عقيدة أبي الفضل التميمي الحنبلي و موافقته للأشاعرة
أبو الفضل التميمي هو رئيس الحنابلة في بغداد وابن رئيسها، وهو من كبار فقهاء المذهب الحنبلي، توفي سنة 410 للهجرة، وهو من الحنابلة المتقدمين -طبقة الحنابلة المتقدمين تنتهي حوالي 403 هجري –
قال عنه الذهبي: “الامام الفقيه رئيس الحنابلة”. انتهى
وقال الخطيب البغدادي: قال عنه الخطيب البغدادي: “كان صدوقًا، دفن إلى جنب قبر الإمام أحمد، وحدثني أبي وكان ممن شيعه أنه صلى عليه نحو من خمسين ألفا رحمه الله”. انتهى
وقد كان أكثر المتقدمون من الحنابلة وبعض المتأخرين يوافقون ما قرره الإمام أبو الحسن الأشعري باعتراف ابن تيمية، حيث قال في التعارض: “وكان القدماء من أصحاب أحمد كأبي بكر عبد العزيز و أبي الحسن التميمي وأمثالهما يذكرونه – أي الإمام الأشعري- في كتبهم على طريق ذكر الموافق للسنة في الجملة، ويذكرون ما ذكره من تناقض المعتزلة”. انتهى
وقال التاج السبكي في طبقات الشافعية :”أبو الحسن الأشعري كبير أهل السنة بعد الإمام أحمد بن حنبل وعقيدته وعقيدة الإمام أحمد واحدة لا شك في ذلك ولا ارتياب وبه صرح الأشعري في تصانيفه ، وذكره غير ما مرة ،من أن عقيدتي هي عقيدة الإمام المبجل أحمد بن حنبل، هذه عبارة الشيخ أبي الحسن في غير موضع من كلامه”. انتهى
وقال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة في معرض ترجمة برهان الدين إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن هِلَال بن بدر القَاضِي برهَان الدّين الزرعي الْحَنْبَلِيّ ما نصه: ” ولد سنة 688 وَسمع من أبي الْفضل بن عَسَاكِر والموازيني وَابْن القواس واليونيني وَحدث وتفقه وبرع واشتغل على ابْن تَيْمِية وَابْن الزملكاني والقزويني وَمهر وَتقدم فِي الْفتيا ودرس بأماكن مِنْهَا الْمدرسَة الحنبلية عوضا عَن ابْن تَيْمِية حَيْثُ سجن فمقتته الْحَنَابِلَة لذَلِك وَكَانَ أَيْضا أشعري المعتقد فِي الْغَالِب من أَحْوَاله وَكتب الْخط الْحسن الْفَائِق قَالَ ابْن رَافع كَانَ من أذكياء النَّاس”. انتهى
وأما ابن تيمية، فهذه الموافقة والمودة بين كبار الأشاعرة ومتقدمي الحنابلة لم تعجبه لأن ذلك يهدم عليه أهواءه، وزعم أن الأشعرية ينتحلون ذلك فقط للانتساب لأهل السنة، فقال في مجموع الفتاوى : “ولهذا لما كان أبو الحسن الأشعري وأصحابه منتسبين إلى السنة والجماعة كان منتحلا للإمام أحمد ذاكرا أنه مقتد به متبع سبيله وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب الإمام أحمد ما هو معروف حتى إن أبا بكر عبد العزيز يذكر من حجج أبي الحسن في كلامه مثل ما يذكر من حجج أصحابه لأنه كان عنده من متكلمة أصحابه، وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون أبو الحسن التميمي وابنه وابن ابنه ونحوهم “. انتهى
ويكفي لدفع أكاذيب ابن تيمية أن متقدمي الحنابلة اعترفوا بفضل الأشعرية في الذب عن الشريعة الغراء، فقد قال الذهبي في السير:” أمر شيخ الحنابلة أبو الفضل التميمي مناديا يقول بين يدي جنازة أبي بكر الباقلاني: هذا ناصر السنة والدين، والذاب عن الشريعة، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة.ثم كان يزور قبره كل جمعة”. انتهى
وقد كان أبو الفضل التميمي صديقا للقاضي ابي بكر الباقلاني الأشعري المالكي وموادا له، تجمعهما محبة كبيرة. وهذه المودة بين الباقلاني وأبي الفضل ذكرها ابن تيمية نفسه في مجموع الفتاوى، فقال: ” وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر بن الباقلاني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور”. انتهى
وقال في درء التعارض: “وكان بين التميميين وبين القاضي أبي بكر وأمثاله من الائتلاف والتواصل ما هو معروف وكان القاضي أبو بكر يكتب أحيانا في أجوبته في المسائل محمد بن الطيب الحنبلي ويكتب أيضا الأشعري ولهذا توجد أقوال التميميين مقاربة لأقواله وأقوال أمثاله المتبعين لطريقة ابن كلاب”. انتهى
وقال في الدرء أيضا : ” ولما صنف أبو بكر البيهقي كتابه في مناقب الإمام أحمد – و أبو بكر البيهقي موافق لابن الباقلاني في أصوله – ذكر أبو بكر اعتقاد أحمد الذي صفنه أبو الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي وهو مشابه لأصول القاضي أبي بكر “. انتهى
فلا فرق عند التحقيق بين عقيدة أهل السنة الأشاعرة وعقيدة الإمام أحمد، لكن المشبهة المنتسبين إلى الإمام أحمد هم الذين شانوا مذهبه من بعده و نسبوا اليه أحاديث لم يقلها، وهذا باعتراف ابن شاهين.
ولذلك كان الإمام أبو الفضل التميمي يكثر من ذكر اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، و يعدد أقواله في التنزيه ومجانبته للمجسمة، وكان أبو الفضل قد أخذ عن أبيه، وهو عن الإمام الخرقي وغلام الخلال وهما من أعيان الحنابلة.
وقد نقل الإمام البيهقي في كتابه مناقب الإمام أحمد عن أبي الفضل أن الإمام أحمد قال ما نصه: “أنكر أحمد على من قال بالجسم، وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف, والله سبحانه خارج عن ذلك كله، فلم يجز أن يسمى جسماً لخروجه عن معنى الجسمية، ولم يجيء في الشريعة ذلك فبطل” انتهى.
وهذا الكلام بنصه ورد في ذيل طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى في ما ينقله عن الإمام أحمد.
كما ورد في ذيل طبقات الحنابلة أيضا أن أبا الفضل قال ما نصه: “كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: إن لله تعالى يدين، وهما صفة له في ذاته، ليستا بجارحتين، وليستا بمركبتين، ولا جسم ولا من جنس الأجسام، ولا من جنس المحدود والتركيب والأبعاض والجوارح، ولا يقاس على ذلك، ولا له مرفق، ولا عضد، ولا فيما يقتضى ذلك من إطلاق قولهم: “يد” إلا ما نطق القرآن الكريم به، أو صحَّت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم السنة فيه” انتهى
وهذه النصوص التي ذكرها أبو الفضل التميمي تدل أن الإمام أحمد كان على مذهب التفويض في بعض الصفات الخبرية.
ولما كانت هذه العقائد المروية عن الامام أحمد تخالف ما كان عليه ابن تيمية، حاول الطعن فيها فقال في مجموع الفتاوى : “اعتمد الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد لما ذكر اعتقاده اعتمد على ما نقله من كلام أبي الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي وله في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فهمه ولم يذكر فيه ألفاظه وإنما ذكر جمل الاعتقاد بلفظ نفسه وجعل يقول وكان أبو عبدالله وهو بمنزلة من يصنف كتابا في الفقه على رأي بعض الأئمة ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه وإن كان غيره بمذهب ذلك الإمام أعلم منه بألفاظه وأفهم لمقاصده فإن الناس في نقل مذاهب الأئمة قد يكونون بمنزلتهم في نقل الشريعة ومن المعلوم أن أحدهم يقول حكم الله كذا أو حكم الشريعة كذا بحسب ما اعتقده عن صاحب الشريعة بحسب ما بلغه وفهمه وإن كان غيره أعلم بأقوال صاحب الشريعة وأعماله وأفهم لمراده”. انتهى
فان كان متقدمو الحنابلة نقلوا عقيدة الامام أحمد بحسب ٱراءهم و فهمهم، فهل كان المتأخرون منهم الذين تلبسوا بلوثة التجسيم أفهم منهم؟ وان كانت هذه العقيدة المروية عن أحمد قد نقلها بعض الحنابلة في كتبهم من غير الطعن فيها فما بال هذا الحراني يتكلف رد هذه العقائد السنية في تنزيه الله عز وجل المنقولة بالسند المتصل للإمام أحمد؟
وهذا الأمر ليس غريبا عن ابن تيمية الذي صرح بتبديع السلف و الخلف، حيث قال في مجموع الفتاوى: “وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم”. انتهى
ومن هنا ينبغي التنبيه إلى ان الكلام في العقائد لا يثبت الا بالأسانيد المتصلة الصحيحة، وليس بمجرد ما تم العثور عليه في الكتب. فالنسخة الرائجة من عقيدة الإمام المبجل أحمد ابن حنبل التي ألفها أبو الفضل التميمي موافقة في مجملها للعقائد الأشعرية إلا في ما يتعلق بمسألة كلام الله، حيث دس فيها بعض المجسمة عبارات تدل على أن الله يتكلم بحرف وصوت، و هذا يتناقض مع بعض العقائد المذكورة في النسخة المحرفة نفسها، حيث جاء فيها أن الإمام أحمد قال: “ان الله عز و جل واحد لا من عدد لا يجوز عليه التجزؤ ولا القسمة وهو واحد من كل جهة وما سواه واحد من وجه دون وجه”. انتهى
فإن كان الإمام أحمد ينفي التجزء و القسمة عن الله و صفاته فكيف يكون كلامه عز وجل حرفا، و الحروف يطرأ عليها التعاقب والتجزأ؟
كما ورد في تلك النسخة أن الإمام أحمد قال: “وعلم الله تعالى بخلاف ذلك كله صفة له لا تلحقها آفة ولا فساد ولا إبطال وليس بقلب ولا ضمير واعتقاد ومسكن ولا علمه متغاير”. انتهى
فإن كان علم الله لا يلحقه إبطال و لا يتغير فكيف تكون صفة الكلام بخلاف صفة العلم؟
ثم لو كان الله متكلما بحرف و صوت لكان كلامه، بعضه أفضل من بعض، و لتعلقت إرادته بكلامه وهو ممتنع شرعا و عقلا بل إرادته متعلقة بكل ممكن عقلي يجوز إيجاده تارة و اعدامه تارة أخرى، وهذا أيضا بخلاف ما نقله أبو الفضل التميمي عن الإمام أحمد أنه قال: “والله تعالى مريد لكل ما علم أنه كائن وليست إرادته كإرادات الخلق”. انتهى
وحتى ابن تيمية قد أثبت عن أبي الفضل التميمي أنه لا يقول باثبات الصفات الاختيارية و قيام الحوادث بذات الله عز و جل فقال في مجموع الفتاوى: ” وسلك – أي أبي الفضل التميمي- طريقة ابن كُلاب في الفرق بين الصفات اللازمة كالحياة و الصفات الاختيارية وأن الرب يقوم به الأول دون الثاني- كثير من المتأخرين، من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، كالتميميين أبي الحسن التميمي، وابنه أبي الفضل التميمي، وابن ابنه رزق الله التميمي، وعلى عقيدة الفضل التي ذكر أنها عقيدة أحمد اعتمد أبو بكر البيهقي فيما ذكره من مناقب أحمد من الاعتقاد”. انتهى
ومن الحنابلة الذين وافقوا الأشعرية في صفة الكلام الشيخ محمد بن أحمد البهوتي الخلوتي، حيث وجه كلام شيخه الشيخ منصور البهوتي في كتاب الشهادات وبين أنه قائل بأن الكلام هو المعنى القديم القائم بذات الله سبحانه موافقة الأشعرية. وهذا مذكور في حاشية منحة الرحمن على قلائد العقيان.
ولينظر أيضا لتناقض العبارة المنسوبة لأبي الفضل التميمي، حيث زعموا أنه قال: “وكان -أي الإمام أحمد- يقول إن القرآن كيف تصرف غير مخلوق وأن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف”. انتهى
فهل يقول هؤلاء أن الحرف الذي تكلم به الله غير مخلوق؟ ومعلوم أن الحروف أعراض تتعاقب، والتعاقب ينافي الأزلية.
وما أحسن قول الإمام أحمد الذي نقله أبو الفضل في المخطوط : “لا يجوز أن ينفرد الحق عن صفاته ومعنى ما قاله من ذلك أن المحدث محدث بجميع صفاته على غير تفصيل وكذلك القديم تعالى قديم بجميع صفاته”. انتهى
فكلام المخلوقين محدث بجميع صفاته على غير تفصيل سواء الصوت أو الحرف أو اللغة و البارئ كلامه بخلاف ذلك كله.
ملاحظة عدد 1:
يزعم بعض المجسمة أن الحافظ ابن حجر اثبت في الفتح أن الإمام أحمد نسب الصوت لله عز وجل ونص عبارته : “وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت فقال لي أبي بل تكلم بصوت هذه الأحاديث تروى كما جاءت وذكر حديث ابن مسعود وغيره”. انتهى
وجواب هذا الادعاء أن هذا الكلام ليس لابن حجر، بل هو نقله من كلام بعض من أثبت الصوت لله بدليل أن ابن حجر صدّر الكلام بقوله: “وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر وصفات الرب بخلاف ذلك فلا يلزم المحذور المذكور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه وانه يجوز ان يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه. وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل….”
وهذا الأثر مذكور أيضا في النسخ الرائجة لكتاب السنة المنسوب لعبد الله بن الإمام أحمد، ولا يصح عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق