بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 14 يناير 2019

تنزيه الله عن الحد والتحيز والمشابهة



إنَّ أوَّلَ شيءٍ خلقه الله تعالى الماءُ.. إنَّ الله لم يخلق شيئًا مِمَّا خلَق قبل الماء.. ولا نعني بالماء هذا الماءَ الذي نحن نشربُه في هذه الأرض.. وإنَّما هو الماءُ الذي منه خلِق سائرُ العالَم كالعرش والقلمِ الأعلى واللوحِ المحفوظِ والضوءِ والظلامِ والماءِ الذي نحن نشربُه في الأرض وسائرِ الأجسام الكثيفةِ والأجسامِ اللطيفة.. فكان ذاك الماءُ أصلًا لغيره.. ذاك الماءُ هو أصلُ العالَم.. والله ليس أصلًا لغيره.. بل هو خالقُ الأصل والفَرع.. ذلك الماءُ أصلٌ لغيره.. والله خلقه من غير أصل.. ولمَّا خلَق اللهُ ذلك الماءَ خلِق المكانُ والزمانُ.. بوجود الماء الذي هو أصلُ العالَم وُجِدَ الزمانُ والمكانُ.. وأمَّا قبل هذا الماء فلم يكن زمانٌ ولم يكن مكانٌ..

ثبَت في (صحيح البخاريِّ) عن رسولِ الله  أنَّه قال لمَّا سئِل عن بَدء هذا الأمر "كان الله ولم يكن شيءٌ غيرُه" وفي روايةٍ عنده "كان الله ولم يكن شيءٌ قبلَه" وثبَت عن رسولِ الله  أنَّه قال "إنَّ الله لم يخلُق شيئًا مِمَّا خَلَقَ قبل الماء" أورده الحافظُ ابنُ حَجَرٍ على أنَّه صحيح أو حسَن عندَه وذلك في [(فتح الباري)/كتاب بَدء الخلق] عند ذكر حديث "كان الله ولم يكن شيءٌ غيرُه وكان عرشُه على الماء". وكذلك ثبَت عنه  أنَّه قال "كلُّ شيءٍ خُلِقَ من ماء"، رواه أحمد في (مسنده).. ورواه الإمامُ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحه) وصَحَّحَهُ بلفظ "إنَّ الله تعالى خلَق كلَّ شيءٍ من الماء".

نحن نعتقد في الله الأزليَّةَ ونعتقد في العالَم الحدوثَ.. نحن نعتقد في الله القِدَمَ ونعتقد في العالَم الحدوثَ، أي نعتقد في العالَم أنَّه مخلوقٌ لله، كان معدومًا والله أبرَزه من العدم إلى الوجود فصار موجودًا مخلوقًا.. ونعتقد في الله أنَّه لا بدايةَ لوجوده، أي نعتقد أنَّ الله موجود غيرُ مخلوق لم يسبق وجودَه عدمٌ، وما سوى الله حادثٌ أي مخلوق..

ومن الكفر المنافي للإسلامِ اعتقادُ الحدوثِ في الله.. اعتقاد أنَّ الله لم يكن ثمَّ كان.. لا يَصِحُّ إسلامٌ مَعَ اعتقادِ أنَّ الله سبق وجودَه عدمٌ.. وما دام في قلب العبد هذا الاعتقادُ الكفريُّ فالشهادتانِ لا تنفعانِ هذا الكافرَ ولو تلفَّظ بهما ءالافَ المرَّات.. وليس جهلُ هذا الذي اعتقد في الله الحدوثَ عذرًا له يمنعُنا من الحكم عليه بالكفر.. جهلُه بالإسلام وبعقيدة التنزيه ليس عذرًا له يمنعُنا من الحكم عليه بالكفر.. بل هو غيرُ مسلم، هو كافر غيرُ مؤمن، ولو كان جاهلًا بعقيدة التنزيه، حتَّى ولو كان جاهلًا بأنَّه كافر، ولو كان يردِّد الشهادتينِ في اليوم ءالافَ المرَّات.. ومِنَ المعلوم القطعيِّ أنَّ الإنسانَ لا يكون مسلمًا لمجرَّد ظنِّه بنفسه أنَّه مسلم، بل لا بُدَّ له من شروط، أهمُّها أن يَخْلُوَ قلبُه من كلِّ اعتقادٍ فيه نسبةُ النقصِ إلى الله ومن كل اعتقادٍ كفريٍّ ءاخَر.

واعلموا أنَّ ما يَرِدُ على قلب المؤمن من دون إرادة منه من الخواطر القبيحة مِمَّا يكرهُه لا يؤاخَذ به ولا يُكتب عليه من تلك الخواطر شيء.. بل للمؤمن ثوابٌ بكراهيَته للخاطر الخبيث.. روى الإمامُ أحمد في (المسند) عن أبي هريرةَ عن رسولِ الله  أنَّه قال "يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: مَنْ خَلَقَ السماءَ؟، فيقول المؤمن: الله .. فيقول الشيطان: مَنْ خَلَقَ الأرضَ؟، فيقول المؤمن: الله .. فيقول الشيطان: مَنْ خَلَقَ اللهَ؟، فمَنْ وجَد مِنْ ذلك شيئًا فليقل ءامنتُ بالله ورسولهِ" وروى مثلَه مسلم في [(صحيحه)/كتاب الإيمان]، والبخاريُّ في[(صحيحه)/كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة]. ومعنى الحديث أنَّ المؤمِن يجب عليه أن يثبُت على اعتقاد أنَّ الله أزليٌّ قديم لا بدايةَ لوجوده.. وأنَّ الله موجود غيرُ مخلوقٍ لم يسبِق وجودَه عدمٌ.. وفي هذا الحديث دليلٌ على أنّه لا يَصِحُّ أن يُسْألَ عن الله تعالى بـ متى كان؟ لأنه سؤالٌ يتَضَمَّن كفرًا وخروجًا عن حكم العقل..

وروى الإمامُ مسلم أيضًا في (صحيحه) عن أبي هريرةَ أنَّه قال: جاء أناسٌ من أصحاب النبيِّ  فقالوا له : إنَّنا نجد في أنفسِنا ما يتعاظمُ أحدُنا أن يتكلَّم به.. أي من وسوسات الشيطان وخواطرِه.. فقال  "وقد وجدتموه؟" قالوا : نعم.. قال  "ذاك صريح الإيمان" يعني أنَّ كراهيَة هذه الخواطر الخبيثةِ علامةُ الإيمان، وأمَّا الشَّكُّ في وجود الله أو قِدَمهِ أو مخالفتهِ للمخلوقات فهو كُفْرٌ مُخْرِجٌ من دين الإسلام..

الإنسان يجب عليه أن يجزِم بأنَّ الله أزليٌّ قديم أي موجود غيرُ مخلوق وبأنَّه لا يشبه العالَم بوجه من الوجوه، وأمَّا إذا شَكَّ في الله (هل هو قديم لا بدايةَ لوجوده أم لا؟)، (هل للهِ شبيه أم لا؟)، فإنَّه كافر غيرُ مسلم، وكافرٌ مَنْ لم يعتبرْه كافرًا.. يقول الله تعالى في سورة إبراهيمَ (أفي الله شَكٌّ).. معناه ليس لكم أن تشُكُّوا في وجود الله.. ويقول الله تعالى في سورة الحُجُراتِ (إنَّما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسولهِ ثمَّ لم يرتابوا) فأعلَمَنا بقوله (ثمَّ لم يرتابوا) أنَّ الإيمان لا يَصِحُّ مع الارتياب، أي الشكِّ، أي لا بُدَّ من الجزم، فما دام العبدُ جازمًا غيرَ شاكٍّ كارهًا للكفر فلا تضُرُّه خواطرُ الكفر التي تطرأ على قلبه من دون إرادته.. كلُّ الخواطر التي تؤدِّي إلى جَعْلِ الله تعالى ذا مِقدار وشكلٍ وهيئةٍ يجب أن تُنْبَذَ وتُطْرَدَ.. المؤمِن إذا عَصَفَتْ به هذه الخواطرُ فليشغَل نفسَه بغيرها ولا يتتبَّعْها..

قال رسولُ الله  في الحديث الذي رواه عنه أبو القاسم الأنصاريُّ "لا فكرةَ في الرَّبِّ".. معناه: الله تعالى لا يدركُه الوهم، وذلك لأنَّ الوهم يدرك الأشياءَ التي ألِفَهَا أو التي هي من جنس ما ألِفَه، كالإنسان والغَمَامِ والمطر والشجرِ والضوءِ والظلام والريح والظِّلِّ ونحوِ ذلك.. والإنسانُ يستطيع أن يتصوَّر الأشياءَ المخلوقةَ التي رءاها والتي لم يرَها، وأمَّا الله فلا تدركُه تصوُّرات العبادِ وأوهامُهم.. قال إمامُ الحَرَمَينِ أبو المعالي عبدُ الملِك الجُوَيْنِيُّ، المتوفَّى سنةَ ثمانيةٍ وسبعينَ وأربعِمِائةٍ للهجرة، في كتابه [(الإرشاد)/ص58] ما نصُّه "مذهبُ أهلِ الحَقِّ قاطبةً أنَّ الله يتعالى عن التحيُّز والتخصُّص بالجهاتِ" انتهى. والإمام أبو القاسم الأنصاريُّ النَّيْسَابُورِيُّ شَرَحَ كتابَ (الإرشاد) لإمامِ الحَرَمَينِ الجُوَيْنِيِّ. فإذا عدنا إلى [(شرحِ إرشادِ الجُوَيْنِيِّ)/ق/58-59] لأبي القاسم الأنصاريِّ، وهو من المصادر المخطوطة، المحمودية، المدينة المنورة، لوجدنا فيه، بعد كلام في الاستدلال على نفي التحيُّز في الجهة عن الله تعالى، ما نصُّه "وقد قيل في قولهِ تعالى في سورة النجم (وأنَّ إلى ربِّك المنتهىإليه انتهى فكرُ من تفكَّر.. هذا قولُ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ وعبدِ الرحمن بنِ أَنْعُمٍ.. وروى أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ عن النبيِّ  [لا فكرةَ في الرَّبِّ].. وروى أنَسٌ عن رسول الله  أنَّه قال [إذا ذُكِرَ اللهُ تعالى فانتهُوا]، وقال  [تَفَكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تَتَفَكَّرُوا في الخالق]" انتهى كلامُ أبي القاسم. وأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ من مشاهير الصحابة..

وروى البيهقيُّ في [(الأسماء والصفات)/ص420] بإسنادٍ صحيح عن عبدِ الله بنِ عَبَّاسٍ أنَّه قال "تَفَكَّرُوا في كلِّ شيءٍ ولا تَفَكَّرُوا في ذاتِ الله".. أي ولا تتفكَّروا في ذاتِ الله.. أي لا تتفكَّروا في حقيقته.. وليس من التفكُّر في ذاتِ الله تنزيهُه عن الحدوثِ ومشابهةِ المخلوقات.. ليس من التفكُّر في ذاتِ الله تنزيهُه عن الحَدِّ والتحيُّز في الأماكنِ والجهاتِ.. ليس من التفكُّر في ذاتِ الله تنزيهُه عن الشكلِ والصورة والكيفيَّة.. بل تنزيه الله عن الشكلِ والصورة والكيفيَّةِ واجبٌ علينا معرفتُه.. فَرْضٌ علينا أن نتعلَّمَه.. وذلك عملًا بقول الله تعالى في سورة الشُّورى (ليس كَمِثْلهِ شيء)، وعملًا بقول الله تعالى في سورة الأعلى (سَبِّحِ اسمَ ربِّك الأعلى)، أي نزِّه ذاتَ ربِّك الأعلى، وعملًا بحديث رسول الله  "طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم"، الإمامُ الكبير أبو منصور عبدُ القاهر البَغْدادِيُّ روى في كتابه (تفسيرُ الأسماءِ والصفات) عن شيخ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أبي الحسن الأشعريِّ أنَّه قال "أوَّلُ ما يجب على العبد العلمُ بالله ورسولهِ ودينهِ". وقال الإمامُ أبو حنيفةَ في كتابه (الفِقْهُ الأبسط) "إعلم أنَّ الفِقْهَ في الدين أفضلُ من الفِقْهِ في الأحكام". وقال أيضًا "أصلُ التوحيدِ وما يَصِحُّ الاعتقادُ عليه وما يتعلَّق بالاعتقاديَّاتِ هو الفِقْهُ الأكبر".

ونقل الحافظُ أبو القاسمِ بنُ عساكرَ في كتابه [(تبيينُ كذِب المفتري)/ص342] عن الإمام الشافعيِّ أنَّه قال "أحكمنا ذاك قبل هذا".. معناه أتقنَّا علمَ التوحيد قبل أن نتقِن فروع الفِقْهِ.. كذلك أخرجه البيهقيُّ في كتابه [(مناقب الشافعيِّ)/جـ1/ص457]. وقد روى ابنُ ماجه بإسنادٍ صحيح عن جُنْدُبِ بنِ عبدِ الله أنَّه قال "كنَّا مع النبيِّ  ونحن فتيانٌ حَزَاوِرَةٌ فتعلَّمنا الإيمانَ قبل أن نتعلَّم القرءانَ، ثمَّ تعلَّمنا القرءانَ فازددنا به إيمانًا". وكذلك الإمامُ الكبير أبو منصور عبدُ القاهر البَغْدادِيُّ روى في كتابه (تفسيرُ الأسماء والصفات) عن الغزاليِّ أنَّه قال "لا تَصِحُّ العبادةُ إلّا بعد معرفة المعبود". وقال رسولُ الله "رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامهِ الجوعُ والعطشُ ورُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامهِ السَّهَرُ". رواه الإمامُ أحمدُ في (مسنده) وابن خُزَيْمَةَ في (صحيحه) وأبو يَعْلَى في (مسنده) بإسنادٍ صحيح..

فاعلموا، رحمكم الله، أنَّ الله قائمٌ بذاته، أي ليس وجودُه متوقِّفا على غيره.. كان الله موجودًا قبل العالَم، كان موجودًا قبل الزمان وقبل المكان وقبل الجهاتِ السِّتِّ والأبعادِ الثلاثةِ ومن غير أن يسبِق وجودَه عدمٌ ومن غير أن يكون معه غيرُه، ثمَّ خلَق اللهُ العالَم، خلق الزمانَ وخلَق المكان وخلَق الجهاتِ السِّتَّ والأبعادَ الثلاثة.. والجهاتُ السِّتُّ، كما هو معلوم، هي : فوق وتحت وأمام وخلف ويمين وشِمال.. والأبعاد الثلاثةُ هي الطول والعرض والعمق..

ولم يتغيَّر اللهُ بعد أن خلَق العالَم عما كان.. سبحانَه يغيِّر ولا يتغيَّر.. العالَم هو كل ما سوى الله.. العالَم هو الجهاتُ السِّتُّ وما تَحْويهِ الجهاتُ السِّتُّ.. الله، تبارك وتعالى، خلَق العالَم العُلْوِيَّ وخلَق العالَم السفليَّ.. قال إمامُ أهلِ السُّنَّةِ أبو جعفر الطَّحَاوِيُّ المتوفَّى سنةَ إحدى وعشرينَ وثلاثِمِائةٍ للهجرة في كتابه (العقيدةُ الطَّحَاوِيَّةُ) "تعالى عن الحدودِ والغاياتِ والأركان والأعضاءِ والأدوات، لا تَحْويهِ الجهاتُ السِّتُّ كسائر المبتدَعات". فقول الإمامِ أبي جعفر [تعالى عن الحدود] يعني به أنَّ الله تنزَّه عن أن يكون له حَدٌّ، أي تنزَّه عن أن يكون له كمِّـيَّة.. الله، سبحانَه وتعالى، موجود غيرُ محدود، أي موجود من غير أن يكون مُقَدَّرًا بمِقدار، أي من غير أن يكونَ له مِقْدارٌ من الحجم ينتهي إليه، أي من غير أن يكون له كمِّـيَّة، إذ لو كان للهِ حَدٌّ، أي كمِّـيَّة، لكان له أمثالٌ كثيرة لا تحصَى، والله ليس له مِثل.. يقول الله تعالى في سورة النحل (فلا تضرِبوا لله الأمثال). أمَّا الغاياتُ فهي النهايات، وأمَّا الأركانُ فهي الجوانب، وأمَّا الأعضاءُ فهي اليد الجارحةُ والرِّجل الجارحة، وأمَّا الأدواتُ فهي الأجزاءُ الصغيرة كاللسانِ والأضراس، وأمَّا المبتدَعات فهي، لغةً، المخلوقات، وأراد بها الإمامُ هنا الأشياءَ التي لها حَدٌّ.. الشمس لها حَدٌّ.. القمر له حَدٌّ.. الإنسانُ له حَدٌّ.. الروح الذي هو جسم لطيف يدبِّر البَدَنَ له حَدٌّ، أي مِقْدارٌ من الحجم يعلَمُه الله.. الضوءُ له حَدٌّ.. الظلامُ له حَدٌّ.. لكلِّ سماءٍ من السماواتِ السبعِ حَدٌّ، أي مِقْدارٌ من الحجم يعلَمُه الله.. نارُ الدنيا لها حَدٌّ.. نارُ جَهَنَّمَ لها حَدٌّ.. جَهَنَّمُ لها حَدٌّ.. الجَنَّةُ لها حَدٌّ.. العرشُ الذي هو سقفُ الجَنَّةِ له حَدٌّ، أي مِقْدارٌ من الحجم يعلَمُه الله.. النملة لها حَدٌّ.. الهَبَاءُ الذي نراه في أشعة الشمس الداخلةِ من الكَوَّةِ له حَدٌّ.. الجَوْهَرُ الفَرْدُ الذي هو أصغرُ جزءٍ في الجسم والذي لا يقبلُ الانقسامَ عقلًا لتناهيه في الصِّغَرِ له حَدٌّ أيضًا.. وكلُّ ما له حَدٌّ لا بُدَّ أن يكونَ له مكان يتحيَّز فيه.. والشيء الذي له مكان يتحيَّز فيه لا بُدَّ أن تَحْوِيَهُ الجهاتُ السِّتُّ، أي لا بُدَّ أن تحيطَ به الجهاتُ السِّتُّ.. ولكلام الإمام أبي جعفر [لا تَحْويهِ الجهاتُ السِّتُّ] دليلُه العقليُّ، وهو أنَّ الله تعالى كان قبل الجهاتِ السِّتِّ، فكيف بعد أن خلَق اللهُ الجهاتِ السِّتَّ، تَحْويهِ الجهاتُ السِّتُّ؟!. سبحانَه يغيِّر ولا يتغيَّر.. والجهاتُ السِّتُّ، كما هو معلوم، هي : فوق وتحت وأمام وخلف ويمين وشِمال..

يستحيل في العقل أن تحيطَ الجهاتُ السِّتُّ بالله تعالى، وذلك لأنَّ الله هو الذي خلَقها والخالقُ يجب عقلًا أن يكون قبل المخلوق، وربُّنا، الآن، أي بعد أن خلَق الجهاتِ السِّتَّ، لم يزل على ما عليه كان، أي لم يزل موجودًا من غير أن تَحْوِيَهُ الجهاتُ السِّتُّ، وذلك لأنَّ التغيُّر مستحيلٌ عليه لأنه إله، والإلهُ يغيِّر ولا يتغيَّر، فذاته إذًا منزَّه عن أن يكون له كَمِّـيَّةٌ لاستحالةِ إحاطةِ الجهاتِ به.. كما وأنَّ عبارةَ الإمام أبي جعفر هذه [لا تَحْويهِ الجهاتُ السِّتُّ كسائر المبتدَعات] فيها معنى التوحيد، وهو أنَّ ذاتَ الله هو وحدَه الذي لا تَحْويهِ الجهاتُ السِّتُّ.. ودليلُ ذلك أنَّ ذاتَ الله، أي حقيقتَه، ليس جزءًا من العالَم أمَّا سائرُ الأشياء التي لها حَدٌّ، أي كمِّـيَّة، فهي أجزاءٌ من جملة العالَم، حتَّى إنَّ الجوهرَ الفَرْدَ الذي هو أصغرُ جزءٍ في الجسم والذي لا يقبلُ الانقسامَ عقلًا لتناهيه في الصغر، حتَّى هذا، لا شكَّ أنّه جزءٌ من العالَم، ومن كان جزءًا من العالَم وجب أن تحيطَ به الجهاتُ السِّتُّ، ومَنْ حوته الجهاتُ السِّتُّ وجب أن يكون له كمِّـيَّة، أي مِقْدارٌ من الحجم.. عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، رضي الله عنه، قال "مَنْ زَعَمَ أنَّ إلَهَنَا محدود فقد جهِل الخالقَ المعبود.. ومَنْ ذكَر أنَّ الأماكنَ بهِ تُحِيطُ لَزِمَتْهُ الْحَيْرَةُ والتخليطُ" رواه الحافظُ أبو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ في كتابهِ [(حِلْيَةُ الأولياء)/ترجمة عليِّ بنِ أبي طالب] عن النُّعْمَانِ بنِ سعدٍ عن عليٍّ، كرَّم الله وجهَه، وقال [هذا حديثٌ غريبٌ من حديثِ النُّعْمَانِ، كذا رواهُ ابنُ إسحاقَ عنه مُرْسَلًا] انتهى.

كلُّ ما له حجم يقال له عند علماء الأصول محدود، سواءٌ أكان صغيرًا أم كبيرًا.. ومفهوم كلامِ الإمامِ عليٍّ تكفيرُ كلِّ من يزعُم أنَّ لذاتِ الله كَمِّـيَّةً صغيرةً أو كَمِّـيَّةً كبيرة..االشيءُ الذي له حَدٌّ يستحيل في العقل أن يكون إلَهًا لأنه محتاج إلى من جعله على هذا الْمِقْدارِ من الحجم، والمحتاج لا يكون إلَهًا.. المحتاج لا يستحقُّ أن يُعْبَدَ.. ولأنه يستحيلُ في العقل أن يَخْلُقَ الشيءُ نفسَه بطَل قولُ من قال [إنَّ الله قدَّر لنفسه حجمًا هو الآنَ عليه].. ولذلك اعتبر الإمامُ عليٌّ هذا الذي زعم أنَّ الله محدودٌ جاهلًا بربِّه غيرَ عارفٍ به..

وقال الإمامُ أبو حنيفةَ في (الفِقْهِ الأكبر) ما نصُّه "ولا حَدَّ له ولا ضِدَّ له". انتهى.. معناه: ليس له مِقْدارٌ من الحجم وليس له نظير.. والضِّدُّ في اللغة تأتي بمعنى الشبيه والنظير، وتأتي بمعنى المخالف.. والمراد هنا الشبيهُ والنظير.. فلا حَدَّ لله تعالى ولا شبيهَ له ولا مِثْلَ له.. وليس مرادُ العلماء بنفي الحَدِّ عن الله أنَّه ممتدٌّ إلى غير نهاية، بل مرادُهم بنفي الحَدِّ عن الله نفيٌ لأن يكونَ لذاته كمِّـيَّة، وذلك لأنَّ ما لذاته امتداد، أي انبساط، يستحيلُ في العقل أن يكون ممتدًّا إلى ما لا نهاية، بل لا بُدَّ من أن ينتهيَ امتدادُه، أي انبساطُه، حيث شاء الله لهذا الامتداد أن ينتهيَ، وهذا معناه أنَّ الممتدَّ، أي المنبسِط، مهما كان امتدادُه عظيمًا لا بُدَّ من أن يكون له كمِّـيَّة.. واتِّصافُ الله بالكَمِّـيَّةِ مستحيلٌ عقلًا، ومَنْ وَصَفَ اللهَ بما يستحيلُ عليه عقلًا فقد كفَر وخرج من الإسلام.. فمراد العلماء بنفي الحَدِّ عن الله نفيٌ لأن يكونَ لذاتهِ كَمِّـيَّةٌ صغيرةٌ أو كَمِّـيَّةٌ كبيرة، وليس مرادُهم أنَّ الله ممتدٌّ، أي ليس مرادُهم أنَّ الله منبسِط، فكيف يقبل صاحبُ عقلٍ سليمٍ أن يقول بعد ذلك إنَّ اللهَ ممتدٌّ إلى غير نهايةٍ وقد ثبَت أنَّ الامتدادَ، أي الانبساط، منفيٌّ عن الله أصلًا بحكم العقل، أمَّا العالَم فإنَّه ممتدٌّ إلى نهايةٍ يعلَمُها الله وليس إلى غير نهاية، فالعالَم كلُّه بجملته محدود، إذ يستحيلُ في العقل أن يكون ممتدًّا في الْمِساحَةِ إلى ما لا نهاية..

وأفرادُ العالَم كلُّها لها حدٌّ.. فالعرشُ ليس هو جِرْمًا منبسِطًا إلى غير انتهاء.. وكذلك الجَنَّةُ والنار والسماواتُ والأراضي واللوح والكرسيُّ الذي وسِع السماواتِ والأرضَ، كلٌّ منها محدود، أي أنَّ كلًّا من هذه المخلوقاتِ قد خلقه الله على مِقدار من الحجم ينتهي إليه، وهو ما نعبِّر عنه بالكمِّـيَّة.. نحن لا نقولُ إنَّنا نعلَم هذا المِقْدارَ، ولكنَّ الله يعلَمُه، ولا شكَّ في ذلك.. فمن قال [إنَّ الله ممتدٌّ]، أي منبسِط، أو قال [إنَّ لله مِسَاحَةً]، أو قال [إنَّ للهِ كَمِّـيَّةً]، فهو كافرٌ بربِّه غيرُ عارف به، وذلك لأنَّ مَنْ نسَب إلى الله الامتدادَ أو الْمِسَاحَةَ أو الكَمِّـيَّةَ فقد وصف اللهَ بصفةٍ من صفات البشر، ومَنْ وَصَفَ اللهَ بصفةٍ من صفات البشر فقد كفر.. قال الإمامُ أبو جعفرٍ الطَّحَاوِيُّ في كتابه (العقيدة الطحاويَّة) "ومَنْ وَصَفَ اللهَ بمعنًى من معاني البشر فقد كفر"، أي مَنْ وَصَفَ اللهَ بصفةٍ من صفاتِ البشر فقد خرج من الإسلام..

فاعتقادُ أنَّ الله محدود كفرٌ صريح لا يُقْبَلُ معه الإسلامُ ولا يكونُ معه الإيمان.. ذكَر المحدِّث الحافظُ محمَّد مرتضَى الحسينيُّ الزَّبيدِيُّ في كتابه (شرحُ إحياءِ علوم الدين) بإسنادٍ مُتَّصِلٍ منه إلى الإمامِ زينِ العابدينَ عليِّ بنِ الحسينِ أنَّه قال في رسالته المشهورة بـ (الصحيفة السَّجَّادِيَّة) "أنتَ اللهُ الذي لا تُحَدُّ فتكونَ محدودًا"، أي فمن المستحيلِ أن تكونَ محدودًا، أي فمن المستحيلِ أن يكونَ لذاتك كمِّـيَّة.. هذه الفاء هي فاء السببيَّة.. والفعل [تكونَ] منصوب بـ[أنْ] مضْمَرة بعد فاء السببيَّة.. كما نقل الزَّبيدِيُّ نفسُه عن زينِ العابدينَ أيضًا أنَّه قال في الصحيفةِ نفسِها "لا يحيطُ به مكان"، وهذا كلامٌ صحيح، وذلك لأنَّ اللهَ تعالى لو كان في مكان لكان محدودًا تَحْويهِ الجهاتُ السِّتُّ، وقد تقدَّم الدليلُ العقليُّ على أنَّ الله تعالى لا تحيطُ به الجهاتُ السِّتُّ..

قال الإمامُ الرفاعيُّ "غايةُ المعرفةِ بالله الإيقانُ بوجودِه تعالى بلا كيفٍ ولا مكان" قال كلمةَ التنزيهِ هذه في كتابه [(الحِكَمُ)/ص35/ص36].. والإمامُ الرفاعيُّ هذا هو أحمدُ بنُ عليِّ بنِ أحمدَ بنِ يحيى بنِ خازمِ بنِ عليِّ بنِ رِفاعةَ.. وينتهي نسَبُه إلى زينِ العابدينَ عليِّ بنِ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب.. وكان ممَّن جمع بين العلم والعمل والزهد.. كان فقيهًا مُحَدِّثًا مُفَسِّرًا ألَّف تآليفَ كثيرة، منها : كتابُ (شرح التنبيه)، وهو كتاب في الفِقْهِ الشافعيِّ.. توفِّي سنةَ خمسِمِائةٍ وثمانيةٍ وسبعين.. ألَّف في ترجمته الإمامُ أبو القاسمِ الرفاعيُّ تأليفًا سمَّاه (سوادُ العينين في مناقب أبي العَلَمَيْنِ). أي أنَّ أقصى ما يَصِلُ إليهِ العَبْدُ من المعرفةِ باللهِ الاعتقادُ الجازمُ بوجودِ الله تعالى بلا كيفٍ ولا مكانٍ ومن دونِ أدنى شَكٍّ في ذلك.. فقولُه [بلا كيفٍ] صريحٌ في نفيِ الحَدِّ والحَيِّزِ والشكلِ والحركةِ والسكونِ والاتصالِ والانفصالِ عن اللهِ تعالى. فمَنْ أيقَن بأنَّ اللهَ مَوْجُودٌ بلا كيفٍ ولا مكانٍ فقد وصل إلى غايةِ ما يَبْلُغُهُ الإنسانُ من معرفةِ الله.. والله لا إله غيرُه، أي لا معبود بحَقٍّ غيرُه، أي لا أحَدَ يستحقُّ أن يُعْبَدَ غيرُه.. ليس له طول ولا عرضٌ ولا عمق ولا شكلٌ ولا جزءٌ أيمنُ ولا جزءٌ أيسرُ ولا جزءٌ أعلى ولا جزءٌ أسفل.. ليس ربُّنا ساكنًا وليس متحرِّكا.. موجود بلا مكان ولا جهة: ليست السماءُ مكانًا له ولا ما فوقَها ولا ما تحتَها، وليس أيُّ مكان مكانًا لله سبحانَه وتعالى.. وليس اللهُ تعالى في كلِّ مكان، وذلك لأنه، سبحانَه وتعالى، كان قبلَ العالَم : كان قبلَ المكان وقبلَ الامتداد وقبلَ الاتِّساع وقبل الجهاتِ وقبلَ الظلام وقبلَ الضوءِ وقبل الزمان والتعاقب، ثمَّ خلَق اللهُ العالَم : خلَق المكانَ والامتدادَ والاتِّساع والجهاتِ كلَّها والظلماتِ والنورَ، وهو الآنَ موجود لا في مكانٍ ولا في جهةٍ كما كان قبلَ أن يَخْلُقَ المكانَ، فكيف يَصِحُّ في العقل أن يكونَ اللهُ في مكان أو جهةٍ وهو الموجود قبل الأماكن والجهاتِ؟!

فكما وَجَبَ في العقلِ أن يكون اللهُ قبل أن يَخْلُقَ المكانَ موجودًا من غير أن يكون في مكان وجَب في العقل أيضًا أن يكون الله بعد أن خلَق المكانَ موجودًا من غير أن يكونَ في مكان، وذلك لأنَّ الله يستحيلُ عليه التغيُّر. فنحن نؤمِن بأنَّه، سبحانَه وتعالى، بعد أن خلَق العالَم لم يزل كما كان لا داخلَ العالَم ولا خارجَه، لا مُتَّصِلًا بالعالَم ولا منفصلًا عنه، إذ التغيُّر في حَقِّهِ تعالى مستحيل لا يقبَلُه العقلُ لأنَّ التغيُّر من صفات البشر وهو نقص في حَقِّهِ تعالى، والله يغيِّر ولا يتغيَّر..

قال بعض الأئمَّةِ الحنفيَّة "إنَّ اللهَ تعالى ليس داخلَ العالَم وليس خارجَه".. ومن هؤلاء الأئمَّةِ القَوْنَوِيُّ، والعلّامة البياضيُّ في كتابه[(إشاراتُ الْمَرامِ)/ص197/ص198]، ومنهم أيضًا شيخ المتكلِّمين على لسان أهلِ السُّنَّةِ أبو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ وذلك في كتابه [(تَبْصِرَةُ الأدلَّة)/جـ1/ص176/ص177] وغيرُهم من مشاهيرهم.. وذلك لأنَّ التعبير بـ[خارج الشيء] لا يكون إلّا لِمَا له كَمِّـيَّةٌ أي مِقْدارٌ من الحجم، وأمَّا الذي لا كَمِّـيَّةَ له، وهو الله عزَّ وجلَّ، فلا يقال "إنَّه خارجَ العالَم" كما لا يقال "إنَّه داخلَ العالَم". أضِف إلى ذلك أنَّ العالَم بجملته محدود، والخَلاءُ والْمَلاءُ ينتهي بانتهاءِ حَدِّ العالَم.. فليس وراءَ العالَم شيء، لا خَلاءٌ ولا مَلاءٌ.. لا فضاءٌ ولا أحجام.. واحذروا من طائفةٍ تنتسِب إلى التصوُّف تسمَّى الشاذِليَّةَ اليَشْرُطِيَّةَ.. إنَّ هذه الطائفةَ تدَّعي أنَّ القَيُّومَ الذي هو من أسماء الله الحسنى معناه القائمُ فينا.. فكُفْرُهُمْ هذا يُعَدُّ من أشنع أنواع الكفر.. وأمَّا الشيخُ عليٌّ نورُ الدينِ اليَشْرُطِيُّ الذي تنتسِب إليه هذه الطائفةُ فهو بريءٌ مِمَّا يقولون، هو كان على عقيدة التنزيه..

القَيُّومُ من أسماءِ الله الحسنى.. والتسميةُ بالقَيُّومِ لا تجوزُ إلّا لله.. القَيُّومُ معناه الدائمُ الذي لا يزول.. وقال بعضُ علماءِ أهلِ السُّنَّةِ "القَيُّومُ معناه القائمُ بتدبير خَلْقهِ لأنَّ تدبيرَ جميع الأشياء لا يكونُ إلّا لله، وأمَّا الملائكةُ الذين وَصَفَهُمُ الله تعالى في سورة النازعات بقوله (فالمدبِّراتِ أمرًا) فإنَّما يدبِّرون في أمورٍ خاصَّةٍ كالمطر والريح والنباتِ وأشياءَ أخرى وليس في كلِّ شيء". وقال بعضُ علماءِ أهلِ السُّنَّةِ "القَيُّومُ هو القائمُ بنفسه الذي لا يحتاجُ إلى غيره"

إنَّ الشيخَ عليًّا نورَ الدين اليَشْرُطِيَّ الذي كان في القرن الماضي هو رجلٌ من أكابر الأولياءِ والصالحين، وقد كانت له كراماتٌ عديدة.. هو تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذليِّ.. والشيخ أبو الحسن الشاذليُّ هو من رؤوس الأولياء في عصره وله كراماتٌ شهيرة أنصعُ من الشمس في رابعة النهار.. الطريقةُ الشاذِليَّةُ اليَشْرُطِيَّةُ طريقة فاضلة لا غبار عليها مطلقًا، وأمَّا الطريقةُ الشاذِليَّةُ اليَشْرُطِيَّةُ المحرَّفة فهي طريقة منبوذة.. بعض الذين ينسُبون أنفسَهم إلى هذه الطريقة يقولون [الله ليس كَمِثْلهِ شيء وهو عينُ كلِّ شيء].. ومنهم من يقول [إنَّ الله عينُ الأشياء]، يعنُون بذلك أنَّ اللهَ جملةُ العالَم وأنَّ أفرادَ العالَم جزءٌ منه.

ونَرُدُّ على هؤلاءِ الكُفَّارِ بقول الله تعالى (الحمد للهِ رَبِّ العالَمين).. فقد أثبت اللهُ بهذه الآيةِ وجودَ ذاتهِ ووجودَ العالَم مَعَ بيان أنَّه خالقُه، وفي ذلك نفيُ الحلول والوَحدة.. وهؤلاء ليسوا صوفيَّة، هؤلاء لا تأويلَ لكلامهم ولا يجوز الشَّكُّ في كفرهم.. هؤلاء أهلُ الوَحدة المطْلَقة.. ومِثْلُهُمْ بعضُ الدَّجَّالينَ مدَّعي التصوُّف، فقد قالوا [وما في الوجود سوى واحد،،، ولكن تكثَّر لمَّا صَفَا].. معناه: العالَم هو الله.. هذا معنى البيت.. وهذا البيت من جملة قصيدة منسوبةٍ إلى الشيخ عبدِ الغنيِّ النابلُسيِّ في الديوان المنسوبِ إليه.. ونحن لا نعتقد صِحَّتَهُ عن الشيخ عبدِ الغنيِّ.. إعتقادُنا أنَّ الشيخَ عبدَ الغنيِّ النابلُسيَّ بريءٌ مِمّا نُسِبَ إليه لأنه ذكَر هو نفسُه في بعض كتبهِ أنَّ من قال [إنَّ الله انحلَّ من شيء أو انحلَّ منه شيء] فقد كفر، وهذا التكفير الثابتُ عنه ضِدُّ هذا البيتِ المنسوبِ إليه المفترَى عليه..

وممَّن ذكَر أنَّ الجهلَ بعقيدةِ التنزيهِ سببٌ من الأسباب التي توقِع في الكفر عبدُ الغنيِّ النابلُسيُّ.. قال الشيخ عبدُ الغنيِّ النابلُسيُّ  المتوفَّى سنة 1144 للهجرة في كتابه [(الفتحُ الرَّبَّانِيُّ والفيضُ الرحمانيُّ)/ص124] ما نصُّه "من اعتقد أنَّ اللهَ ملأ السماواتِ والأرضَ أو أنَّه جسمٌ قاعد فوق العرش فهو كافر وإن زعم أنَّه مسلم". انتهى..

يقول سيِّد الصوفيَّةِ الجُنَيْدُ البَغْدادِيُّ "التوحيد إفرادُ القديم من المحدَث".. معناه لا تَشَابُهَ بين القديمِ والمحدَث.. معناه لا تَشَابُهَ بين اللهِ القديمِ والعَالَمِ المحدَث.. وقال بعضُهم في تعريف التوحيد "التوحيد إفرادُ المعبود بالعبادة" وقال بعضُهم "التوحيد إثباتُ ذاتٍ غيرِ مُشْبهٍ للذواتِ وغيرِ مُعَطَّلٍ عن الصفات" والحافظ ابنُ حَجَرٍ العسقلانيُّ يقول في شرحه على (صحيح البخاريِّ) "أهلُ السُّنَّةِ فسَّروا التوحيد بنفي التشبيهِ والتعطيل" أنظر [(فتح الباري)/جـ13/ص344].

واعلم، يا طالبَ العلم، أنَّ المسلمين يَرَوْنَ ربَّهم يومَ القيامة وهم في الجنَّة، يَرَوْنَهُ بلا شكل ولا كيفيَّة، يَرَوْنَ ذاتَ الله، أي حقيقتَه، بأعينهم وليس هو في الجَنَّةِ وليس هو في جهة أمام ولا في جهة خلف ولا في جهة فوق ولا في جهة تحت ولا في جهة يمين ولا في جهة شِمال، ومن غير أن يتصوَّروه في قلوبهم أو يتمثَّلوه في نفوسهم.. يقول الله تعالى في سورة القيامة (وجوهٌ يومئذٍ ناضرة.. إلى ربِّها ناظرة).. وكيف يكون الله في جهة من الجهاتِ؟!.. حاشا لله أن يكونَ في جهة من الجهاتِ، إذ لو كان في جهةٍ من الجهاتِ لأمكن تَصَوُّرُهُ في القلب، ومن أمكن تَصَوُّرُهُ في القلب لا يكونُ إلَهًا، أي لا يكونُ له على غيره حَقُّ العبادة.. والله، كما تعلَمون، لا إلهَ غيرُه، أي لا معبودَ بحَقٍّ غيرُه، أي لا أحَدَ يستحقُّ أن يُعْبَدَ غيرُه، فكيف يمكن تَصَوُّرُهُ في القلب؟!. فالذي يجب في العقل هو أن يكونَ اللهُ مُنَزَّهًا عن الجهة، إذ لو كان في جهةٍ من الجهاتِ لأمكن تَصَوُّرُهُ في القلب، وهذا مُحَالٌ، وما أدَّى إلى الْمُحَالِ مُحَالٌ.. يقول الله تعالى في سورة الحديد (هو الأوَّل والآخِر والظاهرُ والباطِنُ وهو بكلِّ شيءٍ عليم).. فالله هو الأوَّل، أي هو وحدَه الأوَّل، أي هو وحدَه الأزليُّ القديمُ غيرُ المخلوقِ الموجودُ قبل الجهاتِ السِّتِّ.. وهو، سبحانَه وتعالى، الآخِر، أي هو وحدَه الآخِر، أي هو وحدَه الباقي بذاته، أمَّا الجَنَّةُ وجَهَنَّمُ والعرشُ فهي أجرامٌ باقية إلى ما لا نهايةَ بمشيئة الله وليس بذواتها.. والله هو الظاهر، أي هو القاهر.. والله هو الباطن، أي هو الذي لا يُتَصَوَّرُ في القلب لأنه لا يستولي عليه توهُّم الكيفيَّةِ وهو خالق الكيفيَّاتِ والصُّوَرِ.. لا يجري على الله زمانٌ ولا يَتَقَيَّدُ به، ولا يَتَخَصَّصُ بالمكان، ولا يَشْغَلُهُ شأنٌ عن شأن، ولا يَكْتَنِفُهُ عقل، ولا يَتَكَيَّفُ فيه، ولا يَتَخَصَّصُ بالذهن، ولا يَتَمَثَّلُ في النفس، ولا يُتَصَوَّرُ في القلب، لا تَلْحَقُهُ الأوهامُ والأفكار، مهما تَصَوَّرْتَ ببالك فالله لا يشبه ذلك..

أيُّها المسلمونَ العقلاء، إذا قال لكم الجاهلُ الغبيُّ [لا أحد يعلَم مكانَ الله إلّا الله]، فقولوا له [إنَّ الله تعالى ليس له مكانٌ في علمه وليس له شكلٌ في علمه وليس له كَمِّـيَّةٌ في علمه، عَلِمَ اللهُ في الأزل أنَّ ذاتَه الأزليَّ منزَّه عن المكان والشكل والكمِّـيَّة.. ولا يجوز لأحدٍ من الخَلْقِ أن يَدَّعِيَ أنّ للهِ تعالى مكانًا معلومًا أو مجهولًا أو أنَّ للهِ شكلًا معلومًا أو مجهولًا أو أنَّ للهِ كَمِّـيَّةً معلومةً أو مجهولة، بل نحن نجزِم بأنَّ اللهَ كان موجودًا قبل أن يَخْلُقَ المكانَ بلا مكان، وبأنَّه الآن، بعد أن خَلَقَ المكانَ، لم يزل موجودًا كما كان بلا مكان] والله عالِم بكلِّ شيء، لا يغيب عن علمه شيء، ولا يعلَم اللهَ على الحقيقةِ إلّا اللهُ، يعلَم ما كان هو عليه قبل أن يَخْلُقَ المكانَ، ويعلَم ما هو الآن عليه بعد أن خَلَقَ المكانَ..

أيُّها المسلمون المؤمنون، إذا قال لكم الجاهلُ الغبيُّ [لا أحد يعلَم مكانَ الله إلّا اللهُ]، فقولوا له [أنت كفرت، وذلك لأنك شتمتَ الله] قولوا له [أنت شتمتَ اللهَ لأنك نسبتَ إليه المكان، ويكفي في شتم الله أن يوصف بصفةٍ من صفات البشر] قال أبو جعفرٍ الطَّحَاوِيُّ في (العقيدة الطَّحَاوِيَّة) "ومَنْ وَصَفَ اللهَ بمعنًى من معاني البشر فقد كفر".. معناه : مَنْ وصَف اللهَ بصفةٍ من صفات البشر فقد خرج من الإسلام.. وبناءً عليه فإنَّ من يظنُّ أنَّ اللهَ تعالى في مكان يعلَمُه أحد من خلق الله فهو كافر غيرُ مسلم، وكذلك من يظنُّ أنَّ الله تعالى في مكان لا يعلَمُه أحد من خلق الله فهو أيضًا كافر غيرُ مسلم.. نعم، يكون كافرًا غيرَ مسلم حتَّى ولو كان جاهلًا بالعقيدة الصحيحة ويظنُّ نفسَه مسلمًا.. ومتى كان الجهلُ بالله حِصْنًا يَتَحَصَّنُ به الإنسان من الكفر؟!

أجمع علماؤنا وأئمَّتُنا على أنَّه لا يعذر أحد في موجِبات الكفر بالجهل، فكيف يدَّعي جاهلٌ كافر، بعد كلِّ ما تقدَّم، أنَّ الله بذاته في السماء؟!ا ألم يعلَم أنَّ رسولَ الله  قال "ما السماواتُ السبعُ مَعَ الكُرْسِيِّ ـ أي في جنب الكُرْسِيِّ ـ إلّا كحَلْقَةٍ ملقاةٍ بأرض فَلاةٍ، وفضلُ العرش على الكُرْسِيِّ كفضل الفَلاةِ على الحَلْقَةِ"؟ا روى هذا الحديثَ الإمامُ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحه) وصَحَّحَه..

فكيف يكون اللهُ في ما يشبه الحَلْقَةَ الملقاةَ في صحراءَ واسعةٍ؟!.. الكُرْسِيُّ الذي ذكَره الله في ءايةِ الكُرْسِيِّ هو جِرْمٌ كبير جدًّا خلقه الله لحكمةٍ يعلَمُها هو.. الكُرْسِيُّ جسم موجود فوق السماواتِ السبع وخارجَ الجنَّة.. الجَنَّةُ التي يدخلُها المؤمنون يومَ القيامة هي فوق السماواتِ السبع، والكُرْسِيُّ خارجَ الجنَّة، لكن هو تحت العرش الذي هو سقفُ الجنَّة.. الجَنَّةُ لها سقف، وسقفُها عرشُ الرحمن.. سقف الجَنَّةِ يقال له عرش الرحمن، أي عرشُ الله، وهذا شيء ثابتٌ عن رسول الله . والله لا يسكن الكُرْسِيَّ ولا يسكن العرشَ ولا يسكن السماواتِ التي تبدو أمام الكُرْسِيِّ كحَلْقَةٍ ملقاةٍ في صحراءَ واسعةٍ، يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماواتِ والأرضَ).

الله تعالى لو كان حجمًا لكان له أمثال.. والله لا مِثْلَ له.. جهةُ فوق مسكنُ الملائكة.. هذا العرش أحاط به ملائكة لا يُحصي عددَهم إلّا اللهُ تعالى، وهم أكثرُ من ملائكة الأرض والسماواتِ السبع.. العرش جعله اللهُ للملائكة كعبةً يطوفون به كما نحن نطوف بالكعبة التي في مكَّة.. العرش ليس مَرْكَزًا لله تعالى، والكعبةُ ليست مركزًا لله.. العرش حجم خلقه الله تعالى ليكون كعبةً للملائكة الذين حولَه ليطوفوا به.. يقول الله تعالى في سورة الزُّمَرِ (وتَرَى الملائكةَ حافِّين من حول العرش يسبِّحون بحمد ربِّهم). فمن زعم أنَّ نبيًّا من أنبياء الله تعالى كان يظنُّ أنَّ ربَّه يسكن السماء فقد كفر بالله، وكذلك لو زعم أنَّ نبيًّا من أنبياء الله قال لرجل أو امرأة [أين مكانُ الله؟ فإنَّه، ولا شكَّ، كافر غيرُ مسلم، لأنه نسب الكفرَ إلى نبيٍّ من أنبياء الله تعالى، وكيف يستقيمُ في العقل السليم أن ينسُب نبيٌّ من أنبياء الله المكانَ إلى الله، وما من نبيٍّ إلّا وهو يعلَم أنَّ نسبة المكان إلى الله تعالى كُفْرٌ مُخْرِجٌ من الإسلام لا يَصِحُّ معه الإيمان.. إنَّ نسبةَ المكان إلى الله تعالى خروج عن العقل وتمرُّد على حُكْمهِ أي على حُكْمِ العقل.. يجب علينا أن نسلِّم للعقل حُكْمَهُ بأنَّ اللهَ موجود لا في مكان ولا في جهة، لا يشبه العالَم بوجه من الوجوه لا يَمَسُّهُ ولا يعلو عليه بالمسافة ولا يحاذيهِ ولا يستقرُّ عليه. إنَّ ادِّعاءَ أنَّ الله مُتَّصِلٌ بالعالَم كفرٌ صريح، وادِّعاءَ أنَّ اللهَ منفصلٌ عن العالَم بالمسافة كفرٌ صريح أيضًا، وذلك لأنَّ الاتصالَ لا يُتَصَوَّرُ إلّا من حجمَين متلاصقَين والانفصالَ لا يُتَصَوَّرُ إلّا من حجمَين منفصلَين بينَهما مسافةٌ بعيدة أو قريبة.. والله ليس شيئًا محدودًا، أي ليس شيئًا له حجم.. ومَنْ وَصَفَ اللهَ بصفةٍ من صفاتِ البشر فقد خرج من الإسلام، لأنَّ الذي يزعُم أنَّ اللهَ في مكانٍ معلومٍ أو مجهولٍ فقد جعَلَه مُتَحَيِّزًا محصورًا ذا مِقْدارٍ تَحْويهِ الجهاتُ السِّتُّ..

ومن موجِبات الكفر أيضًا ادِّعاءُ أنَّ الله يتكلَّم بأحرفٍ أو أنَّ في كلامه الذاتيِّ تعاقبًا أو أنَّه يشاءُ أمرًا لم يكن شائيًا له أو أنَّه ربَّما يغيِّر مشيئتَه أو أنَّه متحرِّك أو أنَّه ساكنٌ أو أنَّه في جهة فوق أو في جهة تحت أو في جهةٍ من الجهاتِ السِّتِّ أو أنَّه في جميع الجهاتِ أو أنَّ الجهاتِ السِّتَّ تَحْويهِ.. والجهاتُ السِّتُّ هي: فوق وتحت وأمام وخلف ويمين وشِمال. ومن أسباب الكفر أيضًا ادِّعاءُ أنَّ اللهَ تعالى محدود أي مقدَّر بمِقْدارٍ أو أنَّه ممتدٌّ أي منبسِط أو أنَّه ذو لون أو أنَّه شِفٌّ كالهواء والزجاج والماء أو أنَّ كمالَه يزيد أو يَنْقُصُ أو أنَّه يظلِم أو أنَّه يتغيَّر أو يتأثَّر أو ينفعل أو يشتهي أو يَمَسُّ أو يُمَسُّ أو يُحِسُّ أو يُحَسُّ أو أنَّه لا يعلَم الأمورَ التي ستقع في المستقبل إلّا بعد أن تحدُث.. إنَّ جميعَ هذه الادِّعاءاتِ غيرُ صحيحة، بل هي من موجِبات الكفر التي تُخْرِجُ من الإسلام.. فمن علِم من نفسه أنَّه كان يصف اللهَ بصفةٍ من صفات البشر فليعلم أنَّه كان كافرًا وأنَّ جهلَه بالعقيدة الصحيحةِ لم يكن عذرًا له حماه من الوقوع في الكفر بل هو كافر غيرُ مسلم وكافر من لم يعتبرْه كافرًا، وذلك لأنَّ علماءَ أمَّتِنا أجمعوا على أنَّه لا يُعْذَرُ أحد في موجِبات الكفر بالجهل، إذ إنَّه من المعلوم القطعيِّ أنَّ الإنسانَ لا يكونُ مسلمًا لمجرَّد ظنِّه بنفسهِ أنَّه مسلم، بل لا بُدَّ له من شروط، أهمُّها أن يَخْلُوَ قلبُه من كلِّ اعتقادٍ فيه نسبةُ النقص إليه، سبحانَه وتعالى، ومن كلِّ اعتقاد كفريٍّ ءاخَر، إذ إنَّ نسبةَ الجهة أو المكانِ إلى الله تعالى تنقيص لله وتشبيهٌ له بخَلْقهِ.. فالجاهلُ الذي يزعُم أنَّه يعبُد اللهَ وهو يظنُّ أنَّ الله في جهةٍ من الجهاتِ السِّتِّ أو أنَّ الجهاتِ السِّتَّ تحيط به أو أنَّه في مكان معلوم أو مجهول هذا لا يقال {إنَّه يعبُد الله}، إذ لو كان يعبُد اللهَ حقًّا لنزَّهه عن الجهة والمكان، فمَثَلُهُ كمَثَلِ من يقول [أنا أعبُد اللهَ خالقَ هذا العالَم] وإذا قيل له {صِفْ لنا الذي تعبُده} يقول [ربِّي ضوء]، أو يقول [ربِّي روح]، أو يقول [ربِّي قوَّة]، فهذا أقل ما يقال فيه [إنَّه عابد ضوء أو روح أو قوَّة].. ألم يدر هذا الجاهلُ بربِّه الكافرُ به أنَّ اللهَ ذاتٌ موصوف بصفاتٍ تدلُّ كلُّها على الكمال كالقُوَّةِ والعلم والوَحدانيَّة والمخالفةِ للحوادث، منزَّه عن الصفات التي لا تَلِيقُ به كالضَّعْفِ والعجز والجهلِ والعمى والمشابهة؟!

الكافرُ يجب عليه أن يتراجع عن الكفر الذي وقع فيه جازمًا بأنَّه كَفَرَ، إذِ الشَّكُّ في كفرِ الذي يظنُّ أنَّ الله كان بعد أن لم يكن أو في كفر من ينسُب إلى الله المكانَ أو الجهةَ أو الحَدَّ أو الشكلَ هو كُفْرٌ أيضًا لا يَصِحُّ معه الإسلام، يجب عليه أن يطهِّر قلبَه من كلِّ اعتقادٍ كفريٍّ، يجب عليه أن يدخُل في الإسلام فورًا، يقول الله تعالى في سورة ءال عِمْرانَ (ومَنْ يبتغِ غيرَ الإسلامِ دينًا فلن يُقْبَلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال رسولُ الله  "أُمِرْتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وأنِّي رسولُ الله".. وهو حديث صحيح متواتِر.. معناه: الإسلامُ لا يُقْبَلُ من العبد الذي في قلبه اعتقاد كفريٌّ حتَّى ينطِق بالشهادتينِ باللفظِ الصحيح وقد تراجع عن كفرِه الذي وقع فيه وطهَّر قلبَه من كلِّ اعتقادٍ فيه نسبةُ النقصِ إلى الله ومن كلِّ اعتقادٍ كفريٍّ ءاخَر.. يجب عليه أن ينطِق بالشهادتينِ فورًا حتَّى يصيرَ عند الله مسلمًا مؤمنًا.. يقول [لا إله إلّا اللهُ مُحَمَّدٌ رسولُ الله].. وإن شاء قال [أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وأشْهَدُ أنّ مُحَمَّدًا رسولُ الله].. يجب عليه أن يراعيَ اللفظَ الصحيح.. ولا يقل قبل أن يأتيَ بالشهادتين {أستغفِر الله}. كثير من الجُهَّالِ يظنُّون أنَّ الخروجَ من الكفر يكون بكلمة [أستغفِر الله].. وهذا كُفْرٌ.. أجمع العلماءُ على أنَّ الكافرَ لا يخرجُ من كفره إلّا بالشهادتين وأنَّ الاستغفار بقول [أستغفِر الله] قبل النطق بالشهادتينِ لا يزيد الكافرَ إلّا كفرًا، وذلك لأنَّ كلمة [أستغفِر الله] تزيد الكافر كفرًا.. إنَّ هذا الذي يكفُر ثمَّ يقول [أستغفِر الله]] كأنَّه يقول [أنا أطلب من الله شيئًا ذَكَرَ في القرءانِ أنَّه لا يفعلُه].. هذا معناه.. يقول الله تعالى في سورة النساء (إنَّ الذينَ كَفَرُوا وظَلَمُوا لم يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لهم ولا لِيَهْدِيَهُمْ طريقًا.. إلّا طريقَ جَهَنَّمَ خالدينَ فيها أبدًا وكان ذلك على الله يسيرًا). معناه: إنَّ الذين كفَروا بالله وظلَموا بإنكارهم نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ لم يكنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لهم كفرَهم ومعاصيَهم ما داموا مصرِّين على كفرهم بتمنُّعهم عن النطق بالشهادتين..

فقولُ الله تعالى (لم يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لهم) معناه: لا يَغْفِرُ اللهُ لهؤلاء لا قبلَ موتِهم ولا بعد موتِهم، وذلك لأنهم أصرُّوا على كفرهم بتمنُّعهم عن النطق بالشهادتين.. لا يَغْفِرُ اللهُ لهؤلاءِ كفرَهم وذنوبَهم لا قبلَ موتِهم ولا بعد موتِهم.. وهذا التفسيرُ للآيةِ مفهومٌ من صريح قولِ الله تعالى بأنَّ مأواهم جَهَنَّمُ خالدينَ فيها أبدًا، لكن بعدما يدخُل الكافرُ في الإسلامِ بالنطق بالشهادتينِ يُسْتَحَبُّ له أن يكثِر من قول [أستغفِر الله]، لذلك يجب نهيُ هؤلاءِ الجَهَلَةِ الذين يتكلَّمون بالكفر ثمَّ يقولون [أستغفِر الله، أستغفِر الله] بَدَلَ أن يسارعوا إلى الشهادتين. ثمَّ إنَّ مَنْ حَصَلَ منه كفرٌ وَجَبَ عليه أن يتشهَّد فورًا من غير تأخير ومن غير تقديمِ كلمةٍ على كلمة التوحيد، ولا يقل {نويتُ التشهُّد لله تعالى}.. لا يُؤَخِّرْ تَشَهُّدَهُ أبدًا.. ليتشهَّد فورًا للدخول في الإسلام..

أيُّها الناس، إنَّ الله فَرَضَ علينا أن نتعلَّم هذه العقيدة، عقيدةَ التنزيه، وأن نُعَلِّمَهَا، وذلك لأنَّ الذي يُهْمِلُ تَعَلُّمَهَا ربَّما تخطُر له خواطرُ التشبيه فيعتقدُها فيقعُ في التشبيه ويكونُ كافرًا من حيث لا يدري.. وما نفعُ صلاتهِ وصيامهِ إذًا؟! ولقد ثبَت عن سيِّدنا رسولِ الله  أنَّه قال "رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامهِ الجوعُ والعطشُ ورُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامهِ السَّهَرُ" رواه الإمامُ أحمدُ في (مسنده) وابنُ خُزَيْمَةَ في (صحيحه) وأبو يَعْلَى في (مسندِه).. هذه هي العقيدة التي كان عليها جميعُ رسلِ الله إلى أهلِ الأرضِ من لَدُنْ ءادَمَ إلى مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وعلى جميع إخوانهِ الأنبياءِ وسلَّم.. والحمد للهِ رَبِّ العالَمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...