بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 22 فبراير 2020

تفسير أولي النهى

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة


الحمد لله المتعالي عن الشبيه والنظير ، الذي ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، وكل شئ إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ،
لا يحتاج إلى شئ وهو على كل شئ قدير .والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرسول الأمين وخاتم النبيين وإمام المتقين وسيد السابقين واللاحقين وعلى ءاله وأصحابه الطيبين .

أما بعد ، فلا زال علماء الإسلام من السلف والخلف يردون ويؤلفون في تفنيد وتزييف شبه المنحرفين وأهل الأهواء ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر عاملين بقول الله تعالى :{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
[سورة ءال عمران ] ، ومن المنكر قول المبتدعة المجسمة نفاة التوسل ( الوهابية ) في حق الله بالجلوس والاستقرار على العرش ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وليس لهم فيما قالوه حجة بل زعمهم هذا فرية بلا مرية ولا يؤيده نقل ولا عقل ولا يثبت ذلك عن أحد من أئمة أهل السنة ، وإنما دأبهم الغش والتلبيس والتدليس .

ولما كان الوهابية عقيدتهم التشبيه والتجسيم وصفوا الله تعالى بالجلوس والاستقرار فحملوا الآيات المتشابهة التي ظاهرها يوهم ذلك على ما اعتقدوه ، فقدموا رأيهم على الآيات وجعلوها تابعة لهم فقالوا استواء الله على العرش هو الجلوس والاستقرار تعالى الله عن قولهم ، فشبهوا ولم ينزهوا وخالفوا ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم ، فخرقوا إجماع الأمة من تنزيه الله عن الجلوس والاستقرار ، وصاروا يدورون بين العامة وينشرون بين الناس أن قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه] يدل على ما زعموه ، وهذه دعوى باطلة لا تقوم على أساس التوحيد وإنما على الأوهام والتشبيه ، فلم يكتفوا بما ارتكبوه من الإثم والكفر ، بل ضللوا وبدعوا من تأول من أهل السنة هذه الآية بالاستيلاء أي على معنى القهر ، مع أن هذا التفسير جائز لغة وشرعا كما سيأتي ان شاء الله ، وأما زعم الوهابية فباطل لغة وشرعا وعقلا .

ولما كان الأمر على ما ذكرنا كتبنا هذه الرسالة في بيان أن الله تعالى لا يوصف بالجلوس والاستقرار على العرش ولا السكنى فوق العرش ، وأنه يجوز تفسير الاستواء بالاستيلاء والقهر مع ذكر الأدلة على ذلك ، وقد سميناها
ب (( تفسير أولي النهى لقوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى })) .

والله نسأل أن ينفع بها من قرأها ويجعلها عتقا لنا ولمن ساهم في نشرها من النار ، ءامين ، وعلى الله الاعتماد إنه ولي السداد .

بيان
أن الله منزه عن الجهة والجلوس والاستقرار
على العرش بالأدلة من القرءان والحديث
والعقل وأقوال الأئمة

أما ما يدل على ذلك من القرءان الكريم قول الله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[سورة الشورى] أي أن الله تعالى لا يشبه شيئا من خلقه
بوجه من الوجوه ، ففي هذه الآية نفي المشابهة والمماثلة ، فلا يحتاج إلى عرش ولا إلى مكان يحل فيه ولا إلى جهة يتحيز فيها .

وقول الله تعالى : { وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ}[سورة النحل] أي لله الوصف الذي لا يشبه وصف غيره ، فلا يوصف ربنا عز وجل بصفات المخلوقين من التغير والتطور والحلول في الأماكن والسكنى فوق العرش ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

وقال الله تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ }[سورة النحل ] أي لا تجعلوا لله الشبيه والمثيل فإن الله تعالى لا شبيه له ولا مثيل له ، فلا ذاته يشبه الذوات ولا صفاته تشبه الصفات .

وأما الحديث فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( كان الله ولم يكن شئ غيره )) رواه البخاري (1) وغيره ، فهذا الحديث دليل على أنه لم يكن في الأزل مكان ، فهو سبحانه وتعالى موجود قبل المكان وبعد خلق المكان بلا مكان ولا جهة .

وقال سيدنا علي رضي الله عنه : (( إن الله تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته ولم يتخذه مكانا لذاته ))، وقال أيضا :
(( قد كان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان )) ، أي موجود بلا مكان (1) .

وقال إمام الحرمين الجويني الشافعي (478 هـ) ما نصه (2) : (( ومذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيز والتخصص بالجهات )) ا هـ.

وقال الأستاذ عبد القاهر التميمي (429 هـ) في كتابه (( الفرق بين الفرق )) ما نصه (3) : ((وأجمعوا على أنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان )) ا هـ .

ونقل الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي الأشعري ( 771 هـ ) عن الإمام فخر الدين بن عساكر (ت 620 هـ ) أنه قال :
(( إن الله تعالى موجود قبل الخلق ، ليس له قبل ولا بعد ولا فوق ولا تحت ، ولا يمين ولا شمال ، ولا أمام ولا خلف )) ا هـ،
ثم قال تاج الدين السبكي بعد أن ذكر هذه العقيدة ما نصه (4) : (( هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سني )) ا هـ .

وأما الدليل العقلي على تنزيه الله عن المكان والجهة والجلوس ،
فنقول :
اعلم أن النظر العقلي السليم لا يخرج عما جاء به الشرع ولا يتناقض معه ، والعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع إذ أن الشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقول كما قال الحافظ الفقيه الخطيب البغدادي : (( الشرع إنما يرد بموجزات العقول وأما بخلاف العقول فلا )) ا هـ.
وقال أهل الحق : إن الله ليس بمتمكن في مكان أي لا يجوز عليه المماسة للمكان والاستقرار عليه ، وليس معنى المكان ما يتصل جسم به على أن يكون الجسمان محسوسين فقط ، بل الفراغ الذي إذا حل فيه الجرم شغل غيره عن ذلك الفراغ مكان له ، كالشمس مكانها الفراغ الذي تسبح فيه ، وعند المشبهة والكرامية والمجسمة الله متمكن على العرش وتعلقوا بظاهر قوله تعالى :
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ] فقالوا : الاستواء الاستقرار ، وقال بعضهم : الجلوس وهؤلاء المشبهة قسم منهم يعتقدون أن الله مستقر على العرش ، ويكتفون بهذا التعبير من غير أن يفسروا هل هذا استقرار اتصال أم استقرار محاذاة من غير مماسة ،
وقسم منهم صرحوا بالجلوس ، والجلوس في لغة العرب معناه تماس جسمين أحدهما له نصف أعلى ونصف أسفل ، فمن قال : إنه مستو على العرش استواء اتصال أي جلوس ، أو قال : استواؤه مجرد مماسة من غير صفة الجلوس فهو مجسم ضال ، والذين قالوا إنه مستو على العرش من دون مماسة أي إنما يحاذيه من فوق أي كما تحاذي أرضنا السماء فهؤلاء أيضا مجسمة ضالون ، فلا يجوز أن يكون قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه ] على إحدى هذه الصفات الثلاث , والتفسير الصحيح تفسير من قال
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قهر، لأن القهر صفة كمال لله تعالى ، وهو وصف نفسه به قال تعالى : {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
[سورة الرعد] ، فيصح تأويل الاستواء بالاستيلاء وإن كانت المعتزلة وافقت أهل السنة في ذلك .

وأقبح هذه الاعتقادات الفاسدة اعتقاد أن الله تعالى جالس على العرش أو واقف عليه لأن فيه جعل الله تعالى محمولا للعرش والعرش محمول للملائكة ، فالملائكة على هذا الاعتقاد قد حملوا الله تعالى ، فكيف يليق بالإله الذي أوجد العالم بأسره أن يحمله شئ من خلقه ، فعلى قول هؤلاء يلزم أن يكون الله محمول حامل ومحفوظ حافظ ،وهذا ما لا يقوله عاقل .

قال الإمام أبو سعيد المتولي الشافعي الأشعري ( 478هـ) في كتابه (( الغنية في أصول الدين)) ما نصه : (1)
(( والغرض من هذا الفصل نفي الحاجة إلى المحل والجهة خلافا للكرامية والحشوية والمشبهة الذين قالوا إن لله جهة فوق .

وأطلق بعضهم القول بأنه جالس على العرش مستقر عليه تعالى الله عن قولهم .

والدليل على أنه مستغن عن المحل أنه لو افتقر إلى المحل لزم أن يكون المحل قديما لأنه - أي الله – قديم ، أو يكون – أي الله على زعمهم - حادثا كما أن المحل حادث ، وكلاهما كفر .

والدليل عليه أنه لو كان على العرش على ما زعموا لكان لا يخلو إما أن يكون مثل العرش أو أصغر منه أو أكبر ، وفي جميع ذلك إثبات التقدير والحد والنهاية وهو كفر .

والدليل عليه أنه لو كان في جهة وقدرنا شخصا أعطاه الله تعالى قوة عظيمة واشتغل بقطع المسافة والصعود إلى فوق لا يخلو إما أن يصل إليه وقتا ما أو لا يصل إليه .

فإن قالوا : لا يصل إليه فهو قول بنفي الصانع لأن كل موجودين بينهما مسافة معلومة وأحدهما لا يزال يقطع تلك المسافة ولا يصل إليه يدل على أنه ليس بموجود .

فإن قالوا : يجوز أن يصل إليه ويحاذيه فيجوز أن يماسه أيضا ، ويلزم من ذلك كفران :

أحدهما : قدم العالم ، لأنا نستدل على حدوث العالم بالافتراق والاجتماع.

والثاني : إثبات الولد والزوجة )) أ هـ.

وقد نص الإمام المحدث الحافظ المفسر عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي ( 597 هـ) على نفي التحيز في المكان والاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق عن الله تعالى ، ورد في كتابه (( الباز الأشهب )) (1) على ابن الزاغوني المجسم الذي قال :
(( فلما قال – تعالى –{ثُمَّ اسْتَوَى }[ سورة الأعراف ] علمنا اختصاصه بتلك الجهة ))، وقال ابن الزاغوني أيضا :
((ولا بد أن يكون لذاته نهاية وغاية يعلمها )) ، وقال ابن الجوزي في الرد عليه ما نصه : (( قلت هذا رجل لا يدري ما يقول ، لأنه إذا قدر غاية وفصلا بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقر بأنه جسم وهو يقول في كتابه أنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما يتحيز ، ثم يثبت له مكانا يتحيز فيه .

قلت : - أي ابن الجوزي – وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه ، فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز ، والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويحاذى ، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذى أو أصغر أو مثله ، وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام ، وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها ، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المماسة والمباينة ، فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدوثه ، وإن منعوا هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدوث الجواهر ، ومتى قدرنا مستغنيا عن المحل ومحتاجا إلى الحيز ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالا ، فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات .

وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز ، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز لأنه لو كان متحيزا لم يخل إما أن يكون ساكنا في حيزه أو متحركا عنه ، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق ، ومن جاور أو باين فقد تناهى ذاتا والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصصا ، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه ، لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختص بالأجرام .

وأما قولهم خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها قلنا : ذاته المقدس لا يقبل أن يخلق فيه شئ ولا أن يحل فيه شئ ، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه ، وهذا جهل أيضا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا جسم ، ويعز علينا كيف ينسب هذا القائل إلى مذهبنا .

واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى :{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }[ سورة فاطر] وبقوله : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }
[سورة الأنعام ] وجعلوا ذلك فوقية حسية ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر ، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال : فلان فوق فلان. ثم إنه كما قال تعالى : {فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ مَّعَكُمْ } ، فمن حملها على العلم حمل خصمه الاستواء على القهر، وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه وقد ملأه والأشبه – أي على زعم هذه الطائفة المجسمة – أنه مماس للعرش والكرسي موضع قدميه . قلت : المماسة إنما تقع بين جسمين وما أبقى هذا في التجسيم بقية )) انتهى كلام الحافظ ابن الجوزي ولقد أجاد وشفى وكفى .

وقال المفسر فخر الدين الرازي (606 هـ) ما نصه(1) : (( فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفه ذاتية ، ولكان حصول هذا العلو لله تعالى حصولا بتبعية حصوله في المكان ، فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى ، فيكون علو الله ناقصا وعلو غيره كاملا وذلك محال )) ا هـ.


وقال أيضا عند تفسير ءاية { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[سورة طه ] ما نصه (1) : (( المسألة الثانية : المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه :

أحدها: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان ، ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان بل كان غنيا عنه ، فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن زاعم أنه لم يزل مع الله عرش.

وثانيها : أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش ، فيكون في نفسه مؤلفا مركبا وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلف والمركب ، وذلك محال.

وثالثها : أن الجالس على العرش إما أن يكون متمكنا من الانتقال والحركة أو لا يمكنه ذلك ، فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون محدثا لا محالة ، وإن كان الثاني كان كالمربوط.

ورابعها : هو أن معبودهم إما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان ، فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل ، وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصصه بذلك المكان فيكون محتاجا وهو على الله محال )) ا هـ.


وقال الحافظ المحدث اللغوي الفقيه السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي ( 1205هـ) عند شرح كلام الغزالي (2) :
(( الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه كون المتمكن جسما مماسا للعرش : إما مثله أو أكبر منه أو أصغر ، وذلك محال ، وما يؤدي إلى المحال فهو محال )) ما نصه (3) : (( وتحقيقه أنه تعالى لو استقر على مكان أو حاذى مكانا لم يخل من أن يكون مثل المكان أو أكبر منه أو أصغر منه ، فإن كان مثل المكان فهو إذا متشكل بأشكال المكان حتى إذا كان المكان مربعا كان هو مربعا أو كان مثلثا كان وهو مثلثا وذلك محال، وإن كان أكبر من المكان فبعضه على المكان ، ويشعر ذلك بأنه متجزئ وله كل ينطوي على بعض وكان بحيث ينتسب إليه المكان بأنه ربعه أو خمسه ، وإن كان أصغر من ذلك المكان بقدر لم يتميز عن ذلك المكان إلا بتحديد وتتطرق إليه المساحة والتقدير ، وكل ما يؤدي إلى جواز التقدير على البارئ تعالى فتجوزه (1) في حقه كفر من معتقده، وكل من جاز عليه الكون بذاته على محل لم يتميز عن ذلك المحل إلا بكون (2) ، وقبيح وصف البارئ بالكون، ومتى جاز عليه موازاة مكان أو مماسته جاز عليه مباينته ، ومن جاز عليه المباينة والمماسة لم يكن إلا حادثا ، وهل علمنا حدوث العالم إلا بجواز المماسة والمباينة على أجزائه . وقصارى الجهلة قولهم :كيف يتصور موجود لا في محل ؟ وهذه الكلمة تصدر عن بدع وغوائل لا يعرف غورها وقعرها إلا كل غواص على بحار الحقائق ، وهيهات طلب الكيفية حيث يستحيل محال.

والذي يدحض شبههم أن يقال لهم : قبل أن يخلق العالم أو المكان هل كان موجودا أم لا؟ فمن ضرورة العقل أن يقول :بلى ،فيلزمه لو صح قوله : لا يعلم موجود إلا في مكان أحد أمرين : إما أن يقول: المكان والعرش والعالم قديم ، وإما أن يقول : الرب تعالى محدث، وهذا مال الجهلة الحشوية ليس القديم بالمحدث والمحدث بالقديم. ونعوذ بالله من الحيرة في الدين)) ا هـ.

وقال أيضا ما نصه (3) : (( فإن قيل : نفيه عن الجهات الست إخبار عن عدمه إذ لا عدم أشد تحقيقا من نفي المذكور عن الجهات الست . قلت: النفي عن الجهات الست لا يكون ذلك إخبارا عن عدم ما لو كان لكان في جهة من النافي لا نفي ما يستحيل أن يكون في جهة منه ، ألا ترى أن من نفى نفسه عن الجهات الست لا يكون ذلك إخبارا عن عدمه لأن نفسه ليست بجهة منه . وأما قول المعتزلة : القائمان بالذات يكون [كل] واحد منهما بجهة صاحبه لا محالة فالجواب عنه: هذا على الإطلاق أم بشريطة أن يكون كل واحد منهما محدودا متناهيا ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم ولكن البارئ تعالى يستحيل أن يكون محدودا متناهيا.

تنبيه :هذا المعتقد لا يخالف فيه بالتحقيق سني لا محدث ولا فقيه ولا غيره ولا يجئ قط في الشرع على لسان نبي التصريح بلفظ الجهة، فالجهة بحسب التفسير المتقدم منفية معنى ولفظا وكيف لا والحق يقول : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ولو كان في جهة بذلك الاعتبار لكان له أمثال فضلا عن مثل واحد )) انتهى كلام الزبيدي .

وممن صرح بنفي الجلوس والاستقرار على العرش في حق الله من أئمة السلف الإمام المجتهد أبو حنيفة رضي الله عنه . فقد قال في كتابه (( الوصية )) : (( نقر بأن الله على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه ، وهو الحافظ للعرش وغير العرش ، فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوق )) (1) ا هـ .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي الأندلسي (ت543 هـ ) في كتابه ((عارضة الأحوذي )) (2) في الرد على المبتدعة الذين يزعمون أن الله في جهة فوق العرش : ((قالوا – أي هؤلاء المبتدعة – وحجتهم ظاهر قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
[سورة طه] قلنا: وما العرش في العربية ؟ وما الاستواء ؟ قالوا : كما قال الله تعالى :{ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } [ سورة الزخرف] قلنا : إن الله ، تعالى أن يمثل استواؤه على عرشه باستوائنا على ظهور الركائب ، قالوا : وكما قال :{ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } [سورة هود ] قلنا: تعالى الله أن يكون كالسفينة جرت حتى لمست فوقفت ، قالوا : وكما قال :{ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [سورة المؤمنون ] قلنا : معاذ الله أن يكون استواؤه كاستواء نوح وقومه لأن هذا كله استواء مخلوق بارتفاع وتمكن في مكان واتصال ملامسة ، وقد اتفقت الأمة من قبل سماع الحديث ومن بعده على أنه ليس استواؤه على شئ من ذلك ، فلا يضرب له المثل بشئ من خلقه ، قالوا : قال الله عز وجل
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ سورة السجدة ] ، { } ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء }[ سورة البقرة ] قلنا : تناقضت تارة تقول إنه على العرش فوق السماء ثم تقول إنه في السماء لقوله : { ءأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } [سورة الملك ] وقلت إن معناه على السماء . . . )) ا هـ، إلى ءاخر كلامه في الرد على من أثبت الجهة.

ثم قال : (( والذي يجب أن يعتقد في ذلك أن الله كان ولا شئ معه ثم خلق المخلوقات من العرش إلى الفرش فلم يتعين بها ولا حدث له جهة منها ولا كان له مكان فيها فإنه لا يحول ولا يزول ، قدوس لا يتغير ولا يستحيل. وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز ، منها ما يجوز على الله فيكون معنى الآية ومنها ما لا يجوز على الله بحال وهو ما إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار أو الاتصال أو المحاذاة فإن شيئا من ذلك لا يجوز على البارئ تعالى ولا يضرب له الأمثال في المخلوقات ، وإما أن لا يفسر كما قال مالك وغيره أن الاستواء معلوم يعني مورده في اللغة)) ا هـ، ثم قال: (( فتحصل لك من كلام إمام المسلمين أن الاستواء معلوم وأن ما يجوز على الله غير متعين وما يستحيل عليه هو منزه عنه )) ا هـ .

وقال الحافظ الفقيه اللغوي تقي الدين السبكي في (( السيف الصقيل )) ما نصه (1) : (( ومن أطلق القعود وقال إنه لم يرد صفات الأجسام قال شيئا لم تشهد به اللغة فيكون باطلا وهو كالمقر بالتجسيم المنكر له فيؤخذ بإقراره ولا يفيد إنكاره )) ا هـ . وقال الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي (ت597 هـ ) في كتابه (( الباز الأشهب )) ما نصه (1) : (( الخالق سبحانه وتعالى لا يجوز أن يوصف بالجلوس على شئ فيفضل من ذلك الشئ لأن هذه صفة الأجسام )) ا هـ.

وقال الذهبي (748هـ ) في كتابه (( الكبائر )) ما نصه (2) : (( ولو قال إن الله جلس للإنصاف أو قام للإنصاف كفر )) ا هـ.

وقال الكمال بن الهمام الحنفي في (( فتح القدير )) ما نصه (3) : (( من قال الله جسم لا كالأجسام كفر )) ا هـ .

وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي (947 هـ) في (( المنهاج القويم )) ما نصه (4) : (( واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك واحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بتكفير القائلين بالجهة والتجسيم وهم حقيقون بذلك )) ا هـ .

وفي مختصر الإفادات (5) لابن بلبان الدمشقي الحنبلي من أهل القرن الحادي العشر تكفير من قال إن الله في مكان أو قال إنه تعالى بكل مكان بذاته وتكفير من قال إن الله جسم أو جسم لا كالأجسام . ا هـ .

وقال الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي (1143هـ) في (( الفتح الرباني )) (6) : (( ومن اعتقد أن الله جسم قاعد فوق العرش فهو كافر وإن زعم أنه مسلم )) ا هـ .

قال الشيخ محمد زاهد الكوثري (1371هـ) : (( إن القول بإثبات الجهة له تعالى كفر عند الأئمة الأربعة هداة الأمة كما نقل عنهم العراقي على ما في (( شرح المشكاة )) لعلي القاري ))ا هـ .

وقال العلامة المحدث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري في كتابه (( المقالات )) ما نصه (1) : (( قولهم إن استواء الله على العرش جلوس لكن لا كجلوسنا ويستشهدون لذلك بقول بعض الأئمة (( لله وجه لا كوجوهنا ويد لا كأيدينا وعين لا كأعيننا )) .
والجواب عنه : أن الجلوس في لغة العرب لا يكون إلا من صفات الأجسام ، فالعرب لا تطلق الجلوس إلا على اتصال جسم بجسم على أن يكون أحد الجسمين له نصفان نصف أعلى ونصف أسفل ، وليس للجلوس في لغة العرب معنى إلا هذا ، وهم في هذا أثبتوا – أي الوهابية – الجسمية لله وبعض صفاتها ولا يجوز ذلك على الله لأنه لو كان كذلك لكان له أمثال لا تحصى ، فالجلوس يشترك فيه الإنسان والجن والملائكة والبقر والكلب والقرد والحشرات وإن اختلفت صفات جلوسهم .

ويقال لهم : أما الوجه واليد والعين فليست كذلك فإن الوجه في لغة العرب يطلق على الجسم وعلى غير الجسم ، والوجه بمعنى الجسم هو هذا الجزء الذي هو مركب في ابن ءادم وفي سائر ذوات الأرواح . وأما معنى الوجه الذي هو غير هذا الجزء في لغة العرب فمنه الملك كما فسر البخاري في جامعه (2) قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ }[ سورة القصص] قال : (( إلا ملكه )) ا هـ ،
ويطلق الوجه إذا أضيف إلى الله بمعنى ما يقرب إلى الله من الأعمال كالصلاة والصيام وسائر الأعمال الصالحة . ويطلق على الذات ، والذات بالنسبة إلى المخلوقين الجرام الكثيف أو اللطيف كحجم الإنسان وحجم النور والريح هذا معنى الذات في المخلوق ، أما الذات إذا أضيف إلى الله فمعناه حقيقته لا بمعنى الحجم الكثيف أو اللطيف ، وأما اليد فلها في لغة العرب معان منها ما هو أجرام وأجسام ومنها ما هو غير الأجرام ، فاليد تأتي بمعنى الجارحة التي هي مركبة في الإنسان وفي البهائم ، وتأتي بمعنى غير الجرم كالقوة ، وتأتي بمعنى العهد . وأما العين فتطلق في لغة العرب على الجرم كعين الإنسان والحيوانات ، وتطلق على الذهب ، وتطلق على الجاسوس، وتطلق على الماء النابع ، وتطلق بمعنى الحفظ . وبهذا بان الفرق بين الجلوس وبين الوجه واليد والعين .

فلما كانت هذه الألفاظ الثلاثة واردة في القرءان مضافة إلى الله كان لها معان غير الجسم وصفات الجسم ، فأراد أبو حنيفة وغيره من الذين أطلقوا هذه العبارة (( لله وجه لا كوجوهنا ويد لا كأيدينا وعين لا كأعيننا )) معاني هذه الألفاظ الثلاثة التي هي غير الجسم ولا هي صفة جسم مما يليق بالله كالقوة والملك والذات والحفظ كما قال المفسرون في تفسير قول الله تعالى :
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [سورة طه ] قالوا : على حفظي.
ولهم – أي الوهابية – تمويه ءاخر وهو قولهم : (( نثبت لله ما أثبت لنفسه وننفي عنه ما نفى عن نفسه )) ، يقال لهم : أنتم على عكس الحقيقة تثبتون لله الجسمية والحركة والسكون والتحيز في جهة أو مكان وهذا شئ نفاه الله عن نفسه بقوله تعالى :
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[ سورة الشورى ] تدعون أن قوله تعالى : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه] أنه جلوس على العرش والجلوس صفة للإنسان والجن والملائكة والبقر وسائر البهائم والكلاب والقرود وهذا تنقيص لله تعالى ، أما الذي تنكرونه وهو تفسير الاستواء بالقهر فهو شئ أثبته الله لنفسه بقوله {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [سورة الرعد] . لذلك جرت عادة المسلمين أن يسموا أولادهم عبد القاهر ولم يسم أحد من المسلمين عبد الجالس . ويقال لهم : أثبت الله لنفسه الاستواء الذي يليق به وهو القهر وفي معناه الاستيلاء . وقد قال شارح القاموس، وأبو القاسم الأصبهاني اللغوي المشهور في (( مفردات القرءان )) إن الاستواء إذا عدي بعلى كان معناه الاستيلاء
(1) ، ولا معنى لقول ابن الأعرابي إن الاستيلاء لا يكون إلا عن سبق مغالبة ، فإنكم قد خرجتم عن الاستواء اللائق لله تعالى وعمدتم إلى الاستواء الذي هو لا يليق به وهو الجلوس انتهى كلام الشيخ الهرري .

وقال الحافظ البيهقي في كتابه (( الاعتقاد)) ما نصه (2): (( يجب أن يعلم أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس باستواء اعتدال عن اعوجاج ولا استقرار في مكان ولا مماسة لشئ من خلقه )) ا هـ .

وقال الرازي في تفسيره ما نصه (3) : (( أما قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ }[سورة الأعراف] فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقرا على العرش، ويدل على فساده وجوه عقلية ووجوه نقلية، أما العقلية فأمور أولها : أنه لو كان مستقرا على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيا وإلا لزم كون العرش داخلا في ذاته وهو محال ، وكل ما كان متناهيا فإن العقل يقضي بأنه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرة ، والعلم بهذا الجواز ضروري. فلو كان البارئ تعالى متناهيا من بعض الجوانب لكان ذاته قابل للزيادة والنقصان ، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين بتخصيص مخصص وتقدير مقدر،وكل ما كان كذلك فهو محدث ، فثبت أنه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيا ، ولو كان كذلك لكان محدثا وهذا محال ، فكونه عل العرش يجب أن يكون محالا ))ا هـ.

وقد قال المفسر اللغوي أبو حيان الأندلسي (745هـ) في تفسيره ما نصه (4): (( وأما استواؤه تعالى على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا )) اهـ.
وذكر الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (476هـ) صاحب(( التنبيه ))عقيدة أهل الحق فقال في كتابه : (( الإشارة ))(1) ما نصه : (( إن الله عز وجل مستو على العرش ، قال الله عز وجل :
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة يونس ]، وأن استواءه ليس باستقرار ولا ملاصقة لأن الاستقرار والملاصقة صفة الأجسام المخلوقة والرب عز وجل قديم أزلي لا يجوز عليه التغيير ولا التبديل ولا الانتقال ولا التحريك ))اهـ.

وقال الشيخ عز الدين عبد العزيز عبد السلام (ت660هـ ) في عقيدته المشهورة التي رد بها على مجسمة عصره ما نصه (2):
(( استوى على العرش المجيد على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده ، استواءا منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال ، فتعالى الله الكبير المتعال عما يقول أهل الغي والضلال ، بل لا يحمله العرش ، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته)) اهـ.

وكان هؤلاء المجسمة يكرهون الشيخ عز الدين لأنه كان من الأشاعرة _والوهابية كذلك يكرهون الأشاعرة ويضللونهم – والأشاعرة عم أتباع الإمام أبي الحسن الأشعري وهم والماتريدية أتباع الإمام أبي منصور الماتريدي أهل السنة والجماعة جمهور أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فصاروا أي المشبهة يحرضون السلطان الأشرف ضد الشيخ فإنه كانت لهم صلة به ، فقد صحبهم السلطان في صغره ، وعلم بذلك الشيخ العلامة جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكي وكان عالم مذهبه في زمانه ، فقام بنصرة الحق وأهله وقال (3) :
((ما قاله ابن عبد السلام هو مذهب أهل الحق وأن جمهور السلف والخلف على ذلك ولم يخالفهم فيه إلا طائفة مخذولة )) اهـ.

ولم تخمد هذه الفتنة بل ظل المجسمة يعيثون في الأرض فسادا حتى علم الشيخ العلامة جمال الدين الحصيري شيخ الحنفية في زمانه بما جرى للشيخ عز الدين وكيف أن المجسمة استنصروا على أهل السنة وعلت كلمتهم بحيث عن المجسمة صاروا إذا خلوا بأهل السنة أي الأشاعرة في المواضع الخالية يسبونهم ويضربونهم ويذمونهم – وكذا الوهابية اليوم يذمون الأشاعرة ويسبونهم ويكفرونهم – فاجتمع بالسلطان وتكلم معه في بيان عقيدة أهل السنة من أن الله منزه عن الاستقرار ولا يشبهه شئ وأن كلام الله ليس بحرف ولا صوت ، فانكسرت المبتدعة بعض الانكسار ، ولم يزل الأمر مستمرا على ذلك إلى أن اتفق وصول السلطان الملك الكامل رحمه الله تعالى من الديار المصرية وكان اعتقاده صحيحا، وكان وهو بالديار المصرية قد سمع ما جرى في دمشق للشيخ ، فرام الاجتماع بالشيخ ابن عبد السلام فاعتذر إليه ، وعاتب السلطان الأشرف على ما صدر منه ،وهكذا ذلت رقاب المبتدعة وانقلبوا خائنين وعادوا خاسئين ، وكان ذلك على يد السلطان الملك الكامل ، واعتذر السلطان الأشرف من الشيخ وقال (1)(( لقد غلطنا في حق ابن عبد السلام غلطة عظيمة )) ا هـ.

فصار يطلب أن يقرأ عليه العقيدة التي أملاها الشيخ ابن عبد السلام ويأمر بقراءتها في المجالس العامة لتعم الفائدة .

فرحم الله تعالى من عمل على نشر عقيدة أهل الحق ودافع عنها فإنها رأس مال المؤمن التي يدخرها لآخرته.

بيان
أن الأئمة الأربعة على التنزيه
في مسئلة الاستواء
ثبت عن الإمام مالك رضي الله عنه ما رواه الحافظ البيهقي في كتابه (( الأسماء والصفات ))(1) ، بإسناد جيد كما قال الحافظ في
(( الفتح )) (2) من طريق عبد الله بن وهب قال : كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال : يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه ، قال : فأخرج الرجل .

فقول الإمام مالك : (( وكيف عنه مرفوع )) أي ليس استواؤه على العرش كيفا أي هيئة كاستواء المخلوقين من جلوس ونحوه . وقوله : أنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه ))، وذلك لأن الرجل سأله بقوله كيف استوى ، ولو كان الذي حصل مجرد سؤال عن معنى هذه الآية مع اعتقاد أنها لا تؤخذ على ظاهرها ما كان اعترض عليه .

وروى الحافظ البيهقي (3) من طريق يحيى بن يحيى قال : كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال : يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى فكيف استوى ؟ قال : فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال :الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج ، قال البيهقي :وروي في ذلك أيضا عن ربيعة بن عبد الرحمن أستاذ مالك بن أنس رضي الله عنهما )) ا هـ .
قال المحدث الشيخ سلامة العزامي (1) – من علماء الأزهر - : قول مالك عن هذا الرجل (( صاحب بدعة )) لأن سؤاله عن كيفية الاستواء يدل على أنه فهم الاستواء على معناه الظاهر الحسي الذي هو من قبيل تمكن جسم على جسم واستقراره عليه وإنما شك في كيفية هذا الاستقرار. فسال عنها وهذا هو التشبيه بعينه الذي أشار إليه الإمام بالبدعة . ا هـ.

قلنا : وهذا فيمن سأل كيف استوى فما بالكم بالذي فسره بالجلوس والقعود والاستقرار؟ ثم إن الإمام مالكا عالم المدينة وإمام دار الهجرة نجم العلماء أمير المؤمنين في الحديث رضي الله عنه ينفي عن الله الجهة كسائر أئمة الهدى ، فقد ذكر الإمام العلامة قاضي قضاة الإسكندرية ناصر الدين بن المنير المالكي من أهل القرن السابع الفقيه المفسر النحوي الأصولي الخطيب الأديب البارع في علوم كثيرة في كتابه (( المقتفى في شرف المصطفى)) لما تكلم عن الجهة وقرر نفيها ، قال : ولهذا المعنى أشار مالك رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تفضلوني على يونس بن متى))، فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التننزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رفع على العرش ويونس عليه السلام هبط على قابوس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة على الحق جل جلاله نسبة واحدة ، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه الصلاة والسلام أقرب من يونس بن متى وأفضل مكانا ولما نهى عن ذلك ، ثم أخذ الفقيه ناصر الدين يبين أن الفضل بالمكانة لا بالمكان )) ا هـ.

ونقل ذلك عنه أيضا الإمام الحافظ تقي الدين السبكي الشافعي في كتابه (( السيف الصقيل )) (2) والإمام الحافظ محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في (( إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين )) (3) وغيرهما .
وأما ما يرويه سريج بن النعمان عن عبد الله بن نافع عن مالك أنه كان يقول : الله في السماء وعلمه في كل مكان ، فغير ثابت . قال الإمام أحمد : عبد الله بن نافع الصائغ لم يكن صاحب حديث وكان ضعيفا فيه .قال ابن عدي: يروي غرائب عن مالك ، وقال ابن فرحون : كان أصم أميا لا يكتب . وراجع ترجمة سريج وابن نافع في كتب الضعفاء ، وبمثل هذا السند لا ينسب إلى مثل مالك مثل هذا .فبان مما ذكرناه أن ما تنسبه المشبهة للإمام مالك تقول عليه بما لم يقل .

وسئل الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه عن الاستواء فقال : (( من قال لا أعرف الله أفي السماء هو أم في الأرض فقد كفر )) (1) لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانا ومن توهم أن للحق مكانا فهو مشبه . وهذا القول ثابت عن الإمام أبي حنيفة نقله من لا يحصى كالإمام ابن عبد السلام في حل الرموز والإمام تقي الدين الحصني في (( دفع شبه من شبه وتمرد )) (2) والإمام أحمد الرفاعي في
(( البرهان المؤيد )) (3) وغيرهم .

وأما ما قاله المجسم ابن القيم في نونيته :
كذلك قال النعمان وبعده يعقوب والألفاظ للنعمان من لم يقر بعرشه سبحانه فوق السماء وفوق كل مكان ويقر أن الله فوق العرش لا يخفى عليه هواجس الأذهان فهو الذي لا شك في تكفيره لله درك من إمام زمان هو الذي في الفقه الأكبر عندهم وله شروح عدة لبيان

نقول : إن هذا المجسم يريد أن يروج بدعته هذه بالكذب على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه . وهذا الفقه الأكبر بين أيدينا فليراجعه من شاء، وغير غريب أن يكذب هذا الرجل فإنه مبتدع داعية إلى بدعته غال فيها كل الغلو وكل مبتدع هذا شأنه لا يتوقى الكذب لينصر بدعته ، فهذا (( الفقه الأكبر)) (1) فيه : (( والله واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد لا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ولا يشبهه شئ من خلقه )) وفيه أيضا (2): (( ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة )) ، وفي (( الوصية ))(3) للإمام : (( لقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيفية ولا تشبيه ولا جهة )) ، وفي (( الوصية )) (4) : ((نقر بأن الله على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه وهو الحافظ للعرش وغير العرش من غيراحتياج ، فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوق ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله تعالى ! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . اهـ.

وفي (( الفقه الأبسط ))(5) : كان الله ولا مكان كان قبل أن يخلق الخلق كان ولم يكن أين ولا خلق ولا شئ وهو خالق كل شئ))
وقال أيضا : (( فمن قال لا أعرف ربي أفي السماء هو أم في الأرض فهو كافر ، كذلك من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض)) ، اهـ.

وإنما كفر الإمام قائل هاتين العبارتين لأنه جعل الله مختصا بجهة وحيز وكل ما هو مختص بالجهة والتحيز فإنه محتاج محدث بالضرورة أي بلا شك وليس مراده كما زعم المشبهة إثبات أن السماء والعرش مكان لله تعالى بدليل كلامه السابق الصريح في نفي الجهة عن الله – وقد نقلنا ذلك-، ومن ذلك قوله : ((ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان !)). ففي هذه إشارة من الإمام رضي الله عنه إلى إكفار من أطلق التشبيه والتحيز على الله كما قال العلامة البياضي الحنفي في
(( إشارات المرام )) (6) والشيخ الكوثري في ((تكملته )) (7) وغيرهما .

وفي (( شرح الفقه الأكبر )) (1) لملا علي القاري : (( وما روي عن أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله عمن قال لا أعرف ربي في السماء هو أم في الأرض ، فقال قد كفر لأن الله تعالى يقول : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه ] ، وعرشه فوق سبع سمواته ، قلت : فإن قال أنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض !،
قال : هو كافر لأنه أنكر كونه في السماء فمن أنكر كونه في السماء فقد كفر لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل )) اهـ.
والجواب أنه ذكر الشيخ الإمام ابن عبد السلام في كتابه (( حل الرموز)) أن الإمام أبا حنيفة قال : (( من قال لا أعرف الله تعالى في السماء هو أم في الأرض كفر لأن هذا القول بوهم أن للحق مكانا ومن توهم أن للحق مكانا فهو مشبه )) اهـ
ولا شك أن ابن عبد السلام من أجل العلماء وأوثقهم فيجب الاعتماد على نقله لا على مانقله الشارح شارح عقيدة الطحاوي ، مع أن أبا مطيع رجل وضاع عند أهل الحديث كما صرح به غير واحد)) انتهى كلام ملا علي القاري .

قال الشيخ مصطفى أبو السيف الحمامي في كتابه (( غوث العباد ببيان الرشاد )): (( ومن هذا الكلام يعلم أمور منها :
1- أن تلك المقالة ليست في (( الفقه الأكبر)) ، وإنما نقلها عن أبي حنيفة ناقل فيكون إسنادها إلى الفقه الأكبر كذبا يراد به ترويج البدعة.
2- أن هذا الناقل مطعون فيه بأنه وضاع لا يحل الاعتماد عليه في نقل يبنى عليه حكم فرعي فضلا عن أصلي فالاعتماد عليه وحاله ماذكر خيانة يريد الرجل بها أن يروح بدعته .
3- أن هذا الناقل صرح به إمام ثقة هو ابن عبد السلام بما يكذبه عن أبي حنيفة بالنقل الذي نقله عن هذا الإمام الأعظيم رضي الله عنه ،فاعتماد الكذاب وإغفال الثقة خيانة يراد به تأييد بدعته وهي جرائم تكفي واحدة منها فقط لأن تسقط الرجل من عداد العدول العاديين لا أقول من عداد العلماء أو أكابر العلماء أو الأئمة المجتهدين ، ويعظم الأمر إذا علمنا أن الخيانات الثلاث في نقل واحد وهو مما يرغم الناظر في كلام هذا الرجل على أن لا يثق بنقل واحد ينقله فإنه لا فرق بين نقل ونقل ، فإذا ثبت خيانته في هذا جاز أن تثبت في غيره وغيره )) انتهى كلام الحمامي .

وأما ما نسبه المجسم ابن القيم إلى يعقوب وهو الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهما ، قال الشيخ مصطفى الحمامي – من علماء الأزهر - : (( لا شك أنه كذب يروج به هذا الرجل بدعته )) ا هـ

وكذا قال الكوثري في (( تكملته ))(1) . فبهذا ينتسف ما قاله المجسم ابن القيم وكذلك ما تنسبه الوهابية إلى أبي حنيفة أنه قال :
(( الله في السماء )) فغير ثابت ففي سنده أبو محمد بن حيان ونعيم بن حماد (2) ونوح بن أبي مريم أبو عصمة (3) ،فالأول ضعفه بلدية الحافظ العسال . ونعيم بن حماد مجسم. وكذا زوج أمه نوح ربيب مقاتل بن سليمان شيخ المجسمة . فنوح أفسده زوج أمه ونعيم أفسده زوج أمه ، وقد ذكره كثير من أئمة أصول الدين في عداد المجسمة ، فأين التعويل على رواية مجسم فيما يحتج به لمذهبه ؟!، قال الحافظ ابن الجوزي في (( دفع شبه التشبيه)) (4) عن نعيم بن حماد : (( قال ابن عدي (5) : كان يضع الأحاديث وسئل عنه الإمام أحمد فأعرض بوجهه عنه وقال : حديث منكر مجهول . ا هـ.

فإن قالت الوهابية : ذكره الذهبي نقلا عن البيهقي في (( الأسماء والصفات)).قلنا : رواه البيهقي في (( الأسماء والصفات )) (6) وقال : (( إن صحت الحكاية ))، فهذا يدل على عدم أمانة الذهبي في النقل حيث أغفل هذا القيد ليوهم القارئ أن القول بأن الله في السماء كلام إمام مثل أبي حنيفة .

قال الشيخ الكوثري في تكملته (1) : ((وقد أشار البيهقي بقوله : (( إن صحت الحكاية)) إلى ما في الرواية من وجوه الخلل )) ا هـ.
على أن الإمام البيهقي ذكر في (( الأسماء والصفات )) في كثير من المواضع أن الله منزه عن المكان والحد ومن ذلك قوله (2) :
(( واستدل بعض أصحابنا في ففي المكان عنه – تعالى – بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ )) (3) وإذا لم يكن فوقه شئ ولا دونه شئ لم يكن في مكان )) ا هـ.
وقوله (4) : (( ومل تفرد به الكلبي وأمثاله يوجب الحد والحد يوجب الحدث لحاجة الحد على حاد خصه به والبارئ قديم لم يزل ))
ا هـ.
وقوله (5) : ((وان الله تعالى لا مكان له )) ، ثم قال : (( فإن الحركة والسكون والاستقرار من صفات الأجسام والله تعالى أحد صمد ليس كمثله شئ )) اهـ.

فوضح بعد هذا البيان الشافي أن دعوى إثبات المكان لله تعالى أخذا من كلام أبي حنيفة رضي الله عنه افتراء عليه وتقويل له بما لم يقل .

وقال إمامنا الشافعي رضي الله عنه لما سئل عن الاستواء : (( ءامنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك )).

ذكره الإمام أحمد الرفاعي في (( البرهان المؤيد)) (6) والإمام تقي الدين الحصني في ((دفع شبه من شبه وتمرد )) (7) وغيرهما كثير ، وقال أيضا : (( ءامنت بما جاء عن الله على مراد الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله )). ذكره شيخنا المحدث عبد الله الهرري في كتابه (( الصراط المستقيم ))(1)والإمام الحصني في (( دفع شبه من شبه وتمرد)) (2) والشيخ سلامة العزامي وغيرهم ، ومعناه لا على ما قد تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسية والجسمية التي لا تجوز في حق الله تعالى.

ولما سئل عن صفات الله تعالى قال : (( حرام على العقول أن تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحد وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر وعلى الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط إلا ما وصف به نفسه – أي الله – على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم )). اهـ
ذكره الشيخ ابن جهبل في رسالته في نفي الجهة عن الله التي رد فيها على المجسم ابن تيمية.

وقال الشافعي رضي الله عنه أيضا جامعا جميع ما قيل في التوحيد : (( من انتهض لمعرفة مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه وإن اطمئن إلى العدم الصرف فهو معطل وإن اطمئن لموجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحد)) رواه البيهقي وغيره.

قلنا : ما أدقها من عبارة وما أوسع معناها شفى فيها صدور قوم مؤمنين فرضي الله عنه وجزاه عنا وعن الإسلام خيرا وقد أخذها من قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [سورة الشورى] ، ومن قوله عز وجل : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } [سورة النحل] . ومن قوله تعالى :
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [سورة مريم] ،ومن قوله تعالى : {أَفِي اللّهِ شَكٌّ} [سورة إبراهيم] . وكل هذا يدل على أن الإمام الشافعي رضي الله عنه على تنزيه الله عما يخطر في الأذهان من معاني الجسمية وصفاتها كالجلوس والتحيز في جهة وفي مكان والحركة والسكون ونحو ذلك، نعم فقد روى النووي وغيره أن الإمام الشافعي قال : (( المجسم كافر )) .

قال الشيخ الإمام المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه (( نجم المهتدي ))(1) ما نصه : (( نقلا عن الشيخ الإمام أقضى القضاة نجم الدين في كتابه المسمى (( كفاية النبيه في شرح التنبيه )) في قول الشيخ أبي إسحاق رضي الله عنه في باب صفة الأئمة :ولا تجوز الصلاة خلف كافر لأنه لا صلاة له فكيف يقتدى به )). قال : (( وهذا يفهم من كفره مجمع عليه ومن كفرنا من أهل القبلة كالقائلين بخلق القرءان وبأنه لا يعلم المعدومات قبل وجودها ومن لم يؤمن بالقدر وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش كما حكاه القاضي حسين هنا عن نص الشافعي رضي الله عنه )) . ا هـ

وأما ما ترويه المشبهة عن الشافعي مما هو خلاف العقيدة السنية ففي سنده أمثال العشارى وابن كادش . أما ابن كادش فهو أبو العز بن كادش أحمد بن عبيد الله المتوفى سنة 526هـ من أصحاب العشارى اعترف بالوضع ، راجع الميزان (2) وحكم مشله عند أهل النقد معروف . وأما العشارى فهو أبو طالب محمد بن علي العشارى المتوفى سنة 452 هـ مغفل وقد راجت عليه العقيدة المنسوبة إلى الشافعي كذبا وكل ذلك باعتراف الذهبي نفسه في الميزان (3) وغيره ، وكذا ما ينسب للشافعي
(( وصية الشافعي )) فهو رواية أبي الحسن الهكاري المعروف بوضعه كما هو معروف في كتب الجرح والتعديل (4) ، فاليحذر تمويهات المجسمة فإن هذا دأبهم ذكر ما يوافق هواهم وإن كان كذبا وباطلا.
وسئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن الاستواء فقال : (( استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر )) ذكره الإمام أحمد الرفاعي في
(( البرهان المؤيد )) (5) والإمام الحصني في (( دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك على السيد الجليل أحمد )) (6) ، والرملي وغيرهم .

فانظر رحمك الله بتوفيقه إلى هذه العبارة ما ارشقها فهي اعتقاد قويم ومنهاج سليم إذ فيها تنزيه استواء الله على العرش عما يخطر للبشر من جلوس واستقرار ومحاذاة ونحو ذلك ، أما المشبهة ففسروا الاستواء بما يخطر في أذهانهم في جلوس وقعود ونحو ذلك ، وهذا فيه دليل على تبرئة الإمام أحمد رضي الله عنه من المنتسبين إليه زورا الذين يحرفون كلمة ((استوى )) فيقولون جلس ، قعد ، استقر ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا كالمجسم ابن تيمية حيث صرح في (( مجموع الفتاوى )) (1) فقال :
((إن محمدا رسول الله يجلسه ربه على العرش معه )) ا هـ . وقال فيما رءاه الإمام أبو حيان الأندلسي بخطه:
(( إن الله يجلس على الكرسي وقد اخلى مكانا يقعد فيه رسول الله )) ا هـ كما في (( النهر الماد )) (2) إلى غير ذلك من تخريفاته و تحريفاته.

والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه من أبعد الناس عن نسبة الجسم والجهة والحد والحركة والسكون إلى الله تعالى ، فقد نقل أبو الفضل التميمي رئيس الحنابلة ببغداد وابن رئيسها في كتابه (( اعتقاد الإمام أحمد )) (3) عن الإمام أحمد أنه قال :
(( وأنكر أحمد على من يقول بالجسم وقال إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة ، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف والله تعالى خارج عن ذلك كله ، فلم يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل )) اهـ ونقله الحافظ البيهقي عنه في ((مناقب أحمد )) (4). ونقل أبو الفضل التميمي في كتاب
(( اعتقاد الإمام أحمد )) (5) عن الإمام أنه قال : (( والله تعالى لا يلحقه تغير ولا تبدل ولا تلحقه الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش ، وكان ينكر- الإمام أحمد – على من يقول إن الله في كل مكان بذاته لأن الأمكنة كلها محدودة )) .

وبين الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتابه (( دفع شبه التشبيه )) (1) براءة أهل السنة عامة والإمام أحمد خاصة من مذهب المشبهة وقال: (( وكان أحمد لا يقول بالجهة للبارئ )) انتهى بحروفه .

وقال القاضي بدر الدين بن جماعة في كتابه (( إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (2) إن الإمام أحمد كان لا يقول بالجهة للبارئ تعالى ))ا هـ.

وقال المحدث الفقيه بدر الدين الزركشي في كتابه (( تشنيف المسامع )) (3) : (( ونقل صاحب الخصال من الحنابلة عن أحمد أنه قال عن من قال جسم لا كالأجسام كفر )) اهـ.

وروى الحافظ البيهقي في مناقب أحمد عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل عن أحمد بن حنبل تأول قول الله
{ وَجَاء رَبُّكَ } [سورة الفجر ] أنه جاء ثوابه ، ثم قال البيهقي : (( وهذا إسناد لا غبار عليه )). نقل ذلك ابن كثير في تاريخه (4) . وقال الحافظ البيهقي أيضا في (( مناقب أحمد )) : (( أنبأنا الحاكم قال حدثنا أبو عمرو بن السماك قال حدثنا حنبل ابن إسحاق قال سمعت عمي أبا عبد الله – يعني أحمد – يقول : ((احتجوا علي يومئذ – يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين – فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك، فقلت لهم : إنما هو الثواب قال الله تعالى : { وَجَاء رَبُّكَ } [سورة الفجر] إنما يأتي قدرته وإنما القرءان أمثال ومواعظ . قال الحافظ البيهقي : وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالا من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياه بمجيئه ، وهذا الذي أجابهم به أبو عبد الله لا يهتدي إليه إلا الحذاق من أهل العلم المنزهون عن التشبيه )) ا هـ.

وقال شيخنا المحدث الشيخ عبد الله الهرري (1): (( وهذا دليل على أن الإمام أحمد رضي الله عنه ما كان يحمل ءايات الصفات وأحاديث الصفات التي توهم أن الله متحيز في مكان أو أن له حركة وسكونا وانتقالا من علو إلى سفل على ظواهرها كما يحملها ابن تيمية وأتباعه فيثبون اعتقادا التحيز لله في المكان والجسمية ويقولون لفظا ما يموهون به على الناس ليظن بهم أنهم منزهون لله عن مشابهة المخلوق فتارة يقولون (( بلا كيف )) كما قالت الأئمة وتارة يقولون (( على ما يليق بالله )) ، نقول : لو كان الإمام أحمد يعتقد في الله الحركة والسكون والانتقال لترك الآية على ظاهرها وحملها على المجيء بمعنى التنقل من علو وسفل كمجيء الملائكة ، وما فاه بهذا التأويل )) . انتهى بحروفه .
بيان
معنى استوى في لغة العرب

الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه ، فيأتي بمعنى :

1- التمكن والاستقرار :

ومنه قوله تعالى : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } [ سورة هود ] أي أن السفينة نوح عليه السلام استقرت على جبل الجودي (1) .
ويقال : استوى الرجل على ظهر دابته أي استقر عليها ، قاله اللغويون وغيرهم (2).

2- الاستقامة والاعتدال :

ومنه قوله تعالى : { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } [سورة الفتح ] أي الزرع ، والمراد بالاستواء في هذه الآية الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج.

قال المفسر أبو حيان في تفسيره ما نصه (3) : (( فاستوى أي تم نباته على سوقه جمع ساق كناية عن أصوله )) ا هـ،
وقال البيضاوي في تفسيره ما نصه (4) : (( فاستقام على قصبه جمع ساق)) ا هـ،
ومثله قال النسفي في تفسيره (1) ، وقال القرطبي في تفسيره (2) :
(( فاستوى على سوقه : على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له )) ا هـ.

وقال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح القاموس (3) ممزوجا بالمتن : (( (واستوى : اعتدل ) في ذاته ، ومنه قوله تعالى : {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ }[سورة الفتح ] )) ا هـ، ويقال : استوى الشئ اعتدل (4) .

3- التمام :

ومنه قوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } [ سورة القصص ] ))
أي تمت قوته الجسدية .


ففي (( القاموس )) (5) : (( واستوى الرجل : بلغ أشده )) ا هـ ، قال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي شارح القاموس (6):
(( فعلى هذا قوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } [سورة القصص ] )) ا هـ، وفي (( مختار الصحاح )) ما نصه (7) :
(( واستوى الرجل : انتهى شبابه )) ا هـ ، وكذا في (( لسان العرب )) (8) وفيه أيضا ما نصه (9) : (( قال الفراء : الاستواء في كلام العرب على وجهين : أحدهما أن يستوى الرجل وينتهي شبابه وقوته ...)) ا هـ.
وقال اللغوي الفيروزابادي ما نصه (10) : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } [ سورة القصص ] ، قوي واشتد)) ا هـ.

4- الاستيلاء أي القهر:

يقال استوى فلان على بلدة كذا إذا احتوى على مقاليد الملك واستولى عليها وحازها .

وسيأتي مزيد تفصيل إن شاء الله تعالى لبيان أن استوى في لغة العرب تأتي بمعنى استولى في (( فصل في إزالة شبه المانعين من تفسير الاستواء بالاستيلاء )) عند الكلام على الشبهة الأولى .
وقال اللغوي الفيومي في (( المصباح المنير )) ما نصه : (( واستوى على سرير الملك كناية عن التملك وإن لم يجلس عليه )) اهـ .

5- النضج :

وقال اللغوي الفيومي في (( المصباح المنير )) ما نصه (1) : (( استوى الطعام أي نضج )) ا هـ.

6- القصد أو الإقبال :

قال اللغوي الفيومي في (( المصباح المنير)) ما نصه (3) : (( واستوى إلى العراق : قصد )) ا هـ، والاستواء بهذا المعنى قد يكون بالذات وهذا مستحيل على الله وقد يكون بالتدبير . وسيأتي مزيد تفصيل لذلك إن شاء الله تعالى .

وقال ابن منظور في (( لسان العرب )) (4) :
(( تقول : قد بلغ الأمير من بلد كذا وكذا ثم استوى إلى بلد كذا معناه قصد بالاستواء إليه )) اهـ،
ثم قال : (( قال الفراء : تقول كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني على معنى أقبل إلي وعلي )) ا هـ.

7- التماثل والتساوي :

وفي (( المصباح المنير )) ما نصه (1) :
(( استوى القوم في المال إذا لم يفضل منهم أحد على غيره وتساووا فيه وهم فيه سواء )) ا هـ.

وفي (( لسان العرب )) ما نصه (2) : (( استوى الشيئان وتساويا : تماثلا )) ا هـ.

8- الجلوس :

يقال: استوى على السرير إذا جلس عليه .

9- العلو :

قال ابن منظور في (( لسان العرب )) ما نصه (3) : (( قال الأخفش : استوى أي علا ،تقول : استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته )) اهـ . والاستواء بمعنى العلو قد يكون بالرتبة وقد يكون بالمكان وهذا مستحيل على الله ، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك إن شاء الله تعالى.

وقال اللغوي الفيروزابادي عند تعداد معنى الاستواء ما نصه (4) : (( بمعنى الركوب والاستعلاء :
{ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ } [سورة الزخرف] أي ركبتم واستعليتم )) ا هـ.
وللاستواء غير ذلك من المعاني ، فمن أراد التوسع فليطلبها في معاجم اللغة .

بيان
معنى استولى في لغة العرب

تأتي استولى في اللغة بمعنى :

1- بلوغ الغاية :

قال ابن منظور في (( لسان العرب )) (1) : (( استولى على الأمد أي بلغ الغاية ، ويقال استبق الفارسان على فرسيهما إلى غاية تسابقا إليها فاستولى أحدهما على الغاية إذا سبق الآخر، ومنه قول الذبياني (2) : سبق الجواد إذا استولى على الأمد. واستيلاؤه على الأمد أن يغلب عليه بسبقه إليه ، ومن هذا يقال : استولى فلان على مالي أي غلبني عليه )) ا هـ.

2- القهر :

قال الفيومي في (( المصباح المنير )) (3) : (( واستولى عليه : غلب عليه وتمكن منه )) ا هـ، أي قهره وصار تحت تصرفه .

3- التملك :

قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في (( تاج العروس )) (4) : (( واستولى على الشئ إذا صار في يده )) اهـ،
وهذا فيه أيضا معنى القهر .



بيان

مسلك العلماء في تأويل ءاية الاستواء

اعلم أن لعلماء أهل الحق مسلكان كل منهما صحيح :

الأول : مسلك السلف وهم من كان من أهل القرون الثلاثة الأولى وقرن أتباع التابعين وقرن التابعين وقرن الصحابة وهو قرن الرسول صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء يسمون السلف ، والغالب عليهم أن يؤولوا الآيات المتشابهة تأويلا إجماليا بالإيمان بها واعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته ليست من صفات المخلوقين بلا تعيين معنى خاص كآية : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ]وغيرها من المتشابه بأن يقولوا بلا كيف أو على ما يليق بالله ، وهذا يقال له تأويل إجمالي ، أي قالوا استوى استواء يليق به مع تنزيهه عن صفات الحوادث ، ونفوا الكيفية عن الله تعالى أي من غير أن يكون بهيئة ومن غير أن يكون كالجلوس والاستقرار والحركة والسكون وغيرها مما هو صفة حادثة. هذا مسلك غالب السلف ردوها من حيث الاعتقاد إلى الآيات المحكمة كقول تعالى :
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [سورة طه ] وتركوا تعيين معنى معين لها مع نفي تشبيه الله بخلقه .

قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ((ءامنت بما جاء عن الله على مراد الله ، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله )) يعني رضي الله عنه لا على ما قد تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسية الجسمية التي لا تجوز في حق الله تعالى.

قال الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ما نصه (1) : (( فأما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا رضي الله عنهم كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في أمثال ذلك )) ا هـ، وقال في موضع ءاخر (1) : (( وحكينا عن المتقدمين من أصحابنا ترك الكلام في أمثال ذلك، هذا مع اعتقادهم نفي الحد والتشبيه والتمثيل عن الله سبحانه وتعالى )) ا هـ ، ثم أسند إلى أبي داود قوله (2):
(( كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون ، يروون الحديث لا يقولون كيف، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر، قال أبو داود: وهو قولنا.قلت: وعلى هذا مضى أكابرنا )) اهـ، وقال في موضع ءاخر (3) :
(( عن الأوزاعي عن الزهري ومكحول قال : أمضوا الأحاديث على ما جاءت )) اهـ ، ثم قال : ((سئل الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه – أي ظاهرها يوهم ذلك – فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيفية ))
اهـ ، وقال في موضع ءاخر (4): (( عن سفيان ابن عيينة قال : كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه )) اهـ، وقال الإمام مالك : (( الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ، ولا يقال كيف ، وكيف عنه مرفوع ))، وفي رواية:
((الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول )) اهـ، رواهما البيهقي في (( الأسماء والصفات )) (5) ، وقال الإمام أحمد عندما سئل عن الاستواء : (( استوى كما أخبر لا يخطر للبشر (6) )) اهـ.

والثاني : مسلك الخلف وهم الذين جاءوا بعد السلف ، وهم يؤولونها تفصيلا بتعيين معان لها مما تقتضيه لغة العرب ولا يحملونها على ظواهرها أيضا كالسلف ، فيقولوا استوى أي قهر ، ومن قال استولى فالمعنى واحد أي قهر ، ولا بأس بسلوكه ولا سميا عند الخوف من تزلزل العقيدة حفظا من التشبيه .

قال الحافظ البيهقي في كتابه (( الاعتقاد )) ما نصه (1) : (( وأصحاب الحديث فيما ورد به الكتاب والسنة من أمثال هذا – يعني المتشابه – ولم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين في تأويله على قسمين : منهم من قبله وءامن به ولم يؤوله ووكل علمه إلى الله ونفى الكيفية والتشبيه عنه ، ومنهم من قبله وءامن به وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة ولا يناقض التوحيد، وقد ذكرنا هاتين الطريقتين في كتاب (( الأسماء والصفات )) التي تكلموا فيها من هذا الباب )) اهـ.

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني (ت403هـ) في كتابه (( الإنصاف )) ما نصه (2) : (( إنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بصفات المحدثات ،وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال ولا القيام ولا القعود لقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
[سورة الشورى] ، وقوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }[ سورة الإخلاص ] ،ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك . فإن قيل أليس قد قال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[سورة طه ] ، قلنا : بلى قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة لكن ننفي عنه أمارة الحدوث ، ونقول : استواؤه لا يشبه استواء الخلق ، ولا نقول إن العرش له قرار ولا مكان – أي لا نقول إن العرش مكان له – لأن الله تعالى كان ولا مكان ، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان )) اهـ.

وقال البيضاوي في تفسيره (3) : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [سورة الأعراف] استوى أمره أو استولى ، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفه لله بلا كيف ، والمعنى أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزها عن الاستقرار والتمكن )) اهـ.

فالحاصل أن الذي لا يحمل الآيات المتشابهة على ظاهرها بل يقول لها معان لا أعلمها تليق بالله تعالى غير هذه الظواهر مثلا استواء الله على العرش له معنى غير الجلوس وغير الاستقرار غير استواء المخلوقين لكن لا أعلمه فهذا سلم، وهذا هو الغالب على السلف حيث لا يخوضون بتعيين معان لها وتأويلها مع اعتقاد تنزيه الله عن الجلوس والاستقرار. وكذلك الذي يقول استواء الله على العرش هو قهره للعرش سلم من التشبيه. فالأول هو التأويل الإجمالي أي يقول استوى استواء يليق به من غير أن يفسره بالقهر،والثاني هو التأويل التفصيلي أي يقول استوى معناه قهر، فمن شاء أخذ بذالك ومن شاء أخذ بهذا.

أما الوهابية فليسوا على ما كان عليه السف ولا الخلف، بل هم على مسلك المجسمة المشبهة ، لأن الوهابية حملوا الاستواء على الاستقرار ومنهم حمله على الجلوس فوقعوا في تشبيه الله بخلقه ، فلا يقال عنهم (( السلفيون)) أو (( السلفية ))وإن سموا أنفسهم بذلك ليخدعوا الناس أنهم على مذهب السلف ، وقد علمت أن مذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه ، والمبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السلف ، فهم كما قال القائل :

وكــل يــدعــي وصــلا بـلـيـلى ولــيلـى لا تــقر لــهـم بــذاكـا
بيان

من تأول من علماء أهل السنة
الاستواء على العرش بالاستيلاء والقهر

1- اللغوي السلفي الأديب أبو عبد الرحمن عبد الله بن يحيى بن المبارك (ت237هـ) ، كان عارفا باللغة والنحو ، قال في كتابه
(( غريب القرءان وتفسيره )) ما نصه (1) : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ] : استوى : استولى )) اهـ .

2- الإمام اللغوي أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج (ت311هـ )
قال فيه الذهبي (2): (( نحوي زمانه)) اهـ . قال في كتابه ((معاني القرءان )) ما نصه (3) :
((وقالوا : معنى استوى :استولى )) اهـ .

3- الإمام أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي الحنفي (ت333هـ) إمام أهل السنة والجماعة ، قال في كتابه المسمى
(( تأويلات أهل السنة )) في تفسير قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه] ما نصه (4) :
(( أو الاستيلاء [عليه ] وأن لا سلطان لغيره ولا تدبير لأحد فيه )) اهـ.

4- الغوي أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت340هـ) قال فيه الذهبي ما نصه : (5)
((شيخ العربية وتلميذ العلامة أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج ، وهو منسوب إليه )) اهـ،
قال في كتابه (( اشتقاق أسماء الله )) ما نصه (6) : (( والعلي والعالي أيضا :القاهر الغالب للأشياء ، فقول العرب : علا فلان فلانا أي غلبه وقهره كما قال الشاعر :

فــلمــا عـلـونـا واسـتـويـنـا عــلـيـهـم تــركــنـاهـم صــرعـى لــنسر وكــاسـر
يعني غلبناهم وقهرناهم واستولينا عليهم )) اهـ.

5- الشيخ أبو بكر أحمد الرازي الجصاص الحنفي (ت370هـ) في كتابه (( أحكام القرءان )) (1) .

6- المفسر أبو الحسن علي بن محمد الماوردي (ت 450 هـ ) قال في تفسيره (( النكت والعيون )) ما نصه (2) :
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ سورة الأعراف ] : فيه قولان : ...والثاني : استولى على العرش كما قال الشاعر :

قــد اســـتوى بشــر عـلــى الــعراق مــــــن غــير ســيـف ودم مــهــراق )) اهــ

7- قال الحافظ البيهقي ( ت 458هــ ) في كتابه (( الأسماء والصفات )) ما نصه (3) :
(( وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب أن كثيرا من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة )) اهــ.

8- أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي (ت478 ) في تفسره (( الوجيز )) (4) .

9- الشيخ الحسين بن محمد الدامغاني الحنفي (ت478 ) في كتابه (( إصلاح الوجوه )) (5) .

10- إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي (ت 578هـ ) قال في كتابه (( الإرشاد )) ما نصه : (6):
(( الاستواء القهر والغلبة ، وذلك شائع في اللغة إذ تقول : استوى فلان على المملك إذا احتوى على مقاليد الملك واستعلى على الرقاب )) اهــ.

11- الإمام عبد الرحمن بن محمد الشافعي المعروف بالمتولي (ت478 هــ ) قال في كتابه (( الغنية )) في دفع شبهة من منع تفسير الاستواء بالقهر ما نصه (1) : فإن قيل الاستواء إذا كان بمعنى القهر والغلبة فيقضي منازعة سابقة وذلك محال في وصفه . وقلنا : والاستواء بمعنى الاستقرار يقتضي سبق الاضطراب والاعوجاج ، وذلك محال في وصفه )) اهــ.

12- اللغوي أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصبهاني (ت502 هـ ) قال في كتابه (( المفردات )) ما نصه (2):
(( ومتى عدي- أي الاستواء – ب (( على )) اقتضى معنى الاستيلاء كقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ] )) اهــ.

13- الشيخ الفقيه أبو حامد الغزالي الشافعي (ت505هــ ) قال في كتابه (( إحياء علوم الدين )) عندما تكلم عن الاستواء ما نصه (3) :
(( وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء )) اهــ .

14- المتكلم أبو المعين ميمون بن محمد النسفي الحنفي ( ت508هــ ) قال في كتابه (( تبصرة الأدلة )) بعد أن ذكر معاني الاستواء وأن منها الاستيلاء ما نصه (4) : (( فعلي هذا يحتمل أن يكون المراد منه : استولى على العرش الذي هو أعظم المخلوقات )) اهــ.

15- الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري ( ت514 هـ )الذي وصفه الحافظ عبد الرزاق الطبسي بإمام الأئمة (5) .
قال في كتابه (( التذكرة الشرقية )) ما نصه (6) : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[سورة طه ]: قهر وحفظ وأبقى )) اهــ .




16- القاضي الشيخ أبو الوليد محمد بن أحمد المالكي قاضي الجماعة بقرطبة المعروف بابن رشد الجد (ت520هــ ): قال ما نصه :
(( والاستواء في قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ سورة الأعراف] معناه استولى )) اهــ، ذكره ابن الحاج المالكي في كتابه
(( المدخل )) (1) موافقا له ومقرا لكلامه .

17- العلامة الفقيه الأصولي أبو الثناء محمود بن زيد اللامشي الحنفي الماتريدي ( توفي في أوائل القرن السادس الهجري ) قال ما نصه (2):
((ووجه ذلك أن الاستواء قد يذكر ويراد به الاستقرار ، وقد يذكر ويراد به الاستيلاء فيحمل على الاستيلاء دفعا للتناقض وإنما خص العرش بالذكر تعظيما له كما خصه بالذكر في قوله تعالى : {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [سورة التوبة ] وإن كان هو رب كل شئ)).

18- الحافظ الكبير محدث الشام المؤرخ أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله ( ت571هــ) : قال ما نصه (3) :

خـلق الســماء كــمـا يشـا ء بــلا دعــائـم مســتـقـلـة
لا لــلتـحـيـز كـي تـكــو ن لـــذاتـه جــهـة مــقـلـة
رب عـلى الــعرش اسـتـوى قــهــرا ويــنزل لا بــنـقـلـة

19- المفسر فخر الدين الرازي الشافعي (ت606هـ) : قال في تفسره ما نصه (4) : (( فثبت أن المراد استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ )) اهــ، وقال في موضع ءاخر ما نصه (5) : (( قال بعض العلماء : المراد من الاستواء الاستيلاء )) اهـ ، وقال في كتابه (( أساس التقديس (6) : (( وإذا ثبت هذا ظهر أنه ليس المراد من الاستواء الاستقرار ،

فوجب أن يكون المراد هو الاستيلاء والقهر وهذا مستقيم على قانون اللغة
قال الشاعر : قد استوى بشر على العراق )) ا هـ.

20- الشيخ المتكلم سيف الدين الآمدي الحنبلي ثم الشافعي (ت631هـ) ذكر في كتابه (( أبكار الأفكار )) (1) أن تفسير الاستواء بالاستيلاء والقهر هو من أحسن التأويلات وأقربها .

21- الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الشافعي (ت660هـ ) في كتابه (( الإشارة إلى الإيجاز )) (2) .

22- الشيخ الفقيه القرافي المالكي (3) (ت684هـ ) .
23- المفسر القاضي أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي الشافعي (ت685 هـ وقيل 691هـ ) قال في تفسيره (( أنوار التنزيل )) ما نصه (4): {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [سورة الأعراف ] : استوى أمره أو استولى )) هـ .

24- المفسر أبو البركات عبد الله بن أحمد النسفي (ت 710هـ وقيل 701هـ ) قال في تفسيره(( مدارك التنزيل )) ما نصه (5) :
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه ] : استولى، عن الزجاج )) اهـ .
25- اللغوي محمد بن مكرم الإفريقي المصري المعروف بابن منظور (ت711هـ) قال في كتابه (( لسان العرب )) من غير أن يتعرض لتفسير ءاية الاستواء ما نصه (6) : (( استوى: استولى ، وظهر )) اهـ .
26- المحدث الفقيه ابن المعلم القرشي (ت725 هـ) : ذكر في كتابه (( نجم المهتدي )) معاني الاستواء وأن منها الاستيلاء المجرد عم معنى المغالبة ، ولم يعترض على هذا التفسير ، نقله الكوثري في تعليقه على (( الأسماء والصفات ))(1).
27- الشيخ أحمد بن يحيى بن إسماعيل بن جهبل الحلبي الشافعي (ت733هـ ) قال في رسالته التي ألفها في نفي الجهة عن الله ردا على ابن تيمية ما نصه : ((والاستواء بمعنى الاستيلاء )) اهـ ، نقله التاج السبكي في ((طبقاته )) (2).




28- القاضي محمد بن إبراهيم الشافعي الشهير ببدر الدين بن جماعة ( ت 733 هـ ) قال في كتابه (( إيضاح الدليل )) ما نصه (3) :
(( فقوله تعالى : { اسْتَوَى } يتعين فيه معنى الاستيلاء والقهر لا القعود والاستقرار )) اهـ .

29- الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري المغربي المالكي المعروف بابن الحاج ( ت 737 هـ ) كان من أصحاب العلامة الولي العارف بالله الزاهد المقرئ ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى ونفعنا به ، ذكر في كتابه (( المدخل ))(4)كلام ابن رشد الجد الذي ذكرناه ءانفا مؤيدا وموافقا له .

30- الفقيه شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الشافعي المعروف بابن اللبان (ت749هـ ) في كتابه (( إزالة الشبهات )) (5).

31- القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (ت756 هـ ) في كتابه (( المواقف )) (6) .

32- الإمام الفقيه تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ( ت756هـ ) قال في كتابه (( السيف الصقيل )) ما نصه (7) :
((فالمقدم على هذا التأويل – أي تأويل الاستواء بالاستيلاء – لم يرتكب محذورا ولا وصف الله تعالى بما لا يجوز عليه )) اهـ .

33- اللغوي المفسر أحمد بن يوسف الشافعي المعروف بالسمين الحلبي (ت756هـ ) قال في كتابه (( عمدة الحفاظ )) ما نصه (1) :
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه] : أي استولى )) اهـ.

34- القاضي محمود بن أحمد القونوي الحنفي المعروف بابن السراج (ت770هـ ويقال 771هـ ) كما في كتابه (( القلائد )) (2) .

35-اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي ( ت817هـ ) قال في كتابه ((بصائر ذوي التمييز ))عند ذكر معاني الاستواء ما نصه (3) : (( بمعنى القهر والقدر: { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ }[سورة الأعراف ] { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[سورة طه ] )) اهـ .

36- الشيخ الفقيه تقي الدين الحصني الشافعي (ت829هـ ) قال في كتابه (( دفع شبه من شبه وتمرد ))في معرض بيان معنى الاستواء في اللغة ما نصه (4) : (( ومنها الاستيلاء على الشئ )) اهـ .

37- الفقيه الأصولي كمال الدين محمد بن عبد الواحد الحنفي المعروف بابن الهمام (ت861هـ )قال في كتابه ((المسايرة )) ما نصه
(5): (( أما كون المراد أنه – أي الاستواء – استيلاؤه على العرش فأمر جائز الإرادة )) اهـ .

38-الشيخ محمد بن سليمان الكافيجي (ت879هـ ) أحد مشايخ السيوطي قال في كتابه (( التيسير )) ما نصه
(6) : (( أما التأويل في العرف فهو صرف اللفظ إلى بعض الوجوه ليكون ذلك موافقا للأصول كما إذا قال القائل : الظاهر أن المراد من الاستواء في قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[سورة طه ] هو الاستيلاء بما لاح لي من الدليل فذلك تأويل برأي
الشرع )) اهـ.

39- المحدث الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي (ت879هـ ) : قال في حاشيته على (( المسايرة )) ما نصه (1) : ((قال أهل الحق بأن الاستواء مشترك بين معان ، والمعنى الأليق الاستيلاء )) اهـ .

40- الشيخ كمال الدين محمد بن محمد الشافعي المعروف بابن أبي شريف (ت906هــ ) شارح كتاب (( المسايرة)) لابن الهمام الذي مر ذكره ووافقه على التأويل باستولى (2).

41- قال الحافظ السيوطي الشافعي (ت 911هـ ) في كتابه (( الكنز المدفون )) (3) ما نصه : (( خص – أي الله – الاستواء عليه – أي العرش – وهو استواء استيلاء ، فمن استولى على أعظم المخلوقات استولى على ما دونه )) اهـ .

42- الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني الشافعي (ت923هـ ) كما في شرحه على البخاري (4) .

43- القاضي الشيخ زكريا بن محمد الأنصاري المصري الشافعي ( ت926 هـ ) كما في كتابه
(( غاية الوصول شرح لب الأصول )) (5) .

44- الشيخ أبو الحسن علي بن محمد المنوفي المالكي المصري ( ت939 هـ ) قال في كتابه (( كفاية الطالب )) (6) ما نصه :
(( معنى استوائه على عرشه أن الله تعالى استولى عليه استيلاء ملك قادر قاهر ، ومن استولى على أعظم الأشياء كان ما دونه منطويا تحته ، وقيل الاستواء بمعنى العلو أي علو مرتبه ومكانة لا علو المكان )) اهـ.

45- المفسر محمد بن مصطفى الحنفي المعروف بشيخ زاده (ت951هـ) كما في حاشيته (1) على تفسير البيضاوي فقد قال :
(( ولا يتوهم من استوائه على العرش كونه متعمدا عليه مستقرا فوقه بحيث لولا العرش لسقط ونزل لأن ذلك مستحيل في حقه تعالى لاتفاق المسلمين على أنه تعالى هو الممسك للعرش والحافظ [ له ] وأنه لا يحتاج إلى شئ مما سواه بل المراد من الاستواء على العرش والله أعلم الاستيلاء عليه ونفاذ التصرف ، وخص العرش بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ، قال الشاعر :

قــد اســتوى بشــر عــلى الــعـراق مــن غــير ســيف ودم مــهــراق )) اهــ

46الشيخ يوسف بن عبد الله الأرميوني الشافعي (ت958 هـ ) فيكتابه((القول المعتمد)) (2) .

47المفسر القاضي أبو السعود محمد بنمحمد العمادي الحنفي ( ت982 هـ ) في تفسيره((إرشادالعقل السليم)) (3).

48الشيخ أحمد بن غنيم النفراوي المالكي الأزهري (ت 1126 هـ ) في كتابه((الفواكه الدواني)) (4) ، قال ما نصه :
((استوى أي استولى بالقهر والغلة استيلاء ملك قاهر وإله قادر ، ويلزم من استيلائهتعالى على أعظم الأشياء وأعلاها استيلاؤه على ما دونه))اهـ .

49الشيخ المفسرسليمان بن عمر الشهير بالجمل الشافعي (ت1204 هـ ) نقل في حاشيته على تفسير الجلالينعن شيخه ما نصه (5) : ((طريقة الخلف التأويل بتعيينمحمل اللفظ فيؤولون الاستواء بالاستيلاء))اهـ .

50الحافظ اللغوي الفقيه محمد مرتضى الزبيديالحنفي (ت1205هـ) قال في شرح الإحياء ما نصه (1) :
((وإذا خيف على العامة لقصور فهمهم عدم فهم الاستواء إذا لميكن بمعنى الاستيلاء إلا الاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلىالاستيلاء صيانة لهم من المحذور ، فإنه قد ثبت إطلاقه وإرادته لغة))اهـ.

51الشيخ محمدالطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المالكي (ت1227هـ ) في شرحه على((المرشد المعين على الضروري من علم الدين (1/448) مفسراالاستواء على العرش بالقهر والغلبة لقوله:
فــلــماعــلـونـا واســتويــنا عـلــيـهم جــعـلـنـاهم مــرعــى لـنـسروطــائــر
وقوله :
قــد اســتوى بــشر عـلـى الــعـراق مــن غــيـر ســيـف ودممــهــراق ))

وخص العرش لأنه أعظم المخلوقات ، ومن استولى على أعظمهاكان استيلاؤه على غيره أحرى))اهـ .

52الشيخ أحمد بن محمد المالكي الصاوي ( ت1241هـ ) كما فيشرحه على جوهرة التوحيد))اهـ .

53الشيخ إدريس بن أحمد الوزاني الفاسي المولود سنة 1275هـفي((نشر الطيب)) (3) قال : ((الاستواء يطلق لغة على الاستقرار على الشئ ولكن لايحمل على ظاهره كما تقول المشبهة بل المراد لازمه الذي هو الاستيلاء بالقهر والغلبة))اهـ.

54المحدثأبو عبد الله محمد بن درويش الحوت البيروتي الشافعي (ت1276هـ ) قال في رسالته
((الدرة البهية في توحيد رب البرية))ما نصه (1) : (( وقد أول الخلفالاستواء بالقهر والاستيلاء على العرش))اهـ .

55الشيخ إبراهيم محمد البيجوري الشافعي ( ت1277هـ ) كما في شرح (2((جوهرة التوحيد)) .

56الشيخ محمد علاءالدين بن محمد أمين عابدين الدمشقي الحنفي (ت1306هـ) في كتابه((الهدية العلائية)) (3) .

قال ما نصه : ((وقالوا : ((استوى))بمعنى استولى .

57الشيخ محمد بن محفوظ الترمسي الأندنوسي ( كان حيا سنة 1329 هـ ) قال في تفسير قوله تعالى :
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : ((فالظاهر منذلك ليس مرادا اتفاقا، ثم السلف يفوضون علم حقيقته على التفصيل إلى الله ، والخلفيؤولونه إلى أن المراد من الاستواء الاستيلاء والملك على حد قول الشاعر :

قــد اســتوى بــشر عـلـى الــعـراق مــن غــيـرســيـف ودم مــهــراق )) اهـ.

58الشيخالفقيه المفسر المتكلم محمد نووي الشافعي الجاوي (ت1316هـ ) في تفسيره (5) .

59شيخ الأزهر في مصر الأستاذ سليم البشري (ت 1335هـ ) : قال في فتوى له نقلها الشيخ سلامة العزامي ( ت1376هـ ) في رسالته((فرقان القرءان)) (6) : (( إن الاستواء بمعنى الاستيلاء كما هو رأي الخلف))اهــ.

60الشيخ طاهربن محمد الجزائري الدمشقي (ت 1338هـ ) كما في كتابه((الجواهر الكلامية )) (1) .



61الشيخ عبد المجيد الشرنوبي المصري الأزهري المالكي ( ت 1348هـ ) كما في شرحه (2) على((تائية السلوك))وفي
(( تقريب المعاني )) .

62الشيخ محمد بنمحمد الخطاب السبكي الأزهري ( ت1352 هـ ) كما في كتابه((إتحاف الكائنات )) (3) .

63الشيخ عثمان بن حسنين بري الجعلي المالكي ( انتهى المؤلف من شرحه سنة 1364هـ) قال في كتابه((سراج الملوك شرح أسهل المسالك))ما نصه : ((وتؤول الاستواء على العرش بالقهر والغلبة بمعنى أن اللهتعالى مالك للعرش وما حواه )) .

64الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني ( ت 1367 هـ ) : هو مدرسعلوم القرءان والحديث في كلية أصول الدين في جامعة الأزهر بمصر ، قال في كتابه((مناهل العرفان )) طبق ماقرره مجلس الأزهر الأعلى في دراسة تخصص الكليات الأزهرية ما نصه (4) : (( وطائفة المتأخرين يعينون فيقولون : إن المراد بالاستواءهنا هو الاستيلاء والقهر من غير معاناة ولا تكلف لأن اللغة تتسع لهذا المعنى))اهـ .

65الشيخ محمدزاهد الكوثري ( ت 1371هـ ) : كان وكيل مشيخة الإسلام بالاستانة ، ووافق في
((تكملة الرد على نونية ابن القيم)) (5) الحافظ الفقيه السبكي على تأويل الاستواء بالاستيلاء .

66الشيخ سلامة القضاعي العزامي ( ت1367 هـ ) كما في كتابه((البراهين الساطعة)) (1) ، ورسالته((فرقانالقرءان )) (2).

67كتاب العقيدة الإسلامية : التوحيد من الكتاب والسنة (3) .

68الشيخ إبراهيم الدسوقي وزير الأوقاف سابقا(مصر) (4) .

69الشيخ حسين بن عبد الرحيم مكي في كتابه(( مذكرات التوحيد)) (5) .

70وكذا في كتاب((مشروع زايد لتحفيظ القرءان الكريم)) (6) بدولة الإمارات العربية المتحدة .

71قال الشيخ محمد حامد(مدرسوخطيب جامع السلطان بحماه)
في كتابه((ردود على أباطيل)) (7) : ((وإن استواء الله على عرشه يجري فيه مذهبان للسلفوالخلف ، فالسلف يفوضون معناه إلى الله تعالى مع التنزيه ، والخلف يؤولونهبالاستيلاء على العرش وهو أعظم المكونات ، فهو إذن مستول على غيره بالأولى من غيراستعصاء سابق لا من العرش ولا من غيره))اهـ.

72الشيخ عبد الكريم المدرس(إمام وخطيب جامع الأحمدي والمدرس في الحضرة الكيلانيةببغداد)في كتابه((الوسيلة)) (8) .

73الشيخ العلامة المحدث عبد الله الهرري المعروف بالحبشي الشافعي : قال في شرح العقيدةالطحاويةما نصه (1) :
((يفهم من الاستواءالقهر والاستيلاء إذ هو أشرف معاني الاستواء ، وهو مما يليق بالله تعالى ، لأنه وصفنفسه بأنه قهار ، فلا يجوز أن يترك ما هو لائق بالله تعالى إلى ما هو غير لائقبالله تعالى وهو الجلوس والاتصار والاستقرار))اهــ.


بيان

معنى قوله تعالى :
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}

قال الله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [سورة الأعراف ] .

قال أهل الحق : إن صفات الله تعالى أزلية وأن الله لا تحل به الحوادث أي لا تحدث له صفة لم تكن لأن حدوث الصفة يستلزم حدوث الذات ، وقد بينا سابقا أن (( ثم )) تأتي بمعنى المهلة أي التأخر في الزمن كما تأتي بمعنى الترتيب في الإخبار . فإذا كان الأمر كذلك فتحمل هذه الآية أي قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } على معنى يليق بالله تعالى ، فإما أن يقال : استوى على العرش بلا كيف أي بلا جلوس واستقرار ومحاذاة وغيرها من صفات الأجسام ، وإما أن يشتغل بتأويلها ، فيقال : من حمل كلمة ((ثم )) من أهل السنة على التراخي جعل الاستواء صفة فعل أي أن الله فعل في العرش فعلا سماه استواء لا أن ذلك الفعل قائم بذات الله تعالى لاستحالة قيام الحوادث به .

ومن حمل كلمة (( ثم )) من أهل السنة على معنى الإخبار يقول إن (( ثم )) في قوله عز وجل { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ليست للترتيب في الحدوث والوقوع والحصول إنما هي للترتيب في الإخبار أي أن الله يخبرنا بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم يخبرنا بأنه قاهر للعرش الذي هو أعظم منهما ، نظير ذلك قوله تعالى : { ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } [سورة يونس ] ، مع أن شهادته أي اطلاعه وعلمه أزلي .

قال الإمام الماتريدي في (( تأويلاته )) في تفسير قول الله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (( أي وقد استوى على العرش )) أي أن الله كان مستويا على العرش قبل وجود السموات والأرض .

وهذا الذي ذهب إليه المفسر القرطبي في تفسيره فقد قال ما نصه (1) : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } [سورة البقرة ] ((ثم )) لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه )) اهـ .وقال في تفسير ءاية السجدة : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } مانصه (2) : (( وليست (( ثم )) للترتيب وإنما هي بمعنى الواو )) اهـ .

وقال شيخ القراء بسمرقند أبو نصر أحمد بن محمد ( توفي بعد الأربعمائة ) في كتابه (( الموضح )) عند تعداد معاني (( ثم )) ما نصه (3) : (( وبمعنى (( قبل )) مثل قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ سورة الأعراف ] ، وقوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [سورة الصافات ] ، وأنشد الفراء :
إن مــــن ســـاد ثــم ســاد أبــوه ثــم ســاد قــبل ذلــك جــده )) اهــ.

وقال المفسر أبو حيان الاندلسي في تفسيره (4) : (( قال ابن عطية : (( ثم )) هنا لعطف الجمل لا للترتيب )) اهــ .


وقال القاضي بدر الدين بن جماعة في كتابه (( إيضاح الدليل )) (5) : (( وليس (( ثم )) هنا لترتيب ذلك بل هي من باب ترتيب الإخبار وعطف بعضها على بعض )) اهـ ، أي ليس المراد بالآية أن الله لم يكن مستوليا على العرش ثم استولى عليه بل المراد الإخبار بأن الله خلق السموات والأرض والإخبار بأنه قاهر للعرش .

وقال الشيخ سليمان الجمل في حاشيته (1) على تفسير الجلالين ما نصه : (( و (( ثم )) للترتيب والإخباري الذكري وليست للترتيب الزماني ، فإن استيلاءه تعالى على العرش بالقهر والتصرف سابق على خلق السموات والأرض )) اهـ .

وأما المجسمة كابن تيمية وأتباعه الوهابية – فحملوا كلمة (( ثم )) على التراخي ليس على المعنى الذي قال به بعض أهل السنة ، بل قالوا – أي ابن تيمية والوهابية – إن الاستواء صفة فعل لكن زعموا أن الاستواء حادث كان بعد أن لم يكن – وسيأتي النقل عنهم – وحتى يسلموا بزعمهم من تشنيع أهل السنة عليهم ابتدعوا بدعة ضالة فزعموا أن صفة الفعل قديمة النوع حادثة الآحاد أي على زعمهم لله على عرشه استواءات عديدة كثيرة لا تحصى فهو لم يزل تحدث في ذاته الحوادث أي استواءات متجددة فالتزموا بقيام الحوادث في ذات الله عز وجل ، وسيأتي الرد عليهم إن شاء الله تعالى . وقولهم هذا باطل لم يقل به سني ، وليس لهم سلف إلا الكرامية المجسمة الذين قالوا بحلول الحوادث في ذات الله تعالى ، اتبعوهم في هذه البدعة الشنيعة ، وهي إحدى المسائل التي كفر بها العلماء الكرامية .

وما يروى عن ابن عباس من أنه فسر الآية بالاستقرار فلم يثبت عنه ، فقد روي ذلك من طريق سلسلة الكذب وهي رواية محمد بن مروان وهو السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح ، قال الحافظ البيهقي (2) : كلهم متروكون لظهور الكذب في رواياتهم .

بيان
معنى قوله تعالى :
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ]

ليعلم أن الله تبارك وتعالى تمدح بقوله : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، والمدح إنما يكون بصفة يمتاز به الممدوح عما لا يكاد يدانيه ولا يساويه ولا يكافئه غيره ، فحمل المجسمة الاستواء على الاستقرار ليس مدحا في حق الله ، ولو استعمل لفظ الاستواء على سبيل المدح في حق من جاز عليه الاستقرار فلا يحمل على الاستقرار ولا يفهم منه كما في قول الشاعر في بشر بن مروان : [ الرجز]

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

فليس مدح بشر بن مروان في هذا البيت من حيث إنه جالس في هذا البلد ، إنما المدح له لأنه استولى أي قهر وهيمن وسيطر على العراق ، لأن الجلوس في العراق يشترك فيه الإنسان الشريف والإنسان القوي والإنسان الدنيء والإنسان الضعيف ، فلا بد أن يفهم من الاستواء ما يليق بالله تعالى ، فالاستواء الذي أثبته القرءان ليس الاستواء الذي تذهب إليه المجسمة ، بل الله أراد بالاستواء معنى لائقا به بلا كيف ، فمن اكتفى بهذا فقد سلم ، ومن تأول الآية على معنى القهر والاستواء فقد سلم أيضا ، ومن تأولها على معنى الجلوس أو الاستقرار فقد هلك وضل .

قال الشيخ أبو سليمان الخطابي ( ت388هـ ) ما نصه : (( وليس معنى قول المسلمين : إن الله استوى على العرش هو أنه مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته ، لكن بائن (1) من جميع خلقه ، وإنما هو خبر جاء به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[ سورة الشورى ] )) اهـ ، نقله عنه الحافظ البيهقي في كتاب (( الأسماء والصفات )) (1) ، وكذا قال غيره من العلماء ، فتنبه . وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات حجما .
بيان
معنى قول الإمام مالك :
(( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ))
وأنه لم يثبت عنه قول : (( الاستواء معلوم والكيفية مجهولة ))

ليعلم أنه لم يثبت عن مالك ولا عن غيره من السلف بإسناد صحيح أنه قال : (( الاستواء معلوم والكيفية مجهولة )) ، وإنما الصحيح الذي رواه البيهقي في (( الأسماء والصفات )) (1) من طريق عبد الله بن وهب ويحيى بن يحيى قال البيهقي : (( أخبرنا أبو عبد الله ، أخبرني أحمد بن محمد بن إسمعيل بن مهران ، ثنا أبي ، حدثنا أبو ربيع ابن أخي رشدين بن سعد ، قال : سمعت عبد الله بن وهب يقول : كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال : يا أبا عبد الله ، الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه ؟ قال : فأطرق مالك وأخذته الرحضاء (2) ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ، ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع ، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه ، قال : فأخرج الرجل .

أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه الأصفهاني ، أنا أبو محمد عبد الله بن جعفر حيان المعروف بأبي الشيخ ، ، ثنا أبو جعفر ابن زيرك البزي ، قال : سمعت محمد بن عمرو بن النضر النيسابوري يقول: سمعت يحيى بن يحيى يقول : كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال : يا أبا عبد الله ، الرحمن على العرش استوى فكيف استوى ؟ قال : فأطرق مالك رأسه حتى علاء الرحضاء ، ثم قال : (( الاستواء غير مجهول . والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ن والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا مبتدعا )) .
فأمر به أن يخرج . وروي في ذلك أيضا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أستاذ مالك بن أنس رضي الله عنه تعالى عنهما )) .اهـ .

وأما تلك الرواية التي تنسب لمالك فليس لها إسناد صحيح ، وإنما يلهج بها المشبهة لأنها وافقت هواهم الذي هو التشبيه ، لأن اعتقادهم أن استواءه كيف لكن لا نعلمه ، وهذا إثبات للكيف لا تنزيه لله عن الكيف .

وقد جود الحافظ ابن حجر في (( الفتح )) (1) رواية ابن وهب .

ويروى عن أم سلمة إحدى زوجات الرسول ويروى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس أنهم فسروا استواء الله على عرشه بقولهم : الاستواء معلوم ولا يقال كيف والكيف غير معقول .

ومعنى قولهم : (( الاستواء معلوم )) معناه معلوم وروده في القرءان أي بأنه مستو على عرشه استواء يليق به ، ومعنى :
(( والكيف غير معقول )) أي الشكل والهيئة والجلوس والاستقرار هذا غير معقول أي لا يقبله العقل ولا تجوز على الله لأنها من صفات الأجسام ، وسئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن الاستواء فقال : (( استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر)) .

وأما عبارة (( الكيفية مجهولة )) أو (( الكيف مجهول )) فلم تثبت بإسناد صحيح عن أحد من السلف ، وهي موهمة معنى فاسدا وهو أن استواء الله على العرش هو استواء له هيئة وشكل لكن نحن لا نعلمه وهذا خلاف مراد السلف بقولهم : ((والكيف غير معقول )).
وهذه الكلمة كثيرة الدوران على ألسنة المشبهة والوهابية لأنهم يعتقدون أن المراد بالاستواء الجلوس والاستقرار أي عند أغلبهم وعند بعضهم المحاذاة فوق العرش من غير مماسة، ولا يدرون أن هذا هو الكيف المنفي عن الله عند السلف ، ولا يغتر بوجود هذه العبارة في كتاب (( إحياء علوم الدين )) ونحوه ولا يريد مؤلفه الغزالي ما تفهمه المشبهة لأنه مصرح في كتبه بأن الله منزه عن الجسمية والتحيز في المكان وعن الحد والمقدار لأن الحد والمقدار من صفات المخلوق قال الله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }
[سورة الرعد ] . فالتحيز في المكان والجهة من صفات الحجم والله ليس حجما .

وما يوجد في بعض كتب الأشاعرة من هذه العبارة : (( الاستواء معلوم والكيفية مجهولة )) غلطة لا أساس لها عن السلف لا عن مالك ولا عن غيره وهي شنيعة لأنها يفهم منها المشبه الوهابي وغيره أن الاستواء كيف لكن لا نعلمه مجهول عندنا . وأما من أوردها من الأشاعرة فلا يفهمون هذا المعنى بل يفهمون أن حقيقة الاستواء غير معلوم للخلق مع تنزيههم لله عن الجسمية والتحيز في المكان والجهة . إما الوهابية فإنها تقصد بها ما يناسب معتقدها من أن الله حجم له حيز . والعجب منهم كيف يقولون إن الاستواء على العرش حسي ثم يصفونه بالكون مجهولا . ولعلهم يريدون بهذا هل هو قعود على شكل تربيع أم على شكل ءاخر .

قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح (( الإحياء ما نصه (1) : (( وقال ابن اللبان (2) في تفسير قول مالك ، قوله :
(( الكيف غير معقول )) أي كيف من صفات الحوادث ، وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل ، فيجزم بنفيه عن الله تعالى ، قوله : (( والاستواء غير مجهول )) أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة ،
(( والإيمان به )) على الوجه اللائق به تعالى (( واجب )) لأنه من الإيمان بالله وبكتبه )) اهـ.



وأما معنى من قال من الأئمة : (( أمروها كما جاءت بلا كيف )) في بعض النصوص التي ظواهرها إثبات الجسمية أو صفات الجسمية كحديث النزول : أي ارووا اللفظ ولا تعتقدوا تلك الظواهر التي هي من صفات الجسم، فالأئمة مرادهم نفي الجسمية وصفاتها عن الله أي أن هذه النصوص ليس معانيها الجسمية وصفاتها من حركة وسكون لأن الله تعالى نفى الجسمية وصفاتها عن نفسه بقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، وأراد الأئمة رد تلك النصوص إلى هذه الآية المحكمة، أما الوهابية فيريدون بذلك إثبات الكيف لله لكن يموهون على الناس بقولهم إن هذه النصوص محمولة على الجسمية وصفات الجسمية لكن لا نعرف كيفية تلك الكيفية .

ولزيادة تفصيل نقول : مراد أهل السنة بقولهم (( بلا كيف )) ليس استواء الجلوس والاستقرار والمحاذاة ، فالمحاذاة معناه كون الشئ في مقابل شئ ، فنحن حين نكون تحت سطح فنحن في محاذاته ، وحين نكون في الفضاء نكون في محاذاة السماء ، والسماء الأولى تحاذي السماء التي فوقها ، والكرسي يحاذي العرش ، والعرش يحاذي الكرسي من تحت ، والله تعالى لا يجوز عليه أن يكون هكذا على العرش محاذيا له فلا يجوز أن يكون جالسا عليه ولا أن يكون مضطجعا عليه ولا أن يكون في محاذاته ، إذ المحاذي إما أن يكون مساويا للمحاذى وإما أن يكون أكبر منه وإما أن يكون أصغر منه ، وكل هذا لا يصح إلا للشئ الذي له جرم ومساحة والذي له جرم ومساحة محتاج إلى من ركبه ، والله منزه عن ذلك .

قال اللغوي المفسر السمين الحلبي في (( عمدة الحفاظ )) ما نصه (1): (( ويقال شبه وشبه وشبيه نحو مثل ومثل ومثيل . وحقيقتها في المماثلة من جهة الكيفية كاللون والطعم المشار إليهما بقوله تعالى : {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } [سورة البقرة ] )) اهـ .

قال أبو سليمان الخطابي فيما رواه عنه الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ما نصه (1) : (( إن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة ، فإن الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وعن صفاته منفية )) اهـ .

وقال الحافظ السيوطي في (( الكنز المدفون )) ما نصه (2) : (( لا يقال للمعبود كيف هو ، لأنه يستخبر بكيف عن الهيئة والحال ، والله سبحانه لا هيئة له ولا حال )) اهـ .

فظهر أن الكيف من صفات المخلوقين ، وفيما ذكرناه رد على الوهابية الذين يقولون إن الاستواء له كيفية لكن لا نعلمها .

وأما قول الوهابية : مراد مالك بقوله : (( الكيف غير معقول )) أي لله كيف لكن لا نعقله أي لا نعلمه على زعمهم ، فهو تقول عليه ولا أساس له من الصحة ، ويرده قول الإمام مالك نفسه : (( وكيف عنه مرفوع ))، وهذا ثابت عنه ، معناه ظاهر وواضح ، وهذا تصريح منه بأن الكيف مرفوع عن الله أي منفي عن الله أي لا يوصف بالكيف أي ليس استواء الله على العرش كيفا أي هيئة كاستواء المخلوقين من جلوس واستقرار . فالعجب من الوهابية عشاق التجسيم كيف يتمسكون بقول مالك : (( الكيف غير معقول )) – ولا حجة لهم في ذلك- مع تحريفهم للمعنى ويتركون قوله الآخر : (( وكيف عنه مرفوع )) لهوى في أنفسهم ، فظهر بذلك بطلان قولهم (3) : (( إن معنى قولنا (( بدون كيف )) ليس معناه أن لا نعتقد لها كيفية بل نعتقد لها كيفية لكن المنفي علمنا بالكيفية )) اهـ .

وأما زجر الإمام مالك للرجل بقوله : (( أنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه )) فلأن الرجل سأله بقوله :
((كيف استوى )) أي سأله عن كيفية الاستواء وقد علمت أن الله منزه عن الكيف لأن الكيف من صفات المخلوقين .
بيان
هل الاستواء صفة ذات أم صفة فعل

قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي الأندلسي (ت543) في (( عارضة الأحوذي )) (1): (( وأما قوله : ينزل ويجيء ويأتي وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لا تجوز على الله في ذاته معانيها فإنها ترجع إلى أفعاله . وها هنا نكتة : وهي أن أفعالك أيها العبد إنما هي في ذاتك وأفعال الله سبحانه لا تكون في ذاته وإنما تكون في مخلوقاته فإذا سمعت الله يقول : أفعل كذا فمعناه في المخلوقات لا في الذات ، وقد بين ذلك الأوزاعي حين سئل عن هذا الحديث – أي حديث النزول – فقال : يفعل الله ما يشاء )) اهـ .

قال ابن بطال المالكي في شرحه على (( صحيح البخاري )) ما نصه (2) : ((اختلف أهل السنة هل الاستواء صفة ذات أو صفة فعل ؟ فمن قال هو بمعنى علا جعله صفة ذات وأن الله تعالى لم يزل مستويا بمعنى أنه لم يزل عاليا . ومن قال إنه صفة فعل قال إن الله تعالى فعل فعلا سماه استواء على عرشه لا أن ذلك الفعل قائم بذاته تعالى لا ستحالة قيام الحوادث به )) اهـ .

قال الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ما نصه (3): (( وذهب أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة أو غيرها من أفعاله . ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [سورة الأعراف ]،و (( ثم )) للتراخي والتراخي إنما يكون في الفعال ، وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة )) اهـ .ثم قال البيهقي بعد أن ذكر عن بعض الشاعرة أن استوى بمعنى علا ما نصه (1) (( قلت : وهو على هذه الطريقة من صفات الذات ، وكلمة (( ثم )) تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء ، وهو كقوله:
{ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } [سورة يونس ] )) اهـ.

فتبين بذلك أن من قال الاستواء صفة ذات فمراده الاستواء العلو أي العلو المعنوي لا الحسي بالمسافة وأما المشبهة المجسمة إذا قالوا إن الاستواء صفة ذات يعنون بذلك على زعمهم أن الله يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان ، تعالى الله عن قولهم وتنزه عما يصفه هؤلاء المبتدعة.

وقال المفسر أبو حيان في تفسيره (2) : (( قال سفيان الثوري : فعل فعلا في العرش سماه استواء )) اهـ .

وقال الحافظ الفقيه اللغوي تقي الدين السبكي في رده على المجسم ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية ما نصه (3) :
((وقول : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [سورة الأعراف ] لحدوث العرش لا لحدوث الاستواء )) اهـ ،
فهذا ذهاب من السبكي إلى أن الاستواء وإن كان صفة فعل ، قديم غير حادثٍِِ كما هو مذهب السلف أبي حنيفة والبخاري وغيرهما فإنهما قالا إن فعل الله صفته في الأزل والمفعول مخلوق ، فما أقبح ما تتوهمه الجهلة من أن معنى الآية أن الله خلق السموات والأرض وهو أسفل العرش ثم ارتفع وصعد إلى العرش واستقر عليه أو في الفضاء بإزائه بلا مماسة عند بعضهم وبمماسة عند بعض ، وكلاهما كفر والله منزه عن الأمرين .

وقال القرطبي عند تفسير قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} [سورة فصلت] ما نصه (1) :
(( والاستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال )) اهـ .
بيان
أنه لا يقال إن الله استوى بذاته

اعلم أنه لم يرد في الكتاب والسنة ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أن الله استوى بذاته على العرش ، بل المجسمة هي التي زادت على قول الله عز وجل : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[سورة طه ] لفظة بذاته ، وإنما اتبعوا الوهم وما ألفوه من مشاهدة المخلوقات ، فقاسوا الخالق على المخلوق .

وقد أنكر الحافظ ابن الجوزي الحنبلي على المجسمة الحنابلة الذين قالوا بذلك ، والإمام أحمد بريء منهم فقال في كتابه (( الباز ))
ما نصه (1) : (( وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس فقالوا : (( استوى على العرش بذاته )) وهي زيادة لم تنقل إنما فهموها من إحساسهم وهو أن المستوي على الشئ إنما تستوي عليه ذاته ))اهـ .
فالاستواء بالذات من صفات الأجسام لأنه يصاحبه حركة وانتقال وتحيز فوق العرش والله منزه عن ذلك ، تعالى الله عما يقول المشبهة علوا كبيرا .

وقال المفسر أبو حيان في تفسيره (2) : (( وأما استواؤه تعالى على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا )) اهـ .

وقال الإمام أبو نصر القشيري : (( لو كان الأمر على ما توهمه الجهلة من أنه استواء بالذات لأشعر ذلك بالتغير واعوجاج سابق على وقت الاستواء ، فإن البارئ تعالى كان موجودا قبل العرش ، ومن أنصف علم أن قول من يقول :
(( العرش بالرب استوى )) أمثل من قول من يقول : (( الرب بالعرش استوى ))، فالرب إذا موصوف بالعلو وفوقية الرتبة والعظمة منزه عن الكون في المكان وعن المحاذاة )) اهـ ، نقله الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرح على الإحياء (1).

وسئل الشبلي عن قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ] فقال : (( الرحمن لم يزل ، والعرش محدث ، والعرش بالرحمن استوى )) اهـ رواه القشيري في رسالته (2) .

قال القاضي بدر الدين بن جماعة في (( إيضاح الدليل )) عن الذي قال استوى بذاته ما نصه (3): (( فقد ابتدع بهذه الزيادة التي لم تثبت في السنة ولا عن أحد من الأئمة المقتدى بهم )) . ولهؤلاء المشبهة نقول قال الذهبي في (( سير أعلام النبلاء )) ما نصه (4):
(( فقد ذكرنا أن لفظة بذاته لا حاجة إليها وهي تشغب النفوس )) اهـ .

ومنه تعلم أن قول المجسم ابن قيم الجوزية في كتابه المسمى (( الصواعق المرسلة )) (5): قول أهل السنة : استوى على عرشه بذاته أي ذاته فوق العرش عالية عليه )) اهـ ، لا أساس له من الصحة عن أهل السنة بل هو قول المجسمة نسبه على أهل السنة زورا وبهتاناًَ .

بيان
معنى من قال : الله بائن من خلقه

ينبغي أن يتنبه لمراد من قال من الأئمة : إن الله بائن من الأشياء ، ومن قال منهم : إنه تعالى غير مباين ، فإنه ليس خلافا حقيقيا ، بل مراد من قال : (( بائن )) أن الله لا يشبه المخلوقات ولا يماسها ،ومراد من قال : (( ليس مباينا )) نفي المباينة الحسية المسافية ، فمن نقل كلام من قال منهم .(( إنه بائن )) وحمله على المباينة المسافية والمحاذاة كابن تيمية فقد باين الصواب وقوّل أئمة الحق ما لم يقولوه ، فحذار حذار ممن يحمل كلامهم على غير محمله .

قال الحافظ البيهقي في كتابه (( الأسماء والصفات )) مبينا معنى من قال : (( ولا مباين عن العرش )) ما نصه (1) :
(( يريد به مباينة الذات التي هي بمعنى الاعتزال أو التباعد ، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها ، والقيام والقعود، من اوصاف الأجسام والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام ، تبارك وتعالى )) اهـ .

وقال أيضا (2) : (( وليست البينونة بالعزلة ، تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا )) اهـ .
بيان
أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( الكرسي موضع قدميه ))

من القواعد المهمة التي ينبغي معرفتها أن الصفة لله لا تثبت بقول صحابي ولا تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها ، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته . فمن هنا يعلم أن الحديث الذي يروى عن ابن عباس مرفوعا : (( كرسيه موضع قدميه )) والذي تلهث المجسمة في ذكره لإثبات بزعمهم قدمين لله يضعهما على الكرسي ، لم يثبت لأنه حديث ضعيف كما نص على ذلك الحفاظ.

قال الذهبي في (( الميزان )) في ترجمة شجاع بن مخلد الغلاّس ما نصه (1) : ((أخطأ شجاع في رفعه )) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في (( التقريب )) ما نصه (2) : (( صدوق ، وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف، فذكره بسببه العقيلي )) اهـ .

وقال الحافظ ابن الجوزي في (( الباز الأشهب )) ما نصه (3) : ((رواه جماعة من الأثبات فوقفوه على ابن عباس ورفعه منهم شجاع بن مخلد ، فعلم بمخالفته الكبار المتقنين أنه قد غلط ، ومعنى الحديث : أن الكرسي صغير بالإضافة إلى العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير )) اهـ . أي أن الكرسي حجمه صغير بالنسبة للعرش .

وقد روى البيهقي (4) عن ابن عباس : الكرسي موضع القدمين )) من غير إضافة ، وكذا قاله أبو موسى الأشعري من غير إضافة أي لم يقولا : (( قدميه )) بهاء الضمير ، قال البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ما نصه (1) : (( وتأويله عند أهل النظر: مقدار الكرسي من العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير ، فيكون السرير أعظم قدراً من الكرسي الموضوع دونه موضعا للقدمين ، والخبر موقوف لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم )) اهـ .

قال الحافظ السيوطي في تفسيره (2) : (( هذا على سبيل الاستعارة ،تعالى الله عن التشبيه ، ويوضحه ما أخرجه ابن جرير عن الضحاك قال : كرسيه الذي يوضع تحت العرش الذي تجعل الملوك عليه أقدامهم )) اهـ .

فليس لله تعالى صفة القدمين يضعهما على الكرسي ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شئ ، فالعجب من المجسمة كيف يقولون إن الله يضع قدميه على الكرسي ولا مستند لهم من ءاية أو حديث ، ولو ثبت أن الكرسي موضع القدمين لكان معناه أن الكرسي صغير بالنسبة للعرش ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن ابن عباس .
بيان
أن الوهابية يقولون صفات الله مخلوقة
وأن الله تحل في ذاته الحوادث والعياذ بالله تعالى
وأن الاستواء صفة مخلوقة ، تعالى الله عن قولهم

اتفق أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى أزلي ، واتفقوا أيضا على أن صفاته أزلية بأزلية الذات لأن حدوث الصفة يستلزم حدوث الذات ، واتفقوا أيضا أن ذات الله عز وجل لا تحل به الحوادث ، وخالف في ذلك الكرامية المبتدعة فقالوا إن الله تحدث في ذاته الحوادث واتبعهم ابن تيمية شبرا بشبر ثم جاء الوهابية وأخذوا هذه العقيدة من ابن تيمية .

وقد رد أهل السنة على الكرامية وفضحوهم نصره للحق ولتحذير الناس منهم ومن كان على معتقدهم ، فقد ذكر ابن التلمساني شيئا من معتقدات الكرامية الفاسدة التي تبناها ابن تيمية ، فقال الشيخ شرف الدين ابن التلمساني في شرح لمع الأدلة للجويني ما نصه (1):
(( وخالف إجماع الأمة طائفة نبغوا من سجستان لقبوا بالكرامية نسبة على محمد بن كرام ، وزعموا أن الحوادث تطرأ يعني تتجدد على ذات الله ، تعالى عن قولهم ، وهذا المذهب نظير مذهب المجوس . ووجه مضاهاته لمذهب المجوس أن طائفة منهم تقول بقدم النور وحدوث الظلمة ، وأن سبب حدوثها أن يزدان فكر فكرة فحدث منها شخص من أشخاص الظلمة فأبعده وأقصاه وهو هرمز ،وجميع الشر ينسب إليه . وكذلك الكرامية تزعم أن الله تعالى إذا أراد إحداث محدث أوجد في ذاته كافا ونونا وإرادة حادثة ، وعن ذلك تصدر سائر المخلوقات المباينة لذاته )) اهـ.

وقال الإمام أبو المظفر الأسفراييني ما نصه (1) : (( ومما ابتدعوه – أي الكرامية – من الضلالات مما لم يتجاسر على إطلاقه قبلهم واحد من الأمم لعلمهم بافتضاحه هو قولهم : بأن معبودهم محل الحوادث تحدث في ذاته أقواله وإرادته وإدراكه للمسموعات والمبصرات ، وسموا ذلك سمعاًَ وتبصرا ، وكذلك قالوا : تحدث في ذاته ملاقاته للصفحة العليا من العرش ، زعموا أن هذه أعراض تحدث في ذاته ، تعالى الله عن قولهم )) اهـ.

فتبين مما أوردناه أن ابن تيمية ليس له سلف إلا الكرامية ونحوهم ، وليس كما يدعي أنه يتبع السلف الصالح ، ومن المصيبة أن يأخذ مثل ابن تيمية بمثل هذه الفضيحة ، فمذهبه خليط من مذهب ابن كرام واليهود والمجسمة ، نعوذ بالله من ذلك .

وقد أجاب الإمام الحجة الأسفراييني في دحض هذه الفرية بقوله (2): (( اعتقاد أهل السنة والجماعة أن تعلم أن الحوادث لا يجوز حولها في ذاته وصفاته لأن ما كان محلا للحوادث لم يخل منها ، وإذا لم يخل منها كان محدثا مثلها ، ولهذا قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ }[ سورة الأنعام ] بين به أن من حل به من المعاني ما يغيره من حال على حال كان محدثا لا يصح أن يكون إلها )) اهـ.

فيكون بهذا ما توسع به ابن تيمية في كتبه من تجويز قيام الحوادث به تعالى وحولها فيه خارجا عن معتقد أهل السنة والجماعة ، أهل الحق .



فائدة : قال سيف الدين الآمدي في كتاب (( غاية المرام )) في علم الكلام ما نصه (3) : (( فالرأي الحق والسبيل الصدق والأقرب إلى التحقيق أن يقال : لو جاز قيام الحوادث به لم يخل عند اتصافه بها إما أن توجب له نقصا أو كمالا أو لا نقص ولا كمال ، لا جائز أن يقال بكونها غير موجبة للكمال ولا النقصان فإن وجود الشئ بالنسبة إلى نفسه أشرف له من عدمه ، فما اتصف بوجود الشئ له وهو مما لا يوجب فوات الموصوف ولا فوات كمال له ، وبالجملة لا يوجب له نقصا فلا محالة أن اتصافه بوجود ذلك الوصف له أولى من اتصافه بعدمه لضرورة كون العدم في نفسه مشروفا بالنسبة إلى مقابله من الوجود ، والوجود أشرف منه ، وما اتصف بأشرف الأمرين من غير أن يوجب له نقصا تكون نسبة الوجود إليه مما يرجع إلى النقص والكمال على نحو نسبة مقابله من العدم ، ولا محالة من كانت نسبته على ذلك وجود ذلك الوصف أشرف منه بالنسبة على عدمه ، ولا جائز أن يقال : إنها موجبة لكماله وإلا لوجب قدمها لضرورة أن لا يكون البارئ ناقصا محتاجا إلى ناحية كمال في حال عدمها ، فبقي أن يكون اتصافه بها مما يوجب القول بنقصه بالنسبة على حاله قبل أن يتصف بها ، وبالنسبة على ما لم يتصف بها من الموجودات ، ومحال أن يكون الخالق مشروفا أو ناقصا بالنسبة إلى المخلوق ، ولا من جهة ما كما مضى )) اهـ.


قال المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره ما نصه (1) : (( تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصل بالانتقال المعهود في غيره تعالى ، وان يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث )) اهـ.

فالحاصل أن الله تعالى أزلي وصفاته أزلية لا ابتداء لوجودها ، ولا يزال أبديا ولا تزال صفاته أبدية بأبدية الذات ، فالقائل بأن الله تعالى تحدث في ذاته إرادات في الأزل والأبد وكلام في الأزل والأبد على التعاقب تحدث بعضها بعد بعض، فإن أراد بذلك أنه يحدث الشئ في ذاته بفعله وبخلقه بعدما كان معدوما ، كان ذلك تناقضا وهو محال ، لأن ذاته أزلي فيستحيل أن تحدث في ذاته صفة ، وإن أراد أن غيره يحدثه فيه فذلك أصرح في القول بأنه حادث ، وذلك أيضا محال عقلا وشرعا . وإن قال : إنه يحدث ذلك الكلام وتلك الإرادات بلا فاعل أي لم يخلقها هو بنفسه ولا غيره خلقها فيه ، كان ذلك أيضا محالا، لأن حدوث شئ ما بلا مكون محال عقلا، قال المقري : [رجز ]

لأنه من المحال الباطل وجود شئ ما بدون فاعل

فكل من التقديرات الثلاثة يؤدي على المحال ، وما أدى على المحال محال ، ومن المعلوم أن دين الله لا يأتي بالمحالات العقلية بل الشرع يأتي بما يجوزه العقل ، لأن العقل شاهد للشرع فكيف يناقضه ؟

قال الإمام أبو جعفر الطحاوي السلفي (ت321 هـ ) في عقيدته التي ذكر أنها بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه :
(( ما زال – أي الله – بصفاته )) قديما قبل خلقه ، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته )) اهـ ، أي لم يزدد بكون الخلق أي وجودهم شيئا من الكمال ، بل كماله أزلي لا يزداد ولا ينقص .

وأما مخالفة ابن تيمية لأهل السنة في هذه المسئلة فيظهر من قوله (1) : (( ومن قال : إن الخلق حادث كالهشامية والكرامية قال : نحن نقول بقيام الحوادث به ، ولا دليل على بطلان ذلك ، بل العقل والنقل والكتاب والسنة وإجماع السلف يدل على تحقيق ذلك ، كما قد بسط في موضعه . ولا يمكن القول بأن الله يدبر هذا العالم إلا بذلك ، كما اعترف بذلك أقرب الفلاسفة إلى الحق كأبي البركات صاحب (( المعتبر )) وغيره )) اهـ.

وقال في (( المنهاج )) ما نصه (2) : (( فإن قلتم لنا : فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب ، قلنا لكم : نعم وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل )) اهـ.

ثم قال فيه ما نصه (1) : (( وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما ، فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به قلنا : ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ، ونصوص القرءان والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه، ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزه عن ذلك ، ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة ))اهـ .

وقال أيضا في كتابه (( المجموع )) ما نصه (2) : (( ونظير ذلك أن يقول : لو كان قد استوى على العرش لكان قد أحدث حدثا وقامت به الحوادث لأن الاستواء فعل حادث كان بعد أن لم يكن ، فلو قام به الاستواء لقامت به الحوادث ومن قامت به الحوادث فقد أحدث حدثا ، والله تعالى منزه عن ذلك . فإنه يقال له : الحادث في اللغة ما كان بعد أن لم يكن ، والله تعالى يفعل ما يشاء فما من فعل يفعله إلا وقد حدث بعد أن لم يكن )) اهـ .

أما الوهابية فقد قال أحد أبرز دعاتهم في كتابه المسمى (( تعقيبات على كتاب السلفية )) ما نصه (3) : ((صفات الأفعال والاستواء والنزول والخلق والرزق قديمة النوع حادثة الآحاد )) اهـ .

وقال عبد الله بابطين (ت1282هـ ) – يصفه الوهابية بأنه مفتي الديار النجدية في عصره – في تعليقه على (( لوامع الأنوار )) ما نصه (4) : (( صفات الله تعالى قسمان : صفات ذاتية كالحياة ... وصفات فعلية وهي التي تتعلق بمشيئته وحكمته فإن اقتضت حكمته فعلها فعلها وإن اقتضت حكمته أن لا يفعلها لم تكن ، وهذا مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة والكلام والنزول والاستواء وغير ذلك من صفات فعله ، فهذا يكون قديم النوع أو الجنس وإن كانت ءاحاده توجد شيئا فشيئا وحينا وءاخر ، ومن المعلوم أنه يوجد الفرق بين صفة الحياة والقدرة مثلا وبين صفة الاستواء ، فإن الأول لا شك أن الله موصوف به أزلا وأبدا جل وعلا، وأما الاستواء فلم يكن إلا بعد خلق العرش ، وكذلك صفة نزوله إلى السماء الدنيا )) اهـ .

انظروا إلى هذا الضلال الذي يتخبطون فيه ، يقولون الاستواء صفة حادثة بعد أن لم تكن ، ووالذي أرواحنا بيده لو عاشوا عمر نوح لما استطاعوا أن يأتوا بدليل ثابت عن عالم من علماء السلف أنه يقول بما زعم هؤلاء الوهابية وزعيمهم ابن تيمية ، وهذا يدل بكل وضوح على براءة السلف مما تعتقده الوهابية . وزعمهم ، أن الاستواء قديم النوع حادث الآحاد أي أن الله تعالى على زعمهم لم يزل يخلق عرشا قبل عرش ويستوي عليه وتحدث في ذاته استواءات عديدة ، وهذا كلام باطل لا يقوله من عرف معنى التنزيه .

ثم هذه هي عقيدة ابن تيمية المبتدع ، فقد نقل عنه الجلال الدواني- وهو عالم مشهور ترجمه الحافظ السخاوي ووثقه – في كتاب شرح العضدية بقوله (1): (( وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول به – أي بالقدم الجنسي – في العرش )) اهـ .أي أنه كان يعتقد أنجنس العرش أزلي أي ما من عرش إلا وقبله عرش إلى غير بداية وأنه يوجد ثم ينعدم ثم يوجد ثم ينعدم وهكذا ، أي أن العرش جنسه أزلي لم يزل مع الله ولكن عينه القائم الآن حادث على زعمه .

فإن قيل للوهابية : كم مرة عندكم حصل الاستواء على العرش . فإن قالوا : مرة واحدة ، قيل لهم : جعلتم الاستواء صفة حادثة عندكم مخلوقة ، لأن الاستواء حدث ووجد بعد أن لم يكن وهذا كفر وضلال ،وإلا فيما معنى زعمكم الاستواء قديم النوع حادث الآحاد، فإن النوع واحد – أي الاستواء كان مرة واحدة عندكم على زعمكم – والآحاد واحد، وإن قالوا : الاستواء على العرش حصل أكثر من مرة لأننا نقول الاستواء قديم النوع حادث الأفراد ، قيل لهم : قد قلتم قولا ما قال به أحد من أهل السنة قاطبة وخرجتم على القرءان والسنة والإجماع وصريح العقل.
بيان
أن الوهابية يقولون الله جالس على العرش
ومستقر عليه ، والعياذ بالله من الكفر

بعض الوهابية يزعمون أن هذا محض افتراء عليهم وأنه لا يوجد في كتبهم هذه العقيدة الكفرية ، فنقول لهؤلاء إن هذا ثابت عنكم ومما صرح به بعضكم ، وهي عقيدة المجسم المبتدع ابن تيمية (ت728هـ ) ، ومنه أخذها تلميذه المجسم المبتدع ابن قيم الجوزية (ت751هـ) ، وكذا الوهابية المجسمة أخذوها من ابن تيمية ، فلنثبت أولا عقيدة ابن تيمية وتلميذه من كتبهما ثم عقيدة الوهابية من كتبهم .

قال ابن تيمية ما نصه (1): (( وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن ،فما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ القعود والجلوس في حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد )) اهـ .

نقول: وهذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة فلا يثبت عن أحد منهم ذلك .

وقال في تفسير سورة العلق ما نصه (2) : (( ومن ذلك حديث عبد الله بن خليفة المشهور الذي يروى عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاره . وطائفة من أهل الحديث ترده لاضطرابه كما فعل ذلك أبو بكر الإسماعيلي وابن الجوزي وغيرهم ، لكن أكثر أهل السنة قبلوه ، وفيه قال : إن عرشه أو كرسيه وسع السموات والأرض، وإنه يجلس عليه فما يفضل منه قدر أربعة أصابع – أو ما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع- وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه )) اهـ .

ثم قال ما نصه (1) : (( وهذا وغيره يدل على أن الصواب في روايته النفي ، وأنه ذكر عظمة العرش ، وأنه مع هذه العظمة فالرب مستو عليه كله لا يفضل منه قدر أربعة أصابع ، وهذه غاية ما يقدر به في المساحة من أعضاء الإنسان )) اهـ .

فلينظر إلى قوله : (( يدل على أن الصواب في روايته النفي )) أي على زعمه أن رواية النفي وهي : (( لا يفضل من العرش شئ )) أصح من رواية (( أنه ما يفضل منه إلا أربع أصابع )) (2) .

ثم قال ما نصه (3) : (( ومن قال : (( ما يفضل إلا مقدار أربع أصابع )) فما فهموا هذا المعنى ، فظنوا أنه استثنى فاستثنوا فغلطوا ، وإنما هو توكيد للنفي وتحقيق للنفي العام ، وإلا فأي حكمة في كون العرش يبقي منه قدر أربع أصابع خالية ، وتلك الأصابع أصابع من الناس ، والمفهوم من هذا أصابع الإنسان ، فما بال هذا القدر اليسير لم يستو الرب عليه )) اهـ


وقال في المنهج ما نصه (4) : (( وأما قوله إنه يفضل عنه من العرش من كل جانب أربع أصابع فهذا لا أعرف له قائلا ولا ناقلا ، ولكن روى في حديث عبد الله بن خليفة أنه ما يفضل من العرش أربع أصابع يروى بالنفي ويروى بالإثبات ، والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي وابن الجوزي ، ومن الناس من ذكر له شواهد وقواه ، ولفظ النفي لا يرد عليه شئ فإن مثل هذا اللفظ يرد لعموم النفي كقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد )) أي ما فيها موضع، ومنه قول العرب : (( ما في السماء قدر كف سحابا ))، وذلك لأن الكف يقدر به الممسوحات كما يقدر بالذراع ، وأصغر الممسوحات التي يقدر بها الإنسان من أعضائه كف فصار هذا مثلا لأقل شئ. فإذا قيل : إنه ما يفضل من العرش أربع أصابع كان المعنى ما يفضل منه شئ ، والمقصود بيان أنه أعظم وأكبر من العرش ، ومن المعلوم أن الحديث إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فليس علينا شئ ، وإن كان قاله فلم يجمع بين النفي والإثبات ، فإن كان قاله بالنفي لم يكن قاله بالإثبات، والذين قالوه بالإثبات ذكروا فيه ما يناسب أصولهم كما بسط في غير هذا الموضع ، فهذا وأمثاله سواء كان حقا أو باطلا لا يقدح في مذهب أهل السنة ولا يضرهم )) اهـ .

فلينظر إلى قوله : (( ولفظ النفي لا يرد عليه شئ )) كيف يجيز نسبة هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كلام صريح في التجسيم ، وانظر أيضا إلى تجويزه أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( يفضل عنه أربع أصابع )) الذي هو أقبح من لفظ النفي وإن كان كلا اللفظين يقتضي إثبات المساحة والمقدار لذات الله ، وقد قام الدليل العقلي القطعي على استحالة ذلك على الله لأنه يلزم عليه أن يجوز على الله ما يجوز على سائر الأجرام كالشمس من الفناء والتغير ، وأن يكون مستدير الشكل أو مربعه أو مثلثه إلى غير ذلك ، وهل عرفنا عقلا أن الشمس محدثة إلا بالشكل ونحوه ، فلو كان الله كذلك كما هو مقتضى كلامه هذا لجازت الألوهية للشمس عقلا ، ومحال أن تثبت الألوهية لغير الله تعالى ، فما أدى على المحال العقلي وهو الكون ذا مقدار وشكل محال ، فثبت المطلوب وهو تنزه الله تعالى عن المقدار والمساحة والشكل.

ويقول في الفتوى الحموية بعد كلام ما نصه (1) : (( وذلك أن الله معنا حقيقة ، وهو فوق العرش حقيقة )) اهـ .

وأما عبارته في فتاويه فإنها صريحة في إثباته الجلوس لله فقال فيه ما نصه : (( فقد حدث العلماء المرضيون وأولياؤه المقربون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه ربه على العرش معه )) اهـ .

وقد نقل عنه هذه العقيدة أبو حيان الأندلسي النحوي المفسر المقرئ في تفسيره المسمى بالنهر قال : ((وقرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرنا وهو بخطه سماه كتاب العرش : إن الله يجلس على الكرسي وقد أخلى منه مكانا يقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تحيل عليه التاج محمد ابن علي بن عبد الحق البارنباري ، وكان أظهر أنه داعية له حتى أخذه منه وقرأنا ذلك فيه )) (2) . اهـ .

ونقل أبي حيان هذا كان قد حذف من النسخة المطبوعة القديمة ، ولكن النسخة الخطية تثبته . وسبب حذفه من النسخة المطبوعة ما قاله الزاهد الكوثري في تعليقه على السيف (3) ، قال : (( وقد أخبرني مصحح طبعه بمطبعة السعادة أنه استفظعها جدا فحذفها عند الطبع لئلا يستغلها أعداء الدين ، ورجاني أن أسجل ذلك هنا استدراكا لما كان منه ونصيحة للمسلمين )) . اهـ .

فلينظر العقلاء إلى تخبط ابن تيمية حيث يقول مرة إنه جالس على العرش ، ومرة إنه جالس على الكرسي ، وقد ثبت في الحديث أن الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في أرض فلاة فكيف ساغ لعقله .

والأعجب من ذلك نقله قول عثمان الدارمي (4) المجسم عن الله سبحانه وتعالى : (( ولو قد شاء لا ستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته ، فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض )) اهـ ، نعوذ بالله من مقت القلوب .

وقال تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه (( بدائع الفوائد )) ما نصه :
(( ولا تــنكــروا أنــه قـــاعد ولا تــنكــروا أنــه يــقعــده )) اهــ.

ولم يثبت ذلك عن أحد من أئمة السلف ولا عن الدارقطني وإن نسبه إليه هذا المجسم .

أما الوهابية فقد زعم عبد الرحمن بن حسن وهو حفيد محمد بن عبد الوهاب (ت1206هــ) أن الجلوس من صفات الله ، تعالى الله عما يقول المشبهة علوا كبيرا ، وقد أخذ هذا المجسم عقيدة التجسيم من مدرسة جده محمد بن عبد الوهاب المجسم ، فقد قال في كتابه المسمى (( فتح المجيد )) ما نصه (2) : (( فإذا سمعوا شيئا من محكم القرءان ومعناه حصل معهم فرق أي خوف ، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له ، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين ، قال الذهبي : حدث وكيع عن إسرائيل بحديث: (( إذا جلس الرب على الكرسي )) فاقشعر رجل عند وكيع ، فغضب وكيع وقال : أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذا الأحاديث ولا ينكرونها )) انتهى كلامه بحروفه .

وما ذكره ليس بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت عن أحد من الأئمة قوله بالجلوس بل هذا من الكذب عليهم ، فانظر أيها القارئ كيف يصفون الله تعالى بالجلوس الذي هو من صفات البشر ، ويموهون على الناس بنسبة هذا القول إلى علماء المسلمين لينشروا هذا الاعتقاد الفاسد .




ومن العجب العجاب استشهاده بالكفر في وصف الله بالجلوس وزعمه أنه صفة لله وتركه بالاستشهاد بالمتشابه من الصفات التي وردت في القرءان والسنة كالوجه واليد والعين والغضب ونحوها ، وهذا مما يدل على اعتقاده التجسيم ، ولا يجديهم نفعا أن يقولوا أي الوهابية إنه أي حفيد محمد بن عبد الوهاب ينقل عن فلان أو فلان لأن نقله مقرا ومستشهدا في الرد على من ينكر صفات الله كما زعم . وقد جاء على غلاف الكتاب ما نصه : (( راجع حواشيه وصححه وعلق عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية )) اهـ، وابن باز هذا (ت 1420 هـ )هو زعيم الوهابية لم يعلق على هذا الموضع بالرد والتفنيد والإنكار مع أنه هو وجماعته ينكرون على أهل السنة أمورا ليست مخالفة للشرع كالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، واستعمال السبحة ( المسبحة ) ، وقول : صدق الله العظيم بعد الانتهاء من قراءة القرءان ، وقراءة القرءان على الميت ، وغيرها ، وهذا الكتاب هو من الكتب المعتمدة عندهم في العقيدة ، يطبعونه ويوزعونه ويعلمونه للناس ، انظروا كيف ينشرون الكفر بتشبيههم لله بمخلوقاته ، ولا يجديهم نفعا قولهم جلوس لا كجلوسنا فنسبة الجلوس لله كفر كيفما كان ذلك الجلوس الذي يزعموه ، فإن الجلوس من صفات المخلوقين .

وقال سليمان بن سحمان النجدي الوهابي ( ت1349 هـ ) في تعليقه على كتاب (( لوامع الأنوار البهية )) نقلا عن ابن تيمية المجسم مقرا وموافقا له – الذي نقل عن المجسم عثمان بن سعيد الدارمي - مقرا وموافقا له ما نصه (1) : (( الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء ، لأن أمارة ما بين الحي والميت والتحرك )) اهــ، فإذا كان هذا الكلام باطل عندهم فلماذا لا ينكرونه ويسكتون عليه !!! .

فليحذر طالب العلم من هذه الشرذمة المجسمة ، ونحمد الله تعالى أن وفقنا لعقيدة أهل الحق .

وأما قولهم أي الوهابية بالاستقرار على العرش فهم لا ينكرونه بل يقولونه لفظا واعتقادا .

قال أحد زعماء الوهابية في كتابه (( شرح العقيدة الواسطية )) ما نصه (1) :
(( فإن سألت مامعنى الاستواء عند أهل السنة والجماعة فمعناه العلو والاستقرار؟ )) اهـ ، أما أن العلو قال به قسم من أهل السنة فصحيح لا غبار عليه ولا يعنون به علو المسافة كما يزعم الوهابية ، لكن زعمه أن أهل السنة قالوا : الاستواء هو الاستقرار فكذب محض وفرية بلا مرية ، والله حسيبهم يوم القيامة ، وكم لهم من كلام يتقولون به على أهل السنة وأهل السنة منهم بريئون مما ينسبون إليهم ، وهكذا شأن أهل البدع ينسبون ما هم فيه من ءارائهم ومعتقداتهم الفاسدة إلى أهل السنة والجماعة تسترا بهم ، ولقد قيل :

اظــهروا لــلـناس نـسـكا وعــلى الــمـنـقـوش داروا

ومما يدل على افترائهم على أهل السنة قول ناصر الألباني (ت1420هــ) الوهابي المجسم الذي يعتبرونه مرجعهم في علم الحديث – وهو خارجي على أهل الحديث – في كتابه (( مختصر العلو )) (2) : (( نسبة الاستقرار على الله مما لم يرد ، فلا يجوز اعتقاده (3) ونسبته إلى الله عز وجل ، لذلك ترى الذهبي رحمه الله أنكر على من قال ممن جاء بعد القرون الثلاثة : إن الله استوى استواء
استقرار )) اهـ، وكتاب الذهبي المسمى ب (( العلو )) هو عمدتهم فالعجب من الوهابية كيف يقولون بالاستقرار والذهبي – هو صاحب ابن تيمية – ينكره في أكثر من موضع من كتابه (4) ، وفي ذلك دليل على أنه لم يثبت عن أحد من علماء السلف القول به ، فلا تغتر بكلام الوهابية أو غيرهم ممن يقولون بذلك ، فأنه مذهب رديء مردود على قائله كائنا من كان .

وفي كثير من كتب الوهابية يقولون فيها الاستواء هو الاستقرار ، فلا نطيل بذكرها ، وما أشرنا إليه يكفي لتنبيه اللبيب ، نسال الله السلامة وأن يجنبنا حر اللهيب .
فصل
في إزالة شبه المانعين من تفسير
الاستواء بالاستيلاء

الشبهة الأولى :

يقول أحد مجسمة الوهابية : (( ما يستند إليه هؤلاء المعطلة في زعمهم هذا من قولهم أن تفسير استوى باستولى أمر مشهور في اللغة ، هو قول باطل مردود لأنه لم يثبت عند أحد من أهل اللغة أن لفظ استوى يصح استعمالها بمعنى استولى ، بل إن هذا القول منكر عند اللغويين )) اهـ .

وقال ءاخر منهم أيضا : (( لم يرد في اللغة العربية أن استوى بمعنى استولى )) اهـ .

وقال ءاخر أيضا : (( لم ينقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتد بقولهم )) (2) اهـ .

قلنا : يعني هذا الوهابي ب (( المعطلة )) من تأول من أهل السنة والجماعة الاستواء بالاستيلاء ، وهم أي الوهابية والمعتزلة المبتدعة سواء في عدائهم لأهل السنة ، فالمعتزلة قالوا عن أهل السنة مجبرة لأنهم أي أهل السنة يقولون كل شئ بقدر ما كان خيرا وما كان شرا والمعتزلة ضد هذه العقيدة يقولون الشر ليس بقدر الله ، وهذا كفر والعياذ بالله ، وعليهم من الله ما يستحقون .

ومن تناقض الوهابية أنهم يذكرون أن ابن الأعرابي يقول إن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى ثم يذكرون له قولا ءاخر يعارض قوله الأول ( انظر الشبهة الرابعة عشرة ) مستدلين به على أن الاستيلاء يكون مع مغالبة وهذا يدل على تهورهم وعدم التثبت وأنهم يقولون ما لا يعقلون .

أما الدليل على أن هذا التفسير سائغ في اللغة فنثبته كالتالي :

قال اللغوي أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصبهاني (ت502هـ) ما نصه (1) : (( ومتى عدي – أي الاستواء – ب (( على )) اقتضى معنى الاستيلاء كقوله : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ سورة طه ] )) اهـ


وقال اللغوي أبو عبد الرحمن عبد الله بن يحيى بن المبارك اليزيدي (2) (ت237هـ ) ما نصه (3) :{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ] : استولى )) اهـ ، وابن المبارك هذا كان من أصحاب اللغوي المشهور أبي زكريا يحيى ابن زياد الفراء (ت207هـ) ، قال أحمد بن يحيى النحوي (4): (( ما رأيت في أصحاب الفراء أعلم من عبد الله بن [ أبي ] محمد اليزيدي – وهو أبو عبد الرحمن – وخاصة في القرءان ومسائله )) اهــ .

وقال الإمام المجتهد أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) في تفسيره ما نصه (5) : (( الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه )) ، ثم ذكر هذه الوجوه ثم قال : (( ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم : استوى فلان على المملكة بمعنى احتوى عليها وحازها )) اهـ .

فهذا ابن جرير وهو من السلف نص على أن الاستواء بمعنى الاستيلاء من لغة العرب .

وقال اللغوي أحمد بن محمد بن علي الفيومي ( توفي نحو 770هــ) ما نصه (1) : (( واستوى على سرير الملك : كناية عن التملك وإن لم يجلس عليه )) اهـ .

وقال اللغوي أبو إسحاق الزجاج (ت311 هـ ) : (( وقالوا: معنى استوى :استولى )) (2) اهـ ، وقد ذكره بصيغة الجمع ، الأمر الذي يدل على أن هذا المعنى كان مقررا معروفا عند اللغويين .

وقال اللغوي أبو القاسم الزجاجي (ت340 هـ ) ما نصه (3) : (( فقول العرب : علا فلان فلانا أي غلبه وقهره كما قال الشاعر :

فــلـما عــلــونــا واســتويــنـا عــلـيـهم وتـركــناهــم صــرعــى لـنسر وكــاسـر

يعني غلبناهم وقهرناهم واستولينا عليهم )) اهــ ، أبو القاسم هذا يقول فيه الذهبي (4) في (( السير )) :
(( شيخ العربية )) اهـ ، وهذا منه نص صريح بأن العرب تقول استوى بمعنى القهر والغلبة الذي هو الاستيلاء .

وقال اللغوي محمد بن أبي بكر الرازي ( كان حيا سنة 666هـ ) ما نصه (5) : (( واستوى أي استولى وظهر )) اهـ .

وكذا قال مثله اللغوي ابن منظور (ت711 هـ) في (( لسان العرب )) (6) ومن اللغويين أيضا الفيروزابادي (7) (ت718هـ ) ، فقد فسر الاستواء بالقهر والقدرة في كتابه (( البصائر )) وبالاستيلاء في كتابه (( القاموس )).

وقال الشاعر وهو الأخطل (ت90هـ ) :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

أي أنه سيطر على العراق وملكها من غير حرب وإراقة دماء .

وقال اللغوي الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في (( شرح الإحياء )) (1) : (( فإنه قد ثبت إطلاقه وإرادته لغة )) اهـ، أي تفسير استوى باستولى .





• أما من احتج بهذا البيت من اللغويين والفقهاء والأصوليين والمفسرين فأكثر من أن يحصى ويحصر بين دفتي هذا المصنف ، ولكن نذكر عددا من أبرزهم وإلا فإنه تغنيك عن البحر مَصّةُ الوَشَلِِ ، وفي طلعة الشمس ما يُغنيك َ عن زحل ، ومن جملة من احتج به من اللغويين : أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي (2) (ت756هـ ) ، ومحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (3) ،وأبو حيان الأندلسي (4) (ت745 هـ ) وخاتمة اللغويين الحافظ محمد بن محمد الحسيني الشهير بمرتضى الزبيدي (5) (1205هـ) .

وقال ءاخر:

هما استويا بفضلهما جميعا على عرش الملوك بغير زور
ذكره اللغوي المفسر أبو حيان في تفسيره (6) .

وقال الشاعر :

إذا ما غزى قوما أباح حريمهم وأضحى على ما ملكوه قد استوى

ذكره المفسر الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في (( الباز الأشهب )) (1) مستشهداً به .

وقال ءاخر :

أذكر بلانا بصفين ونصرتنا حتى استوى لأبيك الملك في عدن
ذكره الإمام أبو المعين النسفي في (( التبصرة ))(2).

وقال الشاعر :

فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر

وقد استشهد بهذا البيت من اللغويين : المفسر أبو حيان الأندلسي (3) ،والحافظ محمد مرتضى الزبيدي (4) لكن عنده :
(( مرعى )) و((طائر )) بدل : (( صرعى )) و(( كاسر )) ، واللغوي الكبير أبو القاسم الزجاجي (5) (ت340 هـ ) شيخ العربية.

فهذه أقوال بعض من وقفنا على كلامهم من اللغويين المتقدمين والمتأخرين الذين قالوا بأن تفسير الاستواء بالاستيلاء من لغة العرب ، فبالتمسك بقول ابن الأعرابي فقط لرد هذا التفسير من دون الرجوع إلى من ذكرنا من أئمة اللغة تحكم وتعام عن الحقيقة . على أن ابن الأعرابي ليس مجسما كالوهابية بل هو يؤول كما أول (( العرش )) بالملك كما نقل عنه اللغوي الزبيدي في
(( شرح القاموس)) ( ج4/321 ) والوهابية تعتبر من يؤول معطلاًَ )) !
الشبهة الثانية :

إذا قال لك المجسم ( الوهابي ) : سلّمنا أن الاستواء في اللغة من معانيها الاستيلاء والقهر ، لكن الاستيلاء معناه المغالبة فيلزمكم على هذا أن يكون الله له منازع ينازعه والله لم ينازعه أحد في العرش .

قلنا : الاستواء معناه القهر والغلبة والاستيلاء ، وتفسير الاستواء بالاستيلاء لا يقتضي المغالبة لأن المراد به القهر وقد وصف الله تبارك وتعالى نفسه بأنه القاهر فوق عباده ، قال تعالى : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ سورة الأنعام ] ، وقال : {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [سورة الرعد ] .

فإن قالوا : قهر لا يدل على أنه كان مغالبا (1) .

قلنا : وكذلك الاستيلاء لا يقتضي أنه كان يتشاجر ويتغالب مع غيره فغلبه الله ، لأن الاستيلاء المراد به القهر كما ذكرنا .

قال الإمام أبو نصر عبد الرحيم القشيري (ت514 هـ ) في الرد على المجسمة وبعد أن تأول الاستواء بالقهر ما نصه :
(( ولو اشعر ما قلنا توهم غلبته لأشعر قوله : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }[ سورة الأنعام ] بذلك أيضا حتى يقال كان مقهورا قبل خلق العباد ، هيهات إذ لم يكن للعباد وجود قبل خلقه إياهم )) اهـ، نقله الحافظ الزبيدي في شرح الإحياء (2) .

وقال إمام الحرمين عبد الملك الجويني (ت478 هـ) ما نصه (3) : (( فإن قيل : الاستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مكافحة ومحاولة ، قلنا : هذا باطل ، إذ لو أنبأ الاستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر )) اهـ .

وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري ( ت 1371هـ ) في تعليقه على (( الأسماء والصفات )) ما نصه (4) :
(( من حمله على معنى الاستيلاء حمله عليه بتجريده من معنى المغالبة )) اهـ .




نقول : نحن أهل السنة وصفنا الله بما هو لائق به وهو الاستيلاء ومعناه القهر أما المجسمة فوصفوه بما هو غير لائق به وهو الاستقرار وهذا يقتضي سبق الاضطراب والاعوجاج وذلك محال في وصفه تعالى ، فما شنعوا به علينا يلزمهم ومنطبق عليهم لأنهم شبهوه بخلقه ووصفوه بما لم يصفه به أحد من أهل السنة لا من السلف ولا من الخلف إلا أن يكون من أسلافهم المجسمة . ويورد عليهم قوله تعالى : {وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [سورة النساء] فإن أهل العلم بالتفسير قالوا : معناه لم يزل كذلك .

ويورد عليهم أيضا قوله تعالى : {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [سورة المجادلة ] ، فهل يقولون إن الله تعالى كان ينازعه ويغالبه الكفار والمشركون ثم صارت الغلبة لله ، فإن قالوا منفي عن الله ، قلنا : كذلك قولوا في استولى فليس المراد منها المغالبة في حق الله وإن كان ذلك في الغالب إذا أطلقت على البشر ، فلذلك انتبه أحد مجسمة الوهابية ودعاتهم البارزين فقال في كتابه
(( شرح العقيدة الواسطية )) ما نصه (1) : (( إن الغالب من كلمة استولى أنها لا تكون إلا بعد مغالبة ولا أحد يغالب الله )) اهـ ، فعجبا لهم ! فلماذا إذا يصرون على حمل معنى استولى على المغالبة في جميع استعمالاتها ؟ مع أنها تستعمل لغير المغالبة أيضا .

ومما يدل على أنها تستعمل لغير المغالبة ما قاله أهل اللغة والمفسرون في تفسير قوله تعالى حكاية عن قول المنافقين للكفار :
{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } [سورة النساء ]، أي ألم نستول عليكم بالموالاة لكم ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون للمسلمين إذا غنموا أعطونا من الغنيمة وإذا حصل للكافرين ظهور على المسلمين قال المنافقون للكافرين أعطونا مما أصبتم الم نستحوذ عليكم أي بالاستيلاء والغلبة أي الم نستول عليكم ونحافظ عليكم وذلك بأننا تمكنا من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك وأبقينا عليكم {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [سورة النساء ] بأن ثبطناهم عنكم .

قال اللغوي الفيروزابادي في (( القاموس )) ما نصه (1) : (( واستحوذ : غلب واستولى )) اهـ، وقال ابن منظور في
(( لسان العرب)) ما نصه (2) : وقال أبو إسحاق : معنى { أَلَمْ نسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمْ }: ألم نستول عليكم بالموالاة لكم )) اهـ. فأهل اللغة عبروا باستيلاء وغلبة المنافقين على الكفار هنا ولم يكن قتال ولا مغالبة ولا شجار ولا منازعة بين الكفار والمنافقين ،فهذا دليل على أن الاستيلاء عندهم ليس في كل موارده يكون على معنى المغالبة والمنازعة .

ويقال أيضا : استحوذ الشيطان على الكفار بمعنى استولى على قلوبهم ، قال الله تعالى عن الكفار: { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ }
[سورة المجادلة ]، قال البغوي في تفسيره (3) عند تفسير هذه الآية : (( غلب واستولى )) اهـ ، وقال اللغوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره (4): (( أي أحاط بهم من كل جهة وغلب على نفوسهم واستولى عليها )) اهـ ، فهل كان الكفار يتشاجرون وينازعون ويغالبون الشيطان حتى استولى عليهم !.

ومما يدل على أن الاستيلاء يستعمل مجردا عن المغالبة والمنازعة ما فسر به ابن عباس رضي الله عنهما قوله الله تعالى إخبارا عن إبليس : {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } [سورة الإسراء ]، قال : (( لأستولين عليهم )).

والمراد بالذرية ذرية ءادم عليه السلام ، ذكره الفراء في كتابه (( معاني القرءان )) (5) ، وأسنده ابن جرير في تفسيره (6) عن الصحابي الجليل عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه فسر ابن جرير الآية فقال (7) : (( يقول : لأستولين عليهم ،وعن مجاهد قال : لأحتوينهم ، وعن ابن عباس : لأستولين ، قال ابن زيد : لأضلنهم . وهذه الألفاظ وإن اختلفت فإنها متقاربات المعنى لأن الاستيلاء والاحتواء بمعنى واحد وإذا استولى عليهم فقد أضلهم )) انتهى باختصار ، والفراء من كبار اللغويين ومشاهيرهم ، وابن عباس من فصحاء العرب فهما عبرا باستيلاء الشيطان على قلوب بني ءادم إلا قليلا منهم وليس ثَمّت منازعة ولا مغالبة بين الشيطان وبين من أضلهم من البشر ، وإنما كان استيلاؤه عليهم بالوسوسة والاستمالة إليه ليضلهم ويبعدهم عن طاعة ربهم .

وقال اللغوي أبو القاسم الأصبهاني في (( المفردات )) ما نصه (1): (( احتنك الجراد الأرض أي استولى بحنكه عليها فأكلها واستأصلها ، فيكون معناه – يعني قوله تعالى : {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } [سورة الإسراء ]- لأستولين عليهم استيلاءه على ذلك )) اهـ ، فهل الأرض كانت مغالبة ومنازعة للجراد حتى استولى عليها ؟ !!.

وقال النحوي اللغوي ابن مالك ( ت672 هـ ) في مقدمة كتابه (( التسهيل )) ما نصه (2) : (( هذا كتاب في نحو جعلته بعون الله مستوفياً لأصوله ، مستوليا على أبوابه وفصوله فسميته لذلك ... )) اهـ ، فأي مغالبة هنا ؟ فليفق المشبهون من غيهم وفسادهم ، وابن مالك هذا غني عن التعريف .

ولا بأس بذكر ما قاله الحافظ السيوطي في كتابه (( بغية الوعاة ))من الثناء والمدح وبيان مرتبة ابن مالك بين علماء النحو واللغة ونص عبارته (3) : (( إمام النحاة وحافظ اللغة ، وكان إماما في القراءات وعللها ، وأما اللغة فكان إليه المنتهى في الإكثار من نقل غريبها ، وأما النحو والتصريف فكان فيهما بحرا لا يجارى وحبرا لا يبارى .. )) اهـ .

وبعد هذا البيان الشافي لا يسع المنصف إلا أن يتبع ما جاء في لغة العرب وما أثبته اللغويون ، فعندهم أن الاستيلاء ليس في كل موارد استعمالها للمغالبة والمنازعة ، وكذلك فليكن تعبير من عبر من أهل السنة بأن الله استولى على العرش مجردا عن المغالبة والمنازعة ، والاستيلاء المراد به هنا القهر كما سبق بيان ذلك ، وبالله التوفيق .

ويستدل أيضا بقول الشاعر :

إن هــو مســتـولــيـا عــلى أحـــد إلا عــلى أضــعــف الــمـجــانـيـن

وهذا البيت يكثر استشهاد النحاة به في باب المشبهات ب (( ليس )) ومعناه أن الشاعر يصف رجلا بالعجز وضعف التأثير فيقول إنه ليس غالبا لأحد من الناس ولا مؤثرا فيه إلا أن يكون ذلك المغلوب والمؤثر عليه من ضعاف العقول ، فهذا الاستيلاء قد يحصل من دون مغالبة .
قاصمة :

من العجيب أن ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وأتباعهما الوهابية يشتد نكيرهم على تفسير الاستواء بالاستيلاء لأنهم يزعمون أنه يقتضي سبق المغالبة والعجز وكون العرش في ملك غيره ثم صار إليه مع أنهم يقولون : إن الله استولى على جميع خلقه . قال ابن تيمية في (( مجموع الفتاوى )) ما نصه (1) / (( فلما اتفق المسلمون على أنه يقال : استوى على العرش ولا يقال : استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال : استولى على العرش والأشياء )) اهـ ، وقال في موضع ءاخر ما نصه (2) : (( والاستواء مختص بالعرش باتفاق المسلمين مع أنه مستول مقتدر على كل شئ من السماء والأرض وما بينهما ))اهـ .

قال تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه المسمى (( بدائع الفوائد )) ما نصه (3) : (( بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على جميع خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرش ولا غيره ))اهـ.

والوهابية ينقلون كلام زعيميهما ( ابن تيمية وابن قيم الجوزية ) موافقين لهم في ذلك كما في الكتاب المسمى (( الكلمات الحسان )) (4) لأحد دعاة الوهابية وغيره من كتبهم .

فانظروا كيف يعيبون على غيرهم ما هم واقعون فيه ، فعلى مقتضى مذهبهم : الله كان مغالبا لخلقه ولم يكونوا في ملكه ثم صاروا إليه ،وهذا يهدم عليهم ما أنكروه علينا ، وبالله التوفيق .
الشبهة الثالثة :

يقول المانعون بأن قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

1- لا يعرف قائله فهو مجهول ، فكيف تحتجون بقول مجهول .
2- إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة .
3- ومنهم من يقول هو شاعر نصراني ، فكيف تستشهدون بكلامه .
4- ومنهم من يقول هذا البيت أنكره أئمة اللغة .

قلنا :أما الجواب عن المسئلة الأولى فنقول إن علماء اللغة استشهدوا به ، فقولهم حجة ، ولا يضر بعد ذلك أننا لم نعرف قائله ، وأهل مكة أدرى بشعابها وكم من أبيات استشهد بها اللغويون ولا يعرف قائلها .

وقد سبق بيان من استشهد به من علماء اللغة . على أن هذا البيت نسبه خاتمة اللغويين الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرح (1) على القاموس)) للأخطل (ت90 هـ ) ، وكذا ابن كثير (ت774هـ ) في تاريخه (2) فقال : ((وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق )) اهـ

والأخطل كان نصرانياً من شعراء العرب المتنصرة ، قال فيه الذهبي في (( السير )) (3) : شاعر زمانه )) اهـ .

وكذلك يستشهد بكلام العرب في الجاهلية مع كونهم عباداً للأوثان.

وأما المسئلة الثانية والرابعة فيجاب عنها بما أجبنا به في المسئلة الأولى ، على أنهم لم يذكروا من قال بأنه مصنوع ولا من أنكره من أئمة اللغة ، وغاية ما يذكرونه إنكار ابن الأعرابي لهذا التأويل ، وليس في رواية ابن الأعرابي أنه عرض عليه هذا البيت فرده وأنكره ، وإذا غاب عن ابن الأعرابي هذا التفسير فقد عرفه غيره من أئمة اللغة ، فلا يضر بعد ذلك أن قلنا به ، قال الشاعر :

إذا قــالــت حــذام فــصـدقــوهــا فــإن الـــقـول مــا قــالـــت حـــذام

وأما المسئلة الثالثة فنقول : إن كتب أئمة اللغة طافحة في الاستشهاد بكلام شعراء الجاهلية وكانوا يعبدون الأوثان والأصنام ويسجدون لهم ويشركون بالله تعالى ولم يمنعهم ذلك من الاستشهاد بكلامهم ، بل إن كتب اللغة فيها أيضا الاستشهاد بكلام الأخطل نفسه ، ولا يخفى حاله على ذي عينين ، فلا معنى لكلامهم إلا التهويل وتنفير الناس من هذا التأويل السائغ لغة وشرعاً ليوهموا العامة أننا نأخذ عقيدتنا من نصراني وهم أي الوهابية المجسمة أخذوا عقيدتهم من اليهود الذين نسبوا الجلوس لله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ً.

وعقيدتنا بحمد الله تعالى ثابتة راسخة هي عقيدة أهل السنة والجماعة مأخوذة من القرءان والسنة وإجماع الأمة ، والعقل شاهد لصحة هذه العقيدة وبالله التوفيق .
الشبهة الرابعة :

إذا قال المجسم الوهابي بأن استواء الله على العرش ورد في سبعة مواضع من القرءان ، ولم يرد في موضع منها استولى، فلو ساغ تأويلكم لكان عبر به القرءان .

قلنا : الأيات السبع التي وردت في القرءان هي :

1- قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [سورة الأعراف ].

2- قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [سورة يونس ].

3- قوله تعالى : {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [سورة الرعد ] .

4- قوله تعالى : {تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }
[سورة طه] .

5- قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } [سورة الفرقان ].

6- قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [سورة السجدة ] .

7- قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } [سورة الحديد ].

وجوابنا عما قالوه هو ما أجاب به الحافظ اللغوي الفقيه تقي الدين السبكي في رده على المجسم ابن قيم الجوزية ، ونص عبارته (1) : (( وهذا الذي قاله ليس بلازم فالمجاز قد يطرد )) اهـ .

وماذا يقولون في قول الله تعالى : {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } [سورة الفتح ] .

ويقال لهذا المجسم لم يأت لفظ استوى بمعنى جلس أو استقر في هذه المواضع السبعة كما تعتقدون ، فكيف تنكرون على غيركم ما أنتم واقعون فيه .
الشبهة الخامسة :

يقول أحد المجسمة : (( لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزاً ثم ظهر ، والله سبحانه لا يعجزه شئ والعرش لا يغالبه في حال ، فامتنع أن يكون بمعنى استولى )) اهـ .

قلنا : هذا المجسم نقله عن ابن تيمية (1) فهو عمدتهم في التجسيم كما علمت ، ونقول له : لا يجوز تفسير الاستواء بالاستقرار على العرش كما زعمتم لأن الاستقرار من صفات الأجسام باتفاق أهل السنة من السلف والخلف ، فقولكم إن الله مستقر على العرش تجسيم يمقته من رزق الفهم ، وقد سبق بيان تنزيه الله عن الاستقرار والجلوس ، فليراجع .

واعلم أن من الألفاظ الموضوعة في لغة العرب التي تحتمل أكثر من معنى منها أي من هذه المعاني ما هو مستحيل على الله ومنها ما هو لائق وصفه تعالى به ، فإذا أطلق على الله هذا اللفظ لا يحمل إلا على المعنى اللائق به لأنه سبحانه وتعالى موصوف بكل كمال يليق به ، مثاله لفظ الاستواء فإن من معانيه القهر والجلوس و الاستقرار وغيرها ، فالقهر صفة لائقة بالله وقد وصف نفسه بها ، أما الجلوس والاستقرار فمن صفات الأجسام ، فعندما نقول الله استوى على العرش يحمل على الاستواء اللائق بالله .

وكذلك لفظ القديم إذا أطلق على الله كان المعنى أنه لا بداية لوجوده ، فيقال : الله قديم ، إذا أطلق على المخلوق كان معنى تقادم العهد والزمن ، قال الله تعالى : {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [سورة يس ]، فالعرجون هو عذق النخل وهو شئ في أعل النخل فإنه إذا مضى عليه زمان ييبس فيتقوس ، فالقمر في ءاخره يصير بهيئة ذلك ، فهنا القديم جاء بمعنى الشئ الذي مضى عليه زمان طويل .

قال أبو المعين النسفي في كتابه (( التبصرة )) ما نصه (1) : (( وكون الاستيلاء إن كان في الشاهد عقيب الضعف ولكن لم يكن هذا عبارة عن استيلاء عن ضعف في اللغة ، بل ذلك يثبت على وفاق العادة ، كما يقال : علم فلان ، وكان ذلك في المخلوقين بعد الجهل ، ويقال : قدر ، وكان ذلك بعد العجز ، وهذا الإطلاق جائز في الله تعالى على إرادة تحقق العلم والقدرة بدون سابقة الجهل والعجز ، فكان هذا . على أن اللفظ الموضوع لمعنيين يستحيل أحدهما على الله تعالى ولا يستحيل الآخر يفهم منه إذا أضيف إلى الله تعالى ما لا يستحيل عليه دون ما يستحيل عليه . ففي اللفظ الذي ما وضع للضعف بل وضع لنفاذ السلطنة والتصرف وتثبت فيه سابقة الضعف لا بدلالة اللفظ بل يوافق العادة ، لأن لا يفهم منه ما يستحيل على الله أولى ، والله الموفق )) اهـ ، فمن أين لهؤلاء أن يقولوا إن العرب لا تستعمل استولى إلا في حق من كان عاجزاً ثم ظهر؟ وما دليلهم على أن استولى وضعت للضعف عند العرب ؟ أليس يقال عن ملك من الملوك امتد ملكه وسلطانه شرقاً وغرباً إذا دخل بليدة صغيرة : استولى عليها ؟ أكان ذلك عن ضعف وعجز ؟ ثم القهر قد يكون عن عجز وضعف وقد لا يكون ، والقهار من أسماء الله عز وجل ، فهو الذي قهر جميع خلقه وجعلهم تحت حكمه وتصرفه ولم يكن ذلك عن عجز منه ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

ثم نحن نلزمهم بحجة لا جواب لهم عنها إلا بما هو ينقض ويهدم أصول مذهبهم ، فنقول لهم : ماذا تقولون في قول الله تعالى :
{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ }[سورة التوبة ]، وقوله تعالى : { اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ سورة البقرة ] ،وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ضحك الله الليلة )) أو : (( عجب من فعالكما )) رواه البخاري (1). فإن قالوا تحمل على ما يليق بالله تعالى ، قلنا : وكذلك الاستيلاء يحمل على ما يليق بالله وهو الاستيلاء المجرد عن المغالبة والعجز والضعف ، فإن أبوا فقد تحكموا أي قالوا قولا لا دليل لهم عليه واتبعوا أهواءهم .

قال الفراء وهو أحد كبار اللغويين في كتابه (( معاني القرءان )) ما نصه (2) : (( و (( العجب )) وإن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد ، ألا ترى أنه قال : {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ } [ سورة التوبة ]، وليس السخري من الله كمعناه من
العباد ، وكذلك قوله : { اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [سورة البقرة] ليس ذلك من الله كمعناه من العباد )) اهـ ، ونسبة الضحك والتعجب إلى الله مجازية والمراد بهما الرضا بصنيعهما ، والمراد بالاستهزاء والسخرية أي أن الله يجازيهم على استهزائهم وسخريتهم .

فالحاصل أن الألفاظ المحتملة التي تكون للكمال بوجه وللنقصان بوجه وجب حملها أو جعلها كناية – على حسب موضعها من السياق – عن المعاني التي تجوز عليه سبحانه وتعالى ونفي ما لا يجوز عليه .
الشبهة السادسة :

إن قيل : إن حملتم الاستواء على الاستيلاء لم يبق لذكر العرش فائدة ، فإن ذلك في حق كل المخلوقات فلا يختص بالعرش.

قلنا : تخصيص العرش بالذكر لتشريفه ، إذ إضافة بعض الأشياء إلى الله تعالى تكون لتعظيم ذلك الشئ ، كما خص ناقة صالح بالذكر بالإضافة إليه تعالى فقال : {نَاقَةَ اللَّهِ }[سورة الشمس ] مع كون كل النوق متساوية من حيث الملكية لله تعالى .

ويقال أيضا : فائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم مخلوقات الله تعالى حجما فيعلم شمول ما دونه من باب الأولى ، فإذا قلنا : الله تعالى قهر العرش معناه قهر كل شئ ، فكل المخلوقات لما كانت دون العرش في الحجم كان الاستيلاء عليه استيلاء على جميعها ولا كذلك غيره .

قال الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ما نصه (1) : (( وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب أن كثيرا من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو قهر والغلبة ، ومعناه أن الرحمن غلب العرش وقهره ، وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته وأنها لم تقهره ، وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المملوكات ، فنبه بالأعلى على الأدنى )) اهـ .

ومما يدل على عظم حجم العرش ما رواه ابن حبان في صحيحه (2) وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة ))
الشبهة السابعة :

قال بعض الوهابية في رده على بعض علماء أهل السنة ما نصه : (( هذا البيت لو صح لم يكن فيه حجة ، بل هو حجة عليهم – يقصد أهل السنة – فإن بشرا هذا كان أخا لعبد الملك بن مروان وكان أميرا على العراق فاستوى على سريرها كعادة الملوك ونوابهم يجلسون على سرير الملك مستوين عليه ، ولو كان المراد بالبيت الاستيلاء والقهر والملك لكان المستولي على العراق عبد الملك بن مروان ، فإن بشرا نائب له على العراق ، ولا يقال لمن استولى على بلدة ولم يدخلها ولم يستقر فيها بأنه استوى عليها ، فلا يقال : استوى أبو بكر على الشام ولا استوى على مصر والعراق )) اهـ .

قلنا : عمدة الوهابية في المعتقد هو ابن تيمية ، هو أضلهم وأضر بهم كما أضر بغيرهم ، نعني بذلك ما قال تاج الدين السبكي (ت771هـ ) في طبقاته (1) : (( واعلم أن هذه الرفقة أعني المزي والذهبي والبرزالي وكثيرا من أتباعهم أضر بهم أبو العباس بن تيمية إضرارا بينا ، وحملهم من عظائم الأمور أمرا ليس هينا ، وجرهم إلى ما كان التباعد عنه أولى بهم ، وأوقفهم في دكادك من نار )) اهـ ، فإذا كان أمر هؤلاء كما وصفهم السبكي وهم من هم ، بالشرذمة الوهابية الذين ليس فيهم عالم ولا فقيه ولا محدث ، استحوذ عليهم الشيطان وزين لهم عقيدة ابن تيمية الباطلة فعكفوا على قراءة كتبه والأخذ منها بلا تمحيص ولا تدقيق فكانوا كالظل له ، بل زادوا على ضلاله ضلالات والعياذ بالله تعالى .

وهذه الشبهة التي ذكرها هذا المجسم الذي أخذها من ابن تيمية (2) لم يذكر مستنده فيها ، وزعمه أنه لا يقال استوى فلان على بلدة كذا إذا استولى عليها ولم يدخلها ولم يستقر فيها . فما الدليل عليه من كلام العرب ، وأين نص اللغويون على ذلك ، ومن اشترط الإقامة فيها ؟ ولقد قيل :

والــدعـاوى مــا لــم تـقـيــمــوا عــليـها بــيــنــات أبـــنـأؤهــا ادعــيــاء

ألا يقال إذا استولى جيش الملك على بلدة ما بأنه استوى على تلك البلدة أي قهر أهلها وغلبهم مع أن مستقره قد يكون في الغرب وتلك البلدة في الشرق . فإذا كان يقال استوى قائد الجيش على تلك البلدة بمعنى قهر أهلها وغلبهم أي استولى فمن باب أولى يكون الذي أرسله وهو ذلك الملك قاهر وغلب لتلك البلدة أي مستول عليها أي استوى عليها .

وزعمه أنه لا يقال استوى فلان على بلدة كذا إذا لم يدخلها ولم يستقر فيها لم يبنه على دليل وما بني على غير دليل فلا حجة فيه وأخذه ذلك عن ابن تيمية لا يسعفه وابن تيمية نفسه لم يقم عليه دليلا ، وقوله ليس بحجة .

فإذا كان الأمر كذلك سقط زعمه أنه لا يقال استولى عبد الملك على العراق وبالتالي سقط زعمه لا يقال استوى بشر على العراق . فصح عندئذ القول به .

ويقال أيضا عبد الملك بن مروان (ت86هـ )استولى على العراق بعد قتله مصعب بن الزبير سنة 71هـ أو 72هـ - على اختلاف في ذلك – وكان مصعب واليا على العراق فوليها من بعده بشر بن مروان (ت 75 هـ )
ومدحه الشاعر بقوله :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

قال الذهبي في تاريخه (( العبر )) ما نصه (1) : (( استولى عبد الملك على العراق وما يليها ، فأمر أخاه بشرا على العراق وبعث الأمراء على الأعمال وجهز الحجاج إلى مكة لحرب ابن الزبير )) اهـ ، وهذا رد على ما زعمه هذا المبتدع من أنه لا يقال استولى عبد الملك على العراق .
الشبهة الثامنة :

قال أحد مجسمة الوهابية في هذه العصر في كتابه المسمى (( الكلمات الحسان )) ما نصه (2) : (( السادس : أنه أتى بلفظة ( ثم ) التي حقيقتها الترتيب والمهلة ، ولو كان معناه القدرة على العرش والاستيلاء عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض فإن العرش كان موجودا قبل خلق السموات والأرض ، فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مستول على العرش إلى أن خلق السموات والأرض ؟! )) اهـ.

وقال مجسم ءاخر منهم : (( كلمة استوى قد جاءت بعد (( ثم )) التي حقها الترتيب والمهلة )) اهـ ثم ذكر مثل قوله حذو النعل بالنعل – وعمدتهم في ذلك ابن تيمية (1) المجسم – وزاد عليه هذا الوهابي استدلاله بحديث البخاري (2) الذي رواه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شئ ثم خلق السموات والأرض )) بأن العرش خلق قبل السموات والأرض .

قلنا : يرد عليهما وعلى غيرهما من مجسمة هذا العصر بما يلي :

أولا : لا يلزمنا ما قالوه فإننا نقول إن (( ثم )) في ءاية الاستواء ليست للترتيب في الحدوث والوقوع بل للترتيب في الإخبار ، أي أن الله قاهر للعرش قبل خلق السموات والأرض ، وقد سبق بيان ذلك مفصلا في باب (( بيان أن كلمة (( ثم )) تأتي بمعنى المهلة والتراخي كما تأتي بمعنى الإخبار )) ، وباب (( بيان معنى قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [سورة الأعراف ].

ثانيا : الحديث الذي ذكره حجة عليه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (( كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء )) ،قال المفسر ابن الجوزي الحنبلي في (( النزهة )) ما نصه (3) : (( كان : معناه في الأصل وقع ووجد )) اهـ ، فهل يزعمون أن الله وجد بعد أن لم يكن ! فإن قالوا : كان في الأول تفيد الأزلية وفي الثاني الحدوث بعد العدم ، قلنا : وكذلك قولوا كلمة (( ثم )) في ءاية الاستواء تفيد الإخبار فإن منعوا ذلك فليأتوا ببينة ، وعلينا البيان وعلى الله التكلان .

وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن سعد بن جبير قال : (( قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرءان أشياء تختلف عليَّ ))، فسأله عن مسائل ومنها قوله : (( قال تعالى : {وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [سورة النساء ] ، {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [سورة النساء ]،
{وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [سورة النساء ] ، فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس : { وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا } سمى نفسه ذلك ، وذلك قوله ، أي : لم يزل كذلك )) اهـ .

وقال القاضي بدر الدين بن جماعة في كتابه (( الإيضاح )) ما نصه (2) : (( فإن قيل : إنما يقال استولى لمن لم يكن مستوليا قبل أو لمن كان له منازع فيما استولى عليه أو عاجز ثم قدر ؟

قلنا : المراد بهذا الاستيلاء القدرة التامة الخالية من معارض ، وليس لفظة (( ثم )) هنا لترتيب ذلك بل هي من باب ترتيب الأخبار وعطف بعضها على بعض )) اهـ .
الشبهة التاسعة :

قال الوهابية (3) : الاستواء هو العلو وهو علو الذات ، قال مجاهد : استوى :علا ، وقال أبو العالية : {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء }
[سورة البقرة ] : ارتفع ، وقال ابن جرير : استوى : علا وارتفع .

قلنا : الاستواء قد يراد به العلو، والعلو على وجهين : علو مكان وعلو معنى أي علو قدر ، والذي يليق بالله هو علو القدر لا علو المكان ، لأنه لا شأن في علو المكان إنما الشأن في علو القدر ، ألا ترون أن حملة العرش والحافين حوله هم أعلى مكانا من سائر عباده وليسوا أفضل خلق الله ، بل الأنبياء الذين مكانهم تحت أفضل منهم ، ولو كان علو المكان يستلزم علو القدر لكان الكتاب الذي وضعه الله فوق العرش وكتب فيه : (( إن رحمتي سبقت غضبي )) (1) مساوياً لله في الدرجة على قول أولئك ، ولكان اللوح المحفوظ على قول بعض العلماء إنه فوق العرش ليس دونه مساويا لله في الدرجة بحسب ما يقتضيه زعمهم ، فعلى هذا المعنى يحمل تفسير مجاهد لقول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ سورة طه ] بعلا على العرش كما رواه البخاري (2) .

وقال الحافظ الفقيه تقي الدين السبكي في رده على المبتدع ابن قيم الجوزية ما نصه (3) : (( أسماء الله قديمة ، فإن لزم من العلي والأعلى كونه فوق جسم لزم قدم العالم )) اهـ .
قلنا : ومن قال بقدم العالم فهو كافر إجماعاً .

وقال في موضع ءاخر (4) : (( قال ابن القيم : (( تركيب استوى مع حرف الاستعلاء نص في العلو بوضع كل لسان )) ، نص في العلو أما في الذات فلا ، فقولك استوى قيس على العراق لا يستلزم أن يكون إذ ذاك في العراق بل ملكه فيها وعليها )) اهــ.

وقد أوهموا أن ابن جرير أراد بالعلو علو الذات والارتفاع بالمسافة وهذا محض افتراء يرد عليهم بكلام ابن جرير نفسه فإنه حمل العلو على علو الملك والسلطان ونزه الله عن الحركة والانتقال ، ونص عبارته في تفسيره (5) : (( فقل : علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال )) اهـ .

وقال عند تفسير ءاخر ءاية الكرسي ما نصه (6) : (( وأما تأويل قوله : {وَهُوَ الْعَلِيُّ } [سورة البقرة ] فإنه يعني : والله العلي ، والعلي : الفعيل من قولك علا يعلو علوا إذا ارتفع فهو عال وعلي ، والعلي : ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته )) اهـ.

وقال في موضع ءاخر ما نصه (1) : (({الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [سورة الرعد ] ، المتعال : المستعلي على كل شئ بقدرته ، وهو المتفاعل من العلو ، مثل المتقارب من القرب والمتداني من الدنوّ )) اهـ .

هكذا يفهم العلماء العلو في حق الله عز وجل ، فإن علو المكان إنما هو من صفات ذوي الحدوث والإمكان ، وجل القديم واجب الوجود عن الأمكنة والحدود . فتعالى الله عما يقول أهل الأوهام المحبوسون في سجون خيالاتهم القاصرة التي لا تدرك من الموجود إلا ما حصرته الحدود ورفعته الأمكنة ، فيحكمون على أحكم الحاكمين بأنه من أمثالهم ، تعالى الله عما يقول الجاهلون به علوّا كبيرا .
وأما قول أبي العالية فمرداه كما قال الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) (2) : (( ارتفاع أمره ، وهو بخار الماء الذي منه وقع خلق السماء )) اهـ .

فلا حجة يتمسك بها الوهابية المجسمة بعد ذلك في حمل العلو على العلو الحسي وهو العلو بالذات بالمسافة ، تعالى الله عن قولهم .
الشبهة العاشرة :

قال بعض زعماء الوهابية المجسمة إن صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل مذموم وهو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله ، قال (3): (( مثاله قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[ سورة طه]، ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش : استقر عليه وعلا عليه ، فإذا قال قائل: معنى استوى : استولى على العرش ، فنقول : هذا تأويل عندك لأنك حرفت اللفظ عن ظاهره ، ولكن هذا تحريف في الحقيقة لأنه ما دلّ عليه دليل ، بل الدليل على خلافه )) اهـ .

قلنا : تسمية هذا المجسم من تأول من أهل السنة ءاية الاستواء بالاستيلاء بأنهم محرفون ليس كما زعم لأن أهل السنة لا ينكرون على من ترك تأويل الآيات المتشابهة مع التنزيه ولا على من تأولها بما هو موافق للغة العرب ، بل السلف والخلف ينكرون تفسير الاستواء بالاستقرار لأن هذا تجسيم ، فالوهابية هم المجسمة المشبهة الذين وصفوا معبودهم تارة بالاستقرار على العرش وتارة بالجلوس ، تعالى الله عما يقول المشبهة علوا كبيرا .

فعلماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله اعتمادا على مجرد النظر بالعقل ، بل يتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع ليس أصلا للدين ، أما الوهابية فلا يتقيدون بالجمع بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عما جاء به الشرع ولا يتناقض معه ، إذ الشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقل كما هو مقرر عند أهل الحق .

قال الشيخ الفقيه شيث بن إبراهيم المالكي (توفي سنة 598هـ ) ما نصه (1) : (( أهل الحق جمعوا بين المعقول والمنقول أي بين العقل والشرع ، واستعانوا في درك الحقائق بمجموعهما فسلكوا طريقا بين طرقي الإفراط والتفريط ، وسنضرب لك مثالا يقرب من أفهام القاصرين ذكره العلماء كما أن الله تعالى يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ، فنقول لذوي العقول : مثال العقل العين الباصرة ، ومثال الشرع الشمس المضيئة ، فمن استعمل العقل دون الشرع كان بمنزلة من خرج في الليل الأسود البهيم وفتح بصره يريد أن يدرك المرئيات ويفرق بين المبصرات فيعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، والأحمر من الأخضر والأصفر ، ويجتهد في تحديق البصر فلا يدرك ما أراد أبدا مع عدم الشمس المنيرة وإن كان ذا بصر وبصيرة ، ومثال من استعمل الشرح دون العقل مثال من خرج نهاراً جهاراً وهو أعمى أو مغمض العينين ، يريد أن يدرك الألوان ويفرق بين الأعراض ، فلا يدرك الآخر شيئا أبدا ، ومثال من استعمل العقل والشرع جميعا مثال من خرج بالنهار وهو سالم البصر مفتوح العينين والشمس ظاهرة مضيئة ، فما أجدره وأحقه أن يدرك الألوان على حقائقها ، ويفرق بين أسودها وأحمرها وأبيضها وأصفرها .

فنحن بحمد لله السالكون لهذه الطريق وهو الطريق المستقيم وصراط الله المبين ، ومن زل عنها وحاد وقع في طريق الشيطان المتشعبة عن اليمين والشمال ، قال تعالى : {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }
[ سورة الأنعام ] )) اهـ.

ومن هنا يعلم أن المشبهة المجسمة تائهون في المعتقد لأنهم خالفوا الشرع والعقل بقولهم إن الله جالس على العرش ، وتارة يقولون إنه مستقر عليه ، ومنهم من يقول إن الله ترك مكاناً يجلس فيه معه محمدًا يوم القيامة ، وبقولهم إن الله متحيز في مكان فوق العرش بذاته ، وبقولهم إن الله يتحرك كل ليلة بنزوله من العرش إلى السماء الدنيا ، حتى إن بعض هؤلاء قال : إن الله يضع رجله في جهنم لكنها لا تحترق والعياذ بالله تعالى من الكفر ، ولهم غير ذلك من أقوالهم التي تدل على التشبيه والتجسيم لقياسهم الخالق على المخلوق ، واتباعهم الوهم .

فنحمد لله تعالى الذي جعلنا على منهج أهل السنة والجماعة الذين تكلموا في أمور التوحيد من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله ، وعلى صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقول هذا المجسم : (( صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل مذموم )) اهـ ،
حق أريد به باطل ليحمل ءاية الاستواء على ظاهرها من الاستقرار ونحوه من صفات الأجسام ليوافق ذلك مشربه الفاسد .

وقد سبق هذا المجسم أسلافه من المجسمة الذين قالوا إن الله جالس ومستقر على العرش ، وقد رد عليهم الإمام أبو نصر القشيري ونقله الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في (( إتحاف السادة المتقين )) فقال (1) : (( قال أبو نصر القشيري في (( التذكرة الشرقية )): (( فإن قيل أليس الله يقول : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[ سورة طه ] فيجب الأخذ بظاهره ، قلنا : الله يقول أيضا :
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [سورة الحديد ] ، ويقول : { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } [ سورة فصلت ] فينبغي أيضا أن نأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكون على العرش وعندنا ومعنا ومحيطا بالعالم محدقا به بالذات في حالة واحدة ، والواحد يستحيل أن يكون بذاته في حالة واحدة بكل مكان .

قالوا : قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ } يعني بالعلم ، و : {بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } إحاطة العلم قلنا : وقوله : { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
قهر وحفظ وأبقى )) اهـ ،انتهى نقل الزبيدي لكلام القشيري .

أي إن قالت المشبهة المجسمة لنا : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } نأخذ بظاهره فنقول إنه هناك ونثبت أنه ساكن على العرش قاعد عليه أو مستقر ، قلنا لهم : الله تعالى قال أيضا : {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } وقال : { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } فنحن إذا على زعمكم أخذنا بظاهر هاتين الآيتين كما أنتم أخذتم بظاهر استوى فقلتم ساكن فوق ، فيكون الله تعالى على كلامكم معنا وعلى العرش ومحيطا بنا وبالعالم هكذا كالدائرة فهل يصح عندكم ؟ فإن حملتم أنتم تلك على ظاهرها ونحن حملنا هاتين الآيتين على ظاهرهما ،
الله على زعمكم يكون بذاته فوق العرش ويكون بذاته مع كل شخص في الأرض ويكون كالدائرة المحيطة بما فيها فماذا تقولون ؟ فليس لهم جواب، فهل يصح في العقل أن يكون الله بذاته فوق ، وهو بذاته مع كل شخص لأن ظاهر قول الله تعالى :
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } أنه مع هذا بذاته ومع هذا ومع هذا ، وظاهر قول الله تعالى : { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } أن يكون هو كالدائرة تحيط بما فيها بما في ضمنها ، فهذا لا يعقل أي أن يكون الشئ الواحد في أماكن متعددة بذات واحد ، هذا معنى قول أبي نصر القشيري رحمه الله وهو حجة مفحمة قاطعة .

ثم نقل عنه الزبيدي ما نصه (1) : (( وقد نبغت نابغة من الرعاع لولا استنزالهم للعوام بما يقرب من أفهامهم ويتصور في أوهامهم لأجللت هذا الكتاب عن تلطيخه بذكرهم ، يقولون : نحن نأخذ بالظاهر ونحمل الآيات الموهمة تشبيها والأخبار الموهمة حدا وعضوا على الظاهر ولا يجوز أن نطرق التأويل إلى شئ من ذلك ، ويتمسكون على زعمهم بقول الله تعالى :
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [ سورة ءال عمران] . وهؤلاء والذي أرواحنا بيده أضر على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس
وعبدة الأوثان لأن ضلالات الكفار ظاهر يتجنبها المسلمون ، هؤلاء أتوا الدين والعوام من طريق يغتر به المستضعفون فأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلوا في قلوبهم وصف المعبود سبحانه بالأعضاء والجوارح والركوب والنزول والاتكاء والاستلقاء والاستواء بالذات والتردد في الجهات .

فمن أصغى إلى ظاهرهم يبادر بوهمه إلى تخيل المحسوسات فاعتقد الفضائح فسال به السيل وهو لا يدري )). انتهى نقل الزبيدي .

ومعنى المحسوسات أي الأشياء التي نراها بأعيننا من المخلوقات ،

فهؤلاء المشبهة يوهمون الناس أن الله مثل ذلك ، مثل هذه الأشياء البشر والضوء ونحو ذلك .

وعلم مما ذكرنا أن صرف اللفظ عن ظاهره فيما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهة ليس من قبيل اتباع الهوى والتحكم ، بل اتبعنا ما ذكره علماء الأصول من أن التأويل أي إخراج النص عن ظاهره لا يسوغ إلا لدليل عقلي قاطع أو سمعي ثابت ، وقد ثبت بالأدلة العقلية أن الله سبحانه وتعالى يستحيل عليه أن يوصف بالاستقرار أو بالجلوس على العرش . فلذلك كان السلف لا يحملون المتشابه على ظاهره ، وكانوا يقولون : أمروها كما جاءت بلا كيف ، فلو كانوا يحملونها على ظاهرها لما قالوا بلا تفسير لأن تفسير ظاهرها حينئذ معروف ومعلوم وهو الاستقرار والعلو الحسي وكلاهما يجب تنزيه الله عنهما ، فاكتفوا بالإيمان بها وحملها على معنى يليق بالله سبحانه وتعالى .
الشبهة الحادية عشرة :

قال الوهابية (1): (( إن الاستيلاء يكون مع مزايلة المستولي للمستولي عليه ومفارقته ، كما يقال : استولى عثمان بن عفان على خراسان، واستولى عبد الملك بن مروان على بلاد المغرب ، واستولى الجواد على الأمد ، قال الشاعر :

الا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجود إذا استولى على الأمد

فجعله مستوليا عليه بعد مفارقته له وقطع مسافته ، والاستواء لا يكون إلا مع مجاورة الشئ الذي يستوي عليه كما في قوله تعالى :
{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } [سورة هود] ... وهكذا في جميع موارد اللغة التي خوطبنا بها ، ولا يصح أن يقال : استوى على الدابة والسطح إذا نزل عنها وفارقها ، كما يقال : استولى عليها ، هذا عكس اللغة وقلب الحقائق ، وهذا قطعي بحمد لله )) اهـ . قلنا : توهم هذا الوهابي المجسم أنه أقام الحجة على أهل السنة بما زعمه حتى قال : (( وهذا قطعي بحمد الله )) وما ذكره ليس بقطعي ولا بحجة ، وزعمه أن الاستيلاء يكون مع مفارقة المستولي للمستولى عليه وأن الاستواء لا يكون إلا مع مجاورة لا دليل عليه لرد تأويل استوى باستولى ، لأن الاستيلاء المراد منه القهر كما سبق بيان ذلك ، وما ألزمنا به نلزمه بما هو مثله ألا وهو القهر، فالقهر يكون مع مفارقة القاهر وبعده عن المقهور أي الشئ الذي قهر ، فيصح أن يقال : قهر فلان فلانا ولو كان بعد مفارقته لأن المعنى : غلبه وتمكن منه . ومع ذلك فالوهابي لا ينكر أن من أسماء الله القهار ، فالقهر والاستيلاء يصح إطلاقهما بعد مفارقة الشئ والبعد عنه ، فأجاز الوهابي الأول ومنع الثاني بلا دليل ، بل جعل النصوص القرءانية والحديثية تابعة لرأيه وهواه ، فإنه لما كان يعتقد أن الله متحيز بذاته فوق العرش وجعله مسكنا له قال ما قاله ، فعنده الاستيلاء لا يدل على المجاورة أما الاستواء ففيه معنى المجاورة دائما كما زعم أي يريد أن يقول إن الله مجاور للعرش ومحاذ له وقريب منه بالمسافة ، وإلا فما معنى المجاورة ؟! وسيأتي الرد عليه في هذه المسئلة إن شاء الله تعالى ، وهذا دليل ءاخر على أنه جعل النص خاضعا لرأيه ، فليس الاستواء في جميع موارد اللغة فيه معنى المجاورة كما ادعاه ، وكأنه أحاط بجميع كلام العرب ، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم .

واما معنى الاستيلاء في قول الشاعر المذكور ءانفا فهو بلوغ الغاية ، والأمد هو الغاية ، وغاية كل شئ : منتهاه ، والمراد هنا : الموضع الذي حدد لانتهاء السباق، فأيهما سبق صاحبه إلى الغاية فقد استولى عليه ، قال ابن منظور في (( لسان العرب )) (1) :
(( واستيلاؤه على الأمد أن يغلب عليه بسبقه إليه )) اهـ .

وقوله : (( لا يصح أن يقال : استوى على الدابة والسطح إذا نزل عليها وفارقها )) اهـ ، يقال له : إن الاستواء هنا هو استواء جسمين يحصل بينهما تماس ومن أحدهما ارتفاع بالمسافة ليستوي على الآخر ، فاستوى هنا بمعنى علا العلو الحسي ومعناه كما ذكرنا ، أما استواء الله على عرشه فليس من هذا القبيل لأن الله منزه عن الارتفاع بالمسافة والمكان وأن يمس أو يحس أو يجس ، فلذلك لا يقال : استوى فلان على الدابة بهذا المعنى أي وهو بعيد عنها ، وأما الاستواء على الشئ بمعنى القهر فجائز . والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمئاب.
الشبهة الثانية عشرة :

يزعم الوهابية أن لهم دليلا على أن الاستواء هو الاستقرار ، قال محمد العثيمين – وهو من زعمائهم وقادتهم - ما نصه (1): (( فإن سألت : ما معنى الاستواء عن أهل السنة ؟ فمعناه العلو والاستقرار ،وقد ورد عن السلف في تفسيره أربعة معاني : الأول : علا . والثاني : ارتفع . والثالث: صعد . والرابع : استقر . لكن (علا ) و( ارتفع ) و ( صعد ) معناها واحد ، وأما ( استقر ) فهو يختلف عنها . ودليلهم في ذلك : أنها في جميع مواردها في اللغة العربية لم تأت إلا لهذا المعنى إذا كانت متعدية ب ( على ) : قال الله تعالى :
{ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } [سورة المؤمنون ] ، وقال تعالى { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ }
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } [سورة الزخرف ] )) اهـ، ويذكر الوهابية أيضا قوله تعالى :
{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } [سورة هود ].

قلنا : يرد على كلامهم بوجوه :

الأول : لا دليل في هذه الآيات على ما زعموه من أن الله استقر على العرش ، بل هم في ذلك ضربوا المثل لله والله يقول :
{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } [سورة النحل ] ووقعوا في التمثيل وتشبيه استواء الله على عرشه باستواء البشر على السفينة ، وباستواء سفينة نوح عليه السلام على جبل الجودي ، وهذا من أبشع التشنيعات .

الثاني : الآيات التي احتجوا بها فيها معنى زائد على الاستقرار :فآية المؤمنون : {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ }
معناها : إذا اعتدلت راكبا في السفينة عاليا عليها وتمكنت فيها تمكن المستوي على الشئ فاحمد لله تعالى على نعمة الإنجاء .

وكذا يقال : معنى الاستواء في ءاية الزخرف : تمكن المستوي على الشئ واستقرار عليه .

وأما ءاية هود فمعناها أن السفينة بعد أن كانت سائرة وقفت وأرست واستقرت على جبل الجودي .

فالاستواء في الآيتين : الأولى والثانية تضمنت معنى الارتفاع والعلو والصعود بعد الانخفاض وتمكن المستوي من ركوب السفينة وظهور الأنعام والاحتياج إليها ، والأولى تضمنت أيضا معنى الحلول فكانت السفينة ظرفا ووعاء للمستوي عليها لأنها حوته وأحاطته من كل جوانبها ، والثالثة تضمنت معنى التوقف عن الحركة بعد أن كانت سائرة أي صارت ساكنة بعد أن كانت متحركة ، فليزم على استدلال الوهابية بهذه الآيات أن الله كان منخفضا تحت العرش والعياذ بالله تعالى – تعالى الله عن قولهم –ثم تحرك وانتقل إلى فوق العرش وسكن فوق وتمكن عليه لاحتياجه إليه كاحتياج المستوي على السفينة وظهور الأنعام ، تعالى الله عما يقول الظالمون الجاحدون المشبهون علوا كبيرا .

الثالث : الاستواء في هذه الآيات هو استواء الأجسام على الأجسام أي الاستواء فيها هو استقرار بحصول تماس جسمين : جسم المستوي على الشئ ( وهو راكب السفينة أو السفينة ) وجسم المستوي عليه ( وهو جبل الجودي أو ظهور الأنعام أو السفينة ) ، فعلى مقتضى كلام الوهابية استقرار الله على عرشه فيه تماس ذات الله عز وجل مع العرش ، وهذا كفر وضلال مبين ، فإن قالوا : هو استقرار بلا مماسة بل فقط بمحاذاة ومجاورة للعرش وهم يقولون بذلك (1) – قلنا وهذا أيضا تشبيه لله بخلقه ووصفه بصفات الأجسام وهو كفر أيضا ، فتنبه
الشبهة الثالثة عشره:

لما كان الوهابية يعتقدون عقيدة التجسيم صاروا يحملون الآيات والأحاديث ويفسرونها على ما تهواه نفوسهم كما هو شأن أهل البدع كالمعتزلة والخوارج الذين يفسرون الآيات والأحاديث بخلاف اللغة والمقرر عن أهل السنة، لذلك قال علماء أهل الحق إن علم الدين لا يؤخذ إلا عن ثقة ، والوهابية لما كانوا يعتقدون أن الله عز وجل متحيز وذاته محاذ للعرش قالوا (2): الاستواء لا يكون إلا مع مجاورة الشئ الذي يستوي عليه كما في قوله تعالى : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ }[ سورة هود] ، وقوله :{ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ }
[سورة الزخرف] وقوله : {اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } [سورة المؤمنون ] ، وهكذا في جميع موارده في اللغة التي خوطبنا بها )) اهـ.

قلنا : من أين لهم أن يجزموا أن جميع موارد الاستواء في اللغة لا تكون إلا مع مجاورة ، وكأنهم أحاطوا بكل كلام العرب والشعراء ، هيهات هيهات ، والذي حملهم على هذا القول هو اعتقادهم أن لله مكاناً ومسكناً فوق العرش ، وكلامهم الذي نقلناه هنا نص صلايح في أنهم يقولون إن الله مجاور للعرش ، وهذا يقتضي المحاذاة والبعد عن العرش بالمسافة ، ولم يقل به أحد من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

ففي (( المصباح )) (1): ((وجاوره مجاورة إذا لا صقه في السكن )) اهــ، وفي (( لسان العرب )) (2): وجاور الرجل مجاورة : ساكنه )) اهـ، ومن نظر في سائر كتب اللغة والغريب والتفسير يجد أن المجاورة تتضمن معنى المكان والجهة والمسافة ، ثم من نص من أئمة اللغة على ما زعموه؟ ، أليس يقال : استوى فلان على العراق وقد يكون هو بالشام أو بمصر .

ثم الآيات التي استدل به الوهابية حجة عليهم لأن الاستواء الوارد فيها تضمن بالإضافة إلى المجاورة معنى الارتفاع بعد الانخفاض بالمسافة ، وتماس جسمين ، والاحتياج إلى المستوى عليه . فهل يقولون بكل هذا ، فإن أخذوا ببعض ما تضمنه الاستواء من المعاني في هذه الآيات وردوا بعضها لأنها لا تليق بالله ، قلنا : هذا منكم اعتراف بأن ليس كل معاني الاستواء – ومنها المجاورة – تكون لازمة لجميع موارد الاستواء في اللغة ، وقولهم : إن منها ما لا يليق بالله ، قلنا : كذلك المجاورة لا تليق بالله لأنها من صفات الأجسام، فالعرش جسم باتفاق منا ومن الوهابية المجسمة ، وزعمهم أن الله مجاور للعرش يلزمهم ثلاث احتمالات - كلها كفر – لا رابع لها ، وهي : إما أن يكون الله على زعمهم أكبر من العرش أو مثل العرش أو أصغر من العرش ، وبأيهم قالوا لزمهم التجسيم لا محالة لأنها كلها من صفات الأجسام ، هذا بالإضافة إلى جعلهم الله محدودا من الجهة العليا من العرش بزعمهم ، ويلزمهم احتمالان - وهما كفر – لا ثالث لهما وهما : إما أن يكون الله مماسا وملاصقا للعرش ، وإما أن يكون منفصلا عن العرش بالمسافة ومن كان كذلك أي على الاحتمال الثاني يجوز عليه أن يمس العرش وبلاصقه وهذه صفات الأجسام والمخلوقين ، فثبت استحالة المسافة بين الله وبين العرش ، وهذا الذي ذكرناه قاصم لظهورهم لا مفر منه أي من التشبيه إلى التنزيه إلا بنفي المجاورة أي نفي الجهة عن الله عز وجل.

نسأل الله أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية ويجنبنا مسالك الغواية وأن يلهمنا إلى طريق الصواب وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين السنة والكتاب .
الشبهة الرابعة عشرة :

يستدل الوهابية بكلام أبي عبد الله محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي (ت231هــ) وهو من اللغويين ، وذلك حين سئل :
((أتعرف في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال : لا أعرفه )) اهــ، وفي طريق ءاخر : ((أتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ما معنى قول الله تعالى :{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ سورة طه ] قال : هو على عرشه كما أخبر ، قال الرجل ليس كذاك هو يا أبا عبد الله ، إنما معنى قوله : { اسْتَوَى }: استولى . فقال ابن الأعرابي : اسكت ، ما يدريك ما هذا؟ العرب لا تقول للرجل استولى على الشئ حتى يكون له فيه مضاد ، فأيهما غلب قيل استولى عليه ، والله لا مضاد له ، وهو على عرشه كما أخبر ، والاستيلاء بعد المغالبة ، قال النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجود إذا استولى على الأمد )) اهــ (1)

قلنا : الاستيلاء الذي يكون بعد مغالبة وضعف وعجز لا يطلق على الله عز وجل ، بل الله منزه عن ذلك ، فهو القوي القاهر ، ونسبة العجز والضعف إلى الله كفر مخرج من الدين ، فإنكار ابن الأعرابي على من حمل استوى بمعنى استولى على الوجه الذي يكون بعد مغالبة حق ولا يقول به أحد من أهل الحق ، بل من تأول منهم الاستواء بالاستيلاء حمله على المعنى المجرد عن سبق المغالبة ، إذ الاستيلاء هو القهر والغلبة ، فكما أنه لا يقتضي أن يكون القهر والغلبة بعد مغالبة كذلك نقول في استولى ، قال الله تعالى :
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ سورة الأنعام ] ، وقال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [سورة المجادلة ]. وقد تعقب القسطلاني في
(( الإرشاد )) كلام ابن الأعرابي فقال ما نصه (1): (( وفيما قاله نظر ، فإن الاستيلاء من الولاء وهو القرب ، أو من الولاية ، وكلاهما لا يفتقر في إطلاقه لمضاد )) اهـ .

وقد بينا سابقا أن الألفاظ المحتملة للكمال بوجه وللنقصان بوجه تحمل على المعنى اللائق بالله تعالى أي على الوجه الذي دل على معنى الكمال وينفى عن الله المعنى الذي دل على النقصان . وذكرنا أيضا أن الاستيلاء يكون من غير سبق مغالبة ، وذكرنا من تأول الاستواء بالاستيلاء من علماء اللغة ، فليراجع .

والمبتدئ من الطلاب يعرف الخلاف الوارد – وهو كثير – بين الأئمة من نحاة وصرفيين وبلاغيين ولغويين ، فإذا كان هذا التأويل فيه خلاف فلماذا يصر الوهابية على إنكار هذا التأويل ، وليس ذلك إلا لأنهم مجسمة يعتقدون التجسيم ويشبهون الله بخلقه يزعمون أن الله مستقر على العرش ، قالوا بما لم يقل به الصحابة ولا إمام من أئمة السلف المعتبرين لا يقول به إلا مجسم .

فإذا كان الأمر كذلك ، فالتمسك بما قاله ابن الأعرابي فقط ونبذ كلام غيره من اللغويين تحكم ، أعاذنا الله من أن نتكلم بما لا نعلم أو أن ندعي ما لا نحسن .

تنبيه : الروايتان اللتان يستدل بهما الوهابية فيهما تعارض من حيث إن الأولى تنفي ما أثبتته الثانية ففي الأولى أنه ليس في اللغة تفسير استوى بمعنى استولى وفي الثانية فيها أن العرب تقول استوى بمعنى استولى ، فإن قيل : نفيه لعدم اطلاعه على ذلك فلذا قال :
(( لا أعرفه )) ثم لما علم بوروده في كلام العرب أثبته ، قلنا : فما المانع أن يكون خفي عليه أيضا ورود الاستواء بمعنى الاستيلاء من غير سبق مغالبة .
الشبهة الخامسة عشرة :

إن قال الوهابية : أنتم اتبعتم اليهود حين أمروا أن يقولوا (( حطة )) فبدلوا ، فقالوا : (( حنطة )) .

قلنا : أنتم أولى بهذا الوصف ، فإنكم وصفتم الله بالجلوس وهي عقيدة اليهود ، وقد أثبتنا ذلك عنكم من كتبكم ، وقلتم بالاستقرار وهذا تجسيم ، فأنتم من حيث العقيدة اتبعتم اليهود والمشبهة .

ثم إن الاستواء من معانيه الاستيلاء ، وقد أقمنا الدليل على ذلك سابقا ، وليس كلمة (( حنطة )) من معاني (( حطة )) .

ويقال أيضا : إن اليهود أمروا بقول (( حطة )) فبدلوا هذا اللفظ إلى غيره ، وكان ذلك منهم تكبرا واستهزاء وعنادا عن قبول الحق ، فأين هذا من ذاك .



________________________________________
الشبهة السادسة عشرة:

يقول الوهابية إن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة وهم فرقة ضالة باتفاق منا ومنكم ، فكيف تأخذون بقولهم .

قلنا : لا يضر أن المعتزلة وافقونا في هذه المسئلة ، فليس كل كلام المعتزلة باطل بل فيه كلام موافق لأهل الحق ، فهل يترك لأجل أن المعتزلة قالوا به ؟ فها نحن نقول لا إله إلا الله وهم أي المعتزلة يقولونها بألسنتهم فهل نحرم قول لا إله إلا الله لأجلهم .
قال الشيخ أبو المعين النسفي في (( تبصرة الأدلة )) ما نصه (1) : (( ونسبتهم هذا التأويل إلى المعتزلة ليس بشئ ، لأن أصحابنا أولوا هذا التأويل ولم يختص به المعتزلة )) اهــ.

فما قام على دليل قلنا به ، فانظر إلى المقال ولا تنظر إلى من قال .
الشبهة السابعة عشرة :

إذا قال الوهابية : لم ينقل عن السلف هذا التأويل فكيف تقولون به .

قلنا :ولم ينقل عنهم التأويل بالاستقرار ولا يثبت عن واحد من علماء السلف أنه قال به ، فأنتم خالفتم السلف ، بل ذكرنا سابقا عن الإمام أبي حنيفة السلفي تنزيه الله عن الاستقرار ، وأبو حنيفة هو أحد أئمة علماء السلف ، وكذا الذهبي أنكر هذا التفسير ، والألباني الوهابي أنكره وهو من أبرز دعاتكم . ونقول : ما ثبت بالدليل الشرعي لا يقال عنه مخالف للسلف وإن لم يقولوا به . بل وذكرنا من علماء السلف من قال بذلك راجع فصل بيان من تأول من علماء أهل السنة الاستواء على العرش بالاستيلاء والقهر .




الشبهة الثامنة عشرة :

زعم بعض المشبهة أن أهل السنة شبهوا الله بخلقه فقال ما نصه (1) : (( لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم باستيلاء بشر على العراق)) اهـ.

قلنا : أنتم الوهابية من شبهتم الله بمخلوقاته فزعمتم أن الله استقر على العرش وهذا تجسيم كما سبق بيان ذلك ، ومنكم من يقول بأن الله جالس على العرش وهي عقيدة اليهود لعنهم الله ، وليس الاستدلال بقول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

.......................

تشبيه لاستيلاء الله على العرش باستيلاء بشر كما زعم هذا المجسم بل الاستشهاد بهذا البيت لبيان أن الاستواء يأتي بمعنى الاستيلاء الذي هو القهر والغلبة ، وهذا واضح جلي إلا من طمس الله على بصره وبصيرته فصار يتقول على أهل الحق بما هم بريئون منه .
ونظير ما ذكرناه قوله عليه الصلاة والسلام : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر )) رواه البخاري (1) وغيره ، فالرسول صلى الله عليه وسلم شبه رؤيتنا للقمر من حيث عدم الشك برؤية القمر ليلة البدر ، ولم يشبه الله تعالى بالقمر كما يزعم بعض الجهال فإنهم إذا ذكر لهم هذا الحديث يتوهمون أن الله يشبه القمر وقد صرح بعض العوام بذلك والعياذ بالله تعالى .

ومن نظر في كتب الوهابية عرف كم تحتوي على فساد في الاعتقاد ومخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون .
الشبهة التاسعة عشرة:

قال أحد مجسمة الوهابية في رده على أهل السنة ما نصه (2) : (( إنه يصح أن نقول على زعمكم – يقصد أهل السنة – أن الله استوى على الأرض والشجر والجبال والإنسان والبعير ، لأنه ( استولى ) على كل هذه الأشياء ، فإذا صح أن نطلق كلمة (استولى ) على شئ ، صح أن نطلق ( استوى ) على ذلك الشئ ، لأنهما مترادفان على زعمكم )) اهـ .

قلنا : هذه الشبهة أخذوها من المجسم ابن تيمية (3) فهو عمدتهم في التشبيه والتجسيم . وبما أن كلمة استولى معناها الغلبة والقهر صح القول بأن الله استولى على العرش أي قهر العرش وصح القول بأن الله قهر ما دون العرش من باب أولى ، فهو سبحانه قاهر العالم كله ،قاهر الشمس والقمر والنجوم والملائكة والإنس والجن وكل ما دخل في الوجود ، ونورد عليهم ما أوردوه علينا فيقال لهم إن الله وصف نفسه بقوله : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [سورة الأنعام ] فهل يقولون بأن الله قهر الأرض والشجر والجبال والإنسان والبعير أم ينفون ذلك عن الله ، فإن نفوه يكونوا وصفوا الله بالعجز وهذا كفر وإن أجازوا ذلك لكن قالوا نمنع إطلاقه على الأشياء الحقيرة والخسيسة أدباً كأن يقال قهر الكلب والخنزير ونحو ذلك وبذلك تكون الشبهة انهارت عليهم ، وما ألزمونا به هو قول شيخهم وزعيمهم ابن تيمية فقد قال ما تستبشعه النفوس وتستسيغه وتستمرؤه المجسمة ، فقد نقل موافقا ومقرا قول عثمان بن سعيد الدارمي المجسم في وصف الله ما نصه (1) : (( ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته ، فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض )) اهـ، نعوذ بالله من مقت القلوب ، فعند ابن تيمية يجوز أن يستقر الله على ظهر بعوضة ءاخذا ذلك عن المجسمة ، فعجباً لهم كيف يسكتون عن هذا الكفر ويشنعون على أهل السنة تأويلهم الاستواء بالاستيلاء وهو تأويل لا غبار عليه موافق للشرع واللغة ولكن المجسمة تستحسن القبيح وتستقبح الحسن ، كفانا الله شرهم .

ونسأل الله تعالى أن يجعل جزاءنا جزيل الثواب ، وأن يلطف بنا يوم المآب ، إنه على ما يشاء قدير . وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى ءاله وصحبه الميامين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

تم انتهاء الكتاب بحمد الله تعالى نرجوا منكم حسن الدعاء في ظهر الغيب لنا بحسن الختام
الله تعالى يقويكم ويحفظكم ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لا يصح الصوم كله فرضه ونفله مقيّده ومطلقه إلا بنية

 قال شيخ المالكية أبو القاسم بن الجلاب في التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، باب النية في الصوم، (فصل) النية (ولا يصح الصوم كله فر...