الرد على فيصل بن قزاز الجاسم وميزانه الطفيف!!
ص713 نقل القزاز كلاماً لابن كثير وابن تيمية والذهبي والآلوسي والأهوازي ونقل كلاماً لابن درباس محاولاً إثبات مرحلة ثالثة لإمام أهل السنة والجماعة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالي.!!
يستدلُّ القوم بإثبات مرحلة ثالثة للإمام الأشعري ، يصلون بها إلى أن الإمام رجع إلى ما يطلقون عليه (مذهب السلف) في اعتقاده بقضية صفات المولى تبارك وتعالى
وهذه الدعوى تحتاج إلى كثير من التحقيق والاستقصاء للتوصُّل إلى نتيجة علمية صادقة لا تعتريها الريب والشكوك ، أما إطلاق الألسنة بنتائج مفرغة من مضامينها فلن تنفع البتَّة
وأهم ما استدلُّ به الناقد ما نقله ص715 - 716 عن الحافظ عماد الدين أبو الفداء ابن كثير أنه قال :
(ذكروا للإمام أبي الحسن الشعري ثلاثة أحوال :
أولها : حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
ثانيها : إثبات الصفات العقلية السبعة ، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وتأويل الخبرية كالوجه والقدم والساق ونحو ذلك.
ثالثها : إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف وهي طريقته في "الإبانة"التي صنفها آخراً)
طبقات الفقهاء الشافعية 1 / 210
وعلى هذا فإن الشيخ الجاسم رأى من - وجهة نظره - أن الحافظ ابن كثير أثبت مرحلة ثالثة للإمام الأشعري ، ويعنون بالمرحلة الثالثة هاهنا ؛ مرحلة مخالفة للمرحلة الثانية بانتقال الإمام من مذهب إلى مذهب آخر
ولننتقل الآن لإبطال هذه الشبهة ضمن خمسة أقسام. والله المستعان
القسم الأول من إبطال الشبهة :
يُلاحظُ هنا أن الحافظ ابن كثير لم يثبت شيئاً إنما هو ناقل ، ولا يلزم كل ناقل أن يكون مُقِرَّاً لما نقله ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فالحافظ ابن كثير قال ( وذكروا ) ، لكن من هم الذين ذكروا ؟! هل هم من أهل التحقيق أم مجاهيل ؟! وهل تنطبق عليهم شروط الصحيح المعروف ؟!
ولعلَّ أول مَن سطَّر مرحلة ثالثة للإمام أبي الحسن الأشعري هو الإمام ابن تيمية الحراني ، والذي يبدو لي أن الإمام ابن تيمية قد نقل هذه الدعوى عن غلاة الحنابلة المتأخرين الذين كانوا ينسبون لأئمة الأشاعرة رجوعهم عن معتقدهم
فقد ذكر الإمام تاج الدين السبكي (771هـ) أن جهلة الحنابلة ببغداد كانوا يطيلون السبَّ بالإمام الأشعري أيام النظام بل وكانوا ينسبون لأئمة الأشاعرة رجوعهم عن معتقدهم
طبقات الشافعية الكبرى 4 / 235
في حين أننا نرى أن غلاة الحنابلة قبل هذه الفترة كانوا يكتفون بسبِّ الإمام الأشعري وافتراءَ مثالب عليه
قال أبو اسماعيل الهروي (481هـ) - غفر الله له - :
(وقد شاع بين المسلمين أن رأسهم علي بن اسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي)
ذم الكلام وأهله 5 / 141
قلت : ولعل هذه المفتريات التي ذكرها الهروي اقترفها أبو علي الحسن بن علي الأهوازي ، الذي أشار إليه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قائلاً : (وقد ألَّف الأهوازي جزءاً في مثالب الأشعري ، فيه أكاذيب)
(قال الحافظ الثقة عبد الله بن أحمد بن عمر السمرقندي : قال لنا الحافظ أبو بكر الخطيب : أبو علي الأهوازي كذَّاب في الحديث والقراءات جميعاً
قال علي بن الخضر العثماني : تكلَّموا في أبي عليّ الأهوازي ، وظهر له تصانيف زعموا أنه كذب فيها
قال أبو طاهر الواسطي : أقرأ عليه العلم ولا أصدِّقه في حرف واحد
وذكره أبو الفضل بن خيرون فوهَّاه
قال ابن عساكر في تبيين كذب المفتري : لا يستبعدنَّ جاهلٌ كذب الأهوازي فيما أورده من تلك الحكايات ، فقد كان من أكذب الناس فيما يدَّعي من الروايات في القراءات
كان على مذهب السالمية يقول بالظاهر , ويتمسك بالأحاديث الضعيفة لتقوية مذهبه)
ميزان الاعتدال في نقد الرجال 1 / 512 - 513 رقم 1916
لسان الميزان 3 / 94 - 95 - 96 رقم 2347
وكان الكندري - غفر الله له - يأمر بلعن الأشعري على المنابر
طبقات الشافعية الكبرى 5 / 190
لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم
(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) الأحزاب 58
وأهم ما ينبغي ملاحظته في هذا الشأن ؛ أنه لو كان هناك مرحلة ثالثة رجع فيها الإمام الأشعري إلى معتقد القوم فلماذا يطلقون العنان لألسنتهم بسبِّ إمام السُّنة أبي الحسن الأشعري وهو على نهجهم ؟!
وبعبارة أخرى ... كيف يطعنون بامرئ عاد في آخر حياته إلى مذهبهم فوافقهم في المعتقد ونصر منهجهم ؟! أنَّى يستقيم ذلك !
لقد اشتهر عنه كما ذاع أمر رجوعه عن الاعتزال ، إذ لم يَبْقَ أحد ممن ترجم له إلا وذكر قصة صعوده المنبر وتبرِّيه من الاعتزال ، فهل ذكر أحد من المؤرخين أنه صعد إلى المنبر مرة أخرى وتاب من مذهب السلف الصالح وانتقل إلى مذهب جديد ؟!
والناقد متعلق بنقولات عن المتأخرين الذين جاؤوا بعد الإمام الأشعري بقرون ، وهل يُعقل أن يرجع الإمام عن مذهبه ويهجره ثم لا يكون لهذه الحادثة المهمة أي ذكر عند أحد أصحابه وتلاميذه وهو من هو جلالة وقدراً ؟! أم تراه قد رجع عن ذلك سراً وهو الذي حين قرَّر هجر مذهب المعتزلة اعتلى منبر المعتزلة نفسه ليعلن ذلك على الملأ ؟!
وكيف يتوب الإمام الأشعري من الاعتزال لينزلق مرة أخرى في الضلال ؟!
بل كيف استطاع أن يقمع بدعة الاعتزال وهو ما زال سالكاً درب الضلال ؟!
نضيف لذلك أن رجوع الإمام المزعوم هذا لو ثبت عنه لكان أولى الناس بمعرفته ونقله هم أصحابه وتلامذته ، لأن أولى الناس بمعرفة الرجل هم خاصته وأصحابه وأتباعه الملازمون له ، فهؤلاء هم أقرب الناس إليه وأعرفهم بأحواله وأقواله وآرائه
قال الأديب مصطفى صادق الرافعي (1356هـ) :
(ولع بعض الأدباء باتهام التاريخ الإسلامي بالجهل نظراً لاستعمال طريقة في التعليل لم يسلكها الأولون ارتياداً لوجوه جديدة وأسباب للحوادث لم تكن معروفة بحيث قال : إنهم كشفوا حقائق تاريخية لم يعرفها غيرهم أو عرفوا أسراراً أعماها التاريخ الديني أو عمتها السياسة وأهواؤها على الجمهور ويسمون ذلك تمحيصاً وتحقيقاً ، ويظنون ان التمحيص والتحقيق هما بمجرد المخالفة والخروج عما عليه الرأي العام ..... ولكن إن كانوا يزعمون أن هذه التعليلات الغريبة هي الأصل في تلك الوقائع فليسمحوا لنا أن نستعفيهم من التصديق لأننا نعرف التاريخ بالأدلة العقلية والنقلية وملاحظة ما سبق وما لحق واستنباط النتائج من المقدمات ، ولا نعرفه تخرصات وافتراضات وأبنية على غير أساس ، فإن كان هذا هو التمحيص التاريخي الذي يتوخى بعض العصريين أن يقلد به الإفرنج فلا كان هذا التمحيص الذي هو عبارة عن قلب الحقائق لأجل الإتيان بالبدع ، ويجل علماء الإفرنج عن أن يكون تمحيصهم من هذا النمط ، وقد خلط منهم من خلط في معرض التمحيص ولكن نبَّه المدققون منهم على أنهم خلطوا)
تحت راية القرآن ص73
وما ذكره ابن تيمية الحراني(ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى ، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم)
قلت : متى ذكر بن تيمية وأصحابه أنهم رجعوا لما عليه حنابلة بغداد ؟!
وابن تيمية يتناقض في نقولاته فقد ذكر أن الإمام الأشعري لم يعرف سوى طريقة المتكلمين حيث قال :
(وكان - أي إمام أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري - ذكياً ثم إنه رجع عنهم - أي المعتزلة - وصنف في الرد عليهم ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم ولم يعرِف غيرها)
منهاج السنة 5 / 277 - قرطبة
بل وذكر أن كتاب الإبانة لم يكن آخر كتب الإمام الأشعري فقال :
(وقد قيل : إن الأشعري ..... صنف في آخر عمره كتاباً في تكافؤ الأدلة - يعني أدلة علم الكلام - ...)
مجموع الفتاوى 4 / 22 - الوفاء
وقد وصل الباحث إبراهيم برقان إلى أن كتابي اللمع والإبانة ليسا آخر مؤلفات الإمام أبي الحسن الأشعري من خلال دراسة شاملة لحياته (راجع إشكاليّة زمن تأليف الأشعري كتابيّ اللمع والإبانة / المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية / مجلد 4 / عدد 4 / ص208)
والإمام الذهبي كان متحاملاً على الإمام الأشعري في ترجمته ، قال الإمام تاج الدين السبكي (771هـ) :
(وأنت إذا نظرت ترجمة هذا الشيخ - أي الإمام الأشعري - الذي هو شيخ السنة وإمام الطائفة في تاريخ شيخنا الذهبي ، ورأيت كيف مزقها ، وحار كيف يصنع في قدره ، ولم يمكنه من البوح بالغض منه خوفاً من سيف أهل الحق ولا الصبر عن السكوت لما جُبِلت عليه طويَّته من بغضه ، بحيث اختصر ما شاء الله أن يختصر في مدحه ، ثم قال في آخر الترجمة : من أراد أن يتبحر في معرفة الأشعري فعليه بكتاب تبيين كذب المفتري لأبي القاسم بن عساكر ...) ثم وجَّه السبكي نصيحة لشيخه الذهبي في هذا الشأن
طبقات الشافعية الكبرى 3 / 352 - 354
القسم الثاني من إبطال الشبهة :
ولنسلم جدلاً بما نقله الحافظ ابن كثير من استقرار الإمام الأشعري على مرحلة ثالثة وافق فيها السلف الصالح في الاعتقاد ، ولنتجاوز عن الأمانة العلمية التي عهدناها عن الناقد في نقل كلام أهل العلم ، ولننقل كلام الحافظ ابن كثير الأصلي كاملاً دون تزوير الناقد وتحريفه
قال الحافظ ابن كثير (774هـ) :
(ذكروا للشيخ أبي الحسن الشعري ثلاثة أحوال :
أولها : حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
ثانيها : إثبات الصفات العقلية السبعة ، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وتأويل الخبرية كالوجه والقدم والساق ونحو ذلك.
ثالثها : إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف وهي طريقته في "الإبانة"التي صنفها آخراً وشرحها القاضي الباقلاني ونقلها الحافظ أبو القاسم بن عساكر وهي التي مال إليها الباقلاني وإمام الحرمين وغيرهما من أئمة أصحاب المتقدمين في أواخر قولهم والله أعلم)
طبقات الفقهاء الشافعية 1 / 210
قلت : تأمَّل كيف حذف الناقد ثمرة كلام الحافظ ابن كثير الذي يفضح دعواه ويجعلها قاعاً صفصفاً
ترى !! ما هي العقيدة التي شرحها الباقلاني ونقلها ابن عساكر ومال إليها إمام الحرمين ؟!
وبمجرد عودتنا إلى الإنصاف للباقلاني وتبيين كذب المفتري لابن عساكر والعقيدة النظامية لإمام الحرمين ، نرى أن المرحلة الثالثة المزعومة - إن ثبتت - إنما هي عبارة عن مغالطة فبركها غلاة الحنابلة ، إذ هي - في حقيقة الأمر - جزء لا يتجزَّأ من المرحلة الثانية للإمام أبي الحسن الأشعري
فمنهج الإمام الأشعري يتميَّز بوجود مسلكين في الاعتقاد بصفات الحق تبارك وتعالى الخبرية وهما مسلك التفويض ومسلك التأويل ، ولكلٍّ شروطه
فدعوى أنه كان يأوِّل ثم يثبت دعوى فيها نظر ؛ وإننا في حال سلّمنا بهذه الدعوى ، فللتأويل عند السادة الأشاعرة شروط وقيود ، فلا يجوز اللجوء إليه إلا بعد تجاوز هذه الشروط وحلِّ تلك القيود ؛ ومنها أنه لا يسوغ ممارسة التأويل إلا للراسخين في العلم ويجب أن يكون للتأويل دلائله الشرعية أو قرائنه اللغوية وكذلك يمتنع التأويل في حال عدم الحاجة إليه
فيحمل ذلك على أن الإمام الأشعري وبعد أن يسَّر الله له سبل الانتصار على الفرق المنحرفة وانقضاء عهدهم على يديه ، رأى أنه لم يعد هناك حاجة للتأويل ، إذ لا حاجة للدواء بعد زوال الداء ، وعلى هذا فإن رجع الداء وجب استعمال الدواء
فانتقال الإمام الأشعري من مسلك إلى آخر ضمن دائرة المنهج لا يُسمَّى رجوعاً ، لأن الرجوع معناه أنه عاف شيئاً وذهب لغيره منتقلاً من مذهب لآخر ، في حين أن الإمام لم يرجع عن شيء بل كل ما يُفهم من ذلك أنه رجَّح مسلكاً على مسلك ضمن دائرة المنهج المقرَّر
ولا يضرُّ هذا الترجيح - في حال ثبوته - شيئاً مِن صَرح السادة الأشاعرة لأن تأويل الصفات الخبرية هو مسلك آخر للسلف الصالح وإن كانوا مقتصرين في استخدامه على نطاق ضيِّق نظراً للشروط الصارمة التي تقيَّدوا بها واقتدى بها من بعدهم السادة الأشاعرة
وللمضحك المبكي أن الناقد بعد أن نقل كلام الحافظ ابن كثير علّق قائلاً ص716 :
(... ونقله عنه المرتضى الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 2 / 4 ولم يتعقَّبه) فتأمَّل !!
القسم الثالث من إبطال الشبهة :
وبمجرد عودتنا لكتاب الإبانة للإمام أبي الحسن الأشعري فإننا لا نجد لا رجوعاً ولا أي شيء ، كل ما هنالك أن الإمام الأشعري قد سلك في هذا الكتاب مسلك التفويض وهو أحد مسلكي السادة الأشاعرة ومذهب جمهور السلف الصالح
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) :
(وعلى طريقته - يعني طريقة ابن كلاب في التفويض - مشى الأشعري في الإبانة)
لسان الميزان 4 / 487
قال العلامة محمد زاهد الكوثري (1371هـ) عن الإبانة :
(وأراد بها انتشال المتورطين في أوحال التشبيه من الرواة والتدرُّج بهم إلى مستوى الاعتقاد الصحيح)
تعليقاته على تبيين كذب المفتري ص28
تنويه : راجع رسالة نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانة جميعه إلى الإمام أبي الحسن / المحدث وهبي سليمان غاوجي الألباني رحمه الله
والعجيب أن الناقد ينقل عن الإمام ابن درباس ما يدحض مزاعمه ، فقد دافع في رسالته عن الإمام الأشعري وأكد أن من ينسب رجوعه عن اعتقاده ، يكفيه بنفسه أنه على غير شيء. فقال :
(فاعلموا معاشر الإخوان وفقنا الله وإياكم للدين القويم وهدانا أجمعين للصراط المستقيم بأن كتاب الإبانة عن أصول الديانة الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقد وبما كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه عن الاعتزال بمن الله ولطفه وكل مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه فقد رجع عنها وتبرأ إلى الله سبحانه منها كيف وقد نص فيه على أنه ديانته التي يدين الله سبحانه بها وروى وأثبت ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين وأنه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله "فهل يسوغ أن يقال أنه رجع عنه إلى غيره فإلى ماذا يرجع أتراه يرجع عن كتاب الله وسنة نبي الله خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الحديث المرضيون وقد علم أنه مذهبهم ورواه عنهم"
هذا لعمري ما لا يليق نسبته إلى عوام المسلمين كيف بأئمة الدين أو هل يقال إنه جهل الأمر فيما نقله عن السلف الماضين مع إفنائه جل عمره في استقراء المذاهب وتعرف الديانات هذا مما لا يتوهمه منصف ولا يزعمه إلا مكابر مسرف "ويكفيه معرفته بنفسه أنه على غير شيء")
ثم استشهد بالبيهقي والعراقي والخربوي والفارسي وابن عساكر الذي قال في مؤلفه (تبيين كذب المفتري) عن كتاب الإبانة ما نصه :
(بل هم يعني المحققين من الأشعرية يعتقدون ما فيها أشد اعتقاد ويعتمدون عليها أشد اعتماد فإنهم بحمد الله ليسوا معتزلة ولا نفاة لصفات الله معطلة لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات وما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم في صحيح الروايات قال ولم يزل كتاب الإبانة مستصوباً عند أهل الديانة)
ثم ذكر مقدمة كتاب الإبانة وقال في السياق : (...واعرفوا انصافه واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه لتعلموا أنهما ((كانا في الاعتقاد متفقين وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين)) ولم تزل الحنابلة في بغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات يعتقدون بالأشعرية حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر بن القشيري ووزارة النظام ووقع بينهم الانحراف من بعضهم عن بعض لانحلال النظام)
تنويه : راجع رسالة زجر المفتري على أبي الحسن الأشعري للإمام أبي العباس القرطبي
طبقات الشافعية الكبرى 3 / 423
القسم الرابع من إبطال الشبهة :
نقل الناقد عن الإمام الآلوسي كلاماً يوهم أن الإمام الأشعري رجع عن عقيدته ، وأحب أن أوضِّح للقراء مقصد الإمام الآلوسي الذي حاول الناقد تحويره من وجهين ، فأقول :
الوجه الأول : إن الإمام الآلوسي يرى أن مذهب السلف في تفويض معاني نصوص الصفات المتشابهة هو المذهب الذي ينبغي اتباعه دونما سواه ويعارض مذهب التأويل. فهو يقول :
(... لكنهم نزّهوا - أي السلف - مولاهم عن مشابهة الحوادث. ثم فوَّضوا إليه سبحانه تعيين ما أراده هو أو نبيُّه من الصفات المتشابهات.
والأشعري إمام أهل السنة ذهب في النهاية إلى ما ذهبوا إليه. وعوَّل في الإبانة على ما عوَّلوا عليه ...)
ثم ذكر الإمام الآلوسي كلام الإمام الأشعري في تمسُّكه بما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ، ثم قال : (ثم سرد - أي الإمام الأشعري - الكلام في بيان عقيدته مصرِّحاً بإجراء ما ورد من الصفات على حالها بلا كيف غير متعرض لتأويل ولا ملتفت إلى قال وقيل. فما نقل عنه من تأويل صفة الرحمة إما غير ثابت أو مرجوع عنه والأعمال بالخواتيم ...)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 1 / 60
وقال أيضاً :
(... وكلام إمام الحرمين في الإرشاد يميل إلى طريقة التأويل وكلامه في الرسالة النظامية مصرِّح باختياره طريقة التفويض .....
وقد اختاره أيضاً الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين وفي كتابه الإبانة في أصول الديانة وهو آخر مصنفاته فيما قيل)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 16 / 157
قلت : وهكذا تنجلي الحقيقة بوضوح ، ونرى أن الإمام الآلوسي يرى أن إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري رجَّح المسلك الأول ضمن دائرة منهجه ؛ ألا وهو تفويض معاني النصوص المتشابهة من صفات المولى تبارك وتعالى ، فلا حجة للناقد في كلام الإمام الآلوسي فيما يريد إثباته من رجوع الإمام الأشعري إلى مذهب التشبيه الذي يدافع عنه في نقده
وإليك الآن جملة من النصوص التي توضِّح ما عليه الإمام الآلوسي من اعتقاد :
* (غير المغضوب) الفاتحة 7
قال 1 / 95 : (... وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة الله تعالى لائقة بجلال ذاته لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي ...)
* (وهو العلي) البقرة 255
قال 3 / 11 : (أي المتعالي عن الأشباه والأنداد والأمثال والأضداد ، وعن أمارات النقص ودلالات الحدوث ، وقيل : هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء)
* (وهو القاهر فوق عباده) الأنعام 18
قال 7 / 114 : (... والداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة والله تعالى منزَّه عنها لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود ، ويلزم أيضاً من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى ، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى كما نصَّ عليه الإمام الطحاوي وغيره ...)
* (إني لا أحب الآفلين) الأنعام 76
قال 7 / 200 : (أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال)
* (أو يأتي ربك) الأنعام 158
قال 8 / 62 : (يوم القيامة في ظلل من الغمام حسبما أخبر وبالمعنى الذي أراد. وإلى هذا التفسير ذهب ابن مسعود وقتادة ومقاتل ، وقيل : إتيان الملائكة لإنزال العذاب والخسف بهم. وعن الحسن : إتيان الرب على معنى إتيان أمره بالعذاب. وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل ، وقيل المراد : يأتي كل آياته يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله تعالى (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ). وأنتم تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر. ومنهم من يبقيه على الظاهر إلا أنه يدعي أن الإتيان الذي ينسب إليه تعالى ليس الإتيان الذي يتصف به الحادث ، وحاصل ذلك أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدَّعي أنها لوازم في الشاهد ، وأين التراب من رب الأرباب.
وجوَّز بعض المحققين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند الناس. والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم ، وعلى ذلك اعتمد الإمام وهو بعيد وباطل ...)
* (ثم استوى على العرش) الأعراف 54
قال 8 / 134 - 135 (ومن قوله - أي الإمام مالك - والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك بالعقل له كيفية لتعاليه عن ذلك ، فكفُّ الكيف عنه مشلولة
ويدل على هذا ما جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن وهب أن مالكاً سُئِل عن الاستواء فأطرق وأخذته الرحضاء ثم قال : (الرحمن على العرش استوى)كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع إلى آخر ما قال ، ثم إن هذا القول إن كان مع نفي اللوازم فالأمر فيه هين ، وإن كان مع القول بها والعياذ بالله تعالى فهو ضلال ، وأي ضلال وجهل وأي جهل بالملك المتعال ...)
وقال 8 / 136 (وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه إلى الله تعالى ، فهم يقولون : استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه منزَّهاً عن الاستقرار والتمكن ، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول ...)
* (ثم استوى على العرش) يونس 3
قال 11 / 64 - 65 (على المعنى الذي أراده سبحانه وكفُّ الكيف مشلولة .....
وأنت تعلم أن هذا وأمثاله من المتشابه وللناس فيه مذاهب ، وما أشرنا إليه هو الذي عليه أكثر سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم ...)
* (وأشرقت الأرض بنور ربها) الزمر 69
قال 24 /29 - 30 (هو على ما رُوي عن ابن عباس نور يخلقه الله تعالى بلا واسطة أجسام مضيئة كشمس وقمر ، واختاره الإمام وجعل الإضافة من باب (نَاقَةُ اللّهِ) الأعراف 73 ، وعن محيي السنة تفسيره بتجلي الرب لفصل القضاء ، وعن الحسن والسدي تفسيره بالعدل ، وهو من باب الاستعارة ، وقد استعير لذلك وللقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل ، أي وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسط سبحانه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات ...)
* (يد الله فوق أيديهم) الفتح 10
قال 26 / 97 (... والسلف يمرون الآية كما جاءت مع تنزيه الله عز وجل عن الجوارح وصفات الأجسام وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات ويقولون : إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات وأنَّى ذلك وهيهات هيهات ...)
* (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق 16
قال 26 / 178 (أي نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته على أنه أطلق السبب وأريد المسبب لأن القرب من الشيء في العادة سبب العلم به وبأحواله أو الكلام من باب التمثيل ولا مجال لحمله على القرب المكاني لتنزهه سبحانه عن ذلك ...)
* (وهو معكم أين ما كنتم) الحديد 4
قال 27 / 168 (تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا ، وقيل : المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السابق واللحاق مع استحالة الحقيقة ، وقد أوَّل السلف هذه الآية بذلك ، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها : عالم بكم أينما كنتم
وأخرج أيضًا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال : علمه معكم ، وفي البحر أنه اجتمعت الأمة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر ، وقد تأوَّل هذه الآية . وتأوَّل الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، ولو اتسع عقله لتأوَّل غير ذلك مما هو في معناه انتهى.
وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على الله تعالى من غير علم ولا نؤوِّل إلا ما أوَّله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه فإن أوَّلوا أوَّلنا وإن فوَّضوا فوَّضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلماً لتأويل غيره ...)
* (سبح اسم ربك الأعلى) الأعلى 1
قال 30 / 103 (... والأعلى صفة الرب وأريد بالعلو العلو بالقهر والاقتدار لا بالمكان لاستحالته عليه سبحانه والسلف وإن لم يؤولوا بذلك لكنهم أيضاً يقولون باستحالة العلو المكاني عليه عز وجل ، وجوز جعله صفة لاسم وعلوه ترفعه عن أن يشاركه اسم في حقيقة معناه ...)
الوجه الثاني : إن الإمام الآلوسي رغم دعواه السابقة في رجوع الإمام الأشعري إلى مسلك التفويض وهجره مسلك التأويل ، تراه يلجأ إلى التأويل في بعض نصوص الصفات وينقل عن السلف تأويلاتهم رغم دعواه أن مذهب السلف الوحيد هو التفويض فقط ، حيث يقول : (وبالجملة يجب تنويه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز شأنه والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه ، والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 7 / 116 - 117
قلت : فتأمل التناقض !!
ولنعرض نماذجاً من التأويلات :
* (الله يستهزئ) البقرة 15
قال 1 / 158 : (... فالآية على هذا مؤولة)
* (ثم استوى إلى السماء) البقرة 29
قال 1 / 215 : (أي علا وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد - قاله الربيع - أو قصد إليها بإرادته قصداً سوياً بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه ... - قاله الفراء - وقيل : استولى وملك كما في قوله : فلما علونا واستوينا عليهم ** تركناهم صرعى لنسر وكاسر) ثم نقد تأويل الاستواء بالاستيلاء
* (أطفأها الله) المائدة 64
قال 6 / 183 : (... ردَّهم الله تعالى وقهرهم بتفرُّق آرائهم وحلِّ عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم ...)
* (فاليوم ننساهم) الأعراف 51
قال 8 / 127 : (نفعل بهم فعل الناسي بالمنسي من عدم الاعتداد بهم وتركهم في النار تركاً كلياً فالكلام خارج مخرج التمثيل ، وقد جاء النسيان بمعنى الترك كثيراً ويصحُّ أن يفسَّرَ به هنا فيكون استعارة أو مجازاً مرسلاً ، وعن مجاهد أنه قال : المعنى نؤخرهم في النار ، وعليه فالظاهر أن ننساهم من النسء لا من النسيان. والفاء في قوله تعالى (فَٱلْيَوْمَ) فصيحة)
* (إلا هو آخذ بناصيتها) هود 56
قال 12 / 83 : (أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه سبحانه ، والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها ، واستعمال الأخذ بالناصية في القدرة والتسلط مجاز أو كناية وفي «البحر» أنه صار عرفاً في القدرة على الحيوان ، وكانت العرب تجز الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته)
* (فظن أن لن نقدر عليه) الأنبياء 87
قال 17 / 84 : (أي أنه أي الشأن لن نقدر ونقضي عليه بعقوبة ونحوها أو لن نضيق عليه في أمره بحبس ونحوه ...)
* (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) فاطر 41
قال 22 / 204 (... أي أن الله تعالى يحفظ السماوات والأرض كراهة زوالهما ...)
* (مما عملت أيدينا) يس 71
قال 23 / 50 : ( أي مما تولينا إحداثه بالذات من غير مدخل لغيرنا فيه لا خلقاً ولا كسباً.
والكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر ...)
* (إني ذاهب إلى ربي) الصافات 99
قال 23 / 126 : (إلى حيث أمرني أو حيث أتجرد فيه لعبادته عز وجل جعل الذهاب إلى المكان الذي أمره ربه تعالى بالذهاب إليه ذهاباً إليه وكذا الذهاب إلى مكان يعبده تعالى فيه لا أن الكلام بتقدير مضاف ، والمراد بذلك المكان الشام ، وقيل مصر وكأن المراد إظهار اليأس من إيمانهم وكراهة البقاء معهم أي إني مفارقكم ومهاجر منكم إلى ربـي)
* (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) الطور 48
قال 27 / 40 : (أي في حفظنا وحراستنا ، فالعين مجاز عن الحفظ ويتجوز بها أيضاً عن الحافظ وهو مجاز مشهور)
* (تجري بأعيننا) القمر 14
قال 27 / 83 : (بمرأى منا ، وكنى به عن الحفظ ، أي تجري في ذلك الماء بحفظنا وكلاءتنا ، وقيل : بأوليائنا يعني نوحاً عليه السلام ومن آمن معه يقال : مات عين من عيون الله تعالى أي ولي من أوليائه سبحانه ، وقيل : بأعين الماء التي فجرناها ، وقيل : بالحفظة من الملائكة عليهم السلام سماهم أعيناً وأضافهم إليه جل شأنه والأول أظهر ...)
* (فإذا قرأناه) القيامة 18
قال 29 / 142 : (أن أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام المبلغ عنا فالإسناد مجازي وفي ذلك مع اختيار نون العظمة مبالغة في إيجاب التأتي)
* (وجاء ربك) الفجر 22
قال 30 / 128 : (قال منذر بن سعيد معناه ظهر سبحانه للخلق هنا لك وليس ذلك بمجيء نقلة وكذلك مجيء الطامة والصاخة وقيل الكلام على حذف المضاف للتهويل أي وجاء أمر ربك وقضاؤه سبحانه واختار جمع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى وتبين آثار قدرته عز وجل وسلطانه عز سلطانه مثلت حاله سبحانه في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم وأنت تعلم ما للسلف في المتشابه من الكلام)
القسم الخامس من إبطال الشبهة :
إن ما في الإبانة وغيره ، والذي يدَّعي القوم أن الإمام الأشعري قد رجع فيه إلى مذهب السلف ، مخالف لمعتقد القوم الذين يزعمون أنهم على عقيدة السلف وأن الإمام الأشعري استقرَّ عليها كمرحلة ثالثة وأخيرة في حياته ، ولنعرض شيئاً عن عقيدته التي تبرؤه من أدران التشبيه ووحال التجسيم. والله المستعان
قال إمام أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري "منزِّهاً الله عز وجل عن الشبيه والصورة والحد" :
(تقدّس عن ملابسة الأجناس والأرجاس ، ليست له صورة تقال ولا حدٌّ يضرب له مثال)
الإبانة عن أصول الديانة ص7
وقال "عند صفة الاستواء" :
(وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواءً منزَّهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال. لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ، ومقهورون في قبضته ، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى ، فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء ، بل هو رفيع الدرجات عن العرش ، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى ، وهو مع ذلك قريب من كل موجود ، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد ، وهو على كل شيء شهيد)
الإبانة عن أصول الديانة ص21
وقال أيضاً :
(إن الله عز وجل يستوي على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار ، كما قال "الرحمن على العرش استوى")
الإبانة عن أصول الديانة ص105
وقال أيضاً "بعد عرضه آيات الاستواء" :
(فكل ذلك يدلُّ على أنه تعالى في السماء مستوٍ على عرشه ، والسماء بإجماع الناس ليست الأرض ، فدلَّ على أنه تعالى منفرد بوحدانيته ، مستوٍ على عرشه استواء منزهاً عن الحلول والاتحاد)
الإبانة عن أصول الديانة ص113
وقال أيضاً :
(كلُّ ذلك يدلُّ على أنه تعالى ليس في خلقه ، ولا خلقُه فيه ، وأنه مستوٍ على عرشه سبحانه بلا كيف ولا استقرار. تعالى الله عمَّا يقول الظالمون والجاحدون علوَّاً كبيراً ...)
الإبانة عن أصول الديانة 116
وقال "محاججاً المعتزلة في الرؤية" :
(فإن قالوا : رؤية البصر هي إدراك البصر ؟
قيل لهم : ما الفرق بينكم وبين من قال. إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته. فإذا كان علم القلب بالله عز وجل وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة ولا إدراك. فما أنكرتم أن يكون رؤية العيون وإبصارها لله عز وجل ليس بإحاطة ولا إدراك)
الإبانة عن أصول الديانة ص59
وقال "بعد ذكر المجسمة وأقوالهم" :
(وقال بعض مَن ينتحل الحديث : إن العرش لم يمتلئ به ، وإنَّه يُقعِدُ نبيَّه عليه السلام معه على العرش.
وقال أهل السنة والحديث : ليس بجسم ، ولا يشبه الأشياء ، وإنه على العرش كما قال عز وجل (الرحمن على العرش استوى) طه 5 ، ولانقدِّم بين يدي الله في القول ، بل نقول : استوى بلا كيف ...)
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1 / 260
وقال أيضاً "مبيِّناً قول المجسمة وأهل الحديث في العين واليد والوجه" :
(واختلفوا في العين واليد والوجه على أربع مقالات :
فقالت المجسمة : له يدان ورجلان ووجه وعينان وجنب يذهبون إلى الجوارح والأعضاء.
وقال أصحاب الحديث : لسنا نقول في ذلك إلا ما قاله الله عز وجل أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنقول : وجه بلا كيف ، ويدان وعينان بلا كيف
...)
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1 / 265
وقال أيضاً :
(فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون الله تعالى جسماً ؟
قيل له : أنكرنا ذلك لأنّه لا يخلو أن يكون القائل بذلك أراد أن يكون طويلاً عريضاً مجتمعاً ، أو يكون أراد تسميته جسماً وإن لم يكن طويلاً عريضاً مجتمعاً عميقاً ، فإن أراد الأوّل فهذا لا يجوز ، لأنّ المجتمع لا يكون شيئاً واحداً ، لأنّ أقلّ قليل الاجتماع لا يكون إلاّمن شيئين ، لأنّ الشيء الواحد لا يكون لنفسه مجامعاً. وقد بيّنا آنفاً أنّ الله عزّوجلّ شيء واحد ، فبطل أن يكون مجتمعاً. وإن أردتم الثاني فالأسماء ليست إلينا ، ولا يجوز أن يُسمَّى الله تعالى باسم لم يسمِّ به نفسه ، ولا سمّاه به رسوله ، ولا أجمع المسلمون عليه ولا على معناه)
اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ص23 - 24
وقال أيضاً "منزِّهاً الله عن الأعراض والأجسام والحد والمكان" :
(ولا يجب أن تكون - أي صفات الحق تبارك وتعالى - أعراضاً ؛ لأنه عز وجل ليس بجسم ، وإنما توجد الأعراض في الأجسام ، ويدلٌّ بأعراضها فيها وتعاقبها عليها على حدثها ... كما لا يجب أن تكون نفس الباري جسماً أو جوهراً أو محدوداً أو في مكان دون مكان أو غير ذلك)
رسالة إلى أهل الثغر ص218
وقال "عند صفة المجيء والنزول" :
(الإجماع الثامن
وأجمعوا على أنه عز وجل يجيء يوم القيامة .....
وليس مجيئه حركة ولا زوالاً ، وإنما يكون المجيء حركة وزوالاً إذا كان الجائي جسماً أو جوهراً ، فإذا ثبت أنه عز وجل ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه نقلة أو حركة .....
وأنه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس نزوله نقلة ، لأنه ليس بجسم ولا جوهر ...)
رسالة إلى أهل الثغر ص227 - 228 - 229
وقال "في تأويل صفتي الرضا والغضب" :
(الإجماع التاسع
وأجمعوا على أنه عز وجل يرضى عن الطائعين له ، وأن رضاه عنهم إرادته لنعيمهم ، وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم ، وأن غضبه إرادته لعذابهم ، وأنه لا يقوم لغضبه شيء)
رسالة إلى أهل الثغر ص231
قلت : وعلى ذمة الناقد ص718 أن الإمام الأشعري عدَّ من أوَّل صفات الله مبتدعة جهمية ، فتأمل كيف يستعمل الإمام الأشعري المسلك الثاني (التأويل) في تأويل صفة الرضا والغضب
فإن كنت أيها الناقد من الذين يتقون الله فيما يسطِّرونه ، فلتعلن أنك موافق لما نقلناه من كتب الإمام الأشعري من تنزيه وأنه موافق لعقيدة أهل السنة والجماعة الصحيحة ، فإن لم تفعل ولن تفعل ، فاتقِ الله أنت وأتباعك (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخرف 19
ولنسلم جدلاً أن الإمام الأشعري رجع عن معتقده ، فما لنا وله ؟! وهل الحق يتبع برجوع فلان عن مذهبه ، فكم وكم من جماعة صاحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ، وبعد وفاته ارتدت ففارقت الجماعة وخرجت عن ربقة الدين ، وحاشا لإمام أهل السنة أن يكون ذا شأنه
ونحو ذلك مما ينسبه القوم إلى أعلام أئمة أهل السنة كالجويني والغزالي والرازي والنووي والآمدي وغيرهم أنهم رجعوا عن معتقدهم أو كانوا مضطربين مشوشين الخ ، ولا يكاد يزول العجب لتصدق العقو
عرض أقل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق