علم التوحيد هو أساس قواعد عقائد الاسلام وهو أشرف العلوم.
علمُ التوحيدِ لهُ شرفٌ أي مزيةٌ على غيره من العلومِ لكونه متعلقا بأشرفِ المعلوماتِ، وشرفُ العلمِ بشرفِ المعلومِ، فلما كان علمُ التوحيدِ يُفيدُ معرفةَ اللهِ على ما يليقُ بهِ، ومعرفةَ رسولهِ على ما يليقُ بهِ، وتنـزيهَ اللهِ عمَّا لا يجوزُ عليهِ، وتبرئةَ الأنبياءِ عمّا لا يليقُ بهم، كان أفضلَ من علمِ الأحكام،
وقد خص النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: إنّ أتقاكُم وأعلَمَكُم بالله أنا، رواه البخاري في كتاب الإيمان،
وورد بلفظ: أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له
فكان هذا العلم أهمَّ العلومِ تحصيلا وأحقَّها تبجيلاً وتعظيماً؛ قال الله تعالى: {فاعلم أنّهُ لآ إله إلا اللهُ واستغفر لذنبكَ وللمؤمنينَ والمؤمنات} قدم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار، والسبب فيه أن معرفة التوحيد إشارة إلى علم الأصول والاشتغال بالاستغفار إشارة إلى علم الفروع، لأنه ما لم يعلم وجود الصانع يمتنع الاشتغال بطاعته.
قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} الخِطابُ للرسولِ صلى الله عليه وسلم وليسَ المعنى أمْر الرسولِ بتحصيلِ العِلْمِ باللهِ، إنما المُرادُ أَمْرُ غيرِه بتحصيلِ العلمِ باللهِ وإنما ذَكَرَه قبلَ الاستغفارِ اللفظيِ لكونِ الاستغفارِ وغيرِه ِمنَ الأعمالِ مِن صلاةٍ وصيامٍ وغيرِ ذلكَ بعدَ العلمِ باللهِ، لذلك البخاريُ قال: العلمُ قبلَ القولِ والعمل،
والعلمُ باللهِ هو اعتقادُ وجودِه بلا تشبيهٍ له بغيرِه مِن الموجوداتِ أي إثباتُ ذاتٍ لا يُشبِهُ الذوات، لأنَّ ذاتَ اللهِ ليسَ جِسمًا كثيفًا ولا جسمًا لطِيفًا أما ذاتُ غيرِه فهو جِسمٌ كثيفٌ أو جسمٌ لطيفٌ، وهذا الجسمُ اللطيفُ والكثيفُ أحَدُ نوعَيِ العالَمِ والنوعُ الثاني مِنَ العالمِ هو العَرَضُ أي صِفةُ الجسمِ، والعرضُ ما يقومُ بالجسمِ مِن حركةٍ وسُكونٍ ونَظَرٍ ونُطْقٍ وتغيُّرٍ مِن صفةٍ إلى صفةٍ وسائرِ ما يقومُ بالجسمِ من الأمورِ الظاهرَةِ والباطنةِ كالتفكيرِ والانفِعالِ باللَّذَةِ أو الألمِ أو الانبِسَاطِ أو الانزِعاجِ فهذا العالَمُ، لا يَخرُجُ العالَمُ من هذَينِ وقد أخبرَنا اللهُ تعالى بآيةِ ( ليس كمثلِه شىء} أنه لا يُشبِهُ هذا العالَمَ بوجهٍ من الوجوهِ فمَنِ اعتقدَ أن اللهَ جسمٌ كثيفٌ أو لطيفٌ لم يَعرِفِ اللهَ فهو جاهِلٌ بخالِقِه.
وقد حث الله تعالى عباده في كثير من ءآيات القرءآن على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال: {أولَم ينظروا في ملكوت السَّموات والأرض ا} وقال تعالى:{سنُريهِم ءآياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهُم أنَّه الحقْ}، وقال الإمامُ أبو حنيفة في كتابه الفقه الأبسط: [اعلم أن الفقهَ في الدينِ] أي أصول الدين [أفضلُ من الفقهِ في الأحكام] أي فروع الأحكام [والفقهُ معرفة النفس ما لها وما عليها].
وقال أيضا: أصل التوحيد وما يصحُّ الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر. وقال الإمام الشافعي: أحكمنا هذا قبل ذاك. أي علم التوحيد قبل فروع الفقه ذكر عنه ذلك الحافظ أفضل المحدثين بالشام في عصره ابن عساكر في تبيين كذب المفتري.
وموضوع هذا العلم علم التوحيد النظر في الخلق لمعرفة الخالق، وقيل في تعريفه: إنه علم يتكلم فيه عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال المخلوقين من الملائكة والأنبياء والأولياء والأئمة والمبدأ والمعاد، على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة، فإنهم تكلموا في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادا على مجرد النظر والعقل فجعلوا العقل أصلا للدين فلا يتقيدون بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الانبياء على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عمّا جاء به الشرع ولا يتناقض معه.وأما علماء التوحيد لا يتكلمونَ في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادا على مجرد النظر بالعقل بل يتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعقلُ عند علماء التوحيد شاهد للدين وليس أصلا للدين، وأما الفلاسفة فجعلوه أصلا للدين من غير التفات إلى ما جاء عن الانبياء.
ويسمى هذا العلم علمَ التوحيد وعلمَ أصولِ الدين ويسمى أيضا علمَ الكلام.
ويُسمَّى هذا العلمُ أيضًا معَ أدِلَّتِه العقليةِ والنقليةِ مِنَ الكتابِ والسُّنةِ علمَ الكلامِ والسببُ في تسميتِه بهذا الاسمِ كثرةُ المُخالِفِينَ فيه مِنَ المُنتسِبينَ إلى الإسلامِ وطولُ الكلامِ فيهِ مِن أهلِ السنةِ لتقريرِ الحقِ، وقيلَ لأن أشهَرَ الخلافاتِ فيه مسئلةُ كلامِ اللهِ تعالى أنه قديمٌ ـ وهو الحقُ ـ أو حادِثٌ، فالحشَوِيَةُ قالت كلامُه صوتٌ وحرفٌ، حتى بالَغَ بعضُهم فقال إن هذا الصوتَ أزليٌ قديمٌ وإن أشكالَ الحروفِ التي في المُصحفِ أزليةٌ قديمةٌ، فخرجوا عن دائرةِ العقلِ؛ وقالت طائفةٌ أُخرَى إن اللهَ تعالى مُتكلِّمٌ بمعنى أنه خالِقُ الكلامِ في غيرِه كالشجرةِ التي سَمِعَ عندَها موسَى كلامَ اللهِ، لا بمعنى أنه قامَ بذاتِ اللهِ كلامٌ هو صفةٌ من صفاتِه، وهمُ المعتزلةُ قبَّحَهُمُ اللهُ؛ وقالَ أهلُ السنةِ إن اللهَ مُتكلِّمٌ بكلامٍ ذاتيٍ أزليٍ أبديٍ ليسَ حرفًا ولا صوتًا ولا يَختلِفُ باختِلافِ اللُغاتِ. اهـ
وهذا الذي يسميهِ أهلُ السنةِ علم الكلامِ هو الكلام الممدوحُ، وأما الكلامُ المذمومُ فهو كلامُ أهلِ الأهواءِ أي أهلِ البدع الاعتقاديةِ كالمعتزلة فهو الذي ذمَّه السلفُ، قال الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه: لأنْ يلقى الله العبدُ بكلِ ذنبٍ ما عدا الشركَ أهونُ من أن يلقاه بكلامِ أهل الأهواءِ.
والأهواء جمع هوى وهو ما مالت إليه نفوس المبتدعة الخارجين عما كان علي السلف أي ما تعلق به البدعيون في الاعتقاد كالخوارج والمعتزلة والمرجئة والنجارية وغيرهم وهم الاثنتان وسبعون فرقة كما ورد في الحديث المشهور: وإنّ هذه الملة ستفترقُ على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة رواه ابو داود،
فليس كلام الشافعي على اطلاقه إنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم الذين جانبوا نصوص الشريعة كتابا وسنة وتعمقوا في الاهواء الفاسدة، وأما الكلام الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الشريعة عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء قاطبة لم يذمه الشافعي وقد كان يحسنه ويفهمه وقد ناظر بشرا المريسي وحفصا الفرد فقطعهما،
قال الامام الحافظ ابن عساكر في كتابه الذي ألفه في الدفاع عن الامام الأشعري وبين فيه كذب من افترى عليه ما نصه: والكلام المذموم كلام أصحاب الأهوية وما يزخرفه أرباب البدع الـمُردية فأما الكلام الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الاصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء ومن يعلمه، وقد كان الشافعي يحسنه ويفهمه وقد تكلم مع غير واحد ممن ابتدع وأقام احج عليه حتى انقطع.
ثم ذكر بإسناده إلى الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي وحدثني أبو سعيد أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد فسأل حفص الفرد عبدَ الله بنَ عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان؟ فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي
فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي بالحجة عليه بأن القرءان كلام الله غير مخلوق، وكفر حفصا الفرد قال الربيع: فلقيتُ حفصا في المسجد بعد فقال: أراد الشافعي قتلي.
فإنْ قيلَ: قد ذمَّ علمُ الكلامِ جماعةٌ من السلفِ فرويَ عن الشعبي أنه قال: مَن طلبَ الدينَ بالكلامِ تزندق، ومَنْ طلبَ المالَ بالكيمياءِ أفلسَ ومَنْ حدَّثَ بغرائبِ الحديثِ كذب. وروي مثلُه عن الإمام مالك والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة قلنا: أجابَ الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله: إنما أرادوا بالكلامِ كلامُ أهلِ البدعِ لأن عصرَهم إنما كان يعرفُ بالكلام فيه أهل البدعِ وأما أهلُ السنةِ فقلَّما كانوا يخوضونَ في الكلامِ حتى اضطُرَ إليه بعد؛
ويحتملُ ذمُهم له وجها ءاخر وهو أن يكونَ المرادُ به أن يقتصرَ على علمِ الكلامِ وتركَ تعلُّم علم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفةِ الحلال والحرام ويرفض العمل بما أُمرَ بفعله من شرائع الإسلام، ولا يلتزم فعل ما أمر به الشارع وترك ما نهى عنه من الأحكام.اهـ
فالفرقُ بينَ هذا وهذا أن علمَ الكلامِ الذي هو لأهلِ السنةِ الذي فيهِ ألّـَفوا تآليفهم أنه تقريرُ عقيدةِ السلفِ بالبراهينِ النقليةِ والعقليةِ مقرونًا بردّ شُبهِ الملاحدةِ المبتدعةِ وتشكيكاتِهم.
ولأهل الحقِ عناية عظيمة به فقد كان أبو حنيفة يسافر من بغداد الى البصرةِ لإبطالِ شبهِهم وتمويهاتهم فقد تردد لذلك أكثَر من عشرينَ مرةً.وبينَ بغدادَ والبصرة مسافةٌ طويلةٌ، فكانَ يقطعهم بالمناظرة بكشف فسادِ شبههم وتمويهاتِهم، وهذا لا يعيبه إلا جاهلٌ بالحقيقةِ من المشبهةِ ونحوهم فإن المشبهةَ التي تحملُ الآياتِ المتشابهة والأحاديثَ المتشابهة الواردةَ في الصفاتِ على ظواهرها أعداءُ هذا العلمِ، وفي هؤلاءِ قال القائلُ وقد صدقَ فيما قالَ:
عــابَ الكلامَ أنـاسٌ لا عقولَ لهم وما عليه إذا عــابُـوهُ من ضَرَرِما ضـرَّ شمسَ الضُّحى في الأفقِ طالعةً أن ليسَ يبصرها من ليسَ ذا بـصَرِ
أما ما يُروى أنَّ الشافعيَّ قال: "لأن يلقى الله العبدُ بكلّ ذنبٍ ما عدا الشركِ خيرٌ له من أن يلقاهُ بعلمِ الكلام" فلم يثبت عنه بهذا اللفظ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق