المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، المنزه عن الجسم والحد، والزمان والمكان سبحانه لا يُمسُّ ولا يحس ولا يُجسُّ، ولا يقاس صفات ذاته بالناس، ولا شريك له في الملك ولا نظير، ولا مشير له في الحكم ولا وزير، مهما تصورت ببالك فالله لا يشبه ذلك.
ونشهد أن محمداً عبده المجتبى ورسوله المرتضى بعثه الله بالنور الساطع والضياء اللامع فبلَّغ عن الله عز وجل الرسالة، وأوضح فيما دعا إليه الدلالة فكان في اتّباع سنته لزوم الهدى، وفى قبول ما أتى به وجود السنا فصلى الله عليه وعلى ءاله وصحبه النجباء.
أما بعد، فإن الله اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من عباده فبعثه إلى خلقه بالحق بشيراً ومن النار لمن زاغ عن سبيله نذيراً، ليدعو الخلق من عباده إلى عبادته، قال الله تعالى في كتابه المبين: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} ) سورة الذاريات
، أي خلقهم ليأمرهم بعبادته، وكان أول مـا دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبادة الله تعالى وتوحيده وأن لا يشرك به شىء، فلذلك كان علم التوحيد أجلّ العلوم وأولاها تحصيلاً، وكان اهتمام علماء السلف والخلف- أي الذين جاؤوا بعد السلف- بهذا العلم كبيراً.، وكلا الفريقين من السلف والخلف كانت بحوزتهم الأدلة العقلية للرد عنى المبتدعة المخالفين لأهل الحق، واشتهر عن الخلف إبراز الدلائل النيرة والحجج الباهرة لإثبات وجوده تعالى وحدوث كل ما سواه والذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجوهر والأعراض وأحكامها، وسبب ذلك انتشار المبتدعة المنتسبين إلى الإسلام والفلاسفة والملاحدة من غير المسلمين،
فنشر هؤلاء المخالفون ءاراءهم الفاسدة التي لم تكن موجودة في عهد الصحابة ومن جاء بعدهم بزمان وألقوها على مسامع المسلمين، فقام أهل الحق الذين عُرفوا باسم علماء الكلام في رد تلك الشبه باستحداث اصطلاحات وطرق جديدة لمقارعة المخالفين إما لكون المخالفين لا يأخذون بالقرءان كالفلاسفة والملاحدة، وإما لكونهم من أهل الأهواء الذين اعتنقوا البدعة وصاروا ينافحون عنها بما زعموه أدلة عقلية، واستمر أهل الحق في نصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة حتى ظهر في النصف الثاني من القرن السابع الهجري رجل زعم أنه على مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه مع مخالفته له في الأصول والفروع، وقد تمكن هذا الرجل وهو ابن تيمية من اجتلاب ثقة بعض شيوخ العلم إلى نفسه وثنائهم عليه، وكان طلق اللسان، فإذا هو يجري على خطة مدبرة في إحلال المذهب الحشوي تحت ستار مذهب السلف محل مذهب أهل السنة،
ولم يعلم أن مذهب أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية بلغ من التمحيص العلمي على تعاقب القرون بأيدي نوابغ أهل النظر والفقه في الدين ممن لا يعد هذا الحشوي- أي ابن تيميه- من صغار تلامذتهم إلى مستوى من قوة الحجج بحيث إذا حاول مثله أن يصطدم بها لا يقع إلا على أم رأسه، وكان له أتباع ينعقون ولا يعون، وخلفهم أتباع وهكذا إلى أن وصل النعيق إلى رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب النجدي إمام الوهابية. الذي كان ابتداء ظهور أمره في الشرق سنة 1143هـ،
واشتهر أمره بعد 1170 هـ بنجد وقراها، وقد ظهر بدعوة ممزوجة بأفكار منه زعم أنها من الكتاب والسنة ، وأخذ ببعض بدع ابن تيمية فأحياها وابتدع من عند نفسه بدعا أخرى، وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما شاهدوا أفعاله وسمعوا من أقواله التي خالف في الشرع، حتى قال فيه ابن عابدين الحنفي في ردّ المحتار ما نصّه (1): "مطلب في أتباع ابن عبد الوهاب الخوارج في زماننا: قوله: "ويكفرون أصحاب نبينا (صلّى الله عليه وسلّم)" علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج،
بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه، والا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع محمد بن عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلّبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنّة قتل علمائهم حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكرالمسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف". ا.هـ.،
وقال الشيخ أحمد الصاوي المالكي ما نصه (1): "وقيل هذه الآية- يعني قوله تعالى ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ{6} ) سورة فاطر- نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم كما هو مشاهد الآن في نظائرهم وهم فرقة بأرض الحجاز يقال لهم الوهابية يحسبون أنهم على شئ ألا- إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، نسأل الله الكريم أن يقطع دابرهم" انتهى كلام الصاوي.
ومن شؤم الطائفة الوهابية أنها تذم علم الكلام الممدوح وأهله، وما ذاك إلا لأن الحجج العقلية والبراهين القطعية تهدم على الوهابية عقيدتهم التي هي عقيدة التشبيه والتجسيم كقولهم في حق الله- بالجهة والجلوس والحركة والكيفية وغير ذلك من انحرافهم، وتمسكوا بشبه لا تنهض
دليلاً لما ذهبوا إليه كقولهم إن الصحابة لم يشتغلوا به وإن بعض العلماء ذم المشتغلين بهذا العلم وما إلى ذلك من الشبه التي سيُجاب عنها في هذا الكتاب إن شاء الله.
ولما كثر الخوض في هذا الموضوع والتبس الأمر على بعض الناس، ولما كان الكلام منه ممدوح ومنه مذموم أردنا تبيان الحق وجلاء الأمر ليكون المؤمن على بينه من أمره.
(1) (أنظر كتابه" رد المحتار على الدر المختار"(4/262) كتاب البغاة )
بيان أهمية علم التوحيد وأنه أفضل العلوم
علم التوحيد هو علم يفيد معرفة الله على ما يليق به ومعرفة رسوله على ما يليق به، وتنزيه الله عما لا يجوز عليه، وتبرئة الأنبياء عما لا يليق بهم، أو يقال: هو العلم الذي يعرف به ما يجوز على الله وما يليق به وما لا يجوز عليه وما يجب له من أن ُيعرف في حقه سبحانه وتعالى. قال الإمام الجنيد البغدادي سيد الطائفة الصوفية: التوحيد إفراد القديم من المُحدث " (1).
وقال الشيخ أبو علي الرُّوذباري (2) تلميذ الجنيد: " التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة كل ما صورته الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{11}" سورة الشورى "اهـ
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري(3): "أهل السنة فسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل "اهـ
واعلم أن شرف هذا العلم على غيره من العلوم لكونه متعلقا بأشرف المعلومات التي هي أصول الدين أي معرفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والعلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، ويسمى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة، وقد خصّ النبي صلى الله عليه وسلم. نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: " أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له " (4) فكان هذا العلم
أهمّ العلوم تحصيلاً وأحقّها تبجيلاً وتعظيماً قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ {19}: سورة محمد، قدّم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار لتعلّق التوحيد بعلم الأصول، وتعلق الاستغفار لعلم الفروع.
وروى البخاري في صحيحه (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله".
وصح عن جُندُب بن عبد الله أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حَزاوِرَة (6)، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرءان ثم تعلمنا القرءان فازددنا به إيمانا، رواه ابن ماجه (7).
فهذا يدل على أهمية علم التوحيد الذي كان لعلماء السلف اهتمام بالغ في تحصيله وتعليمه للناس، قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في "الفقه الأبسط لما (8): "الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها" اهـ.
وقال أيضاً (9): أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر" اهـ.
وفي (فتاوى قاضيخان "(10) على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ما يدلى
على أهمية الاعتناء بعلم التوحيد وتعليمه للناس، فقد ورد فيه ما نصه:
" تعليم صفة الخالق مولانا جل جلاله للناس وبيان خصائص مذهب أهل السنة والجماعة من أهم الأمور، وعلى الذين تصدّوا للوعظ أن يلقنوا الناس في مجالسهم على منابرهم ذلك، قال الله تعالى: ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ {55} ) سورة الذاريات، وعلى الذين يؤمّون في المساجد أن يعلّموا جماعتهم شرائط الصلاة وشرائع الإسلام وخصائص مذاهب الحق،وإذا علموا في جماعتهم مبتدعاً أرشدوه وإن كان داعياً إلى بدعته منعوه وإن لم يقدروا رفعوا الأمر إلى الحكام حتى يجلوه عن البلدة إن لم يمتنع، وعلى العالم إذا علم من قاض أو من ءاخر يدعو الناس إلى خلاف السنة أو ظن منه ذلك أن يعلم الناس بأنه لا يجوز اتباعه ولا الأخذ عنه فعسى يخلط في أثناء الحق باطلاً يعتقده العوامّ حقّاً ويعسر إزالته! اهـ.
قال الحافظ ابن عساكر (11): "أخبرنا الشيخ الإمام أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم بن هوازن إجازة قال: سئل أبي الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله فقيل له: أرباب التوحيد هل يتفاوتون فيه؟ فقال: إن فرقت بين مصل ومصل وعلمت أن هذا يصلي قلبه مشحون بالغفلات وذاك يصلي وقلبه حاضر ففرق بين عالم وعالم، هذا لو طرأت عليه مشكلة لم يمكنه الخروج منها وهذا يقاوم كل عدو للإسلام ويحل كل معضلة تعز في مقام الخصام، وهذا هو الجهاد الأكبر فإن الجهاد في الظاهر مع أقوام معينين وهذا جهاد مع جميع أعداء الدين وهو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وللخراج في البلد قانون معروف إذا أشكل خراج بقعة رجع الناس إلى ذلك القانون، وقانون العلم بالله قلوب العارفين به، فرواة الأخبار خزان الشرع والقراء من الخواص والفقهاء حفظة الشرع وعلماء الأصول هم الذين يعرفون ما يجب ويستحيل و يجوز في حق الصانع وهم الأقلون اليوم.
رمى الدهر بالفتيان حتى كأنهم بأكناف أطراف السماء نجوم
وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل
قلت: عناية الناس بعلم الأصول إذ ليس فيه وقف ورفق يأكلونه فميلهم إلى ما يقربهم من الدنيا ويوليهم الأوقاف والقضاء والطريق أيضاً مشكل فهو علم عزيز والطريق إلى الأعزة عزيز وقد يرى بعض الجواهر أثبت له درة من العز فلا توجد إلا عند الخواص فهو وإن كان حجراً غير مبتذل فما الظن بجوهر المعرفة.
أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن إبراهيم العلوي وأبو الحسن علي ابن أحمد الغساني قالا: ثنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أنا أبو طالب عمر بن إبراهيم الفقيه الزهري قال: ثنا الحسن بن الحسين الشافعي الهمذاني قال: أنشدني أبو عبد الله بن مجاهد المتكلم لبعضهم:
أيها المقتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الكلام تطلب الفقه كي تصحح حكماً ثم اغفلت منزل الأحكام " اهـ
فظهر من ذلك أن صرف الهمّة لتحصيل هذا العلم وتعليمه للناس مقدم على غيره من العلوم، لأن العبادة لا تصح إلا بعد معرفة المعبود كما قال الغزالي رحمه الله تعالى، وذلك لأنه من يشبّه الله تعالى بشئ ما لم تصح عبادته لأنه يعبد شيئاً تخيّله وتوهمه في مخيلته وأوهامه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6} ) ( سورة التحريم)" قال سيدنا علي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية. "علّموا أنفسكم وأهليكم الخير" رواه الحاكم في "المستدرك "(12)، يعني أن حفظ النفس والأهل من النار التي عظَّم الله أمرها يكون بتعلم الأمور
الدينية أي معرفة ما فرض الله فعله أو اجتنابه أي الواجبات والمحرمات وذلك كي لا يقع في عبادة فاسدةٍ، وبتعلم ما يجوز اعتقاده وما لا يجوز وذلك كي لا يقع في التشبيه والتمثيل والكفر والضلال.
فلأهمية هذا الأمر العظيم كان لنا الاعتناء الشديد بهذا العلم، وقد لاقينا من جرَّاء ذلك معارضة من الذين لا ينزلون الأمور بمراتبها لا سيما من مشبهة هذا العصر وهم الوهابية الذين ينشرون عقيدة المجسمة التي أخذوها من ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ويحاربون عقيدة أهل السنة متسترين بستار السلفية والسلف براء منهم، فنحمد الله تعالى أن جعلنا ممن ينصرون عقيدة أهل الحق المؤيَّدة بالكتاب والسنة والأدلة العقلية، وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.
(1) الرسالة القشيرية (ص/ 3).
(2) المصدر السابق (ص/ 5).
(3) فتح الباري (13/ 344).
(4) بوّب البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم. " أنا أعلمكم بالله "
(5) صحيح البخاري:كتاب الإيمان:باب من قال إن الإيمان هو العمل.
(6) حزاورة: جمع حَزَوَّر وهو الغلام إذا اشتد وقوي.
(7) سنن ابن ماجه: المقدمة.
(8) إشارات المرام (ص/ 28- 29).
(9) المصدر السابق.
(10) فتاوى قاضيخان (مطبوعة بهامش الفتاوى الهندية): الباب الثاني فيما يكون كفراً من المسلم وما لا يكون (2/ 320).
(11) تبيين كذب المفتري (ص/ 356- 357).
(12) المستدرك (2/ 494).
ما يجب من علم التوحيد على كل مكلفٍ وما يجب على بعض المكلفين
فالأول: ويسمى فرضاً عينيّاً وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والجنة والنار، والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وسؤال القبر ونحو ذلك.
والثاني: أى الواجب الكفائي معرفة العقائد الإيمانية بدلائلها النقلية الواردة في القرءان والحديث، والأدلة العقلية إلى الحد الكافي لرد الملحدين.
أي يجب أن يكون في المسلمين من يعرف الأدلة الكافية لإبطال تمويهات الملحدين ونحوهم من سائر أعداء الإسلام، والمحرفين للدّين من المنتسبين إليه وهم ليسوا منه كالقاديانية والبهائية وغيرهم.
فلو خلت بلدة من بلاد المسلمين ممن يقوم بالرد عليهم ودحض تشكيكاتهم وتمويهاتهم أثم أهل البلدة كلهم.
ويقال بعبارة أخرى: الواجب العيني من هذا العلم قسمان:
قسم لا يحصل أصل الإسلام الذي لا يحصل النجاة من الخلود الأبدي في النار إلا به وهو معرفة الله ورسوله فلا يحصل النجاة من الخلود الأبدي في النار بدون ذلك. فمن عرف الله ورسوله بلا ارتياب ولم يستحضر ما سوى ذلك من أصول العقيدة ونطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله ولو مرة في العمر ولم يؤد الفرائض لكنه لا ينكرها فهو مسلم عاص، ويقال له أيضاً مؤمن مذنب.
وقسم يحصل به أصل الإسلام مع زيادة وهو معرفة جميع الضروريات في الاعتقاد وذلك معرفة ثلاث عشرة صفة لله تعالى وهي.
الوجودُ والقدم (أي الأزلية) والبقاءُ والمخالفةُ للحوادث والقيامُ بالنفس ( أي أنه لا يحتاج إلى غيره) والوَحدانية والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والعلم والحياة، ومعرفة أن للأنبياء صفة الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة والعصمة وجواز الأعراض البشرية عليهم التي لا تؤدّي إلى الحط من مراتبهم.
وبقية ما يتبع ذلك من الإيمان بالملائكة وكتب الله ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره والبعث بعد الموت والثواب والعقاب والجنة والنار والميزان والصراط والحوض وسؤال القبر وغيره كأبدية الجنة والنار ونعيم الجنة وعذاب النار والحساب ونحو ذلك.
قال شمس الدين الرملي الشافعي في شرحه على كتاب الزُّبد (1) ممزوتجا بالمتن: " (والعِلْمُ أسْنَى سائِرِ الأعمالِ ) أي العلم أرفع وأفضل من سائر الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى لأدلة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر كقوله تعالى: ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ {18} سورة ءال عمران، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء {28}) سورة فاطر، وخبر مسلم (2): "إذا مات " الإنسان" (3) انقطع عمله إلا من ثلاثة " إلا" (4) صدقة- جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له "، وخبر ابن حبان (5) والحاكم (6) في صحيحهما: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع "، وخبر الترمذي (7) وغيره : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ولأن أعمال الطاعة مفروضة ومندوبة، والمفروض أفضل من المندوب، والعلم منه لأنه إما فرض عين وإما فرض كفاية، قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
والألف واللام في "العلم " للاستغراق أو للجنس أو للعهد الذكري أو الذهني أي الشرعي الصادق بالتفسير والحديث والفقه (وهو دليل الخير والإفضَال) أي أن العلم دليل الخير أي الفوز بالسعادة الأخروية، والإفضال الإنعام، قال صلى الله عليه وسلم : "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقا من طرق الجنة" (8).
ثم العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية وقد شرع (9) في ذكرهما مبتدئاً بالأول منهما فقال (فَفَرْضُهُ عِلْمُ صِفَاتِ الفَرْدِ) أي أن من فروض العين علم صفات الله تعالى (10) وما يجب له وما يمتنع عليه ككونه موجوداً واحداً قديماً ليس بجسم. ولا جوهر ولا عرض ولا مختصّ بجهة ولا مستقرّ على مكان، حيّاً قادراً عليماً مريداً سميعاً بصيراً باقياً متكلماً قديم الصفات خالقاً أفعال العباد منزَّهاً عن حلول الحوادث.
ولا يعتبر فيها العلم بالدليل بل يكفي فيها الاعتقاد الجازم (مع عِلمِ ما يحتاجهُ المُؤَدّي) أي المكلف بفرائض الله تعالى (مِنْ فَرْضِ دينِ الله في الدوام) أي فرائض الله تعالى مما لا يتأتى فعلها إلا به (كالطُّهْرِ ) عن الحدَث بوضوء أو غسل أو تيمم، والخبث مغلظاً أو متوسطاً أو مخففاً ( والصلاةِ والصيامِ ) فإن من لا يعلم أركان العبادة وشروطها لا يمكنه أداؤها.، وإنما يتعين تعلم الأحكام الظاهرة دون الدقائق والمسائل التي لا تعم بها البلوى، وخرج بقوله: (في الدوام) ما لا جب في العمر إلا مرة وهو الحج والعمرة وما لا يجب في العام إلا مرة وهو الزكاة فلا يتعين علم ما يحتاج إليه في أدائها إلا على من وجبت عليه، فمن له مال زكوي يلزمه تعلم ظواهر أحكام الزكاة، وإن كان ثم ساع يكفيه الأمر، فقد يجب عليه ما لا يعلمه الساعي. وكالفرض فيما ذكره النفل إذا أراد فعله إذا تعاطي العبادة الفاسدة حرام (والبَيْعِ لِلمُحْتَاجِ لِلتَّبايُع ) فيتعين على متعاطي البيع والشراء تعلم أحكامهما، حتى يتعين على الصيرفي أن يعلم عدم جواز بيع الذهَب بالذَّهب والفضة بالفضة إلا مع الحلول والمماثلة والقبض قبل التفرق ولا بيع أحدهما بالآخر إلا مع الحلول والقبض قبل التفرق (وظَاهِرِ الأحْكَامِ في الصنَائِعِ ) فيتعين تعلم ظاهر الأحكام الغالبة فيها على من يعانيها دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة حتى يتعين على الخباز أن يعلم أنه لا يجوز بيع خبز البر بالبر ولا بدقيقه، ويتعين علم ما يحتاج إليه في المناكحات ونحوها (وعلم داءٍ للقلوبِ مُفْسدِ ) لها ليحترز عنه وهو علم أمراضها التي تخرجها عن الصحة فيعلم حدها وسببها وعلاجها (كالعُجْبِ ) وهو استعظام الآدمي نفسه على غيره والركون إليها مع نسيان إضافتها للمنعم ( والكِبْرِ ) وهو أن يتعدى الشخص طوره وقدره وهو خُلُقٌ في النفس وأفعال تصدر من الجوارح ( وَدَاءِ الحَسَدِ ) وهو كراهتك نعمة الله على غيرك ومحبتك زوالها عنه وعمل بمقتضاه، ثم ذكر القسم الثاني وهو فرض الكفاية وبه شرع في أصول الفقه فقال (وما سِوى هذا مِنَ الأحْكَامِ ، فَرْضُ كِفَايَةٍ على الأنام ) أي ما سوى فرض العين من علوم أحكام الله كالتوغل في علم الكلام بحيث يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلا منهم فعله، فكل منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به أو لم يعلم وهو قريب يمكنه العلم به بحيث ينسب إلى التقصير، ولا إثم على من لم يتمكن لعدم وجوبه عليه " اهـ.
وقد ألف الحافظ البيهقي الشافعي رحمه الله تعالى كتاباً في بيان ما يجب على المكلفين اعتقاده والاعتراف به سماه "الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد".
وكذلك السادة الصوفية الصادقون يقدّمون معرفة علم التوحيد على غيره من العلوم أي أول ما يوجبون على المكلف هو الإيمان بالله وهو أصل الواجبات أي الاعتقاد الجازم بوجوده تعالى على ما يليق به وهو إثبات وجوده بلا كيفية ولا كميَّة ولا مكان، والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبأن ما جاء به هو الحق المبين.
روى أبو القاسم القشيري في رسالته (11) بإسناده إلى أبي محمد رُوَيْم بن أحمد البغدادي أنه سئل عن أول فرض افترضه الله عز وجل على خلقه ما هو؟ فقال: "المعرفة لقوله جل ذِكْره (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56}) سورة الذاريات) قال ابن عباس: إلا ليعرفون " اهـ.
ثم قال القشيري (12): "وقال الجُنَيْد: إن أوّل ما يحتاج إليه العبد معرفة صفة الخالق من المخلوق وصفة القديم مِن المحدَث " اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري (13): "قوله عزَّ وجلَّ: ( رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا{114}) سورة طه، واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شئ إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص " اهـ.
فالحاصل أنه يجب على الأبَوَيْن نحوَ أولادهما تعليم الصبي والصبية ما يجب عليهما بعد البلوغ أي مِن أمور الدين الضرورية التي يشترك في معرفتها الخاصُّ والعامُّ، وهو ما كان من أصول العقيدة مِن وجود الله بلا كَيْف ولا مكان، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، قِدَمِه وبقائه، وعدم احتياجه إلى أحد من خلقه، ومخالفته للحوادث في الذات والصفات أي أنه لا يشبه الضَّوءَ ولا الظلامَ ولا الإنسان ولا النبات ولا الجمادات من الكواكب وغيرِها، وأن لله قدرةّ وإرادةّ، وأن إرادته لا تتغير ولا تتبدل، وسمعاً أي يسمع المسموعات كلها بلا أذن، وبَصراً أي يرى من غير أن يكون له حدقة، وعلماً، وحياة أزلية أبدية ليست بروح ولا دم ولا قلب، وكلاماً ليس بحرف ولا صوت ولا لغة.
وأن محمداً عبد الله ورسوله العربي الذي وُلِد بمكة وبُعثَ بها وهاجر إلى المدينة ودفن فيها، وأنه صادق في جميع ما أَخبر به وبلغه عن الله تعالى سواء كان مِن أخبار مَن قبله من الأمم والأنبياء وبدءِ الخلق، أو من التحليل أو التحريم لبعض أفعال وأقوال العباد، أو مما أَخبر به مما يحدث في المستقبل في الدنيا وفي الآخرة كالإيمان بعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين منكرٍ ونكيرٍ والبعث والحشر والقيامة والحساب والثواب والعذاب والميزان والنار والصراط والحوض والشفاعة والجنة والرؤية لله تعالى في الآخرة بلا كيف ولا مكان ولا جهة، وأنه خاتم الأنبياء، وأن الله أرسل أنبياء أولهم ءادم وءاخرهم محمد كلهم موصوفون بالصدق والأمانة والذكاء والتبليغ فيستحيل عليهم الخيانة والرذالة والسفاهة والبلادة، وتجب لهم العصمة من الكفر المعاصي الصغيرة التي فيها خسَّة ودناءة، والعصمة من المعاصي الكبيرة أيضاً كالزنى والسرقة وشرب الخمر قبل النبوة وبعدها، وأنه أنزل كُتباً مع الأنبياء، وأن، لله ملائكة ليسوا ذكوراً ولا إناثاً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤْمرون، وأن الله سيفني الجن والإنس ثم يُعادون إلى الحياة وأنهم يجازَوْن بعد ذلك على حسناتهم بالنعيم المقيم وعلى سيئاتهم بالعذاب الأليم، وأن الله أعدَّ للمؤمنين داراً يتنعمون فيها تُسمّى الجنة وللكافرين داراً تسمى جهنم.
فهذا وما أشبه ذلك يجب على العبد معرفته.
(1) غاية البيان (ص/ 18- 19- 20).
(2) في الأصل مذكور كلمة "الصحيحين " والصواب كما ذكرناه فوق لأن البخاري لم يخرج هذا الحديث في صحيحه وإنما أخرجه مسلم وغيره: ) أنظر صحيح مسلم: كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
(3) في الأصل: "ابن ءادم" وما أثبتناه هو لفظ مسلم.
(4) هذه زيادة أضفناها من صحيح مسلم ليست مذكورة في الأصل.
(5) أنظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/307).
(6) 1 لمستدرك (1/ 100- 101).
(7) سنن الترمذي: كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة .
(8) سنن أبي داود: كتاب العلم: باب الحث على طلب العلم.
(9) أي ابن رسلان صاحب متن الزُبد.
(10) وهي الصفات الثلاث عشرة التي مرّ ذكرها
(11) الرسالة القشيرية (ص/ 3).
(12) المصدر السابق (ص/ 4).
(13) فتح الباري (1/ 141).
بيان أن علم الكلام يتضمن الحِجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والنقلية والرد على المبتدعة المنحرفين
ما يجب من علم التوحيد على كل مكلفٍ وما يجب على بعض المكلفين
اعلم أن العلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، ويسمّى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة.
ويسمى هذا العلم أيضاً مع أدلته العقلية والنقلية من الكتاب والسنّة علم الكلام؛ والسبب في تسميته بهذا الاسم كثرة المخالفين فيه من المنتسبين الى الإسلام وطول الكلام فيه من أهل السنة لتقرير الحق ؛ وقيل لأن أشهر الخلافات فيه مسئلة كلام الله تعالى أنه قديم – وهو الحق – أو حادث . فالحشوية قالت: كلامه صوت وحرف، حتى بالغ بعضهم فقال: ان هذا الصوت ازلي قديم ، وان اشكال الحروف التي في المصحف ازلية قديمة ، فخرجوا عن دائرة العقل ، وقالت طائفة اخرى : ان الله تعالى متكلم بمعنى انه خالق الكلام في غيره كالشجرة التي سمع عندها موسى كلام الله لا بمعنى انه قام بذات الله كلام هو صفة من صفاته وهم المعتزلة قبحهم الله ، وقال اهل السنة : ان الله متكلم بكلام ذاتي ازلي ابدي ليس حرفا ولا صوتا ولا يختلف باختلاف اللغات .
وموضوع علم الكلام هو النظر اي الاستدلال بخلق الله تعالى لاثبات وجوده وصفاته الكمالية وبالنصوص الشرعية المستخرج منها البراهين . وهو على قانون الاسلام لا على اصول الفلاسفة ،لان الفلاسفة لهم كلام في ذلك يعرف عندهم بالالهيات ؛ وعلماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادا على مجرد النظر بالعقل ، بل يتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع ليس اصلا للدين ، واما الفلاسفة فجعلوه اصلا من غير التفات إلى ما جاء عن الأنبياء، فلا يتقيدون بالجمع بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء، على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عمّا جاء به الشرع ولا يتناقض معه.
قال الغزالي في " الاحياء " ما نصه ( 1 ) :" واما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها اهل السنة من السلف الصالح لا غير" . ا هــ
قال الحافظ ابن عساكر ( 2 ) : "اخبرنا الشيخ ابو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن احمد الجرجاني الصوفي المعروف بالشعر بنيسابور قال : سمعت ابا الحسن علي بن احمد المديني يقول : سمعت الإمام أبا محمد عبد الله بن يوسف الجويني يقول : رأيت ابراهيم الخليل عليه السلام في المنام فاهويت لان اقبل رجليه فمنعني من ذلك تكرما لي فاستدبرت فقبلت عقبيه ، فأولته الرفعة والبركة تبقى في عقبي ، ثم قلت : يا خليل الله ما تقول في علم الكلام ، فقال : يدفع به الشبه والاباطيل " ا هــ
فعلماء الكلام من اهل السنة ذكروا الأدلة العقلية على اثبات وجود الله وإثبات حدوث العالم وهو كل ما سوى الله ، وما يجب لله من صفات الكمال التي تليق به ، وما يجب تنزيهه عنه من صفات المخلوقين كالجسمية والمكان ومشابهة الخلق وغير ذلك مما لا يجوز ان يوصف الله به .
فمثلا قالوا : من البراهين العقلية على حدوث العالم ان الجسم لا يخلو من الحركة والسكون وهما حادثان لأنه بحدوث أحدهما ينعدم الآخر ، فما لا يخلو من الحادث حادث فالاجسام حادثة .
ولهم دليل ءاخر على اثبات حدوث العالم باثبات حدوث الاعيان والاعراض ،فقالوا : العالم بجميع اجزائه محدث اذ هو اعيان واعراض فالأعيان ما له قيام بذاته وهو إما مركب وهو الجسم او غير مركب كالجوهر - الفرد - وهو الجزء الذي لا يتجزأ ، اي قسموا العالم الى اعيان واعراض ولا ثالث لهما ، لان الاعيان ما له قيام بذاته ، والقيام بذاته معناه التحيز بنفسه اي ليس تحيزه تابعا لتحيز شئ ءاخر كالشخص من الاشخاص من بني ءادم وكالفرد من أفراد الحجر الحجر والفرد من افراد الشجر الى غير ذلك ، هذه الاشياء اعيان لانها متحيزة تحيزا مستقلا اي غير تابع لتحيز شئ اخر ، والاعيان إما مركبة من جزئين فاكثر ، ويسمى المركب جسما ، او غير مركب كالجوهر ، والجوهر في اللغة الأصل وفي اصطلاحهم الجزء الذي لا يقبل الانقسام من التناهي في القلة ويقال له الجوهر الفرد ، وانما سمي الجوهر لانه اصل الاجسام ، والاجسام تحصل من جوهرين فاكثر فتصير قابلة للإنقسام ويعبر عنه بالجزء الذي لا يتجزأ.
والعرَض ما لا يقوم بذاته يعني ان العرض الذي هو احد قسمي الحادثات ما لا يقوم بذاته بل بغيره كبياض الجسم الابيض وسواد الجسم الاسود وحركة الجرم وسكونه ونحو ذلك ، فهذه الاعراض حادثة،والخالق لهذه الأعيان والأعراض هو الله تعالى .
وقالوا في الرد على المشبهة : لو كان الله يشبه شيئا من الاشياء لكان لا يخلو من ان يكون يشبهه من كل جهاته او يشبهه من بعض جهاته ، فان كان يشبهه من كل جهاته وجب ان يكون محدثا من كل جهاته ، وان كان يشبهه من بعض جهاته وجب ان يكون محدثا مثله من حيث اشبَهَهُ ، لان كل مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها به ، ويستحيل ان يكون المحدث قديما والقديم محدثا ، وقد قال الله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (11) } سورة الشورى ، وقال تعالى وتقدس {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (سورة الاخلاص) .
وفي هذا رد على الوهابية المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بالبشر فيقولون الله متكلم بحرف وصوت قديم النوع حادث الافراد , ويقولون بان الله يتحرك وغير ذلك من ضلالهم والعياذ بالله تعالى , لذلك نراهم يذمون هذا العلم الذي يقض مضجعهم ويبين فساد عقيدتهم ، ولقد احسن القائل :
عاب الكلام اناس لا عقول لهم ********* وما عليه اذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى في الافق طالعة **** ان لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
------------
(1) إحياء علوم الدين : بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة (1/52).
(2) تبيين كذب المفتري (ص/355-356).
بيان كذب ما يروى عن إمام الحرمين من رجوعه عن علم الكلام
قال تاج الدين السبكي في طبقاته ما نصه(1): " وذكر ابن السمعاني أيضاً أنه سمع أبا العلاء أحمد بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يذكر عن محمد بن طاهر المقدسي الحافظ قال: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب بنيسابور وكان ممن يختلف إلى درس إمام الحرمين أنه قال: سمعت أبا المعالي يقول: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به.
قلت أنا: يشبه أن تكون هذه الحكاية مكذوبة، وابن طاهر عنده تحامل على إمام الحرمين، والقيرواني المشار إليه رجل مجهول، ثم هذا الإمام العظيم الذي ملأت تلامذته الأرض لا ينقل هذه الحكاية عنه غير رجل مجهول، ولا تعرف من غير طريق ابن طاهر، إن هذا لعجيب! وأغلب ظني أنها كذبة افتعلها من لا يستحي، وما الذي بلغ به رضي الله تعالى عنه علم الكلام؟ أليس قد أعزَّ الله به الحق وأظهر به السنة وأمات به البدعة ؟، انتهى كلام السبكي.
(1) طبقات الشافعية الكبرى (5/186-187).
والله اعلم واحكم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، المنزه عن الجسم والحد، والزمان والمكان سبحانه لا يُمسُّ ولا يحس ولا يُجسُّ، ولا يقاس صفات ذاته بالناس، ولا شريك له في الملك ولا نظير، ولا مشير له في الحكم ولا وزير، مهما تصورت ببالك فالله لا يشبه ذلك.
ونشهد أن محمداً عبده المجتبى ورسوله المرتضى بعثه الله بالنور الساطع والضياء اللامع فبلَّغ عن الله عز وجل الرسالة، وأوضح فيما دعا إليه الدلالة فكان في اتّباع سنته لزوم الهدى، وفى قبول ما أتى به وجود السنا فصلى الله عليه وعلى ءاله وصحبه النجباء.
أما بعد، فإن الله اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من عباده فبعثه إلى خلقه بالحق بشيراً ومن النار لمن زاغ عن سبيله نذيراً، ليدعو الخلق من عباده إلى عبادته، قال الله تعالى في كتابه المبين: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} ) سورة الذاريات
، أي خلقهم ليأمرهم بعبادته، وكان أول مـا دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبادة الله تعالى وتوحيده وأن لا يشرك به شىء، فلذلك كان علم التوحيد أجلّ العلوم وأولاها تحصيلاً، وكان اهتمام علماء السلف والخلف- أي الذين جاؤوا بعد السلف- بهذا العلم كبيراً.، وكلا الفريقين من السلف والخلف كانت بحوزتهم الأدلة العقلية للرد عنى المبتدعة المخالفين لأهل الحق، واشتهر عن الخلف إبراز الدلائل النيرة والحجج الباهرة لإثبات وجوده تعالى وحدوث كل ما سواه والذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجوهر والأعراض وأحكامها، وسبب ذلك انتشار المبتدعة المنتسبين إلى الإسلام والفلاسفة والملاحدة من غير المسلمين،
فنشر هؤلاء المخالفون ءاراءهم الفاسدة التي لم تكن موجودة في عهد الصحابة ومن جاء بعدهم بزمان وألقوها على مسامع المسلمين، فقام أهل الحق الذين عُرفوا باسم علماء الكلام في رد تلك الشبه باستحداث اصطلاحات وطرق جديدة لمقارعة المخالفين إما لكون المخالفين لا يأخذون بالقرءان كالفلاسفة والملاحدة، وإما لكونهم من أهل الأهواء الذين اعتنقوا البدعة وصاروا ينافحون عنها بما زعموه أدلة عقلية، واستمر أهل الحق في نصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة حتى ظهر في النصف الثاني من القرن السابع الهجري رجل زعم أنه على مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه مع مخالفته له في الأصول والفروع، وقد تمكن هذا الرجل وهو ابن تيمية من اجتلاب ثقة بعض شيوخ العلم إلى نفسه وثنائهم عليه، وكان طلق اللسان، فإذا هو يجري على خطة مدبرة في إحلال المذهب الحشوي تحت ستار مذهب السلف محل مذهب أهل السنة،
ولم يعلم أن مذهب أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية بلغ من التمحيص العلمي على تعاقب القرون بأيدي نوابغ أهل النظر والفقه في الدين ممن لا يعد هذا الحشوي- أي ابن تيميه- من صغار تلامذتهم إلى مستوى من قوة الحجج بحيث إذا حاول مثله أن يصطدم بها لا يقع إلا على أم رأسه، وكان له أتباع ينعقون ولا يعون، وخلفهم أتباع وهكذا إلى أن وصل النعيق إلى رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب النجدي إمام الوهابية. الذي كان ابتداء ظهور أمره في الشرق سنة 1143هـ،
واشتهر أمره بعد 1170 هـ بنجد وقراها، وقد ظهر بدعوة ممزوجة بأفكار منه زعم أنها من الكتاب والسنة ، وأخذ ببعض بدع ابن تيمية فأحياها وابتدع من عند نفسه بدعا أخرى، وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما شاهدوا أفعاله وسمعوا من أقواله التي خالف في الشرع، حتى قال فيه ابن عابدين الحنفي في ردّ المحتار ما نصّه (1): "مطلب في أتباع ابن عبد الوهاب الخوارج في زماننا: قوله: "ويكفرون أصحاب نبينا (صلّى الله عليه وسلّم)" علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج،
بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه، والا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع محمد بن عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلّبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنّة قتل علمائهم حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكرالمسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف". ا.هـ.،
وقال الشيخ أحمد الصاوي المالكي ما نصه (1): "وقيل هذه الآية- يعني قوله تعالى ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ{6} ) سورة فاطر- نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم كما هو مشاهد الآن في نظائرهم وهم فرقة بأرض الحجاز يقال لهم الوهابية يحسبون أنهم على شئ ألا- إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، نسأل الله الكريم أن يقطع دابرهم" انتهى كلام الصاوي.
ومن شؤم الطائفة الوهابية أنها تذم علم الكلام الممدوح وأهله، وما ذاك إلا لأن الحجج العقلية والبراهين القطعية تهدم على الوهابية عقيدتهم التي هي عقيدة التشبيه والتجسيم كقولهم في حق الله- بالجهة والجلوس والحركة والكيفية وغير ذلك من انحرافهم، وتمسكوا بشبه لا تنهض
دليلاً لما ذهبوا إليه كقولهم إن الصحابة لم يشتغلوا به وإن بعض العلماء ذم المشتغلين بهذا العلم وما إلى ذلك من الشبه التي سيُجاب عنها في هذا الكتاب إن شاء الله.
ولما كثر الخوض في هذا الموضوع والتبس الأمر على بعض الناس، ولما كان الكلام منه ممدوح ومنه مذموم أردنا تبيان الحق وجلاء الأمر ليكون المؤمن على بينه من أمره.
(1) (أنظر كتابه" رد المحتار على الدر المختار"(4/262) كتاب البغاة )
بيان أهمية علم التوحيد وأنه أفضل العلوم
علم التوحيد هو علم يفيد معرفة الله على ما يليق به ومعرفة رسوله على ما يليق به، وتنزيه الله عما لا يجوز عليه، وتبرئة الأنبياء عما لا يليق بهم، أو يقال: هو العلم الذي يعرف به ما يجوز على الله وما يليق به وما لا يجوز عليه وما يجب له من أن ُيعرف في حقه سبحانه وتعالى. قال الإمام الجنيد البغدادي سيد الطائفة الصوفية: التوحيد إفراد القديم من المُحدث " (1).
وقال الشيخ أبو علي الرُّوذباري (2) تلميذ الجنيد: " التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة كل ما صورته الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{11}" سورة الشورى "اهـ
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري(3): "أهل السنة فسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل "اهـ
واعلم أن شرف هذا العلم على غيره من العلوم لكونه متعلقا بأشرف المعلومات التي هي أصول الدين أي معرفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والعلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، ويسمى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة، وقد خصّ النبي صلى الله عليه وسلم. نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: " أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له " (4) فكان هذا العلم
أهمّ العلوم تحصيلاً وأحقّها تبجيلاً وتعظيماً قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ {19}: سورة محمد، قدّم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار لتعلّق التوحيد بعلم الأصول، وتعلق الاستغفار لعلم الفروع.
وروى البخاري في صحيحه (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله".
وصح عن جُندُب بن عبد الله أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حَزاوِرَة (6)، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرءان ثم تعلمنا القرءان فازددنا به إيمانا، رواه ابن ماجه (7).
فهذا يدل على أهمية علم التوحيد الذي كان لعلماء السلف اهتمام بالغ في تحصيله وتعليمه للناس، قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في "الفقه الأبسط لما (8): "الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها" اهـ.
وقال أيضاً (9): أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر" اهـ.
وفي (فتاوى قاضيخان "(10) على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ما يدلى
على أهمية الاعتناء بعلم التوحيد وتعليمه للناس، فقد ورد فيه ما نصه:
" تعليم صفة الخالق مولانا جل جلاله للناس وبيان خصائص مذهب أهل السنة والجماعة من أهم الأمور، وعلى الذين تصدّوا للوعظ أن يلقنوا الناس في مجالسهم على منابرهم ذلك، قال الله تعالى: ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ {55} ) سورة الذاريات، وعلى الذين يؤمّون في المساجد أن يعلّموا جماعتهم شرائط الصلاة وشرائع الإسلام وخصائص مذاهب الحق،وإذا علموا في جماعتهم مبتدعاً أرشدوه وإن كان داعياً إلى بدعته منعوه وإن لم يقدروا رفعوا الأمر إلى الحكام حتى يجلوه عن البلدة إن لم يمتنع، وعلى العالم إذا علم من قاض أو من ءاخر يدعو الناس إلى خلاف السنة أو ظن منه ذلك أن يعلم الناس بأنه لا يجوز اتباعه ولا الأخذ عنه فعسى يخلط في أثناء الحق باطلاً يعتقده العوامّ حقّاً ويعسر إزالته! اهـ.
قال الحافظ ابن عساكر (11): "أخبرنا الشيخ الإمام أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم بن هوازن إجازة قال: سئل أبي الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله فقيل له: أرباب التوحيد هل يتفاوتون فيه؟ فقال: إن فرقت بين مصل ومصل وعلمت أن هذا يصلي قلبه مشحون بالغفلات وذاك يصلي وقلبه حاضر ففرق بين عالم وعالم، هذا لو طرأت عليه مشكلة لم يمكنه الخروج منها وهذا يقاوم كل عدو للإسلام ويحل كل معضلة تعز في مقام الخصام، وهذا هو الجهاد الأكبر فإن الجهاد في الظاهر مع أقوام معينين وهذا جهاد مع جميع أعداء الدين وهو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وللخراج في البلد قانون معروف إذا أشكل خراج بقعة رجع الناس إلى ذلك القانون، وقانون العلم بالله قلوب العارفين به، فرواة الأخبار خزان الشرع والقراء من الخواص والفقهاء حفظة الشرع وعلماء الأصول هم الذين يعرفون ما يجب ويستحيل و يجوز في حق الصانع وهم الأقلون اليوم.
رمى الدهر بالفتيان حتى كأنهم بأكناف أطراف السماء نجوم
وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل
قلت: عناية الناس بعلم الأصول إذ ليس فيه وقف ورفق يأكلونه فميلهم إلى ما يقربهم من الدنيا ويوليهم الأوقاف والقضاء والطريق أيضاً مشكل فهو علم عزيز والطريق إلى الأعزة عزيز وقد يرى بعض الجواهر أثبت له درة من العز فلا توجد إلا عند الخواص فهو وإن كان حجراً غير مبتذل فما الظن بجوهر المعرفة.
أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن إبراهيم العلوي وأبو الحسن علي ابن أحمد الغساني قالا: ثنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أنا أبو طالب عمر بن إبراهيم الفقيه الزهري قال: ثنا الحسن بن الحسين الشافعي الهمذاني قال: أنشدني أبو عبد الله بن مجاهد المتكلم لبعضهم:
أيها المقتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الكلام تطلب الفقه كي تصحح حكماً ثم اغفلت منزل الأحكام " اهـ
فظهر من ذلك أن صرف الهمّة لتحصيل هذا العلم وتعليمه للناس مقدم على غيره من العلوم، لأن العبادة لا تصح إلا بعد معرفة المعبود كما قال الغزالي رحمه الله تعالى، وذلك لأنه من يشبّه الله تعالى بشئ ما لم تصح عبادته لأنه يعبد شيئاً تخيّله وتوهمه في مخيلته وأوهامه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6} ) ( سورة التحريم)" قال سيدنا علي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية. "علّموا أنفسكم وأهليكم الخير" رواه الحاكم في "المستدرك "(12)، يعني أن حفظ النفس والأهل من النار التي عظَّم الله أمرها يكون بتعلم الأمور
الدينية أي معرفة ما فرض الله فعله أو اجتنابه أي الواجبات والمحرمات وذلك كي لا يقع في عبادة فاسدةٍ، وبتعلم ما يجوز اعتقاده وما لا يجوز وذلك كي لا يقع في التشبيه والتمثيل والكفر والضلال.
فلأهمية هذا الأمر العظيم كان لنا الاعتناء الشديد بهذا العلم، وقد لاقينا من جرَّاء ذلك معارضة من الذين لا ينزلون الأمور بمراتبها لا سيما من مشبهة هذا العصر وهم الوهابية الذين ينشرون عقيدة المجسمة التي أخذوها من ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ويحاربون عقيدة أهل السنة متسترين بستار السلفية والسلف براء منهم، فنحمد الله تعالى أن جعلنا ممن ينصرون عقيدة أهل الحق المؤيَّدة بالكتاب والسنة والأدلة العقلية، وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.
(1) الرسالة القشيرية (ص/ 3).
(2) المصدر السابق (ص/ 5).
(3) فتح الباري (13/ 344).
(4) بوّب البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم. " أنا أعلمكم بالله "
(5) صحيح البخاري:كتاب الإيمان:باب من قال إن الإيمان هو العمل.
(6) حزاورة: جمع حَزَوَّر وهو الغلام إذا اشتد وقوي.
(7) سنن ابن ماجه: المقدمة.
(8) إشارات المرام (ص/ 28- 29).
(9) المصدر السابق.
(10) فتاوى قاضيخان (مطبوعة بهامش الفتاوى الهندية): الباب الثاني فيما يكون كفراً من المسلم وما لا يكون (2/ 320).
(11) تبيين كذب المفتري (ص/ 356- 357).
(12) المستدرك (2/ 494).
ما يجب من علم التوحيد على كل مكلفٍ وما يجب على بعض المكلفين
فالأول: ويسمى فرضاً عينيّاً وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والجنة والنار، والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وسؤال القبر ونحو ذلك.
والثاني: أى الواجب الكفائي معرفة العقائد الإيمانية بدلائلها النقلية الواردة في القرءان والحديث، والأدلة العقلية إلى الحد الكافي لرد الملحدين.
أي يجب أن يكون في المسلمين من يعرف الأدلة الكافية لإبطال تمويهات الملحدين ونحوهم من سائر أعداء الإسلام، والمحرفين للدّين من المنتسبين إليه وهم ليسوا منه كالقاديانية والبهائية وغيرهم.
فلو خلت بلدة من بلاد المسلمين ممن يقوم بالرد عليهم ودحض تشكيكاتهم وتمويهاتهم أثم أهل البلدة كلهم.
ويقال بعبارة أخرى: الواجب العيني من هذا العلم قسمان:
قسم لا يحصل أصل الإسلام الذي لا يحصل النجاة من الخلود الأبدي في النار إلا به وهو معرفة الله ورسوله فلا يحصل النجاة من الخلود الأبدي في النار بدون ذلك. فمن عرف الله ورسوله بلا ارتياب ولم يستحضر ما سوى ذلك من أصول العقيدة ونطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله ولو مرة في العمر ولم يؤد الفرائض لكنه لا ينكرها فهو مسلم عاص، ويقال له أيضاً مؤمن مذنب.
وقسم يحصل به أصل الإسلام مع زيادة وهو معرفة جميع الضروريات في الاعتقاد وذلك معرفة ثلاث عشرة صفة لله تعالى وهي.
الوجودُ والقدم (أي الأزلية) والبقاءُ والمخالفةُ للحوادث والقيامُ بالنفس ( أي أنه لا يحتاج إلى غيره) والوَحدانية والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والعلم والحياة، ومعرفة أن للأنبياء صفة الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة والعصمة وجواز الأعراض البشرية عليهم التي لا تؤدّي إلى الحط من مراتبهم.
وبقية ما يتبع ذلك من الإيمان بالملائكة وكتب الله ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره والبعث بعد الموت والثواب والعقاب والجنة والنار والميزان والصراط والحوض وسؤال القبر وغيره كأبدية الجنة والنار ونعيم الجنة وعذاب النار والحساب ونحو ذلك.
قال شمس الدين الرملي الشافعي في شرحه على كتاب الزُّبد (1) ممزوتجا بالمتن: " (والعِلْمُ أسْنَى سائِرِ الأعمالِ ) أي العلم أرفع وأفضل من سائر الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى لأدلة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر كقوله تعالى: ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ {18} سورة ءال عمران، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء {28}) سورة فاطر، وخبر مسلم (2): "إذا مات " الإنسان" (3) انقطع عمله إلا من ثلاثة " إلا" (4) صدقة- جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له "، وخبر ابن حبان (5) والحاكم (6) في صحيحهما: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع "، وخبر الترمذي (7) وغيره : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ولأن أعمال الطاعة مفروضة ومندوبة، والمفروض أفضل من المندوب، والعلم منه لأنه إما فرض عين وإما فرض كفاية، قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
والألف واللام في "العلم " للاستغراق أو للجنس أو للعهد الذكري أو الذهني أي الشرعي الصادق بالتفسير والحديث والفقه (وهو دليل الخير والإفضَال) أي أن العلم دليل الخير أي الفوز بالسعادة الأخروية، والإفضال الإنعام، قال صلى الله عليه وسلم : "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقا من طرق الجنة" (8).
ثم العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية وقد شرع (9) في ذكرهما مبتدئاً بالأول منهما فقال (فَفَرْضُهُ عِلْمُ صِفَاتِ الفَرْدِ) أي أن من فروض العين علم صفات الله تعالى (10) وما يجب له وما يمتنع عليه ككونه موجوداً واحداً قديماً ليس بجسم. ولا جوهر ولا عرض ولا مختصّ بجهة ولا مستقرّ على مكان، حيّاً قادراً عليماً مريداً سميعاً بصيراً باقياً متكلماً قديم الصفات خالقاً أفعال العباد منزَّهاً عن حلول الحوادث.
ولا يعتبر فيها العلم بالدليل بل يكفي فيها الاعتقاد الجازم (مع عِلمِ ما يحتاجهُ المُؤَدّي) أي المكلف بفرائض الله تعالى (مِنْ فَرْضِ دينِ الله في الدوام) أي فرائض الله تعالى مما لا يتأتى فعلها إلا به (كالطُّهْرِ ) عن الحدَث بوضوء أو غسل أو تيمم، والخبث مغلظاً أو متوسطاً أو مخففاً ( والصلاةِ والصيامِ ) فإن من لا يعلم أركان العبادة وشروطها لا يمكنه أداؤها.، وإنما يتعين تعلم الأحكام الظاهرة دون الدقائق والمسائل التي لا تعم بها البلوى، وخرج بقوله: (في الدوام) ما لا جب في العمر إلا مرة وهو الحج والعمرة وما لا يجب في العام إلا مرة وهو الزكاة فلا يتعين علم ما يحتاج إليه في أدائها إلا على من وجبت عليه، فمن له مال زكوي يلزمه تعلم ظواهر أحكام الزكاة، وإن كان ثم ساع يكفيه الأمر، فقد يجب عليه ما لا يعلمه الساعي. وكالفرض فيما ذكره النفل إذا أراد فعله إذا تعاطي العبادة الفاسدة حرام (والبَيْعِ لِلمُحْتَاجِ لِلتَّبايُع ) فيتعين على متعاطي البيع والشراء تعلم أحكامهما، حتى يتعين على الصيرفي أن يعلم عدم جواز بيع الذهَب بالذَّهب والفضة بالفضة إلا مع الحلول والمماثلة والقبض قبل التفرق ولا بيع أحدهما بالآخر إلا مع الحلول والقبض قبل التفرق (وظَاهِرِ الأحْكَامِ في الصنَائِعِ ) فيتعين تعلم ظاهر الأحكام الغالبة فيها على من يعانيها دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة حتى يتعين على الخباز أن يعلم أنه لا يجوز بيع خبز البر بالبر ولا بدقيقه، ويتعين علم ما يحتاج إليه في المناكحات ونحوها (وعلم داءٍ للقلوبِ مُفْسدِ ) لها ليحترز عنه وهو علم أمراضها التي تخرجها عن الصحة فيعلم حدها وسببها وعلاجها (كالعُجْبِ ) وهو استعظام الآدمي نفسه على غيره والركون إليها مع نسيان إضافتها للمنعم ( والكِبْرِ ) وهو أن يتعدى الشخص طوره وقدره وهو خُلُقٌ في النفس وأفعال تصدر من الجوارح ( وَدَاءِ الحَسَدِ ) وهو كراهتك نعمة الله على غيرك ومحبتك زوالها عنه وعمل بمقتضاه، ثم ذكر القسم الثاني وهو فرض الكفاية وبه شرع في أصول الفقه فقال (وما سِوى هذا مِنَ الأحْكَامِ ، فَرْضُ كِفَايَةٍ على الأنام ) أي ما سوى فرض العين من علوم أحكام الله كالتوغل في علم الكلام بحيث يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلا منهم فعله، فكل منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به أو لم يعلم وهو قريب يمكنه العلم به بحيث ينسب إلى التقصير، ولا إثم على من لم يتمكن لعدم وجوبه عليه " اهـ.
وقد ألف الحافظ البيهقي الشافعي رحمه الله تعالى كتاباً في بيان ما يجب على المكلفين اعتقاده والاعتراف به سماه "الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد".
وكذلك السادة الصوفية الصادقون يقدّمون معرفة علم التوحيد على غيره من العلوم أي أول ما يوجبون على المكلف هو الإيمان بالله وهو أصل الواجبات أي الاعتقاد الجازم بوجوده تعالى على ما يليق به وهو إثبات وجوده بلا كيفية ولا كميَّة ولا مكان، والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبأن ما جاء به هو الحق المبين.
روى أبو القاسم القشيري في رسالته (11) بإسناده إلى أبي محمد رُوَيْم بن أحمد البغدادي أنه سئل عن أول فرض افترضه الله عز وجل على خلقه ما هو؟ فقال: "المعرفة لقوله جل ذِكْره (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56}) سورة الذاريات) قال ابن عباس: إلا ليعرفون " اهـ.
ثم قال القشيري (12): "وقال الجُنَيْد: إن أوّل ما يحتاج إليه العبد معرفة صفة الخالق من المخلوق وصفة القديم مِن المحدَث " اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري (13): "قوله عزَّ وجلَّ: ( رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا{114}) سورة طه، واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شئ إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص " اهـ.
فالحاصل أنه يجب على الأبَوَيْن نحوَ أولادهما تعليم الصبي والصبية ما يجب عليهما بعد البلوغ أي مِن أمور الدين الضرورية التي يشترك في معرفتها الخاصُّ والعامُّ، وهو ما كان من أصول العقيدة مِن وجود الله بلا كَيْف ولا مكان، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، قِدَمِه وبقائه، وعدم احتياجه إلى أحد من خلقه، ومخالفته للحوادث في الذات والصفات أي أنه لا يشبه الضَّوءَ ولا الظلامَ ولا الإنسان ولا النبات ولا الجمادات من الكواكب وغيرِها، وأن لله قدرةّ وإرادةّ، وأن إرادته لا تتغير ولا تتبدل، وسمعاً أي يسمع المسموعات كلها بلا أذن، وبَصراً أي يرى من غير أن يكون له حدقة، وعلماً، وحياة أزلية أبدية ليست بروح ولا دم ولا قلب، وكلاماً ليس بحرف ولا صوت ولا لغة.
وأن محمداً عبد الله ورسوله العربي الذي وُلِد بمكة وبُعثَ بها وهاجر إلى المدينة ودفن فيها، وأنه صادق في جميع ما أَخبر به وبلغه عن الله تعالى سواء كان مِن أخبار مَن قبله من الأمم والأنبياء وبدءِ الخلق، أو من التحليل أو التحريم لبعض أفعال وأقوال العباد، أو مما أَخبر به مما يحدث في المستقبل في الدنيا وفي الآخرة كالإيمان بعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين منكرٍ ونكيرٍ والبعث والحشر والقيامة والحساب والثواب والعذاب والميزان والنار والصراط والحوض والشفاعة والجنة والرؤية لله تعالى في الآخرة بلا كيف ولا مكان ولا جهة، وأنه خاتم الأنبياء، وأن الله أرسل أنبياء أولهم ءادم وءاخرهم محمد كلهم موصوفون بالصدق والأمانة والذكاء والتبليغ فيستحيل عليهم الخيانة والرذالة والسفاهة والبلادة، وتجب لهم العصمة من الكفر المعاصي الصغيرة التي فيها خسَّة ودناءة، والعصمة من المعاصي الكبيرة أيضاً كالزنى والسرقة وشرب الخمر قبل النبوة وبعدها، وأنه أنزل كُتباً مع الأنبياء، وأن، لله ملائكة ليسوا ذكوراً ولا إناثاً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤْمرون، وأن الله سيفني الجن والإنس ثم يُعادون إلى الحياة وأنهم يجازَوْن بعد ذلك على حسناتهم بالنعيم المقيم وعلى سيئاتهم بالعذاب الأليم، وأن الله أعدَّ للمؤمنين داراً يتنعمون فيها تُسمّى الجنة وللكافرين داراً تسمى جهنم.
فهذا وما أشبه ذلك يجب على العبد معرفته.
(1) غاية البيان (ص/ 18- 19- 20).
(2) في الأصل مذكور كلمة "الصحيحين " والصواب كما ذكرناه فوق لأن البخاري لم يخرج هذا الحديث في صحيحه وإنما أخرجه مسلم وغيره: ) أنظر صحيح مسلم: كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
(3) في الأصل: "ابن ءادم" وما أثبتناه هو لفظ مسلم.
(4) هذه زيادة أضفناها من صحيح مسلم ليست مذكورة في الأصل.
(5) أنظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/307).
(6) 1 لمستدرك (1/ 100- 101).
(7) سنن الترمذي: كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة .
(8) سنن أبي داود: كتاب العلم: باب الحث على طلب العلم.
(9) أي ابن رسلان صاحب متن الزُبد.
(10) وهي الصفات الثلاث عشرة التي مرّ ذكرها
(11) الرسالة القشيرية (ص/ 3).
(12) المصدر السابق (ص/ 4).
(13) فتح الباري (1/ 141).
بيان أن علم الكلام يتضمن الحِجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والنقلية والرد على المبتدعة المنحرفين
ما يجب من علم التوحيد على كل مكلفٍ وما يجب على بعض المكلفين
اعلم أن العلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، ويسمّى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة.
ويسمى هذا العلم أيضاً مع أدلته العقلية والنقلية من الكتاب والسنّة علم الكلام؛ والسبب في تسميته بهذا الاسم كثرة المخالفين فيه من المنتسبين الى الإسلام وطول الكلام فيه من أهل السنة لتقرير الحق ؛ وقيل لأن أشهر الخلافات فيه مسئلة كلام الله تعالى أنه قديم – وهو الحق – أو حادث . فالحشوية قالت: كلامه صوت وحرف، حتى بالغ بعضهم فقال: ان هذا الصوت ازلي قديم ، وان اشكال الحروف التي في المصحف ازلية قديمة ، فخرجوا عن دائرة العقل ، وقالت طائفة اخرى : ان الله تعالى متكلم بمعنى انه خالق الكلام في غيره كالشجرة التي سمع عندها موسى كلام الله لا بمعنى انه قام بذات الله كلام هو صفة من صفاته وهم المعتزلة قبحهم الله ، وقال اهل السنة : ان الله متكلم بكلام ذاتي ازلي ابدي ليس حرفا ولا صوتا ولا يختلف باختلاف اللغات .
وموضوع علم الكلام هو النظر اي الاستدلال بخلق الله تعالى لاثبات وجوده وصفاته الكمالية وبالنصوص الشرعية المستخرج منها البراهين . وهو على قانون الاسلام لا على اصول الفلاسفة ،لان الفلاسفة لهم كلام في ذلك يعرف عندهم بالالهيات ؛ وعلماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادا على مجرد النظر بالعقل ، بل يتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع ليس اصلا للدين ، واما الفلاسفة فجعلوه اصلا من غير التفات إلى ما جاء عن الأنبياء، فلا يتقيدون بالجمع بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء، على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عمّا جاء به الشرع ولا يتناقض معه.
قال الغزالي في " الاحياء " ما نصه ( 1 ) :" واما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها اهل السنة من السلف الصالح لا غير" . ا هــ
قال الحافظ ابن عساكر ( 2 ) : "اخبرنا الشيخ ابو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن احمد الجرجاني الصوفي المعروف بالشعر بنيسابور قال : سمعت ابا الحسن علي بن احمد المديني يقول : سمعت الإمام أبا محمد عبد الله بن يوسف الجويني يقول : رأيت ابراهيم الخليل عليه السلام في المنام فاهويت لان اقبل رجليه فمنعني من ذلك تكرما لي فاستدبرت فقبلت عقبيه ، فأولته الرفعة والبركة تبقى في عقبي ، ثم قلت : يا خليل الله ما تقول في علم الكلام ، فقال : يدفع به الشبه والاباطيل " ا هــ
فعلماء الكلام من اهل السنة ذكروا الأدلة العقلية على اثبات وجود الله وإثبات حدوث العالم وهو كل ما سوى الله ، وما يجب لله من صفات الكمال التي تليق به ، وما يجب تنزيهه عنه من صفات المخلوقين كالجسمية والمكان ومشابهة الخلق وغير ذلك مما لا يجوز ان يوصف الله به .
فمثلا قالوا : من البراهين العقلية على حدوث العالم ان الجسم لا يخلو من الحركة والسكون وهما حادثان لأنه بحدوث أحدهما ينعدم الآخر ، فما لا يخلو من الحادث حادث فالاجسام حادثة .
ولهم دليل ءاخر على اثبات حدوث العالم باثبات حدوث الاعيان والاعراض ،فقالوا : العالم بجميع اجزائه محدث اذ هو اعيان واعراض فالأعيان ما له قيام بذاته وهو إما مركب وهو الجسم او غير مركب كالجوهر - الفرد - وهو الجزء الذي لا يتجزأ ، اي قسموا العالم الى اعيان واعراض ولا ثالث لهما ، لان الاعيان ما له قيام بذاته ، والقيام بذاته معناه التحيز بنفسه اي ليس تحيزه تابعا لتحيز شئ ءاخر كالشخص من الاشخاص من بني ءادم وكالفرد من أفراد الحجر الحجر والفرد من افراد الشجر الى غير ذلك ، هذه الاشياء اعيان لانها متحيزة تحيزا مستقلا اي غير تابع لتحيز شئ اخر ، والاعيان إما مركبة من جزئين فاكثر ، ويسمى المركب جسما ، او غير مركب كالجوهر ، والجوهر في اللغة الأصل وفي اصطلاحهم الجزء الذي لا يقبل الانقسام من التناهي في القلة ويقال له الجوهر الفرد ، وانما سمي الجوهر لانه اصل الاجسام ، والاجسام تحصل من جوهرين فاكثر فتصير قابلة للإنقسام ويعبر عنه بالجزء الذي لا يتجزأ.
والعرَض ما لا يقوم بذاته يعني ان العرض الذي هو احد قسمي الحادثات ما لا يقوم بذاته بل بغيره كبياض الجسم الابيض وسواد الجسم الاسود وحركة الجرم وسكونه ونحو ذلك ، فهذه الاعراض حادثة،والخالق لهذه الأعيان والأعراض هو الله تعالى .
وقالوا في الرد على المشبهة : لو كان الله يشبه شيئا من الاشياء لكان لا يخلو من ان يكون يشبهه من كل جهاته او يشبهه من بعض جهاته ، فان كان يشبهه من كل جهاته وجب ان يكون محدثا من كل جهاته ، وان كان يشبهه من بعض جهاته وجب ان يكون محدثا مثله من حيث اشبَهَهُ ، لان كل مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها به ، ويستحيل ان يكون المحدث قديما والقديم محدثا ، وقد قال الله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (11) } سورة الشورى ، وقال تعالى وتقدس {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (سورة الاخلاص) .
وفي هذا رد على الوهابية المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بالبشر فيقولون الله متكلم بحرف وصوت قديم النوع حادث الافراد , ويقولون بان الله يتحرك وغير ذلك من ضلالهم والعياذ بالله تعالى , لذلك نراهم يذمون هذا العلم الذي يقض مضجعهم ويبين فساد عقيدتهم ، ولقد احسن القائل :
عاب الكلام اناس لا عقول لهم ********* وما عليه اذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى في الافق طالعة **** ان لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
------------
(1) إحياء علوم الدين : بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة (1/52).
(2) تبيين كذب المفتري (ص/355-356).
بيان كذب ما يروى عن إمام الحرمين من رجوعه عن علم الكلام
قال تاج الدين السبكي في طبقاته ما نصه(1): " وذكر ابن السمعاني أيضاً أنه سمع أبا العلاء أحمد بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يذكر عن محمد بن طاهر المقدسي الحافظ قال: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب بنيسابور وكان ممن يختلف إلى درس إمام الحرمين أنه قال: سمعت أبا المعالي يقول: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به.
قلت أنا: يشبه أن تكون هذه الحكاية مكذوبة، وابن طاهر عنده تحامل على إمام الحرمين، والقيرواني المشار إليه رجل مجهول، ثم هذا الإمام العظيم الذي ملأت تلامذته الأرض لا ينقل هذه الحكاية عنه غير رجل مجهول، ولا تعرف من غير طريق ابن طاهر، إن هذا لعجيب! وأغلب ظني أنها كذبة افتعلها من لا يستحي، وما الذي بلغ به رضي الله تعالى عنه علم الكلام؟ أليس قد أعزَّ الله به الحق وأظهر به السنة وأمات به البدعة ؟، انتهى كلام السبكي.
(1) طبقات الشافعية الكبرى (5/186-187).
والله اعلم واحكم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق