه وسلم:" إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" رواه ابن ماجه والحاكم وغيرهما.
وكان عليه الصلاة والسلام يحافظ على تألف أهل الشرف ترغيبًا لهم ولقومهم في الإسلام ، وكان صلى الله عليه وسلم يُقبلُ بوجهه وحديثه على اشراف القوم.
ومن أخلاقه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يواجه أحدًا من الناس بشىء يكرهه لا سيما جليسه بل يواجهه بالرضا ويقول إذا بلغه عن أحد ما يكرهه:" ما بالُ أقوامٍ يصنعون كذا" ولا يقول ما بال فلان يفعل كذا.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع اصحابه مؤانسة لهم وتألّفًا لما كانوا عليه من شدة، فكان يمازحهم تخفيفًا عليهم، لكنه لا يقول إلا حقّا لأنه صلى الله عليه وسلم معصومٌ عن الكذب ، فالمُزاح لا ينافي الكمال حيث لم يخرج عن القوانين الشرعيّة.
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجلس في الأكل مع العبيد الأرقاء ويتشبه بهم في الجلوس للأكل فلا يترفع عليهم ، وكان يقول صلى الله عليه وسلم :" إنما أنا عبد ءاكلُ كما يأكل العبيد وأجلسُ كما يجلس العبيد".
وكان من عظيم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه كان يذهب إلى بساتين أصحابه يقصد بذهابه إليهم إكرامهم وتألفهم، وكان صلى الله عليه وسلم يعجَبُ مما يعجبون ويضحك مما يضحكون فما كان يُرى صلى الله عليه وسلم بوجهه عبُوس ، وكان أصحابه حين بتناشدون فيما بينهم الأشعار بحضرته يضحكون ويذكرون أشياء من أمور الجاهلية فما يزيدهم على أن يشركهم تبسمًا في وجوههم تلطفًا بهم وإيناسًا لهم، فما أعظم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وحُسن معاشرته لأصحابه .
وقد وَسِع حِلمُ النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم جميع الناس في معاشرتهم ببسط الخُلُق فهم عنده في الحق سواء ، فقد ثبتَ من سيرته عليه الصلاة والسلام أنه ما انتهر خادمًا قطّ فيما فعله أو تركه وما قال له في شىء صنعه لم صنعته ولا في شىء تركه لم تركته بل كان صلى الله عليه وسلم يقول:" لو قدّر شىءٌ" اي لو قدّر الله فعل هذا الأمر أو الشىء لكان، وكان مجلسه عليه الصلاة والسلام مجلس حِلم وصبرٍ وحياء يبدأ من لقيه بالسلام ويؤثرُ الداخل عليه بالوسادة أو يبسط له ثوبًا زيادة في إكرامه.
ومن أخلاق النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان شديد الرحمة بالخَلق يعفو ويصفح ، ومن أمثلة ذلك أنه قيل له: قد دعا نوح عل قومه فلو دعوت على من وطِىء ظهرك وأدمى وجهك وكسر رباعيتك ولو دعوت على دوْس (قبيلة من اليمن من الأزْد) وغيرهم من الكفار، فقال عليه الصلاة والسلام:" إنما بُعثتُ رحمة ولم أبعثُ لَعّانًا" رواه مسلم، فلم يُجب من سأله إلى الدعاء عليهم رحمة بهم بل دعا لهم فقال:" اللهم اهدِ دوْسًا وئْتِ بهم مسلمين" فأصبحوا رُءوسًا في الإسلام وهذا من عظيم حُسن خُلُقه صلى الله عليه وسلم.
كذلك لم يكن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم فحّاشًا ولا لعّانًا ولم يكن بخيلاً ولا جبانًا أي ضعيف القلب عن القتال ونحوه، وكان عليه الصلاة والسلام يختار ايسر الأمور رحمة بأمته، فكان صلى الله عليه وسلم إذا خُيّر بين أمرين أو أمور اختار أيسرها إلا أن يكون إثمًا فإن كان إثما كان أبعد الناس منه.
فعن السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها قالت:" ما ضَرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمًا له قطّ ولا امرأة قطّ وما ضرب بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شىء فانتقمه من صاحبه إلا أن تُنتهك محارم الله فينتقم لله عزّ وجلّ، وما عُرض عليه أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا أخذ بأيسرهما إلا أن يكون مأثمًا فإن كان مأثمًا كان ابعد الناس منه" رواه البخاري ومسلم.
ومن أحواله عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يراه أحد وهو يضحك بملء فيهِ، بل كان ضحكه صلى الله عليه وسلم في أغلب أحواله تبسمًا، وكان عليه الصلاة والسلام يحبُّ الفأْلَ وهو أن يسمع كلامًا حسنًا فيتيمّنُ به خيرًا، وكان يكره الطّيَرَةَ وهي التشاؤم بالشىء يسمعه أو يراه.
وكان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم حليمًا صبورًا لا يجزي بالسيئة مثلها أي لا يجازي الكلام والفعل القبيح بمثله ولكن يقابله بالعفو والصفح مع القدرة على الانتقام، فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه اي جذبه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء. رواه البخاري ومسلم.
ومن ذلك عفوه عن المرأة اليهودية التي سمّته، وعن اليهودي الذي تقاضاه ديْنه فأغلظ عليه في الكلام فلم يرد الرسول بالمثل فاسلم الرجل.
وأخباره عليه الصلاة والسلام في عفوهِ وصفْحِه وصبره على أذى الغير كثيرة جدًا وكلها تشهد بعظيم حُسنِ خُلُقه صلى الله عليه وسلم
فسبحان من كمّل حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام بهذه الأوصاف والخصال الجميلة والجليلة, وصدق الله العظيم حيث قال في مُحكم كتابه واصفًا نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم: وإنّك لعَلى خُلُقٍ عَظيم" سورة القلم.
ذِكرُ طِيبه صلى الله عليه وسلم الذي كان يتطيّب بهِ وكحله
كان النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم يُحبّ الطيبَ والرائحة الطيبة لأنه يُنعشُ القلب وتحبه الملائكة ويفرحهم وكان يكره كل ما له ريح كريه، وكان طيبه عليه السلام الذي كان يتطيب به الغالية وهو طيبٌ مركب من مِسكٍ وعنبرِ وعودِ وكافورِ، وكان عليه الصلاة والسلام يتطيب ايضًا بالمسك وحده، وكذاك السُّكُّ وهو طيّب معروف ويضاف إليه غيره من الطيب، وكان له صلى الله عليه وسلم سُكّةٌ يتطيّبُ منها.
وكان بخورهُ عليه الصلاة والسلام الكافور والعُود الند وهو ما يتبخر به.
وكان النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم يكحل عينيه بالإثمد وهو الكحل الأسود المعروف وكان يكتحل في كل عين ثلاثًا لأجل الإيْتار المحبوب المطلوب وقد قال عليه الصلاة والسلام :" اكتحلوا بالإثمد فإنّه يجلو البصر ويُنبتُ الشعر".
فائدة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حُبّبَ إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة". رواه النسائي في سننه وأحمد في مسنده.
وليس معنى هذا الحديث أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان متعلق القلب بالنساء بل معناه أن ذلك اي الميل الطبيعي جُعل فيّ ولا أتتبعُهُ ، فيكون بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم مزيد رفع درجات عند الله تعالى لأنه مع ذلك لا ينشغل عن طاعة لله تبارك وتعالى، لا ينشغل عن تبليغ الدعوة ولا عن الإكثار من الطاعات، وقد قال العلماء مّن ذمّ الرسول صلى الله عليه وسلم فقال أنه كان متعلق القلب بالنساء يتتبّع ذلك فقد كفر لأنّ تنقيص نبيّ من الأنبياء كفر.
أما الطِيبُ الطاهر ففيه فوائد فإنه ينعش القلب ويفرّح الملائكة.
ذكرُ صفةِ خاتَمِهِ
كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاتم كله مع فصّه من فضة، وكان نصُّ نقشِهِ عليه" محمد رسول الله" محمدٌ سطرٌ، ورسول الله سطر.
وكان كل سطر حروفه كاملة ليس فيه كسر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا لبِسه جَعَل فصّه بباطن كفّه صلى الله عليه وسلم يلبَسُ خاتمه في خِنصِر يَمينه كما ورد في صحيحي البخاري ومسلم.
ذكرُ كيفيةِ فراشه صلى الله عليه وسلم
الفراشُ هو المتاع الذي يوضع تحت الإنسان لينام عليه فيقي عنه البردَ وأذى الحر.
كان للنبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم فراشٌ من أَدَمِ( جمع أديم وهو الجلد المدبوغ) وكان حشو فراشه صلى الله عليه وسلم ليفًا كما رواه الشيخان، وكان فراشه صلى الله عليه وسلم غاية في التواضع لا يؤدي بمنظره الحسن إلى عُجْب أو كِبْر بل يؤدي إلى تواضع، وربما نام عليه الصلاة والسلام على العباءة يثْنيها ثنيتين عند بعض نسائه أي تُفرش له صلى الله عليه وسلم العباءة إذا نام طَاقَين تحته، فقد روى الترمذيّ في "الشمائل المحمدية" عن السيدة الجليلة حفصة بنت عمر الفاروق رضي الله عنه وعنها:" كان فراشه مِسحًا يثنيه ثنيتين فينام عليه، فلما كان ذات ليلة قلتُ لو تثنيه بأربع ثنيات كان أوطأ لك فثناه صلى الله عليه وسلم بأربع فلمّا أصبح أمر برَدِه لحالته الأولى".
وربما نام عليه الصلاة والسلام على الحصير ما تحته شىء وغيره.
فائدة: عن الصحابي الجليل عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قال" نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، قُلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وِطأة فقال صلى الله عليه وسلم :" ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها" رواه الترمذي.
وعن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو راقد على حصير من جريد وقد أثّر في جنبه فبكى عمر فقال له صلى الله عليه وسلم: ما يُبكيك؟" قال ذكرتُ كسرى وملكه وهرمز وملكه، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت يا رسول الله صلى الله عليك وسلم على حصير من جريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أما ترضى أنّ لهم الدنيا ولنا الأخرة".
ذكرُ منائِحِه ودِيَكِهِ
المنائحُ جمع منيحة وهي في الأصل الشاة أو الناقة يُعطيها صاحبها لمن يشرب لبنها ثم يردها إذا انقطع اللبن ثم كثُر استعمالها حتى أطلق على كل شاة أو بقرة معدّة لِلبنها.
والديك ذكر الدجاج وجمعه ديوك وديكة.
كانت للنبي صلى الله عليه وسلم منائِح ترعاهُنّ أم أيمن الحبشية وكان صلى الله عليه وسلم يُسميهنّ بأسماء وهُنّ: الأولى: بركة، الثانية: زمزم، الثالثة: سُقيا، الرابعة: عَجرة، الخامسة: ورشة، السادسة: أطلال، السابعة: أطراف، الثامنة: قمر، التاسعة: يمن، العاشرة: غوثة.
وقد ورد في سنن أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم كانت له مائة من الغنم ولا يريد أن تزيد عليها بل كلما ولد الراعي منها بهمة ذبح مكانها شاة.
وكان له صلى الله عليه وسلم ايضا ديكٌ ابيض يُوقظه للصلاة وأما البقر فلم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه ملك منها شيئًا.
ذكر لقاحِه وجِماله صلى الله عليه وسلم
اللقاح جمع لِقحة وهي النّاقة ذات اللبن، والجِمال جمع جمل وهو من الإبل بمنزلة الرجل يختص بالذكر كان له صلى الله عليه وسلم لقاحٌ كثيرة وهنّ: الحنّاء، وعُريّس، وبغُوم، والسّمراء، وبُردة وكانت تحلب كما تحلب لِقحتان عظيمتان أهداها له الضحاك بن سفيان، والمروة اهداها له صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه، والسعدية، وحَفيدة، ومُهرة أهداها له سعد بن عبادة ، واليُسيرة ، ورَيّاء، والشّقراء، والصّهباء وهي الشقراء ، والعَضْباء والجدعاء وهما ناقة اسمها القصْواء وكان له صلى الله عليه وسلم من اللقاح غير هؤلاء.
الأول: الثّعلب، الثاني: جَمل أحمر، الثالث: المكتسب وقد غنِمه صلى الله عليه وسلم في يوم بدر من أبي جهل وكان مهريّـًا فأهداء صلى الله عليه وسلم جمل اسمه "عسكر" كان عليه الصلاة والسلام يغزو عليه
ذكرُ مركوبه من بغاله وحميره صلى الله عليه وسلم
كان للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بغال وحمير يركبها صلى الله عليه وسلم، أما بغاله فكانت خمسة:
الأولى:"دُلدُل" وكانت بيضاء وهي أول بغلة رؤيتْ في الإسلام أهداها له المقوقس ملك الاسكندرية فكان عليه الصلاة والسلام يركبها في السفر.
الثانية: "فِضة" أهداها له صلى الله عليه وسلم الجداوي فوهبها صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
الثالثة:" الأَيلية" نسبة إلى أيلة أهداها له صلى الله عليه وسلم صاحب أيلة، وأيلة مدينة من بلاد الشام كما في معجم البلدان لياقوت الحموي.
الرابعة"بَغلة " أهداه له صلى الله عليه وسلم الأكَيْدر صاحب دومة الجندل
الخامسة:" بَغلة" أهداها له صلى الله عليه وسلم النجاشي ملك الحبشة رضي الله عنه.
وأما حميره صلى الله عليه وسلم فمنهم حماره الذي يقال له" عُفَير" وقيل: "يَعفور" أهداه له صلى الله عليه وسلم المقوقس ملك الاسكندرية وقيل: عُفير ويعْفُور حماران اثنان.
وكان له عليه الصلاة والسلام حمارٌ ثالث أهداه له الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه فإنه صلى الله عليه وسلم كان ماشيا يومًا فاركبه سعد بن عبادة في رجوعه إلى بيته أراد عليه الصلاة والسلام أن يرد هذا الحمار فقال له قيس بن عبادة: هو هدية.
ذكر مركوبه من أفراسه وخَيله صلى الله عليه وسلم
كان للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أفراس وخيلٌ منها:
"السَّكْبُ" وهو أول فرس ملَكه صلى الله عليه وسلم، سمي كذلك لسرعة جريه لأنه يقال للفرس الشديد الجري فيضٌ وسكْبٌ شُبه بفيض الماء وانسكابه.
وقد اشتري رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه هذا بالمدينة المنورة وكان أول ما غزا عليه أُحُدًا، وكان فرسًا أدهم اللون أي أسود.
الثاني: " لِزاز" ومعناه لا يُسابق شيئًا إلا لزه أي أثبته ، أهداه إليه المقوس ملك الاسكندرية وكان معجبًا به.
الثالث:" الظَّرِب" والظّرب في اللغة واحد الظراب وهي الجبال الصغار، سُمي هذا الفرس بذلك لقوته وصلابة حافره ولِكِبَره وسِمنه، أهداه له فروة بن عمروالجذامي.
الرابع:" سَبْحَة" وهي فرسٌ أنثى شقراء اشتراها صلى الله عليه وسلم من جهني بعشر من الإبل.
الخامسة: " المرتجِز" سمي كذلك لحسنِ صَهيله كأنه يُنشد رجََزًا، اشتراه صلى الله عليه وسلم من إعرابي وكان أبيض.
السادس:" ورد" أهداه له تميم الداري، والورد لون بين الكميت والأشقر شبّه بالورد المشموم.
السابع:" اللحِيفُ" سمي بذلك لأنه كان يلحف الأرض بذنبه، فهذه السبعة ليس فيها خلاف عند أهل السير.
_ ومن افراسه وخيله صلى الله عليه وسلم:
"ملاوح" وهو الضامر الذي لا يسمن والعظيم الألواح، و"الطرف" وهو الكريم الآباء والأمهات فكلا طرفيه كريم، و"الضّرس"، و"شَحَا" و"مِراوح" سمي به لسرعته كالريح، و"بحر" سمي له لسرعة جريه شبه بالبحر الذي لا ينقطع ماؤه، و"أدهمٌ" وهو الأسود، و"نجيب" وهو الكريم من الخيل، و"أبلق" وهو ما فيه بياض وسواد، و"مرتجل" وهو المباعد ما بين خُطاه أو المقارب بينها مع الإسراع، و"يعْسوب" واليَعسوب لغة غرة تستطيل في وجه الفرس و"سرحان" وذو العُقال"، و"سِجْل", و"يعبُوب"، فهذا ما ذَكر من افراسه عليه الصلاة والسلام.
فائدة: ذكر بعض حفاظ الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له فرس يقال له"السَّكْبُ" وذلك لأنه كان كثير الجري وهو أول فرس ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له فرس يقال له" المرتجز" وسُمي به لحسن صوته، وكان له فرس يقال له "إزاز" أهداه له المقوقس ابو البرا.
وكان له فرس يقال له" الطرف" أهداه له ربيعة بن البراء، وفرسٌ يقال ل]" الورد" أهداه له تميم الداري، وفرس يقال له" النحيف"، وناقة يقال لها "القصواء" اشتراها الرسول صلى الله عليه وسلم من أبي بكر باربعمائة درهم، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة يقال لها" الدُّلل" أهداها له المقوقس، وكان له حمار يقال له"يعفور".
ذكر اقداحه وءانيته وركوته وربعته وسريره عليه السلام
كان للنبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم اقداح كثيرة منها قدح يسمى الريّان، وءاخر يسمى المُغيثُ ، وقدح ءاخر مُضبّبٌ بعضه بالفضة وكان يُغيثهم به صلى الله عليه وسلم إذا ما مسّتهم حاجة، فيشربون فيه فيَشْفَون بإذن الله تعالى.
وكان له صلى الله عليه وسلم قدحٌ ءاخر من زجاج،وقدح من عَيدان وكان هذا القدح يُجعل تحت سريره صلى الله عليه وسلم يقضي به حاجته ويبول فيه بالليل في الأوقات الباردة.
وكان له صلى الله عليه وسلم تَوْرٌ من حجارة يتوضأ فيه والتّوْر إناء كبير يُتطهر منه.
وكانت ركوته صلى الله عليه وسلم التي تكون للماء تُسمى الصّادرة.
وكانت قصعته صلى الله عليه وسلم تُسمى الغراء وكانت كبيرة، والقصعة الصّحْفة التي يؤكل فيها الطعام.
وكان له صلى الله عليه وسلم صاع وهو مكيال لأجل إخراج زكاة الفطر به.
وكان له صلى الله عليه وسلم رَبعةٌ_ صندوق، قُفَّة_ مربعة اسكندرانية أهداها له المقوقس ملك الاسكندرية مع مارية أم ابنه ابراهيم وكانت هذه الرّبعة كجؤنة العطار، وهي كالقُفة التي يجعل فيها الطيب، وكان صلى الله عليه وسلم يجعل فيها أمتعته أي سواكه صلى الله عليه وسلم ومكحلته التي كان يكتحل منها عند النوم، ومرءاته التي كان صلى الله عليه وسلم ينظر فيها وكانت تسمى المدلة، ومقراضه ( وهو ءالة القطع) وكان يسمى الجامع.
وكانت هذه الأشياء لا يفارقها صلى الله عليه وسلم في السفر.
وكان له صلى الله عليه وسلم سرير أهداه له الصحابي الجليل أسعد بن زرارة وكانت قوائم هذا السرير من خشب الساج، وكان مُوشحًا بالليف.
فقد رُوي عن السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت قريش بمكة وليس شىء أحبّ إلينا من السرير ننام عليه، فلما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل منزل أبي أيوب قال صلى الله عليه وسلم:" أما لكم سرير؟ " قالوا: لا، فبلغ أسعد بن زرارة فبعث له سريرًا له عمود وقوائمه سَاج_ أي من خشب شجر الساج_ وكان ينام عليه حتى تحوّل إلى منزلي وكان فيه، فوهبه لي وكان ينام عليه حتى توفيّ صلى الله عليه وسلم وهو فوقه، وطلبه الناس منّا يحملون عليه موتاهم ، فحمل عليه أبو بكر وعمر والناس طلبًا لبركته."
فائدة: كان الصحابة رضوان الله عليهم يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته ولا زال المسلمون بعدهم إلى يومنا هذا على ذلك, والتبرك معناه طلب زيادة الخير، وجواز التبرك يعرف من فعل النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حيث أنه قسم شعره وأظافره بين صحابته رضوان الله عليهم ليكون شعره بركة باقية بينهم وتذكرة لهم وليستشفوا به من أمراضهم وليتبركوا به وليستشفعوا إلى الله تبارك وتعالى بما هو منه صلى الله عليه وسلم ويتقرّبوا بذلك إليه، ثم تبع الصحابة في هذه الخَصلة المباركة وهي طريقةُ التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم من أسعدَه الله تبارك وتعالى وتوارد ذلك الخلفُ عن السلف واستمر ذلك إلى هذا الوقت.
وما أحسن قول القائل في مدح شعرة النبي صلى الله عليه وسلم:
هي شعرةُ المختار فاحت بالشّذا ** فبطيبها تتعطر النّسمات
فادْعُ الإله بسِرها مُتوسلاً ** فعسى تجاب بسرها الدعواتُ
ذكر شىء من معجزاته صلى الله عليه وسلم
ايّد الله تبارك وتعالى أنبياءه بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقهم فيما جاؤوا به من عند الله تبارك وتعالى. والمعجزات جمع معجزة والمعجزة هي أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي عادةً موافق لدعوى النبوة سالمٌ من المعارضة بالمثل يظهر على يد من ادعى النبوة.
والنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم هو أكثر الأنبياء معجزات ومعجزاته صلى الله عليه وسلم كثيرة جدًا بينة ظاهرة كظهور الشمس في رابعة النهار تُقارب الثلاثمائة معجزة، من معجزات وخصائص وفضائل ولم يجمع ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم ، فمن معجزات النبيّ المصطفى عليه الصلاة والسلام :
الأولــى: القرءان ، وهو أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم وهو الكتاب المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وَوَجْهُ الإعجاز في القراءن أنه حَوى من قوة البلاغة وحُسن التركيب والجزالة ما أعجز كافة العرب المشركين عن أن يأتوا بمثله بعد أن تحداهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بذلك مع ما في القرءان من أخبار الأولين مع كونه صلى الله عليه وسلم أُميًّا غير مُمَارس للكتب ومع ما فيه من الإنْباء عن الغيب في أمورٍ كثيرة تحقّقَ صدقه فيها في الاستقبال.
فائدة: الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم هو افضل الأنبياء وأحسنهم وجهًا وصوتًا وهو أكثر الأنبياء معجزات.
فائدة في حكم القرءان: قال العلماء لا يجوز ترجمة القرءان لأن البلاغة التي في القرءان والتي وصلت الى حد الإعجاز لا توجد في الترجمة ، ولأنّ القرءان بألفاظه ومعانيه لا يُستَطاعُ الإتيان بمثله باللغة العربية نفسها، فلا يُمكنُ الإتيان بالترجمة بهذه المرتبة التي هي في غاية الفصاحة والبلاغة التي عجزت البلغاء في اللغة العربية عن الاتيان بمثلها ، فالقرءان بذلك معجزة ، لذلك قال الأئمة العلماء لا يجوز ترجمة القرءان الكريم اي ترجمة ألفاظه لأنه لا توجد لغة كلغة العرب.
وليعلم أنّ القرءان الكريم للنبيّ المصطفى معجزة باقية على تعاقب الأزمان والسنين وهو معجزة باقية الى يوم القيامة وأمّا معجزات سائر الأنبياء فقد انقرضت لوقتها.
الثانية: انشقاق القمر ليلة البدر حتى افترق وانشقّ فرقتين كما قال الله تعالى:" اقتربتِ السّاعةُ وانشقّ القمرُ" سورة القمر.
وقد كان انشقاق القمر امرًا مُحقّقًا تَحَقّقّه في حينه الجمع الغفير والعدد الكثير من الناس عندما شاهدوه منشقّـًا فلقتين.
الثالثة: حنين الجذع إليه لما فارقه صلى الله عليه وسلم على المنبر، فصار عليه الصلاة والسلام يخطب على المنبر بعدما كان يخطب إليه، ولم يسكن هذا الجذع من حينه وأنينه حتى أتى إليه صلى الله عليه وسلم فضمّه واعتنقه، فقد أورد البخاري في صحيحه:" كان في مسجد النبيّ جِذعٌ في قِبلته يقوم إليه فلما وضع المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشائر " أي النوق الحوامل، وفي رواية:" فنزل عليه فاحتضنه وسارّهُ بشىء"، وفي رواية الترمذي :" فالتزمه وسكن".
فائدة: حديث معجزة حنين الجذع للنبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم متواتر, وهذه المعجزة من أعجب المعجزات ويصحّ لقائل أن يقول إنها أعجب من إحياء الموتى الذي حصل للمسيح عليه السلام, لأن إحياء الموتى يتضمن رجوع هؤلاء الاشخاص إلى مثل ما كانوا عليه قبل أن يموتوا، وأما الجذع الخشبي فهو من الجماد الذي لم يكن من عادته أن يتكلم بإرادة فهو بذلك أعجب وهو من أظهر المعجزات.
الرابعة: نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله عنه:" عطِش الناس يوم الحُديبية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة يتوضأ منها وجهِش الناس حوله (فزعوا إليه مع إرادة البكاء) فقال: "ما لكم؟" فقالوا : يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشربه إلا ما بين يديك فوضع يده صلى الله عليه وسلم في الركوة وجعل الماء يفور من بين اصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا ،: فقلت: كم كنتم؟ قال: لو كنّا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة.
وهذه المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم غير مرة ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثلها فهي من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
فائدة: قال العلماء معجزة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في نبع الماء من بين اصابعه صلى الله عليه وسلم الذي كفى به هذا الجيش الكثير أعجب من معجزة تفجير موسى الماء من الحجر حين ضربه موسى بعصاه لأن خروج الماء من الحجر معهودٌ بخلاف نبع الماء الزلال من بين الاصابع، وفي هذه المعجزة وفي معجزة ردّ عين قتادة الآتي ذكرها قال بعض المادحين يمدحُ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم:
إن كان موسى سقى الأسباط من حجرٍ** فإنّ في الكفّ معنًى ليس في الحجر.
إن كان عيسى بَرا الأعمى بدعوته** فكم براحته قد ردّ من بصر
الخامسة: أنّ عين الصحابي قتادة بن النعمان الأنصاري سقطت عينه يوم غزوة أُحد فردّها النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم فكانت المردودة أحدّ وأحسن من العين الصحيحة أي أشدّ حِدّة وأقوى من السالمة ، رواها الحافظان البيهقي والحاكم.
السادسة: تسبيح الحصى بكفّه صلى الله عليه وسلم، قال أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم كفًّا من حصًى فسبَّحن في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا التسبيح ثم صبّهُنّ في يد أبي بكر رضي الله عنه فسبّحن ثم في أيدينا فما سبّحنَ.
السابعة: تسبيح الطعام حين وُضع عنده اي بين يديه صلى الله عليه وسلم فنطَقَ وسَبَح الله تعالى، فقد أخرج البخاري من حديث ابن مسعود قال: كنّا نأكل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الطعام ونحنُ نسمعُ تسبيحَ الطعام.
الثامنة: تسليمُ الحجر والشجرعليه صلى الله عليه وسلم بالنطق فقد أخبر عليّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم :" كان يمضي إلى الشعاب وبطون الأودية فلم يمر بشجر ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله".
التاسعة: تكليمُ الذراع له صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري لما أهدت زينب بنت الحارث له صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة بخيبر فأكل ناسٌ من اصحابه منها منهم بشرٌ فتناول النبي صلى الله عليه وسلم الكتف فقال:" إنه يخبرني أنه مسموم" فلم يقم بشر من مكانه حتى تغير لونه فمات.
العاشرة: أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى قضاء الحاجة ولم يجد شيئًا يستتر به سوى نخلتين صغيرتين قد بعُدت كل واحدة منهما عن الأخرى، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم كلاّ من النخلتين فأتت كل واحدة تشقّ الأرض شقّا فسترتا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قضى صلى الله عليه وسلم حاجته ثم أمر النبي المصطفى كلاّ منهما بالمضي إلى مكانها فمضى، رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي.
الحادية عشرة: شهادة الذئب له بالنبوة ، فقد روى الطبراني وابو نعيم في" دلائل النبوة" " بينما رَاع يرعى إذ انتهز الذئب شاةً فتبعه الراعي فحال بينه وبينها فقال له: ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزقٍ ساقه الله إليّ،، قال الراعي: العجب من ذئب مُقْعٍ على ذنبه يكلمني، فقال الذئب: أعجبُ من هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يدعو الناس إلى أنباء ما قد سبق": ومعنى "مُقْع " أي جالس جلسة الإقعاء.
الثانية عشر: شكوى البعير إليه صلى الله عليه وسلم الجهاد والمشقة. فعن جعفر أنه أردفه النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فدخل حائطًا( اي بستانا) لرجل من الأنصار فوجد بعيرًا فلما رءاه حنّ واغرورقتْ عيناه فمسح عليه فسكت فنادى (أي النبي صلى الله عليه وسلم) صاحبه أنه شكى إليّ أنك تُجِيعُهُ وتدئبه.
الثالثة عشر: أنّ عين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه برِئت من الرّمد حين تفل اي بصق صلى الله عليه وسلم فيها لوقته وما عاد الرّمد بعد ذلك ابدًا.
ففي صحيح البخاري أن عليًّا كان يوم خيبر أرمد فقال المصطفى : "لأعطينَّ الراية غدًا رجلاً يجبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه" فدعا( اي النبي صلى الله عليه وسلم) عليّا وكان أرمد فتفل في عينيه.." الحديث . والتقل شبيه بالبَزق وهو اقل منه.
الرابعة عشر: اقتراب ستّ بُدْنٍ من النبي صلى الله عليه وسلم يتسابقن إليه للذبح . والبُدن جمع بّدّنة وهي البعير للنحر.
فقد روى أبو داود والنسائي :" قُرّب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدناتٌ خمسٌ أو ستٌ أو سبعٌ لينحرها يوم عيد فطفقْنَ يزْدَلِفْنَ إليه ( أي يقتربن منه صلى الله عليه وسلم) بايتهن يبدأ.
الخامسة عشر: أنّ المُشرك أُبيّ بن خلف كان يلقى المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول له: إن عندي قَعُودًا (وهو البعير من الإبل الذي يُمكّن ظهره من الركوب) أعلفه كل يوم اقتلك عليه، فيقول له عليه الصلاة والسلام :" بل أنا أقتلك إن شاء الله فلمّا كان يوم غزوة أُحد طعنه النبي صلى الله عليه وسلم في عُنقه فخدشه (أي جرحه في ظاهر جلده) غير كثير فقال :" قتلني محمدٌ. فقالوا له:" ليس بك باس، قال إنه قال: " أنا قاتلك" فلو بصق عليّ لقتلني ثم مات بسروٍ، والسرو اسم موضع.
السادسة عشر" أنه صلى الله عليه وسلم عدّ لاصحابه ي بدر مصارع الكفار(أي مكان سقوطهم على الأرض قتلى) فقال: هذا مصرع فلانٍ غدًا ويضع يده على الأرض، وهذا وهذا فكان كما وعدَ عليه الصلاة والسلام، وما تجاوز أحد منهم عن موضع يده صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك في خبر ابي داود ومسلم.
السابعة عشر: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن طوائف من أمته سيركبون وسط البحر يغزون كالملوك على الأسرّة ومنهم أم حَرام الغميصاء أو الرميصاء بنت ملحان أخت أم سليم أم أنس، فكان ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ، فإنها رضي الله عنها خرجت مع زوجها عبادة بن الصامت أوّل ما ركب المسلمون البحر فلما قفلوا وعادوا من غزوهم نزلوا إلى الشام فقُدّم إليها دابة لتركبها فصرعَتها فماتت ودفنت رضي الله عنها بجزيرة قبرص وكان أمير الجيش معاوية ، رواه البخاري وغيره.
الثامنة عشر: أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي سِبْطِ](أي ولد ولده) "إن ابني هذا سيّد ولعلّ الله أن يُصلح بن بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فإنه لما توفي ابوه عليّ كرم الله وجهه بايعه أربعون ألفًا على الموت، ولكنه عليه السلام نزل على الخلافة لمعاوية لا من قلة ولا من ذلة بل حقنًا لدماء المسلمين كما روى ذلك البخاري وغيره.
التاسعة عشر: أنه عليه الصلاة والسلام دعا لعليّ كرّم الله وجهه بذهاب البحر والبرد عنه فما كان عليّ رضي الله عنه يجد بعد ذلك حرًّا ولا بردًا، فكان يلبس في البحر الشديد القباء المحشو الثخين وفي البرد الشديد ثوبين خفيفين.
العشرون: أنه صلى الله عليه وسلم دعَا لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بفقه الدين وعلم التأويل فقال صلى الله عليه وسلم كما في سنن ابن ماجه"اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل" فصار ابن عباس رضي الله عنه بحرًا زخارًا واسعًا في العلم، وصار يُسمى البحر والحِبر وترجمان القرءان.
الحادية والعشرون: أنه عليه الصلاة والسلام دعا لخادمه أنس بن مالك رضي الله عنه بكثرة المال والولد وبطول عمره، فقال صلى الله عليه وسلم:" اللهم أكثرْ مالُهُ وولدَهُ وبارك فيه" رواه البخاري ومسلم، فعاش أنسٌ رضي الله عنه نحو مائة سنة إلا سنة، وكان له نخل يحمل في كل سنة حملين ، وكان ولده لصلبه مائـة وعشرين ولدًا ذكورًا.
الثاني والعشرون: كان عليه الصلاة والسلام بينه وبين عُتيبة بن ابي لهب أذى، وذلك أن عُتيبة بصق على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم فدعا عليه الصلاة والسلام عليه فتحقّق ما دعا به عليه.
وذلك أنه عليه الصلاة والسلام سأل الله تعالى أن يُسلط عليه كلبًا من كلابه فقتله الأسد قتلاً صعبًا بالزرقاء من أرض اليمامة كما روى ذلك ابو نُعيم في" دلائل النبوة".
الثالثة والعشرون: أنه عليه الصلاة والسلام لمّا شُكِيَ إليه حبْسُ المطر وانقطاعه وهو فوق المنبر في خطبة الجمعة فرفع يديه صلى الله عليه وسلم يسأل الله تبارك وتعالى ودعا وما في السماء قزعة_أي قطعة_ من الغيم ولا سحابٌ فطلعت سحابة من ورائه مثل الترس حتى توسطت السماء فاتسعت وانتشرت فأمطروا جمعة، من الجمعة إلى الجمعة ، وتواترت الأمطار واستمرت حتى شكى الناس إليه انقطاع السُّبْل، فدعا عليه الصلاة والسلام الله عزّ وجلّ وقال:" اللهم حَوَالينا ولا عَلينا" فأقلعت أي كفّت وانقطعت الأمطار، رواه الشيخان وغيرهما.
الرابعة والعشرون: أنه عليه الصلاة والسلام أطعم الألف الذين كانوا معه في غزوة الخندق من صاعِ شعير أو دون صاع، ومن بُهيْمة وهي ولد الضأن، فأكلوا وشربوا وانصرفوا وبقي بعد انصرافهم عن الطعام أكثر مما كان من الطعام كما في الصحيحين عن الصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
الخامسة والعشرون: أنه عليه الصلاة والسلام أمر عُمَر الفاروق رضي الله عنه أن يُزَوّد أربعمائة راكب أتوا إليه من تمر كان عنده، فزوّدهم رضي الله عنه منه، والتمر كان مقداره كالفَضِيل الجالس، أي أنّ الجراب الذي كان فيه التمر كان بقدار الفضيل وهو ولد الناقة إذا جلس ، فزوّدهم جميعهم وكأنه ما قبض أحدٌ منه تمرة واحدة، رواه أحمد في مسنده
السابعة والعشرون: أنه عليه الصلاة والسلام أطعم جماعةً من اقراص شعير قليلة بحيث جعلها خادمه أنس رضي الله عنه تحت غبطهِ لِقِلتها فأكل منها ثمانون رجلاً وشبعوا كلهم وهو كما أُتيَ لهم كأنه لم يَمسَسْه أحد كما جاء ذلك في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
الثامنة والعشرون: أنه عليه الصلاة والسلام أطعم الجيش حتى شبعوا من مِزودِ_وهو وعاء التمر_ لابي هريرة رضي الله عنه ثم ردّ فأكل منه رضي الله عنه في حياة النبيّ ثم في حياة ابي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم إلى حين قُتِل عثمان رضي الله عنه فضَاع المِزود لما نُهِب بيت أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ذكر أهل السير أنه حصلت للنبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم معجزة أخرى تتعلقّ بهذا المِزود لصاحبه ابي هريرة رضي الله عنه وهي أن ابا هريرة حمل من تمر ذلك المِزود مقدار خمسين وسقًا وزّعها كلها في سبيل الله عزّ وجلّ، وقد أخرج الحافظ البيهقي عن ابي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أُصبتُ بثلاثِ مصائب في الإسلام :"موت النبيّ صلى الله عليه وسلم وقتل عثمان، والمِزود" قيل وما المِزود فذكر نحو ما تقدّم.
التاسعة والعشرون:أنه عليه الصلاة والسلام في يوم غزوة حنين رمى الكفار بقبضةٍ من تراب وقال:" شاهت الوجوه" فامتلأت أعينهم كلهم ترابًا وهُزموا عن ءاخرهم، وأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك قرءانًا فقال سبحانه وتعالى:" ومَا رمَيتَ إذْ رَمَيتَ ولكنَّ اللهَ رمَى" سورة الانفال ، رواه مسلم وأحمد.
الثلاثون: أنه عليه الصلاة والسلام لما اجتمعت صناديد قريش وزعماؤهم المشركون في دار الندوة وأجمعوا على قتله صلى الله عليه وسلم وجاءوا إلى بابه ينتظرون خروجه فيضربونه بالسّيوف ضربة رجل واحد، خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم ووضع التراب على رأس كل واحد منهم ولم يَرهُ أحد.
الحادي والثلاثون: أنّ الله تبارك وتعالى زَوَى_اي جمع له الأرض كلها وضمّ بعضها لبعض حتى رءاها وشاهد مغاربها ومشارقها وقال صلى الله عليه وسلم:" إنّ مُلْكَ أمتي سيبلغُ ما رّوِيَ لي منها" رواه أحمد في مسنده.
وخصّ عليه الصلاة والسلام المغربَ والمشرق إشارةً إلى أن مُلْكَ أمته شملها بخلاف الجهة الجنوبية والشمالية فلم يبلغ مُلك الأمة الإسلامية منها مبلَغه من المغرب والمشرق.
الثانية والثلاثون: وهي أن رُكانة بن عبد يزيد وكان من اقوياء قبيلة قريش، التقى يومًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في أّحَد جبال مكة فقال له النبيّ عليه الصلاة والسلام (ولم يكن رُكانة قد اسلمَ بعد) :"يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه" فقال رُكانة: إني لو أعلم أن الذي تقول فيه حق لاتبعتك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أفرايت إن صرعتك أتشهد أنّ ما اقول حق" قال: نعم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :" فقُم حتى اصارعك" فتصارعا فأوقعه النبيّ عليه الصلاة والسلام أرضًا، فاستغرب رُكانة لأنه لم يسبق لأحد من قومه أن غلبه، فطلب رُكانة الإعادة فتصارعا فأوقعه النبيّ صلى االله عليه وسلم أرضًا مرة ثانية، فقال: يا محمد، والله إن هذا عجيب، أتصرعني؟ فقال له النبيّ المصطفى صلى االله عليه وسلم "وأعجب من ذلك إن شئت أريك إن اتقيت الله واتبعتَ أمري" فقال : وما هو؟ قال:" أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني" ، قال: فادعها، فدعاها حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى االله عليه وسلم ثم قال لها:" ارجعي إلى مكانك" فرجعت إلى مكانها فأسلم عندئذٍ رُكانة.
وكم له صلى الله عليه وسلم من معجزات باهرات بيّنات ظاهرة كظهور الشمس في رابعة النهار، ولكن اقتصرنا على هذا المقدار خوفًا من الإطالة
صبرُهُ صلى الله عليه وسلم على الشدائِد والأذى
قال الله تبارك وتعالى:" فاصْبِر كما صَبَر أُولوُا العزمِ مِنَ الرسُلِ " سورة الأحقاف.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :" اشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"
النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم هو أفضل واشرف الأنبياء وهو سيد العالمين، وهو افضل أنبياء أولي العزم الذين بلغوا الغاية في الصبر على المصائب وتحمّل الشدائد والاذى من قومهم لأجل دعوتهم إلى دين الله تعالى.
ولقد كان النبيّ المصطفى كما وصفه علماء السيرة كثير المصائب والبلايا دائم الأحزان، ولقد ابتلى الله حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بكثرة المصائب لرفع درجاته ونيل الثواب الجزيل في الآخرة ، لقد ابتلاه الله تعالى بالمصائب والبلايا الكثيرة في نفسه وولده وأصحابه وتحمل صلى الله عليه وسلم الشدائد والأذى الكثير من قومه في دعوتهم إلى الله تعالى.
ابتلى الله نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم بموت أولاده في حياته إلا ابنته السيدة الجليلة فاطمة رضي الله عنها التي عاشت بعده صلى الله عليه وسلم ستة اشهر ثم توفّاها الله تعالى، لقد مات أولاده صلى الله عليه وسلم الذكور الثلاثة، وهم القاسم وعبد الله وإبراهيم وهم أطفال صغار لم يبلغوا الحلم في حياته صلى الله عليه وسلم وأعظم بها من مصيبة.. وما أعظم هذا الموقف المؤثّر الذي وقفه النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم عند وفاة ولده إبراهيم عليه السلام الذي مات ولم يتجاوز السنتين من عمره.
لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وهو يجودُ بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان بالدموع، فقال له الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله ، فقال له صلى الله عليه وسلم يا ابن عوف إنها رحمة ثم أتبعها صلى الله عليه وسلم بأخرى وقال:" إنّ العين تدمع والقلبَ يحزن ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربّنا، وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون"
وعندما ماتت زوجة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم السيدة الجليلة خديجة رضي الله عنها حزن عليها النبيّ المصطفى حزنًا شديدًا لأنها كانت نعم العون والمؤازر والسند له صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله تعالى.
وعن ابي زيد اسامة بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحِبّهِ وابن حِبّه رضي الله عنهما، قال: أرسلتْ بنتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ ابني قد احتضِر فاشهدنا فأرسل يقرىء السلام ويقول:" إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى ، وكل شىء عنده بأجل مسمّى فلتصبر ولتحْتسب" فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها، فقام صلى الله عليه وسلم ومعه سعد بن عُبادة ومُعاذ بن جبل وأُبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ورجال رضي الله عنهم، فرُفِع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبيُّ فأقعده في حجره ونفسه تقَعْقَعُ(أي تتحرك وتضطرب) ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال" هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده" وفي رواية "في قلوب من شاء من عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" متفق عليه.
ولقد كان أبو طالب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا أتتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يومًا مات عمه ابو طالب في السنة العاشرة من البعثة ثم تُوفّيت بعده زوجته خديجة رضي الله عنها بشهر وخمسة أيام وقيل بثلاثة ايام وقيل غير ذلك فحزن عليها الرسول صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا لأنها كانت نعم العون والمؤازر له في دعوته إلى دين الله تعالى وكان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم يسكُن إليها،وكانت قريش تكف بعض آذاها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى مات أبو طالب فلما مات بالغوا في آذاه صلى الله عليه وسلم.
ونالت قريش من المصطفى ما لم تناله ولا تطمع فيه، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على راسه ترابًا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على راسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها:" لا تبكي يا بنية فإن الله مانع اباك" أي حافظ اباكِ، ويقول بين ذلك:" ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات ابو طالب" واشتد أذى ابي لهب وجميع قريش على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو جهل: أعاهد الله لأجلسن له غدًا بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته رضخت به راسه فاسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم فقالوا: لا نسلمك ابدًا فامض لما تريد، فلما اصبح أخذ حجرًا كما وصف ثم قعد ينتظره وغدا رسول الله كما كان يغدو فلما جلس احتمل أبو جهل الحجر حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا مُنتقَعًا لونه مرعوبًا قد يبست يداه على حَجَره حتى قذفَه من يده وقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا ابا الحكم قال: قمت إليه لافعل ما قلت فلما دنوتُ منه عرض لي دونه فحلٌ من الإبل ما رأيت مثل هامته فهمّ بي أن يأكلني فقال المصطفى "ذاك جبريل لو دنا لأخذه".
وعسر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عمه أبي طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها ، هذين الشفوقين المساعدين القائمين معه، ونالت قريش منه من الأذى ما لم تناله من قبل، وحزن لموتهما حزنًا شديدًا وأقلّ الخروج ولزم بيته، ثم خرج صلى الله عليه وسلم الى الطائف ومعه زيد بن حارثة فقط يلتمس النصرة من ثقيف فأقام بالطائف عشرة أيام فما ترك أحدًا من اشرافهم إلا اجتمع به، فلم يجيبوه وسلطوا سفهاءهم وصبيانهم عليه فقعدوا له بالطريق صفين يضربونه بالحجارة في رجليه حتى ادموهما وزيدٌ يقيه بنفسه حتى شج صلى الله عليه وسلم في رأسه فلما خلص عمد إلى حائط فاستظل في ظل عنب وكان فيه عتبة وشيبة ابنا ربيعة فكره مكانهما لما يعلم من عداوتهما له
ثم جلس صلى الله عليه وسلم يشكو إلى مولاه وخالقه ما يجد فقال:" اللهم إليك اشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى عدوٍ يتجهمني أم إلى عدوٍ ملكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك(1) الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
فأرسل الله إليه جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال فقال: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين_أي جبلي مكة العظيمين_ فقال:" لا بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله" فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فبعثا قطفًا من عنب مع غلام لهما نصراني اسمه عدّاس فلما وضعه بين يديه قال: بسم الله ثم أكل فنظر عدّاس في وجهه ثم قال: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد فقال له المصطفى :" ومن أي البلاد أنت" قال : نصراني من أهل نينوى قال:" أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟" قال: وما يدريك ما يونس قال:" ذاك أخي كان نبيًا وأنا نبيّ" فأكب عداس عليه فقبل رأسه ويديه فلما جاءهما قالا له: ما لك تقبل رأسه ويديه قال: ما في الأرض خير منه قد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبيّ قالا: ويلك لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.
ثم انصرف من الطائف فصار إلى حراء وبعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره فأبى، فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بني عامرٍ لا يجيرون على بني كعب ، فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه ثم تسلح وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فلما دخل طاف ثم انصرف إلى منزله.
(1) ليس معنى الوجه في هذا الحديث الجزء والحجم المركب على البدن لأن هذا من أوصاف المخلوقات والله تبارك وتعالى منزّه عن ذلك كله.
وليس الله تبارك وتعالى نورًا بمعنى الضوء، بل الله تعالى هو الذي خلق النور، قال الله تعالى:" وجَعَل الظُلُمتِ والنّور" سورة الانعام، أي خلق الظلمات والنور، فالله تبارك وتعالى ليس حجمًا لطيفًا كالظلمات والنور، لأن الذي خلق المخلوقات لا يشبه المخلوقات بوجه من الوجوه، والله تبارك وتعالى كوّن الأكوان ودبّر الزمان، لا يتقيّد بالزمان ولا يتخصّصُ بالمكان، ولا يشغله شأن عن شأن ولا يلحقه وهمٌ ، ولا يكتنفه عقلٌ، ولا يتخصصُ بالذهن ، ولا يتمثل في النفس ولا يتصورُ في الوهم ولا يتكيف في العقل ولا تلحقه الأوهام والأفكار" ليس كمثله شىء" سورة الشورى.
كثرة البلايا والأمراض في جسده صلى الله عليه وسلم
لقد كان النبيّ المصطفى كثير الأمراض والأسقام في جسمه وبدنه حتى أنه من كثرة أسقامه وكثرة أمراضه وما كان يوصف لمرضه وأوجاعه من أدوية وعلاج استطاعت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها أن يكون لها باعًا واسعًا في علم الطب والأدوية.
وكان عليه الصلاة والسلام يُشدّد عليه البلاء والمصائب ليضاعف له الآجر كغيره من الأنبياء فعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوعِكُ وعكًا شديدًا فمسِستُهُ بيدي فقلت يا رسول الله إنك لتوعَك وعكًا شديدًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أجل إني أُوعك كما يوعَكُ رجلان منكم" فقلت: ذلك أن لك آجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أجل" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يُصيبه أذى مَرَض فما سواه إلا حطّ الله له سيئاته كما تحطّ الشجرة وَرَقها" رواه البخاري ومسلم، والوعك هي الحمّى.
ودخل يومًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ابو سعيد الخدري وعليه قطيفة فوضع يده فوجد حرارتها فوق القطيفة فقال: ما اشدّ حمّاك فقال صلى الله عليه وسلم :" إنّا كذلك يُشدّد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر" والقطيفة: كِساء له خَمْل.
ومن جملة البلاء الذي ابتلي به النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم ألم سكرات الموت الذي هو أشد من ضربة ألف سيف كما ورد، وهو اشد ما يلقاه الإنسان في دنياه فقد أخبرت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها أن النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم كان وهو على فراش الموت يدخل يديه في ركوة أو علبة ماء كانت بين يديه ثم يمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله إنّ للموت لسكرات اللهم أعني على سكرات الموت".
وقالت رضي الله عنها:" ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبيّ صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقُل النبيّ صلى الله عليه وسلم أي اشتد مرضه جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكَرب ابتاه. فقال صلى الله عليه وسلم" ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم" فلمّا مات صلى الله عليه وسلم قالت: يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة رضي الله عنها: " أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب" رواه البخاري.
بلاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في أصحابه
اشتد بلاء النبيّ صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وخاصة السابقين الأولين منهم الذين تحملوا الأذى والشدائد من قومهم بسبب إسلامهم ونصرة دعوة نبيهم كبلال الحبشي مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم وعمار بن ياسر وأمه سميّة وأبيه ياسر، أما عمار بن ياسر فعذبوه حتى انكسرت بعض اضلاعه وهو ثابت على دين الإسلام لا يتزلزل وعذبوا أمّه سُمية بنت حاطب وطعنها أبو جهل بحربة في قُبُلها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام ، وعذبوا اباه وهو ياسر بن عامر الذي كان مع أهله من الصابرين، ومرّ عليهم رسول الله وهم يُعذبون فقال" صبرًا ءال ياسر فإن موعدكم الجنة"
وممّن عُذب في الله تعالى وابتاعهم أبو بكر الصديق ثم أعتقهم أم بلال الحبشي وابنها بلال بن رباح مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم وهذان عذبهما أحد المشركين واسمه أمية بن خلف وبالغ في تعذيبهما وبلال مع ذلك يقول" أحد أحد".
ولقد قتل المشركون يومًا سبعين من اصحابه يُسمّون "القُرّاء" أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام لنشر دين الإسلام وتعليم أمور دينهم فكَمِن لهم المشركون في ناحية من الطريق وأجهزوا عليهم جميعًا بالقتل، فحزن عليهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا وبقي عليه الصلاة والسلام يقنتُ في صلاته يدعو على من قتلهم.
وفي غزوة أُحُد عندما هدأت الحرب بين الطرفين وانحسر المشركون منصرفين وقد زُهُوا بالنصر الذي أحرزوه ، بعد أن خالف المشركون الرماة الذين وضعهم النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم على الجبل ليحموا ظهور المسلمين أوامر نبيهم القائد العظيم صلى الله عليه وسلم ثم انصرف المسلمون وفزعوا لقتلاهم، وكان فيهم حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم واليمان، وأنس بن النضر، ومصعب بن عمير، وعدد كبير غيرهم ماتوا شهداء رضي الله عنهم.
ولقد حزن النبي المصطفى وتأثر تأثرًا كبيرًا لمقتل عمه حمزة رضي الله عنه، وكان قد مُثل به فبُقر بطنه وجُدِع أنفه وأذناه.
وممّا يدل على عظيم العذاب والأذى الذي تعرض له الصحابة السابقون الأولون من جانب المشركين ما ورد عن ابي عبد الله خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تَسْتنْصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:" قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفرُ له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على راسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصُدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" رواه البخاري.
وفي رواية:" وهو متوسّدٌ بُردة وقد لقينا من المشركين شدّة"
لقد تحمّل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الشدائد وألوانًا من العذاب في سبيل دينهم وإيمانهم حتى مات منهم من مات تحت العذاب وعمي من عَمِي ولم يفتنهم ذلك عن دين الله شيئًا، وإن الحديث والبحث ليطول لو ذهبنا نسرد نماذج عن ألوان الأذى والعذاب الذي لاقاه كل منهم.
تحمّل النبي صلى الله عليه وسلم الاذى والشدائد في نفسه في الدعوة إلى الله
ءاذى المشركون النبي صلى الله عليه وسلم اذى شديدًا إلى دين الله تعالى وتحمّل منهم عليه الصلاة والسلام في سبيل دعوته الشدائد والاذى الشديد، فلقد ضربوه واستهزؤا به وشتموه وقالوا عنه مجنون وساحر، وكانوا يواجهونه بفنون الهزء والغمز واللمز كلما مشى صلى الله عليه وسلم بينهم أو مرّ بهم في طرقاتهم أو نواديهم.
ومن جملة ألوان الأذى الشديد الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين لأجل دعوتهم إلى الإسلام ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمّا نزلت" وأنذِر عشيرتكَ الأقربين" سورة الشعراء. صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي:" يا بني فهر يا بني عُدي"_ لبطون قريش_ حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال_ اي النبيّ صلى الله عليه وسلم_: "أرايتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مٌصدَقيّ" قالوا: نعم ما جرّبنا عليك إلا صدقًا، قال صلى الله عليه وسلم"فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت "تبّت يدَآ أبي لهب وتب* ما أغنى عنهُ مالُهُ وما كَسَب" سورة المسد.
وقد كان عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ابو لهب واسمه عبد العُزّى بن عبد المطلب يسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وكانت امرأته أم جميل واسمها العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب والد معاوية تؤذي النبيّ صلى الله عليه وسلم وتمشي بالنميمة فكانت تنمُّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المشركين فقد كانت تنمّ فتُحرّش فتوقد العداوة، لذلك كنّى الله تعالى عنها في القرءان الكريم ب" حمّالة الحطب" سورة المسد.
ومن جملة الأذى الشديد الذي أؤذي به صلى الله عليه وسلم من قريش أنه كان يوما يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزور(وهو كيس ولد الناقة بعد وضعه) قريب منه، فقال المشركون من يأخذ هذا السلا فيلقه على ظهره صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أحدهم وهو عُقبة بن ابي مُعيط :أنا ،فأخذه هذا الشقي فألقاه على ظهره صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ساجدًا لله عزّ وجل، فلم يزل عليه الصلاة والسلام ساجدًا حتى جاءت فاطمة رضي الله عنها فأخذت هذاالمستقذر عن ظهره صلى الله عليه وسلم ، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على قريش ويقول:" اللهم عليك الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهمّ عليك بعقبة بن ابي مُعيط، اللهم عليك بأبيّ بن خلف"، أو أمية بن خلف فتلوا هؤلاء جميعًا ثم سحبوا إلى القَليب غير أبيّ أو أمية، فإنه كان رجلا ضخمًا فتقطع كما ورد ذلك في الصحيحين.
وعن عروة بن الزبير ايضًا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم :هل أتى عليك يوم كان اشدّ عليك من يوم أُحُد،قال صلى الله عليه وسلم " لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على بن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب(موضع بقرب مكة) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (وهما جبلان عظيمان بمكة) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا .أخرجاه في الصحيحين.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّةً حتى غشي عليه، فقام ابو بكر رضي الله عنه فجعل ينادي: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله فقالوا: من هذا؟ فقالوا ابو بكر المجنون، فتركوه وأقبلوا على ابي بكر.
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه ترابًا فرجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول صلى الله عليه وسلم :"أي بنيّة لا تبكين فإنّ الله مانع أباك".
ومن شديد الأذى الذي تحمله النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في بدنه أنه صلى الله عليه وسلم يوم أحُد حين انكشف المسلون وداخلهم الرعب وأخذ المسلمون يقتتلون على غير شعار وأوجع المشركون في المسلمين قتالا ذريعًا حتى خَلُص الأمر إلى رسول الله صلوات ربي سلامه عليه فرمي صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى رُميَ لشقه واصيب رباعيته (السنّ المجاورة للناب) وشُجَّ صلى الله عليه وسلم في وجهه الشريف وجعل الدم يسيل على وجهه الشريف، فكان صلى الله عليه وسلم يمسحه وهو يقول:" كيف يصلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟" ثم جاءت السيدة الجليلة فاطمة رضي الله عنها وجعلت تغسل عنه الدم وعليّ رضي الله عنه يسكب الماء بالمجنّ، فلما رأت أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رَمادًا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك.
وأنشد لسانُ الحال:
ويح قومٍ جفوا نبيّـًا بأرض** ألِفتهُ ضِيائهــا والظِباء
وجَفوهُ وحنّ جذعٌ إليه **وقلَــوهُ وودّهُ الغُربــاء
أخرجــوهُ منهــا وءاواهُ غـار** وحَمتهُ حمامــةٌ ورْقـاء
صلى الله عليك يا علم الهدى ما هبت النسائم وما ناحت على الأيك الحمائم
خاتمة في الاعتبار بموت النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم
قال الله تبارك وتعالى في محكم القرءان الكريم:"وما جعلنا لبشرٍ من قبلِك الخُلد افإين مِتّ فهم الخلدون" سورة الأنبياء
وقال عزّ من قائل مخاطبا نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم :" إنّك ميّتٌ وإنّهم ميّتون" سورة الزمر
إن وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هي مصيبة الأولين والآخرين.. فيا لها من مصيبة ما اصيب المسلمون بمثلها قط، يقول الصحابي الجليل أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله المدينة اضاء منها كل شىء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شىء، ولمّا نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" . يريد رضي الله عنه أنهم وجدوها قد تغيرت عمّا عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرّقة لفقدان ما كان يمدّهم به الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من التعليم والتأديب والإرشادات والفوائد العظيمة.
أخي المؤمن... تفكر واعتبر بموت نبيّك المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن الذكرى تنفع المؤمنين فالدنيا متاع الغرور والموت حق قد كتبه الله تبارك وتعالى على عباده، قال الله سبحانه وتعالى:" كلّ نفسٍ ذائقة الموت" سورة ءال عمران. وليُعلم أنه إذا كان أفضل الخلائق وسيد الأنبياء والمرسلين قد مات فلا بد إذا لكل واحد منّا أن يموت، فالموت يجمعنا والقبر يضمنا والكفن يحفنا ويلفنا وإلى الله العزيز الحكيم مرجعنا ومصيرنا، وسيحاسبنا على ما قدمنا في هذه الحياة الدنيا كما أخبرنا في محكم كتابه الكريم الذي أنزله على نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، واعلم يا أخي أن الموت حقّ وهو مُنتظر منّا في كل ساعة وهو يقطع نعيم هذه الدنيا الفانية، فالدنيا دار ممر وليست دار مقر وأما الآخرة فهي دار القرار, فهذه الدنيا لا تُغني عن الآخرة، والكيّس العاقل الفطن هو من تزوّد من دنياه لآخرته كما أمر الله تبارك وتعالى بقوله في القرءان الكريم:" وتَزوّدوا فإنّ خيرَ الزّاد التقوى واتّقونِ يَأولي الألبَب" سورة البقرة.
وعليك يا عبد الله أن تعتبر أحسن الإعتبار بموت نبيّك محمد سيد العالمين ، وسيد الأولين والآخرين وأن تصبر على مصائب الدنيا على اختلافها وأنواعها كما صبر النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي هو إمام الصابرين والمجاهدين .
فإذا ما انهالت عليك المصائب وهجمت عليك البلايا فاجعل قدوتك واسوتك نبيّك المصطفى صلى الله عليه وسلم في صبره على المصائب والبلايا، فهو عليه الصلاة والسلام إمام الصابرين والمجاهدين وهو اشد الأنبياء بلاء، فتذكر عند نزول المصائب عليك مُصيبة موته عليه الصلاة والسلام، ولتتَعزّ بهذه المصيبة العظيمة الجلل عن كل ما يصيبك من مصائب الدنيا مع شدائدها وأثقالها فما مصائب الحياة الدنيا على اختلافها وأنواعها أمام مصيبة موت الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي هو سيّد العالمين ، واشرف الأنبياء والمرسلين وسيّد ولد ءادم يوم القيامة كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام .
يقول النبيّ الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه:" يا أيها النّاس أيّما أحد من الناس أو المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإنّ أحدًا من أمتي لن يُصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي" رواه ابن ماجه في سننه.
أخي المسلم.. اصبر على ما ابتلاك الله تعالى به من مصائب سواء في نفسك أو أهلك أو مالك، اصبر صبرًا جميلاً واعمل لآخرتك واثبت على هدى نبيك واقتد به صلى الله عليه وسلم في صبره وسيرته، وأكثر من الصلاة عليه عند نزول المصائب والبلايا فإنّ الصلاة عليه عند المصيبة نور وضياء في دنياك، فعسى أن تكون بذلك معه في جنات النعيم.
وما أجمل قول القائل:
اصبر لكل مُصيبة وتجـلّد ~~~ واعلم بأن المرئ غيرُ مخـلّد
واصبـرْ كما صبر الكرام فإنها ~~~ نوبٌ(1) تنوبُ اليومَ وتُكشف في غد
وإذا أتتك مصيبة تُشْجَى (2) بها ~~~فاذكر مصابك بالنبيّ محمــد
(1) النّوبُ: النوائب، جمع نائبة، وهي المصيبة
(2) تُشجى : تحزن
وقال بعضهم: تذكرتُ لما فرّق الدهر بيننا ~~~ فعزيتُ نفسي بالنبي محمـــد
وقُلت لها إنّ المنايا سبيلنا ~~~ فمن لم يمُت في يومه مات في غــدِ
فائدة: قال ابن الجوزاء البصري رضي الله عنه :" كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحَه ويقول: يا عبدَ الله ثِق بالله ، فإن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة.
كل المصائب تهون بعد مصيبة موتك يا سيدي يا رسول الله...
يا خير خلق الله...يا تاج رُسل الله.. يا سيد الآولين والآخرين..
إنّ لنا معاشر المؤمنين في الله تعالى بعد مصيبة موت النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم عِوضًا من كل تالف، وخلفًا من كل هالك ودَرَكًا من كل فائت وعزَاءً من كل مصيبة.
اللهم فرّج كرباتنا ، اللهم أقل عثراتنا، اللهم اغفر زلاتنا، وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
خاتمة الخاتمة
وما أجمل أن نختم خاتمة كتابنا هذا بهذه الأبيات في رثاء النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، في مدح النبي الأعظم خير الأنام صلى الله عليه وسلم وهي مختارة من القصيدة المسماة "بالبُردة" للإمام اللغوي شرف الدين محمد ابن سعيد البوصيري رحمه الله تعالى.
.لبيك رسول الله من كان باكيا ~~~ فلا تنس قبراً بالمدينة ثاويا
جزى الله عنا كل خير محمداً ~~~ فقد كان مهدياً وقد كان هاديا
وكان رسول الله روحاً ورحمة~~~ ونوراً وبرهاناً من الله باديا
وكان رسول الله بالخير امراً ~~~ وكان من الفحشاء والسوء ناهيا
وكان رسول الله بالقسط قائماً ~~~ وكان لما استرعاه مولاه راعيا
وكان رسول الله يدعو الى الهدى~~~ فلبى رسول الله لبيه داعيا
أينسى أبر الناس بالناس كلهم ~~~ وأكرمهم بيتاً وشعباً وواديا
أينسى رسول الله أكرم من مشى ~~~ واّثاره بالمسجدين كما هيا
تكدر من بعد النبي محمد ~~~ عليه سلام كل ما كان صافيا
وكم من منار كان أوضحه لنا ~~~ ومن علم أمسى وأصبح عافيا
اذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى ~~~ تقلب عرياناً وان كان كاسيا
وخير خصال المرء طاعة ربه ~~~ ولا خير فيمن كان لله عاصيا
أبيات مختارة في مدح النبي الأعظيم صلى الله عليه وسلم من القصيدة المسماة " بالبردة"
للإمام العالم العلامة حجة الأدب لسان العرب شرف الدين أبي عبد الله محمد بن سعيد البوصيري(1) رحمه الله تعالى.
(1) هو الشيخ الإمام العابد حجة الأدب لسان العرب قدوة الأنام بقية السلف الكرام شرف الدين ابو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري رحمه الله تعالى كان من علماء القرن السابع الهجري، شاعرا أديبًا مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصائد كثيرة منها القصيدة المسماة" بالبردة" وسبب إنشائه لهذه القصيدة أنه اصيب بفالج أبطل نصفه فشل نصف بدنه فأقعده الفراش، ففكر بإنشاء قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل ويستشفع به إلى الله عز وجلّ فعمل هذه القصيدة التي مطلعها :[/
أمن تذكر جيران بذي سلم ~~~ مزجتَ دمعًا جرى من مُقلة بدم
ثم نام فرأى في منامه النبي الأعظيم صلى الله عليه وسلم فمسح عليه بيده المباركة فقام من نومه وقد شفاه الله تعالى وعافاه.
محمد ســـــــــــــــيد الكونين والثقليـن
والفريقين من عرب ومن عجـــــمِ
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحـــــــــــــــــدٌ
أبر في قولِ لا منه ولا نعـــــــــــــــــم
هو الحبيب الذي ترجى شــــــــفاعته
لكل هولٍ من الأهوال مقتحـــــــــــــــم
دعا إلى الله فالمستسكون بــــــــــــه
مستمسكون بحبلٍ غير منفصـــــــــــم
فاق النبيين في خلقٍ وفي خُلــــــــُقٍ
ولم يدانوه في علمٍ ولا كـــــــــــــــرم
وكلهم من رسول الله ملتمـــــــــــسٌ
غرفاً من البحر أو رشفاً من الديـــــمِ
فهو الذي تـــــــم معناه وصورتـــــــه
ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النســــــــــــم
منزهٌ عن شريكٍ في محاســـــــــــنه
فجوهر الحسن فيه غير منقســـــــــم
دع ما ادعثه النصارى في نبيهـــــم
واحكم بماشئت مدحاً فيه واحتكــــــم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شــرف
وانسب إلى قدره ما شئت من عظــــم
فإن فضل رسول الله ليس لـــــــــــه
حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفــــــــــــــــــم
لم يمتحنا بما تعيا العقول بــــــــــــه
حرصاً علينا فلم نرْتب ولم نهــــــــمِ
أعيى الورى فهم معناه فليس يـــــرى
للقرب والبعد فيه غير منفحـــــم
كالشمس تظهر للعينين من بعُـــــــدٍ
صغيرةً وتكل الطرف من أمـــــــــــم
وكيف يدرك في الدنيا حقيقتــــــــــه
قومٌ نيامٌ تسلوا عنه بالحلــــــــــــــمِ
فمبلغ العلم فيه أنه بشـــــــــــــــــــرٌ
وأنه خير خلق الله كلهــــــــــــــــــمِ
أكرم بخلق نبيّ زانه خلــــــــــــــــقٌ
بالحسن مشتمل بالبشر متســـــــــم
أبان موالده عن طيب عنصـــــــــره
يا طيب مبتدأ منه ومختتــــــــــــــم
ومن يكن برسول الله نصــــــــــرته
إن تلقه الأسد فى آجامها تجــــــمِ
يــــارب بالمصطفى بلغ مقاصدنـــا
واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم
اللهم زِد سيدنا محمد شرفًا على شرفه الذي أوليته ، وعزًا على عزّه الذي أعطيته، ونورًا على نوره، وأعلِ مقامه في مقامات المرسلين ، ودرجته في درجات النبيين ، ونسألك رضاك ورضاه يا رب العالمين مع العافية الدائمة والموت على الكتاب والسنة والجماعة وكلمة الشهادة على حقيقتها من غير تبديل ولا تغيير ، واغفر لنا بفضلك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
تمّ الكتاب بحمد الله تعالى وعونه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق