قال الله تعالى (ليس كمثلِه شىء) سورة الشورى 11، أي أن الله تعالى لا يشبه شيئًا من خلقه بوجه من الوجوه، ففي هذه الآية نفي المشابهة والمماثلة، فلا يحتاج إلى مكان يحُل فيه ولا إلى جهة يتحيز فيها، بل الأمر كما قال سيدنا عليّ رضي الله عنه (كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان) رواه أبو منصور البغدادي.
وفي هذه الآية دليلٌ لأهل السنة على مخالفة الله للحوادث، ومعْنى مُخالفةِ الله للحوادِثِ أنّه لا يُشْبِهُ المخْلُوقاتِ، وهذِه الصِّفةُ من الصِّفاتِ السّلْبِيّةِ الخمْسةِ أي التي تدُلُّ على نفْي ما لا يلِيْقُ بالله.
والدّلِيْلُ العقْلِيُّ على ذلِك أنّهُ لو كان يُشْبِهُ شيْئًا مِنْ خلْقِه لجاز عليْهِ ما يجُوزُ على الخلْق مِن التّغيُّرِ والتّطوُّرِ، ولو جاز عليْهِ ذلِك لاحْتاج إلى منْ يُغيّرُهُ والمُحْتاجُ إلى غيْرِه لا يكُونُ إِلهًا، فثبت لهُ أنّهُ لا يُشْبِهُ شيئًا.
والبُرْهانُ النّقْلِيُّ لِوُجُوْبِ مُخالفتِهِ تعالى لِلْحوادِثِ قوله تعالى (ليس كمثله شىء) وهُو أوْضحُ دلِيْلٍ نقْلِيّ في ذلِك جاء في القُرءانِ، لأنّ هذِهِ الآية تُفْهِمُ التّنْزِيْه الكُلِّيّ لأنّ الله تبارك وتعالى ذكر فِيْها لفْظ شىءٍ في سِياقِ النّفْي،والنّكِرةُ إِذا أُوْرِدت في سِياقِ النّفْي فهِي للشُّمُوْلِ، فالله تبارك وتعالى نفى بِهذِهِ الجُمْلةِ عنْ نفْسِهِ مُشابهة الأجْرامِوالأجْسامِ والأعراضِ، فهُو تبارك وتعالى كما لا يُشْبِهُ ذوِي الأرواحِ مِنْ إِنسٍ وجِنّ وملائِكةٍ وغيْرِهِم، لا يُشْبِهُ الجماداتِ من الأجرامِ العُلْوِيّةِ والسُّفْلِيّةِ أيضًا، فالله تبارك وتعالى لم يُقيّد نفْي الشّبهِ عنْهُ بنوْعٍ منْ أنْواعِ الحوادِثِ، بل شمل نفْيُ مُشابهتِهِ لِكُلّ أفْرادِ الحادِثاتِ، ويشْملُ نفْيُ مُشابهةِ الله لخلْقِه تنْزِيْهه تعالى عن المكان والجهة والكميّة والكيْفِيّةِ، فالكمّيّةُ هِي مِقْدارُ الجِرمِ، فهُو تبارك وتعالى ليْس كالجِرمِ الذي يدْخُلُهُ المِقْدارُ والمِساحةُ والحدُّ، فهُو ليْس بِمحْدُودٍ ذِي مِقْدارٍ ومسافةٍ.
فلو كان الله فوق العرشِ بذاتِهِ كما يقولُ المشبِّهةُ لكان محاذيًا للعرشِ، ومِنْ ضرورةِ المُحاذِي أنْ يكون أكبر مِن المحاذى أو أصغر أو مثله، وأنّ هذا ومثله إنما يكونُ في الأجسامِ التي تقبلُ المِقدار والمساحة والحدّ، وهذا مُحالٌ على الله تعالى، وما أدّى إلى المُحالِ فهو محالٌ، وبطل قولُهُم إن الله متحيّزٌ فوق العرشِ بذاتهِ.
ومنْ قال في الله تعالى إِنّ لهُ حدًّا فقدْ شبّههُ بخلْقِهِ لأنّ ذلِك يُنافي الألُوهِيّة، والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ لاحتاج إِلى منْ جعلهُ بذلِكالحدّ والمِقْدارِ كما تحتاجُ الأجْرامُ إِلى منْ جعلها بحدُوْدِها ومقادِيْرِها لأنّ الشّىء لا يخْلُقُ نفْسه بمِقْدارِه، فالله تباركوتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ كالأجْرامِ لاحْتاج إلى منْ جعلهُ بذلك الحدّ لأنّه لا يصِحُّ في العقْلِ أنْ يكُون هُو جعل نفْسه بذلِك الحدّ، والمُحْتاجُ إِلى غيْرِهِ لا يكُونُ إِلهًا، لأنّ مِنْ شرْطِ الإلهِ الاسْتِغْناء عنْ كُلّ شىءٍ.
وقد قال الشيخ الحسين بن محمد السعيد الورثيلانيّ الجزائري (المتوفى سنة 1193 ھ) في شرحه على نظم النورية في التوحيد ما نصه (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أي لم يشابه أحدًا ولم يشابهه أحد، منزه على الإطلاق وغنيٌّ بالاتفاق، لا يعزب عنه شىء، فهو قائم بنفسه على الدّوام، يجب له الكمال على العموم، فليس في مكان، ولا في زمانٍ، ولا في جهةٍ، ولا له وُجهة، ولا بجوهرٍ، ولا عرضٍ إذ كلّ ذلك يستلزم الحدوث والافتقار إلى مخصص) وقد توفي الشيخ الحسين بن محمد في قريته بني ورثيلان التابعة لولاية سطيف وهي ولاية جزائرية تقع غربي الجزائر وما زال قبره فيها يزار إلى اليوم ومن أبرز مؤلفات الورثيلاني أيضًا كتاب نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار المعروف بـالرحلة الورثيلانية وهو كتاب في التاريخ يُحسب من بين أهم وأكبر الأعمال التي أنجزها الورثيلاني في علم التاريخ، والرحلة الورثيلانية من أهم المصادر التي تضاف إلى مؤلفات الرحّالة المغاربة ومن بين أبرز الرحلات التي شهدتها الفترة العثمانية خلال القرن الثاني عشر الهجري.
وقال الإمام الزاهد الشيخ أحمد الرفاعي الكبير رضي الله عنه (غاية المعرفة بالله الإيقانٌ بوجوده تعالى بلا كيف ومكان) أي أن أقصى ما يصلُ إليه العبدُ من المعرفة بالله الإيقان أي الاعتقاد الجازم الذي لاشك فيه بوجود الله تعالى بلا كيف ولامكان ولا جهة، فالله تعالى كان موجودًا في الأزل قبل خلق المكان بلا مكان، وبعد أن خلق المكان هو الآن على ماعليه كان أي بلا مكان فالله لا يتغير من حال إلى حال كالمخلوق.
اللهُ لَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ، مَمْنُوعٌ أَنْ يُحَاوِلَ الإِنْسَانُ الوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ اللهِ لأَنَّهُ لَا يَصِلُ مَهْمَا فَكَّرَ، الإِنْسَانُ يَعْرِفُ الجِسْمَ، يَعْرِفُ الجِسْمَ الكَثِيفَ والجِسْمَ اللَّطِيفَ لِذَلِكَ مَمْنُوعٌ التَّفَكُّرُ فِي ذَاتِ اللهِ، يتَفَكَّرُ فِي خَلْقِهِ، الإِنْسَانُ يَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ لا يَتَفَكَّرُ في ذاتِ اللهِ، فَذاتُ اللهِ، حَقيقَةُ اللهِ لا يَعْلَمُها إلّا الله لأنَّ حَقيقَةَ اللهِ لَيْسَ جِسْمًا وَلَيْسَ شَكْلًا وَلَيْسَ صورَةً وَلَيْسَ لَوْنًا وَلا يُتَخَيَّلُ، لِذَلِكَ لا يَجوزُ التَّفَكُّرُ في ذاتِ اللهِ بَلْ نُؤْمِنُ بِهِ بِأَنّهُ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) لا شَبيهَ لَهُ وَأَنَّ صِفاتِ اللهِ صِفاتُ الكَمالِ اللّائِقَةُ بِذاتِهِ سُبْحانَهُ لا يُشْبِهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ لا في ذاتِهِ وَلا في صِفاتِهِ وَلا في فِعْلِهِ.
قال الإمام أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) فيما رواه عنه الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات ما نصه (إن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة، فإن الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وعن صفاته منفية).
وقال قاضي الصحراء أبو بكر (1) محمد بن الحسن المُرادي الحضرمي القيرواني ثم الموريتاني (ت 489 ھ) في عقيدته ما نصه (اعلم أنه لا يُسأل (عنه) سبحانه بكيف (لأنه لا مثل له) ولا بما (لأنه لا جنس له) ولا بمتى (لأنه لا زمان له) ولا بأين (لأنه لا مكان له).
(1) في القرن الخامس الهجري ولد القاضي المُرادي في القيروان وتلقى تعليمه الأولي فيها ثم دخل بلاد الأندلس وانتقل في زمن دولة المرابطين إلى آزوكي في صحراء موريتانيا حيث تولى القضاء وعُرف بقاضي الصحراء كان رجلا نبيها عالما وإماما في أصول الدين وكانت وفاته في هذه المدينة سنة 489 ھ، وقبره فيها يزار إلى الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق