فائدة جلية
شرح حديث "استفت قلبك"،
يزعم بعض الناس اليوم أنّ باستطاعتهم الاستغناء عن تعلم علوم الدين، وأن عقولهم تغنيهم عن تعلم أحكام الإسلام. وبعض آخرون لغرورهم برأيهم الفاسد، يموّهون بذكر حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد أن الرسول قال له وقد جاءه رضي الله عنه يسأله، فأخبره النبيّ بما في نفسه معجزة له، قال له "جِئْتَ (أي يا وابصة) تَسألُ عَنِ البِرّ وَالإِثْمِ، قال: نعم، فقال: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ. البِرُّ ما اطْمأنَّت إِلَيْهِ النَّفْس وَاطْمأنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، وَالإِثْمُ ما حاكَ في النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ، وَإنْ أفْتاكَ النَّاسُ وَأفْتَوْكَ"، رواه الإمام أحمد وغيره.
فيقال لأمثال هؤلاء وقد استدلوا بهذا الحديث على أن عقولهم تغنيهم عن تعلم ما أمر الله تعالى، لو كان الأمر كما تزعمون إن كنتم تؤمنون بالله تعالى ورسوله محمد، لكان أولى الناس بالاستغناء بعقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أكمل الناس عقلاً وأرجحهم فهماً وفطنة وحصافة رأي، ومع ذلك فقد نزل الوحي بقوله تعالى: "عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى" (من سورة النجم)،
والمقصود بذلك سيدنا جبريل عليه السلام، علّم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم.
فلو صحّ الاستغناء بالعقل عن الوحي لما نزل جبريل بالقرآن الكريم. ولو صحّ الاستغناء باستفتاء القلب عن تعلم علم الدين، لما شرّف الله تعالى سيدنا جبريل بتعليم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن يكن النبيّ أفضل من جبريل الذي هو أفضل الملائكة الكرام عليهم السلام.
ثم لو جاز الاستغناء بالعقل أو استفتاء القلب لكل أحد، فماذا يعني قول الله تعالى "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (النحل، 43) والمراد بذلك أهل العلم.
ولو كان كل الناس سواسية كيف يقول الله في ما أنزله على نبيّه صلى الله عليه وسلم في سورة الزمر: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولو الألبَابِ" (الآية 9).
معناه أن فضل العالم على غيره يعرفه ذوو العقول السليمة. وأما الناقص العقل فيظن أنه يستغني عن علم الدين بعقله وأنه يستوي بعقله مع العالم، ولكن فاته أن كلامه دليل ضعف فهمه بنص كتاب الله تعالى الذي تمدح العقلاء بمعرفة ما بين العالم والجاهل من الفرق الكبير وأنهما لا يستويان.
أما من استعمل حديث وابصة رضي الله عنه ليستقلّ برأيه عن الرجوع إلى أهل العلم كما أمر الله، فقد خالف ما جاء به الإسلام وقاله النبيّ كما أخبر ابن عباس رضي الله عنه أن رَجُلاً أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ أَصَابَهُ احْتِلاَمٌ فَأُمِرَ بِالاِغْتِسَالِ فَمَاتَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءَ الْعِيّ السُّؤَالُ" رواه أحمد وغيره.
وفي الختام يقال لهؤلاء المتهوّرين حين يستعملون حديث "استفت قلبك"، مهلاً رويداً، فأين أمثالكم من وابصة رضي الله عنه، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب عن أحد التابعين قال: "كنت آتي وابصة وقلما أتيته إلا أصبت المصحف موضوعاً بين يديه، ثم إن كان ليبكي حتى أرى دموعه قد بلت الورق"، فمن كان مثل وابصة رضي الله عنه في الفقه والورع والعبادة فليستفت قلبه، فهذا الحديث يحمل على مثل وابصة من العلماء الفقهاء المجتهدين، وليس لكل إنسان كائناً من يكون، وإلا كان أمر الدين فوضى كل واحد يستفتي قلبه ويميل لما يمليه عليه من هوى نفسه الأمارة بالسوء، وهذا لا يقبله مسلم.
قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين عند شرح "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتَوك": "وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شُرح صدره للإيمان،
وكان المفتي يُفتي له بمجرد ظَنٍّ أو مَيْل إلى هوًى من غير دليل شرعي. فأما ما كان مع المفتَي به دليلٌ شرعي، فالواجبُ على المُستفتي الرجوعُ إليه، وإن لم ينشرح له صدرُه (يعني المستفتي)"، وفي حاشية المدابغي على شرح الأربعين لابن حجر الفقيه قال: "قال الغزالي لم يُرد المصطفى كل واحد لفتوى نفسه، وإنما ذلك لوابصة في واقعة تخصه". انتهى
ثم من أين للعقل أن يعرف عدد ركعات الظهر وأن الطواف حول الكعبة سبع طوفات وما أشبه ذلك، فكما احتاج المسلمون إلى الأنبياء ليرشدوهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كذلك الناس يحتاجون إلى العلماء لنص النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن العلماء ورثة الأنبياء كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما.
ولمن استعمل حديث "اسْتَفْتِ قَلْبك..، وَإنْ أفْتاكَ النَّاسُ وَأفْتَوْكَ"، ليفتي بمزاجه وعلى ما يأتي في خواطره، يقال له أين أنت من حديث "القضاة ثلاثةٌ قاضيانِ في النارِ وقاضٍ في الجنةِ، فأما الذي في الجنةِ فرجلٌ عرفَ الحقّ فقضَى بهِ فهو فِي الجنةِ، ورجلٌ عرفَ الحقَ فلم يقضِ به وجارَ في الحُكمِ فهو في النارِ، ورجل لم يَعرِفِ الحق فقضَى للناسِ على جهلٍ فهو للنار". رواه الإمام الطحاوي
الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر القاضيين اللذين مصيرهما إلى النار في تحذير بليغ من القضاء بالجهل أو بالجور، يكفي أحدهما سبباً للنار بنص الحديث، فالجهل ليس عذراً، كما أن الظلم والجور ليسا عذراً.ثم حين بدأ صلى الله عليه وسلم بالتفصيل، بدأ بذكر من عرف الحق فقضى به بياناً لشرف العلم وأن ذلك فقط هو طريق الحق: معرفة الحق والعمل به.
هذا هو طريق صوفية اهل السنة والجماعة، وغير ذلك طريق الفساد،
فمن أين بعد ذلك لقائل أن يقول أستغني بعقلي وذكائي وفهمي، الله يجيرنا من مثل هذه الطريقة، ،
نسأل الله السلامة، الله يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا به في الدنيا والآخرة، الله يرزق من كتبه ونشره وأفاد واستفاد منه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم والعافية، آمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق