ينبغي أن يتنبه لمراد من قال من الأئمة : إن الله بائن من الأشياء ، ومن قال منهم : إنه تعالى غير مباين ، فإنه ليس خلافا حقيقيا ، بل مراد من قال : (( بائن )) أن الله لا يشبه المخلوقات ولا يماسها ،ومراد من قال : (( ليس مباينا )) نفي المباينة الحسية المسافية ، فمن نقل كلام من قال منهم .(( إنه بائن )) وحمله على المباينة المسافية والمحاذاة كابن تيمية فقد باين الصواب وقوّل أئمة الحق ما لم يقولوه ، فحذار حذار ممن يحمل كلامهم على غير محمله .
قال الحافظ البيهقي في كتابه (( الأسماء والصفات )) مبينا معنى من قال : (( ولا مباين عن العرش )) ما نصه (1) :
(( يريد به مباينة الذات التي هي بمعنى الاعتزال أو التباعد ، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها ، والقيام والقعود، من اوصاف الأجسام والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام ، تبارك وتعالى )) اهـ .
وقال أيضا (2) : (( وليست البينونة بالعزلة ، تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا )) اهـ .
بيان
أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( الكرسي موضع قدميه ))
من القواعد المهمة التي ينبغي معرفتها أن الصفة لله لا تثبت بقول صحابي ولا تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها ، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته . فمن هنا يعلم أن الحديث الذي يروى عن ابن عباس مرفوعا : (( كرسيه موضع قدميه )) والذي تلهث المجسمة في ذكره لإثبات بزعمهم قدمين لله يضعهما على الكرسي ، لم يثبت لأنه حديث ضعيف كما نص على ذلك الحفاظ.
قال الذهبي في (( الميزان )) في ترجمة شجاع بن مخلد الغلاّس ما نصه (1) : ((أخطأ شجاع في رفعه )) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في (( التقريب )) ما نصه (2) : (( صدوق ، وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف، فذكره بسببه العقيلي )) اهـ .
وقال الحافظ ابن الجوزي في (( الباز الأشهب )) ما نصه (3) : ((رواه جماعة من الأثبات فوقفوه على ابن عباس ورفعه منهم شجاع بن مخلد ، فعلم بمخالفته الكبار المتقنين أنه قد غلط ، ومعنى الحديث : أن الكرسي صغير بالإضافة إلى العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير )) اهـ . أي أن الكرسي حجمه صغير بالنسبة للعرش .
وقد روى البيهقي (4) عن ابن عباس : الكرسي موضع القدمين )) من غير إضافة ، وكذا قاله أبو موسى الأشعري من غير إضافة أي لم يقولا : (( قدميه )) بهاء الضمير ، قال البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ما نصه (1) : (( وتأويله عند أهل النظر: مقدار الكرسي من العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير ، فيكون السرير أعظم قدراً من الكرسي الموضوع دونه موضعا للقدمين ، والخبر موقوف لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم )) اهـ .
قال الحافظ السيوطي في تفسيره (2) : (( هذا على سبيل الاستعارة ،تعالى الله عن التشبيه ، ويوضحه ما أخرجه ابن جرير عن الضحاك قال : كرسيه الذي يوضع تحت العرش الذي تجعل الملوك عليه أقدامهم )) اهـ .
فليس لله تعالى صفة القدمين يضعهما على الكرسي ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شئ ، فالعجب من المجسمة كيف يقولون إن الله يضع قدميه على الكرسي ولا مستند لهم من ءاية أو حديث ، ولو ثبت أن الكرسي موضع القدمين لكان معناه أن الكرسي صغير بالنسبة للعرش ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن ابن عباس .
بيان
أن الوهابية يقولون صفات الله مخلوقة
وأن الله تحل في ذاته الحوادث والعياذ بالله تعالى
وأن الاستواء صفة مخلوقة ، تعالى الله عن قولهم
اتفق أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى أزلي ، واتفقوا أيضا على أن صفاته أزلية بأزلية الذات لأن حدوث الصفة يستلزم حدوث الذات ، واتفقوا أيضا أن ذات الله عز وجل لا تحل به الحوادث ، وخالف في ذلك الكرامية المبتدعة فقالوا إن الله تحدث في ذاته الحوادث واتبعهم ابن تيمية شبرا بشبر ثم جاء الوهابية وأخذوا هذه العقيدة من ابن تيمية .
وقد رد أهل السنة على الكرامية وفضحوهم نصره للحق ولتحذير الناس منهم ومن كان على معتقدهم ، فقد ذكر ابن التلمساني شيئا من معتقدات الكرامية الفاسدة التي تبناها ابن تيمية ، فقال الشيخ شرف الدين ابن التلمساني في شرح لمع الأدلة للجويني ما نصه (1):
(( وخالف إجماع الأمة طائفة نبغوا من سجستان لقبوا بالكرامية نسبة على محمد بن كرام ، وزعموا أن الحوادث تطرأ يعني تتجدد على ذات الله ، تعالى عن قولهم ، وهذا المذهب نظير مذهب المجوس . ووجه مضاهاته لمذهب المجوس أن طائفة منهم تقول بقدم النور وحدوث الظلمة ، وأن سبب حدوثها أن يزدان فكر فكرة فحدث منها شخص من أشخاص الظلمة فأبعده وأقصاه وهو هرمز ،وجميع الشر ينسب إليه . وكذلك الكرامية تزعم أن الله تعالى إذا أراد إحداث محدث أوجد في ذاته كافا ونونا وإرادة حادثة ، وعن ذلك تصدر سائر المخلوقات المباينة لذاته )) اهـ.
وقال الإمام أبو المظفر الأسفراييني ما نصه (1) : (( ومما ابتدعوه – أي الكرامية – من الضلالات مما لم يتجاسر على إطلاقه قبلهم واحد من الأمم لعلمهم بافتضاحه هو قولهم : بأن معبودهم محل الحوادث تحدث في ذاته أقواله وإرادته وإدراكه للمسموعات والمبصرات ، وسموا ذلك سمعاًَ وتبصرا ، وكذلك قالوا : تحدث في ذاته ملاقاته للصفحة العليا من العرش ، زعموا أن هذه أعراض تحدث في ذاته ، تعالى الله عن قولهم )) اهـ.
فتبين مما أوردناه أن ابن تيمية ليس له سلف إلا الكرامية ونحوهم ، وليس كما يدعي أنه يتبع السلف الصالح ، ومن المصيبة أن يأخذ مثل ابن تيمية بمثل هذه الفضيحة ، فمذهبه خليط من مذهب ابن كرام واليهود والمجسمة ، نعوذ بالله من ذلك .
وقد أجاب الإمام الحجة الأسفراييني في دحض هذه الفرية بقوله (2): (( اعتقاد أهل السنة والجماعة أن تعلم أن الحوادث لا يجوز حولها في ذاته وصفاته لأن ما كان محلا للحوادث لم يخل منها ، وإذا لم يخل منها كان محدثا مثلها ، ولهذا قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ }[ سورة الأنعام ] بين به أن من حل به من المعاني ما يغيره من حال على حال كان محدثا لا يصح أن يكون إلها )) اهـ.
فيكون بهذا ما توسع به ابن تيمية في كتبه من تجويز قيام الحوادث به تعالى وحولها فيه خارجا عن معتقد أهل السنة والجماعة ، أهل الحق .
فائدة : قال سيف الدين الآمدي في كتاب (( غاية المرام )) في علم الكلام ما نصه (3) : (( فالرأي الحق والسبيل الصدق والأقرب إلى التحقيق أن يقال : لو جاز قيام الحوادث به لم يخل عند اتصافه بها إما أن توجب له نقصا أو كمالا أو لا نقص ولا كمال ، لا جائز أن يقال بكونها غير موجبة للكمال ولا النقصان فإن وجود الشئ بالنسبة إلى نفسه أشرف له من عدمه ، فما اتصف بوجود الشئ له وهو مما لا يوجب فوات الموصوف ولا فوات كمال له ، وبالجملة لا يوجب له نقصا فلا محالة أن اتصافه بوجود ذلك الوصف له أولى من اتصافه بعدمه لضرورة كون العدم في نفسه مشروفا بالنسبة إلى مقابله من الوجود ، والوجود أشرف منه ، وما اتصف بأشرف الأمرين من غير أن يوجب له نقصا تكون نسبة الوجود إليه مما يرجع إلى النقص والكمال على نحو نسبة مقابله من العدم ، ولا محالة من كانت نسبته على ذلك وجود ذلك الوصف أشرف منه بالنسبة على عدمه ، ولا جائز أن يقال : إنها موجبة لكماله وإلا لوجب قدمها لضرورة أن لا يكون البارئ ناقصا محتاجا إلى ناحية كمال في حال عدمها ، فبقي أن يكون اتصافه بها مما يوجب القول بنقصه بالنسبة على حاله قبل أن يتصف بها ، وبالنسبة على ما لم يتصف بها من الموجودات ، ومحال أن يكون الخالق مشروفا أو ناقصا بالنسبة إلى المخلوق ، ولا من جهة ما كما مضى )) اهـ.
قال المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره ما نصه (1) : (( تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصل بالانتقال المعهود في غيره تعالى ، وان يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث )) اهـ.
فالحاصل أن الله تعالى أزلي وصفاته أزلية لا ابتداء لوجودها ، ولا يزال أبديا ولا تزال صفاته أبدية بأبدية الذات ، فالقائل بأن الله تعالى تحدث في ذاته إرادات في الأزل والأبد وكلام في الأزل والأبد على التعاقب تحدث بعضها بعد بعض، فإن أراد بذلك أنه يحدث الشئ في ذاته بفعله وبخلقه بعدما كان معدوما ، كان ذلك تناقضا وهو محال ، لأن ذاته أزلي فيستحيل أن تحدث في ذاته صفة ، وإن أراد أن غيره يحدثه فيه فذلك أصرح في القول بأنه حادث ، وذلك أيضا محال عقلا وشرعا . وإن قال : إنه يحدث ذلك الكلام وتلك الإرادات بلا فاعل أي لم يخلقها هو بنفسه ولا غيره خلقها فيه ، كان ذلك أيضا محالا، لأن حدوث شئ ما بلا مكون محال عقلا، قال المقري : [رجز ]
لأنه من المحال الباطل وجود شئ ما بدون فاعل
فكل من التقديرات الثلاثة يؤدي على المحال ، وما أدى على المحال محال ، ومن المعلوم أن دين الله لا يأتي بالمحالات العقلية بل الشرع يأتي بما يجوزه العقل ، لأن العقل شاهد للشرع فكيف يناقضه ؟
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي السلفي (ت321 هـ ) في عقيدته التي ذكر أنها بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه :
(( ما زال – أي الله – بصفاته )) قديما قبل خلقه ، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته )) اهـ ، أي لم يزدد بكون الخلق أي وجودهم شيئا من الكمال ، بل كماله أزلي لا يزداد ولا ينقص .
وأما مخالفة ابن تيمية لأهل السنة في هذه المسئلة فيظهر من قوله (1) : (( ومن قال : إن الخلق حادث كالهشامية والكرامية قال : نحن نقول بقيام الحوادث به ، ولا دليل على بطلان ذلك ، بل العقل والنقل والكتاب والسنة وإجماع السلف يدل على تحقيق ذلك ، كما قد بسط في موضعه . ولا يمكن القول بأن الله يدبر هذا العالم إلا بذلك ، كما اعترف بذلك أقرب الفلاسفة إلى الحق كأبي البركات صاحب (( المعتبر )) وغيره )) اهـ.
وقال في (( المنهاج )) ما نصه (2) : (( فإن قلتم لنا : فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب ، قلنا لكم : نعم وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل )) اهـ.
ثم قال فيه ما نصه (1) : (( وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما ، فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به قلنا : ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ، ونصوص القرءان والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه، ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزه عن ذلك ، ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة ))اهـ .
وقال أيضا في كتابه (( المجموع )) ما نصه (2) : (( ونظير ذلك أن يقول : لو كان قد استوى على العرش لكان قد أحدث حدثا وقامت به الحوادث لأن الاستواء فعل حادث كان بعد أن لم يكن ، فلو قام به الاستواء لقامت به الحوادث ومن قامت به الحوادث فقد أحدث حدثا ، والله تعالى منزه عن ذلك . فإنه يقال له : الحادث في اللغة ما كان بعد أن لم يكن ، والله تعالى يفعل ما يشاء فما من فعل يفعله إلا وقد حدث بعد أن لم يكن )) اهـ .
أما الوهابية فقد قال أحد أبرز دعاتهم في كتابه المسمى (( تعقيبات على كتاب السلفية )) ما نصه (3) : ((صفات الأفعال والاستواء والنزول والخلق والرزق قديمة النوع حادثة الآحاد )) اهـ .
وقال عبد الله بابطين (ت1282هـ ) – يصفه الوهابية بأنه مفتي الديار النجدية في عصره – في تعليقه على (( لوامع الأنوار )) ما نصه (4) : (( صفات الله تعالى قسمان : صفات ذاتية كالحياة ... وصفات فعلية وهي التي تتعلق بمشيئته وحكمته فإن اقتضت حكمته فعلها فعلها وإن اقتضت حكمته أن لا يفعلها لم تكن ، وهذا مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة والكلام والنزول والاستواء وغير ذلك من صفات فعله ، فهذا يكون قديم النوع أو الجنس وإن كانت ءاحاده توجد شيئا فشيئا وحينا وءاخر ، ومن المعلوم أنه يوجد الفرق بين صفة الحياة والقدرة مثلا وبين صفة الاستواء ، فإن الأول لا شك أن الله موصوف به أزلا وأبدا جل وعلا، وأما الاستواء فلم يكن إلا بعد خلق العرش ، وكذلك صفة نزوله إلى السماء الدنيا )) اهـ .
انظروا إلى هذا الضلال الذي يتخبطون فيه ، يقولون الاستواء صفة حادثة بعد أن لم تكن ، ووالذي أرواحنا بيده لو عاشوا عمر نوح لما استطاعوا أن يأتوا بدليل ثابت عن عالم من علماء السلف أنه يقول بما زعم هؤلاء الوهابية وزعيمهم ابن تيمية ، وهذا يدل بكل وضوح على براءة السلف مما تعتقده الوهابية . وزعمهم ، أن الاستواء قديم النوع حادث الآحاد أي أن الله تعالى على زعمهم لم يزل يخلق عرشا قبل عرش ويستوي عليه وتحدث في ذاته استواءات عديدة ، وهذا كلام باطل لا يقوله من عرف معنى التنزيه .
ثم هذه هي عقيدة ابن تيمية المبتدع ، فقد نقل عنه الجلال الدواني- وهو عالم مشهور ترجمه الحافظ السخاوي ووثقه – في كتاب شرح العضدية بقوله (1): (( وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول به – أي بالقدم الجنسي – في العرش )) اهـ .أي أنه كان يعتقد أنجنس العرش أزلي أي ما من عرش إلا وقبله عرش إلى غير بداية وأنه يوجد ثم ينعدم ثم يوجد ثم ينعدم وهكذا ، أي أن العرش جنسه أزلي لم يزل مع الله ولكن عينه القائم الآن حادث على زعمه .
فإن قيل للوهابية : كم مرة عندكم حصل الاستواء على العرش . فإن قالوا : مرة واحدة ، قيل لهم : جعلتم الاستواء صفة حادثة عندكم مخلوقة ، لأن الاستواء حدث ووجد بعد أن لم يكن وهذا كفر وضلال ،وإلا فيما معنى زعمكم الاستواء قديم النوع حادث الآحاد، فإن النوع واحد – أي الاستواء كان مرة واحدة عندكم على زعمكم – والآحاد واحد، وإن قالوا : الاستواء على العرش حصل أكثر من مرة لأننا نقول الاستواء قديم النوع حادث الأفراد ، قيل لهم : قد قلتم قولا ما قال به أحد من أهل السنة قاطبة وخرجتم على القرءان والسنة والإجماع وصريح العقل.
قال الحافظ البيهقي في كتابه (( الأسماء والصفات )) مبينا معنى من قال : (( ولا مباين عن العرش )) ما نصه (1) :
(( يريد به مباينة الذات التي هي بمعنى الاعتزال أو التباعد ، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها ، والقيام والقعود، من اوصاف الأجسام والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام ، تبارك وتعالى )) اهـ .
وقال أيضا (2) : (( وليست البينونة بالعزلة ، تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا )) اهـ .
بيان
أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( الكرسي موضع قدميه ))
من القواعد المهمة التي ينبغي معرفتها أن الصفة لله لا تثبت بقول صحابي ولا تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها ، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته . فمن هنا يعلم أن الحديث الذي يروى عن ابن عباس مرفوعا : (( كرسيه موضع قدميه )) والذي تلهث المجسمة في ذكره لإثبات بزعمهم قدمين لله يضعهما على الكرسي ، لم يثبت لأنه حديث ضعيف كما نص على ذلك الحفاظ.
قال الذهبي في (( الميزان )) في ترجمة شجاع بن مخلد الغلاّس ما نصه (1) : ((أخطأ شجاع في رفعه )) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في (( التقريب )) ما نصه (2) : (( صدوق ، وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف، فذكره بسببه العقيلي )) اهـ .
وقال الحافظ ابن الجوزي في (( الباز الأشهب )) ما نصه (3) : ((رواه جماعة من الأثبات فوقفوه على ابن عباس ورفعه منهم شجاع بن مخلد ، فعلم بمخالفته الكبار المتقنين أنه قد غلط ، ومعنى الحديث : أن الكرسي صغير بالإضافة إلى العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير )) اهـ . أي أن الكرسي حجمه صغير بالنسبة للعرش .
وقد روى البيهقي (4) عن ابن عباس : الكرسي موضع القدمين )) من غير إضافة ، وكذا قاله أبو موسى الأشعري من غير إضافة أي لم يقولا : (( قدميه )) بهاء الضمير ، قال البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ما نصه (1) : (( وتأويله عند أهل النظر: مقدار الكرسي من العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير ، فيكون السرير أعظم قدراً من الكرسي الموضوع دونه موضعا للقدمين ، والخبر موقوف لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم )) اهـ .
قال الحافظ السيوطي في تفسيره (2) : (( هذا على سبيل الاستعارة ،تعالى الله عن التشبيه ، ويوضحه ما أخرجه ابن جرير عن الضحاك قال : كرسيه الذي يوضع تحت العرش الذي تجعل الملوك عليه أقدامهم )) اهـ .
فليس لله تعالى صفة القدمين يضعهما على الكرسي ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شئ ، فالعجب من المجسمة كيف يقولون إن الله يضع قدميه على الكرسي ولا مستند لهم من ءاية أو حديث ، ولو ثبت أن الكرسي موضع القدمين لكان معناه أن الكرسي صغير بالنسبة للعرش ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن ابن عباس .
بيان
أن الوهابية يقولون صفات الله مخلوقة
وأن الله تحل في ذاته الحوادث والعياذ بالله تعالى
وأن الاستواء صفة مخلوقة ، تعالى الله عن قولهم
اتفق أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى أزلي ، واتفقوا أيضا على أن صفاته أزلية بأزلية الذات لأن حدوث الصفة يستلزم حدوث الذات ، واتفقوا أيضا أن ذات الله عز وجل لا تحل به الحوادث ، وخالف في ذلك الكرامية المبتدعة فقالوا إن الله تحدث في ذاته الحوادث واتبعهم ابن تيمية شبرا بشبر ثم جاء الوهابية وأخذوا هذه العقيدة من ابن تيمية .
وقد رد أهل السنة على الكرامية وفضحوهم نصره للحق ولتحذير الناس منهم ومن كان على معتقدهم ، فقد ذكر ابن التلمساني شيئا من معتقدات الكرامية الفاسدة التي تبناها ابن تيمية ، فقال الشيخ شرف الدين ابن التلمساني في شرح لمع الأدلة للجويني ما نصه (1):
(( وخالف إجماع الأمة طائفة نبغوا من سجستان لقبوا بالكرامية نسبة على محمد بن كرام ، وزعموا أن الحوادث تطرأ يعني تتجدد على ذات الله ، تعالى عن قولهم ، وهذا المذهب نظير مذهب المجوس . ووجه مضاهاته لمذهب المجوس أن طائفة منهم تقول بقدم النور وحدوث الظلمة ، وأن سبب حدوثها أن يزدان فكر فكرة فحدث منها شخص من أشخاص الظلمة فأبعده وأقصاه وهو هرمز ،وجميع الشر ينسب إليه . وكذلك الكرامية تزعم أن الله تعالى إذا أراد إحداث محدث أوجد في ذاته كافا ونونا وإرادة حادثة ، وعن ذلك تصدر سائر المخلوقات المباينة لذاته )) اهـ.
وقال الإمام أبو المظفر الأسفراييني ما نصه (1) : (( ومما ابتدعوه – أي الكرامية – من الضلالات مما لم يتجاسر على إطلاقه قبلهم واحد من الأمم لعلمهم بافتضاحه هو قولهم : بأن معبودهم محل الحوادث تحدث في ذاته أقواله وإرادته وإدراكه للمسموعات والمبصرات ، وسموا ذلك سمعاًَ وتبصرا ، وكذلك قالوا : تحدث في ذاته ملاقاته للصفحة العليا من العرش ، زعموا أن هذه أعراض تحدث في ذاته ، تعالى الله عن قولهم )) اهـ.
فتبين مما أوردناه أن ابن تيمية ليس له سلف إلا الكرامية ونحوهم ، وليس كما يدعي أنه يتبع السلف الصالح ، ومن المصيبة أن يأخذ مثل ابن تيمية بمثل هذه الفضيحة ، فمذهبه خليط من مذهب ابن كرام واليهود والمجسمة ، نعوذ بالله من ذلك .
وقد أجاب الإمام الحجة الأسفراييني في دحض هذه الفرية بقوله (2): (( اعتقاد أهل السنة والجماعة أن تعلم أن الحوادث لا يجوز حولها في ذاته وصفاته لأن ما كان محلا للحوادث لم يخل منها ، وإذا لم يخل منها كان محدثا مثلها ، ولهذا قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ }[ سورة الأنعام ] بين به أن من حل به من المعاني ما يغيره من حال على حال كان محدثا لا يصح أن يكون إلها )) اهـ.
فيكون بهذا ما توسع به ابن تيمية في كتبه من تجويز قيام الحوادث به تعالى وحولها فيه خارجا عن معتقد أهل السنة والجماعة ، أهل الحق .
فائدة : قال سيف الدين الآمدي في كتاب (( غاية المرام )) في علم الكلام ما نصه (3) : (( فالرأي الحق والسبيل الصدق والأقرب إلى التحقيق أن يقال : لو جاز قيام الحوادث به لم يخل عند اتصافه بها إما أن توجب له نقصا أو كمالا أو لا نقص ولا كمال ، لا جائز أن يقال بكونها غير موجبة للكمال ولا النقصان فإن وجود الشئ بالنسبة إلى نفسه أشرف له من عدمه ، فما اتصف بوجود الشئ له وهو مما لا يوجب فوات الموصوف ولا فوات كمال له ، وبالجملة لا يوجب له نقصا فلا محالة أن اتصافه بوجود ذلك الوصف له أولى من اتصافه بعدمه لضرورة كون العدم في نفسه مشروفا بالنسبة إلى مقابله من الوجود ، والوجود أشرف منه ، وما اتصف بأشرف الأمرين من غير أن يوجب له نقصا تكون نسبة الوجود إليه مما يرجع إلى النقص والكمال على نحو نسبة مقابله من العدم ، ولا محالة من كانت نسبته على ذلك وجود ذلك الوصف أشرف منه بالنسبة على عدمه ، ولا جائز أن يقال : إنها موجبة لكماله وإلا لوجب قدمها لضرورة أن لا يكون البارئ ناقصا محتاجا إلى ناحية كمال في حال عدمها ، فبقي أن يكون اتصافه بها مما يوجب القول بنقصه بالنسبة على حاله قبل أن يتصف بها ، وبالنسبة على ما لم يتصف بها من الموجودات ، ومحال أن يكون الخالق مشروفا أو ناقصا بالنسبة إلى المخلوق ، ولا من جهة ما كما مضى )) اهـ.
قال المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره ما نصه (1) : (( تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصل بالانتقال المعهود في غيره تعالى ، وان يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث )) اهـ.
فالحاصل أن الله تعالى أزلي وصفاته أزلية لا ابتداء لوجودها ، ولا يزال أبديا ولا تزال صفاته أبدية بأبدية الذات ، فالقائل بأن الله تعالى تحدث في ذاته إرادات في الأزل والأبد وكلام في الأزل والأبد على التعاقب تحدث بعضها بعد بعض، فإن أراد بذلك أنه يحدث الشئ في ذاته بفعله وبخلقه بعدما كان معدوما ، كان ذلك تناقضا وهو محال ، لأن ذاته أزلي فيستحيل أن تحدث في ذاته صفة ، وإن أراد أن غيره يحدثه فيه فذلك أصرح في القول بأنه حادث ، وذلك أيضا محال عقلا وشرعا . وإن قال : إنه يحدث ذلك الكلام وتلك الإرادات بلا فاعل أي لم يخلقها هو بنفسه ولا غيره خلقها فيه ، كان ذلك أيضا محالا، لأن حدوث شئ ما بلا مكون محال عقلا، قال المقري : [رجز ]
لأنه من المحال الباطل وجود شئ ما بدون فاعل
فكل من التقديرات الثلاثة يؤدي على المحال ، وما أدى على المحال محال ، ومن المعلوم أن دين الله لا يأتي بالمحالات العقلية بل الشرع يأتي بما يجوزه العقل ، لأن العقل شاهد للشرع فكيف يناقضه ؟
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي السلفي (ت321 هـ ) في عقيدته التي ذكر أنها بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه :
(( ما زال – أي الله – بصفاته )) قديما قبل خلقه ، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته )) اهـ ، أي لم يزدد بكون الخلق أي وجودهم شيئا من الكمال ، بل كماله أزلي لا يزداد ولا ينقص .
وأما مخالفة ابن تيمية لأهل السنة في هذه المسئلة فيظهر من قوله (1) : (( ومن قال : إن الخلق حادث كالهشامية والكرامية قال : نحن نقول بقيام الحوادث به ، ولا دليل على بطلان ذلك ، بل العقل والنقل والكتاب والسنة وإجماع السلف يدل على تحقيق ذلك ، كما قد بسط في موضعه . ولا يمكن القول بأن الله يدبر هذا العالم إلا بذلك ، كما اعترف بذلك أقرب الفلاسفة إلى الحق كأبي البركات صاحب (( المعتبر )) وغيره )) اهـ.
وقال في (( المنهاج )) ما نصه (2) : (( فإن قلتم لنا : فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب ، قلنا لكم : نعم وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل )) اهـ.
ثم قال فيه ما نصه (1) : (( وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما ، فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به قلنا : ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ، ونصوص القرءان والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه، ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزه عن ذلك ، ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة ))اهـ .
وقال أيضا في كتابه (( المجموع )) ما نصه (2) : (( ونظير ذلك أن يقول : لو كان قد استوى على العرش لكان قد أحدث حدثا وقامت به الحوادث لأن الاستواء فعل حادث كان بعد أن لم يكن ، فلو قام به الاستواء لقامت به الحوادث ومن قامت به الحوادث فقد أحدث حدثا ، والله تعالى منزه عن ذلك . فإنه يقال له : الحادث في اللغة ما كان بعد أن لم يكن ، والله تعالى يفعل ما يشاء فما من فعل يفعله إلا وقد حدث بعد أن لم يكن )) اهـ .
أما الوهابية فقد قال أحد أبرز دعاتهم في كتابه المسمى (( تعقيبات على كتاب السلفية )) ما نصه (3) : ((صفات الأفعال والاستواء والنزول والخلق والرزق قديمة النوع حادثة الآحاد )) اهـ .
وقال عبد الله بابطين (ت1282هـ ) – يصفه الوهابية بأنه مفتي الديار النجدية في عصره – في تعليقه على (( لوامع الأنوار )) ما نصه (4) : (( صفات الله تعالى قسمان : صفات ذاتية كالحياة ... وصفات فعلية وهي التي تتعلق بمشيئته وحكمته فإن اقتضت حكمته فعلها فعلها وإن اقتضت حكمته أن لا يفعلها لم تكن ، وهذا مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة والكلام والنزول والاستواء وغير ذلك من صفات فعله ، فهذا يكون قديم النوع أو الجنس وإن كانت ءاحاده توجد شيئا فشيئا وحينا وءاخر ، ومن المعلوم أنه يوجد الفرق بين صفة الحياة والقدرة مثلا وبين صفة الاستواء ، فإن الأول لا شك أن الله موصوف به أزلا وأبدا جل وعلا، وأما الاستواء فلم يكن إلا بعد خلق العرش ، وكذلك صفة نزوله إلى السماء الدنيا )) اهـ .
انظروا إلى هذا الضلال الذي يتخبطون فيه ، يقولون الاستواء صفة حادثة بعد أن لم تكن ، ووالذي أرواحنا بيده لو عاشوا عمر نوح لما استطاعوا أن يأتوا بدليل ثابت عن عالم من علماء السلف أنه يقول بما زعم هؤلاء الوهابية وزعيمهم ابن تيمية ، وهذا يدل بكل وضوح على براءة السلف مما تعتقده الوهابية . وزعمهم ، أن الاستواء قديم النوع حادث الآحاد أي أن الله تعالى على زعمهم لم يزل يخلق عرشا قبل عرش ويستوي عليه وتحدث في ذاته استواءات عديدة ، وهذا كلام باطل لا يقوله من عرف معنى التنزيه .
ثم هذه هي عقيدة ابن تيمية المبتدع ، فقد نقل عنه الجلال الدواني- وهو عالم مشهور ترجمه الحافظ السخاوي ووثقه – في كتاب شرح العضدية بقوله (1): (( وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول به – أي بالقدم الجنسي – في العرش )) اهـ .أي أنه كان يعتقد أنجنس العرش أزلي أي ما من عرش إلا وقبله عرش إلى غير بداية وأنه يوجد ثم ينعدم ثم يوجد ثم ينعدم وهكذا ، أي أن العرش جنسه أزلي لم يزل مع الله ولكن عينه القائم الآن حادث على زعمه .
فإن قيل للوهابية : كم مرة عندكم حصل الاستواء على العرش . فإن قالوا : مرة واحدة ، قيل لهم : جعلتم الاستواء صفة حادثة عندكم مخلوقة ، لأن الاستواء حدث ووجد بعد أن لم يكن وهذا كفر وضلال ،وإلا فيما معنى زعمكم الاستواء قديم النوع حادث الآحاد، فإن النوع واحد – أي الاستواء كان مرة واحدة عندكم على زعمكم – والآحاد واحد، وإن قالوا : الاستواء على العرش حصل أكثر من مرة لأننا نقول الاستواء قديم النوع حادث الأفراد ، قيل لهم : قد قلتم قولا ما قال به أحد من أهل السنة قاطبة وخرجتم على القرءان والسنة والإجماع وصريح العقل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق