قال الطحاوي رحمه الله:
وقد علمَ اللهُ تعالى فيما لم يزل (أي قبل خلق الخلائق، لأن علم الله أزلي كسائر صفاته كلها أزلية) عددَ من يدخلُ الجنةَ وعددَ من يدخلُ النارَ جملةً واحدةً، فلا يُزادُ في ذلك العدد ولا يُنقَصُ منه، وكذلك أفعالهُم فيما علمَ منهم أن يفعلوه (أي لا يتغيّر علم الله، والمخلوقات هي التي تتغيّر). وكلٌّ ميسّـرٌ لما خُلقَ له. والأعمالُ بالخواتيم، والسعيدُ من سَعِدَ بقضاء الله، والشقيُّ من شقِي بقضاء الله. وأصلُ القدَر سـرُّ الله تعالى في خلقه، لم يَطّلع على ذلك ملَكٌ مقرّبٌ ولا نبيّ مُرسلٌ، والتعمقُ والنظرُ في ذلك ذريعةُ الخِذلان وسُلّمُ الحِرمان ودرجةُ الطُّغيان، فالحذرَ كلّ الحذرِ من ذلك نظرًا وفكرًا وَوَسوسةً، فإن اللهَ تعالى طوَى علمَ القدَر عن أنامِه (اي عن جميع الخلق)، ونهاهُم عن مَرامِه (طلب ذلك)، كما قال الله تعالى في كتابه: "لا يُسألُ عما يفعلُ وهم يُسألون" (الأنبياء، 23)، فمن سأل: لِمَ فعلَ؟، فقد ردَّ حكمَ الكتاب (القرآن)، ومن ردَّ حكمَ الكتابِ كان من الكافرين.
الشرح: في كلام الطحاوي رحمه الله أن من زعم معرفة سرّ القدر فقد ضلّ ضلالاً بعيداً، ومن ادّعى أن أحداً من الخلق يعلم كلّ الغيب فقد كفر. الأنبياء والملائكة وبعض الأولياء الأكابر يطلعهم الله على قليل جداً من الغيب لكرامتهم عنده تعالى.
روى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء قال سئل مالك بن أنس عن تزويج القدري أي المعتزلي فقرأ قول الله تعالى "ولَعَبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبَكم" (البقرة، 221) والمُرادُ بالقَدَر التَّقْدير اي صفة الله الأزلية، ومعنى كلام الإمام مالك أن من أنكر تقدير الله للأشياء كلها فهو كافر. قال الحَسَنُ البِصْرِيُّ رضي الله عنه وغيرُه منْ أئمَّة السَّلَف قالوا: "مَن كذَّبَ بالقَدَر فقَد كفَر"، المعنى أنّ الذي لا يعتَقدُ جَزمًا بلا شكٍّ أن مَا يَجري على العباد مِن أعمالٍ ظاهِرةٍ وباطِنَةٍ بتقدير الله، مَن لم يعتقد هذا فاعتقَدَ خِلافَه بأن اعتقدَ أنّ العبدَ هو الذي يُحْدِثُ ويَخلُق أعمالَهُ فقَد كفَر. الإنسان لا يُحْدِثُ منَ العَدَم إلى الوجود. الإنسان يُوَجِّه إرادَتَه إلى الشّيء الذي يَميْلُ إليه، نحوَ تلكَ الحركةِ أو السّكون فيَخلُق اللهُ تعالى تلكَ الحركةَ أو السّكونَ. يَخلقُها اللهُ تعالى في العبدِ. ليسَ كما تقولُ المعتزلة. قالوا إنّ اللهَ تعالى كانَ قَادرًا على أن يخلُقَ حَركاتِ العبدِ وسكونَه قبلَ أن يُعطِيَه القُدْرةَ، فلَمّا أعطاهُ القُدْرَة صارَ عَاجزًا. فبَعدَ قَولِهم هذا، المؤمنُ لا يَسَعُه إلا تكفيرُهم كما قال مالك.
فمعنى القَدَر التَّقديرُ ومعنى التَّقدير التّدبيرُ، قاله الزَّجّاج من كبار اللُّغَويّين.
وسُئِلَ الشافعي رضي الله عنه عن القَدَر فقالَ أبياتًا هي:
ما شِئْتَ (يا الله) كان وإن لم أشأ، وما شِئتُ (أنا) إن لم تَشَأ لم يكُن؛
خَلَقْتَ العِبَادَ على مَا عَلِمْتَ، ففِي العِلْم يَجْري الفَتى والمُسِنّ؛
على ذا مَنَنتَ وهذا خذَلْتَ، وهذا أعَنْتَ وذا لم تُعِن؛
فمِنْهُم شَقِيٌّ ومِنْهُم سَعِيْدٌ، ومنهم قَبِيْحٌ ومنهُم حَسَن؛
هذا كانَ جواب الشَّافعيّ لتَفسِير القدَر. فحاصِلُ هذا الكلام أن القَدَرَ هو مشيئةُ الله تعالى الموافقةُ لعِلمِه لأنّ المشيئةَ لا تُخالِفُ العِلم.
فقولُ الشافعي ما شِئتَ كانَ وإن لم أشأ أفهَمَنا أنّ ما شاءَ اللهُ تعالى دخولَه في الوجود كانَ، أي وُجِدَ، لا بُدَّ مِن ذلك، لا أَحَدَ يَمنَعُ نفَاذَ مشيئة الله، لا يمنَعُ نفاذَ هذه المشيئة دَعوةُ داعٍ ولا صَدَقَةُ متَصدِّق ولا برُّ الوالدَين ولا شيءٌ منَ الحسَنات. إنّما نَفْع الدّعاءِ والصّدقة وبرِّ الوالِدَين وصلةِ الرَّحِم الثواب، وأنه إن كانَ سَبَقَ القَدَرُ في أنّ هذا الإنسانَ يَدعُو أو يتصَدّق أو يَبَرُّ والدَيه أو يَصِلُ رحِمَه فيُعطَى ما طلبَه أو يُدْفَعُ عنه ما طلَب أن لا يُصيبَه، فهناك صار دُعَاؤُهُ منَ القَدَر ونَيْلُه لطَلبِه منَ القَدَر، وكذلكَ انصرافُ البلاءِ الذي طلَب منَ الله أن لا يُصيبَه منَ القَدَر. كلّ ذلك منَ القَدَر. وهذا معنى حديث الترمذي "لا يَردّ القضاء إلا الدعاء" فليُتنبّه لذلك فإن القضاء المبرَم لا يردّه شيء دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: "وإن ربّي قال يا محمد إني إذا قضيتُ قضاء فإنه لا يُردّ"، (وكلام الله ليس حرفاً ولا صوتاً).
دل ذلك وغيره على أن مشيئة الله أزليّةٌ شاملَة لكلِّ ما سيَحدُث في الدّنيا وفي الآخِرة إلى ما لا نهايةَ له. تلك المشيئةُ الأزليّةُ الأبديةُ شاملةٌ لكُلّ ما سيَحدُث في هذه الحياةِ وفي الحياةِ الثّانيَة إلى ما لا نهايةَ لهُ، هذا الذي يجب أن يُعْتَقَد.
1 - ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
2 - علمُ الله ومشيئة الله وتقدير الله وسائر صفاته سبحانه لا تتغيّر.
3 - الشيء الذي علم الله وقوعه وأخبر أنه يقع بالوحي إلى نبيّ من أنبيائه، أو حتى لم يخبر به أحداً من خلقه، فإنه لا يُرفع بالدعاء ولا بالصدقة ولا بغيرهما.
4 - مشيئة الله تعالى كذلك لا تتغيّر بدعاء ولا تتغيّر بصدقة ولا تتغيّر بغير ذلك.
5 - ما علم الله أنه يكون فإنه لا يتخلّف (لا يتأخر عن وقته) ولا يتغيّر للحديث القدسي في صحيح مسلم وغيره، قال الله تعالى: "يا محمّد إني إذا قضيتُ قضاء فإنه لا يُردّ".
6 - الله تعالى لا يتغيّر علمه ولا تتغيّر مشيئته لدعوة داع وإن كان الداعي نبياً أو ولياً صالحاً. النبيّ أو الوليّ لا يغير مشيئة الله تعالى.
7 - هناك شيء اسمه القضاء المعلق أو القدر المعلق أي أنه معلق في صحف الملائكة، وليس في علم الله شيء معلق على فعل العباد لأن علم الله أزلي. الله يعلم ما كان وما يكون وما سيكون، ولا يخفى عليه شيء.
8 - في صحف الملائكة الكرام يكون مكتوباً مثلاً أن العبد الفلاني إن تصدّق مثلاً أو دعا الله، دفع الله عنه كذا من البلاء أو حقق له مطلوبه؛ وإن لم يتصدّق أو لم يدع ربّه، يصيبه ذلك البلاء أو لا يحقق الله له مطلوبه. ولكن يكون في علم الله وفي اللوح المحفوظ كذلك ما يفعله هذا العبد من أنه يدعو أو لا يدعو، يتصدّق أو لا يتصدّق، يصيبه كذا أو لا يصيبه كذا، يتحقق مطلوبه أو لا يتحقق مطلوبه. وليس معنى ذلك أن علم الله تعالى معلق على فعل العبد.
9 - من ظن أن تقدير الله الأزلي يتغيّر فهذا ضلال لأن المخلوق هو الذي يتغيّر لحاجته إلى من يُغيّره، أما الخالق فهو الذي يغيّر الخلق من حال إلى حال ولا يحتاج هو إلى شيء سبحانه.
10- كذلك من ظن أن الله تتغيّر مشيئته أو يتغيّر علمه يحتاج لقول الشهادتين بلسانه ليرجع مسلماً، يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله،
11- فائدة الدعاء إظهار تذلل العبد إلى ربّه وحصوله على الأجر والثواب من الله تعالى، وقد يحصل مطلوبه وقد لا يحصل. وليس من شرط الدعاء حصول المطلوب وقضاء الحاجة المذكورة فيه، فكم وكم من أناس دعوا الله تعالى فلم يحصل لهم ما طلبوا لسبب أو لآخر، ولكن لهم الأجر والثواب إن أخلصوا. وليس معنى الدعاء أن الإنسان يستطيع أن يغيّر مشيئة ربّه لأن تغيّر مشيئة الله مستحيل شرعاً وعقلاً. ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
12- لو كانت مشيئة الله تتغيّر لكان مثل البشر، وهذا مستحيل. قال الإمام الطحاوي: "ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق