نقول أأمنتم من في السماء لا يُحمل على الظاهر المتبادر إلى الأذهان الذي يوهم أن الله يسكن السماء لأن الله خالق السماء، ولأن الذي يكون في السماء لابد أن يكون محصوراً، والذي يكون محصوراً لا بد أن يكون له حجم والذي له حجم لا بد أن يكون بحاجة لمن جعله في هذا الحجم الذي هو عليه دون غيره من الأحجام، والذي يحتاج إلى غيره لا يكون إلهاً.
إذاً ما معنى (ءأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)؟
هذه الآية يجوز أن تُفسّر بالملائكة (ءأمنتم من في السماء) أي الملائكة، أي المقصود هنا جبريل (أن يخسف بكم الأرض) هو يخسف بأمر الله بكم الأرض، هذه الآية هكذا يجوز أن تُفسّر بهذا المعنى ومن أراد أن لا يدخل في تفاصيلها بهذا وقال ءأمنتم من في السماء أي الذي هو رفيع القدر جدا فذلك يجوز أيضا ولا بأس به، وتفسير هذه الآية يوافق ما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ العراقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إرحموا من في الأرض يرحمكم أهل السماء" فلا يجوز أن يُقال عن الله أهل السماء.
قال القرطبي : ( قال المحققون: أأمنتم من فوق السماء كقول: { فسيحوا في الأرض } أي فوقها لا بالمماسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير . وقيل : معناه أأمنتم من على السماء كقوله تعالى : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي عليها . ومعناه أنه مديرها ومالكها كما يقال : فلان على العراق والحجاز أي وإليها وأميرها ) الجامع لأحكام القرآن .
الشربيني الخطيب : يذكر أن هنالك عدة وجوه تأويل لقول الله ( من في السماء ) ، منها أنها تعني : الذي في السماء سلطانه وسيادته ، لأن السماء هي حيث تقطن الملائكة وتسكن وهناك عرشه أعظم المخلوقات وكرسيه واللوح المحفوظ الذي منه تتنزل أحكامه وقضاءه وكتبه وأوامره ونواهيه . ويذكر كذلك تأويلا آخر وهو أن ( من في السماء) حذف منها إضافة وتقديرها : أأمنتم من خالق الذي في السماء ، ويقصد الملائكة الذين يقطنون السماء لأنهم هم المأمورون بإيقاع الرحمة الإلهية إرادته سبحانه الخير أو الغضب والانتقام الإلهي إرادته سبحانه الشر . ( راجع السراج المنير طـ دار المعارف بيروت المجلد الرابع ) .
قال فخر الدين الرازي : يذكر أن ( من في السماء ) تعني الملك الموكل بايقاع العذاب والعقاب – جبريل عليه السلام – وقوله ( يخسف بكم الأرض ) يعني بأمر الله وإذنه . (تفسير الفحر الرازي ط دارالفكر بيروت 1985)
قال أبو حيان : يذكرأن سياق هذه الكلمات قد يكون وفق معتقدات المخاطبين بهذا الوعيد المشركين لأنهم كانوا مجسمة يجسمون الله ويتصورنه جسما كما يجسمون بقية آلهتم في شكل أوثان وأصنام وتماثيل ، فخاطبهم وفق معتقدهم لا موافقة لهم وإقرارا بل تنبيها على خطئه وزيفه ، وعلى هذا يكون المعنى : أأمنتم ممن تزعمون وتعتقدون كونه في السماء ؟ بينما هو أعلى وأرفع من سائر المكان والزمان . (تفسير النهر المدد من البحر المحيط ط دار الجنان ومؤسسة الكتب الثقافية 1987 بيروت)
القاضي عياض : ينقل الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم في شرح حديث الجارية بعد أن بَيَّن موقف السلف من أحاديث الصفات – وهو الموقف الذي أوردته أعلاه – كلامَ القاضي عياض في ذلك :
قال القاضي عياض لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدِّثهم ومتكلِّمهم ونظَّارهم ومقلِّدهم أنَّ الظَّواهر الواردة بذكر الله في السَّماء كقوله تعالى : (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) ونحوه ليست على ظاهرها بل متأوّلة عند جميعهم ، فمن قال بإثبات جهة فوق ، من غير تحديد ولا تكييف من المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين تأوَّل في السَّماء أي : على السَّماء . ومن قال من دهماء النظَّار والمتكلِّمين وأصحاب التَّنزيه بنفي الحدِّ واستحالة الجهة في حقِّه سبحانه ، تأوَّلوها تأويلات بحسب مقتضاها ، وذكر نحو ما سبق – أي ما سبق للنووي إيراده من مواقف العلماء من أحاديث الصفات – قال : أي القاضي عياض (ويا ليت شعري ما الَّذي جمع أهل السُّنَّة والحقُّ كلّهم على وجوب الإمساك عن الفكر في الذَّات ، كما أمروا وسكتوا لحيرة العقل ، واتَّفقوا على تحريم التَّكييف والتَّشكيل ، وأنَّ ذلك من وقوفهم وإمساكهم غير شاكٍّ في الوجود والموجود ، وغير قادح في التَّوحيد بل هو حقيقته ، ثمَّ تسامح بعضهم بإثبات الجهة خاشياً من مثل هذا التَّسامح ، وهل بين التَّكييف وإثبات الجهات فرق ؟. لكن إطلاق ما أطلقه الشَّرع من أنَّه القاهر فوق عباده ، وأنَّه استوى على العرش مع التَّمسُّك بالآية الجامعة للتَّنزيه الكلِّي ، الَّذي لا يصحُّ في المعقول غيره ، وهو قوله تعالى : (ليس كمثله شيء ) عصمة لمن وفَّقه اللَّه ، وهذا كلام القاضي رحمه اللَّه ) . انتهى من شرح النووي على مسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق