براءة الإمام النعمان مما نسب إليه من القول بالجهة والمكان
أما بعد ،
فقد اطلعت على موضوع من المواضيع الطيبة التي كتبها بعض أفاضل الأخوان في هذا المنتدى الطيب ، جاء فيه ذكرٌ لحكم من نسب لله الجهة المكان ، فبيّن ذلك بطريقة سهلة ومدعمة بالأدلة الدامغة والبراهين الساطعة مما لا يُبقي لجاهل مشكك مجالاً للف والدوران.
إلا أني رأيت مشاركة حديثة لأحد الأعضاء أتى فيها بما يشبه السؤال عن كلامٍ منقول عن الإمام السلفي الكبير سيدنا أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رضي الله عنه فكتبت عليه رداً سريعاً في صلب الموضوع الأصل ، ثم أشار علي أخ طيب من أهل هذا المنتدى، الذي يعم بأهل الخير، أن أفرد كلامه وردي بموضوع جديد عسى إن رءاه صاحب المشاركة أن يساعده على معرفة الحق.
فها أنا الآن أقتبس مشاركته ثم أعقبها بالرد عليها :
قال احد المجسمة ما نصه :
اقتباس : |
في كتاب (الفقه الأكبر) لأبي حنيفة (ص135 بتحقيق: محمد عبدالرحمن الخميّس): " قال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر ، وكذا من قال: إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض؟ والله تعالى يُدْعى من أعلى لا من أسفل ". وفي (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي:" وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جدا: فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه: الفاروق، بسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حينفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(6) وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى، لا من أسفل.إنتهى" ثم قال الشارح عقبه مباشرة:" ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم. وقصة أبي يوسف في استتابتة بشر المريسي، لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش - مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره. " (شرح ابن أبي العز الحنفي) |
أولاً :
هذا الكلام الذي نقلته عن الإمام أبي حنيفة هو موجود في كتاب " الفقه الأبسط " وليس في الكتاب المشهور بـ " الفقه الأكبر " وإن كان بعضهم يسمي كتاب الفقه الأبسط بـ " الفقه الأكبر" ،
وهذا الكتاب بهذه الألفاظ هو من رواية أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي عن أبي حنيفة ، والأشهر في تسميته عند العلماء هو " الفقه الأبسط " ، وأما " الفقه الأكبر " المشهور بين العلماء فهو الذي جاء من رواية حماد بن أبي حنيفة عن أبيه رضي الله عنه.
فالكتاب إذاً من رواية أبي مطيع البلخي والكلام فيه مشهور وقد طعن فيه بعض الأئمة فلا يُعوَّل على تلك الرواية للكتاب.
ثانياً :
ابن أبي العز الحنفي هو مجسم مشهور عند أئمة الحنفية المتأخرين وهو قد تبع أحمد بن تيمية الذي كان هو بدوره شيخ المجسمة في عصره ،
نعم ، تتبع مسائل ابن تيمية التي شذ فيها عن الأمة في أصول الدين ووافقه عليها كما تجده في شرحه على العقيدة الطحاوية ، فقد قلده في القول بأزلية نوع العالم وبالقول بأن القرءان حادث النوع وقديم الجنس وبالقول بالجهة في حق الله وبالقول بفناء النار وغير ذلك.
فمثل هذا الشخص المقلد للمجسمة لا يستحق كلامه أن يُنظر فيه فضلاً عن أن يتخذ حجة ودليلاً.
ثالثاً :
لكن بما أنك نقلت كلامه فتنزّلاً معك سأرد عليه بنقل كلام بعض من ألّف في الرد في هذه المسألة وقد علقت على بعضه للتوضيح وجعلت تعليقاتي باللون الأسود ،
قال ما نصه :
{ ( قال أبو مطيع البلخي ،أن أبا حنيفة قال : من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر )
التعليق :
لم يذكر في المتن وجه كفره فبينه الشارح أبو الليث السمرقندي بقوله ( لأنه بهذا القول يوهم أن يكون له تعالى مكان فكان مشركاً ) ،
ويدل على ذلك ما سيجىء في المتن : ( قلت أرأيت لو قيل أين الله ، يقال له : كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق ، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شىء ، وهو خالق كل شىء ) يعني لا تتصور الأينية إلا في الحادث .
ومما يدل على ذلك أيضاً قول الطحاوي في - كتابه - " بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى " قال : ( ومن لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه ، فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية ، منعوت بنعوت الفردانية ، ليس في معناه أحد من البرية ، تعالى عن الحدود والغايات ، والأركان والأعضاء والأدوات ، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ) وهذا جلي واضح مستغن عن الإيضاح....
ثم قال المعلق بعد ذلك:
وأبو الليث هذا تخرج على أبي جعفر الهندواني عن أبي القاسم الصفار عن نصير بن يحيى البلخي راوية هذا الكتاب المعروف بين أهل العلم سلفاً وخلفاً ، وأبو الليث هذا توفي سنة 373 ،
وبعد مائة سنة من هذا التاريخ ينجم بين الحشوية شخص جرىء يلقبه شركاؤه في الضلال بشيخ الإسلام ، ويؤلف لهم كتاباً أسماه " الفاروق " وكتاباً اسماه " ذم الكلام " وغيرهما ، يضمنهما روايات طامة ، وءاراء سخيفة للغاية يفتن بها كثيراً من الجهال ، وهو الذي لا يتحاشى أن يروي عن كعب ( أن الله سبحانه قال للجبال إني واطىء على جبل فتطاولت الجبال فتواضع الطور فهبط عليه ) !! وكذا ( أطيط العرش من ثقل الذات عليه ) !! والحد ونحو ذلك ،
ومما يقول في - كتابه - " ذم الكلام " ( إن الأشعرية لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم لأنهم ليسوا بمسلمين ولا أهل كتاب ) باعتبار أنهم لا يقولون إن الله يسكن السماء ،
وهذا الأفاك تناول في كتابه " الفاروق " لفظ أبي حنيفة السابق وتزيّد فيه ما شاء تزيّداً شائناً منافياً لنفي الأينية المنصوص عليه في المتن الأصلي السابق ذكره المتداول بين أصحابنا على توالي الطبقات فذاع بعض النسخ من الفقه الأكبر على هذا التزيّد والإفك المبين فانخدع به بعض الأغرار ممن لم يؤتوا بصيرة فنسأل الله الصون ،
وفي نسخة في رجال سندها الكوراني - وهو رجل ساقط الرواية - المذكور حاله في أواخر - كتاب اسمه - " حسن التقاضي " ما عباراته :
( قال أبو حنيفة من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر - التعليل الأول-لأن الله تعالى قال : الرحمن على العرش استوى ، فإن قال أنه على العرش استوى ، ولكنه يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ، قال هو كافر - التعليل الثاني - لأنه أنكر كون العرش في السماء لأن العرش في أعلى عليين )
ولا وجود لهذين التعليلين في رواية أبي الليث وغيرهما من أصحابنا كما سبق ...
ثم قال المعلق :
وذلك القائل جوز إثبات المكان له تعالى فأخذ يتحرى مكاناً له في السماء والأرض ، وهذا جهل بالله وكفر به عند أبي حنيفة - وكذا عند غيره بالإجماع - لأن التجويز في حكم التنجيز في باب المعتقد ، ومن أثبت له مكاناً حسياً فما زال عابداً للصنم تعالى الله عن جهالات الجاهلين ، ...
ثم قال المعلق :
ولفظ الذهبي في - كتابه - " العلو " في التعليل الأول ( وعرشه فوق سماواته ) وفي التعليل الثاني ( إذا أنكر أنه في السماء كفر ) نقلاً عن فاروق الهروي - يعني نقلاً عن كتاب " الفاروق " للهروي المجسم - بإقامة الضمير مقام الظاهر - يعني بدل أن تكون ( إذا أنكر أن العرش في السماء ) أبدلها بقول ( إذا أنكر أنه في السماء) بهاء الضمير ليوهم أنه يتكلم عن الله - تمهيداً لصرفه إلى معتقد الحشوية ،
ولفظ ابن القيم في اجتماع الجيوش - يعني نقلاً عن كتابه الذي أسماه " اجتماع الجيوس الإسلامية " - في التعليل الثاني : ( لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين ) !! - أنظر أين انتهى التحريف بهم - نقلاً عن الهروي بواسطة شيخه - يعني أن ابن القيم نقل ذلك عن الهروي بواسطة شيخه ابن تيمية -
فانظر إلى هذا التصرف المعيب والبهت الغريب فرأس المصيبة هو الهروي وزاده الشيخان - يعني ابن تيمية وابن القيم - ما شاءا من غير ورع ، وأين في الكتاب والسنة تعيين مكان له تعالى في أعلى عليين !!! }
انتهى كلام المعلق .
وأنت لعلك لاحظت من خلال هذا السرد كم هو معيب هذا التحريف الفاضح الذي حصل على أيدي هؤلاء المجسمة الهروي وابن تيمية وابن القيم ، وهذا يدعوك إلى أن لا تطمئن إلى ما يرويه هؤلاء عن ائمة أهل السنة لأنهم يزيدون وينقصون من كلامهم ما يشاؤون من أجل نصرة هواهم وعقيدتهم الفاسدة.
ولعلك تعلم الآن أن مصيبة الوهابية ومن يمشي على نهجهم اليوم هي في أن عمدتهم في النقل عن أئمة اهل السنة من السلف والخلف هو ابن تيمية وقد ثبت أنه محرف لكلام السلف والخلف نصاً ومعنىً ،
والعلماء المحققون من أهل الرواية والنقل يعتبرون أن حصول تحريف واحد من أي راو كافٍ لإسقاطه عن مرتبة من تقبل الرواية عنهم فكيف بكل هذه التحريفات المتعمدة من ابن تيمية أليست كفيلة في إسقاطه إلى أدنى دركات الإهمال لرواياته !!
والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق