بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 25 مارس 2020

بيان معنى الاستواء الوارد في القرءان وقول الإمام مالك: (والكيف غير معقول)

واعلم أن ءاية الاستواء هي اعظم ءاية عند المشبهة لإثبات المكان والجهة لله تعالى، لذلك احتجنا لبيان فساد اعتقادهم وعدم دلالة ما يستدلون به إلى تفصيل أقوال العلماء في معنى الاستواء، حتى لا تبقى عندهم شبهة بعد ذلك بحول الله.


فاستواء الله على العرش قد ورد قرءانًا قال تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في ستة مواضع في سورة الأعراف ويونس والرعد والسجدة والفرقان والحديد وسابعها في سورة طه بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. فقد تقدم أن القرءان نزل بلغة العرب ومعاني كلامهم وما كانوا يتعقلونه في خطابهم فالاستواء في لغة العرب له خمسة عشر معنى فقد قال الحافظ أبو بكر بن العربي في العارضة ( 2/235ـ236) ما نصه: (وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز، منها ما يجوز على الله فيكون معنى الآية ومنها ما لا يجوز على الله بحال وهو إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار أو الاتصال أو المحاذاة فإن شيئا من ذلك لا يجوز على الباري تعالى ولا يضرب له الأمثال به في المخلوقات، وإما أن لا يُفسّر). اهـ


وأما الاستواء الوارد في القرءان في نحو قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ طه/5].


فقد قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في كتاب الوصية ما نصه: (ونُقِر بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة واستقرار عليه وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوقين، ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا). اهـ (مجموعة رسائل أبو حنيفة. ص/73)


وقال سيدنا علي رضي الله عنه: (إن الله تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته). اهـ نقله الإمام أبو منصور البغدادي في الفرق بين الفرق (ص/256).


وقال الإمام المجتهد السلفي ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره ( 1/228ـ229) عند تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ما نصه: (والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} الذي هو بمعنى العلو والارتفاع هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه ـ إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك ـ أن يكون إنما على وارتفع بعد أن كان تحتها ـ إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم ينجو مما هرب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى} أقبلَ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير،قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال). اهـ


فهذان إمامان سلفيان مجتهدان بينا معنى العلو والاستواء، فهو علو ملك وسلطان، لا علو جهة ومكان، كما ظهر لك، وكن على ذكر من قول الإمام علي رضي الله عنه. علماً أننا سنذكر إن شاء الله في ءاخر هذا الرد بعض التأويلات التي جاءت عن بعض السلف وبعض الخلف حول الاستواء وغيره.


قال البيهقي في الأسماء والصفات ( 2/152ـ153) ما نصه: (وذهب أبو الحسن علي بن محمد الطبري وجماعة ءاخرين من أهل النظر: والقديم سبحانه عالٍ على عرشه لا قاعد ولا قائم ولا مماس ولا مباين عن العرش، يريد به مباينة الذات التي هي بمعنى الاعتزال أو التباعد، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها والقيام والقعود من أوصاف الأجسام، والله عز وجلّ أحدٌ صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام تبارك وتعالى.. وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك هذه الطريقة عن بعض أصحابنا أنه قال: استوى بمعنى علا، ثم قال: ولا يريد بذلك علوا بالمسافة والتحيز والكون في مكان متمكنا فيه ولكن يريد معنى قول الله عز وجل: {ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} [سورة تبارك/16] أي من فوقها على معنى نفي الحد عنه، وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قُطرٌ.قلت: وهو على هذه الطريقة من صفات الذات، وكلمة ثمّ تعلقت بالمستَوَى عليه لا بالاستواء، وهو كقوله: {ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [ سورة يونس/46] يعني ثم يكون عملهم فيشهده، وقد أشار أبو الحسن علي بن إسماعيل إلى هذه الطريقة حكاية فقال: وقال بعض أصحابنا إنه صفة ذات ولا يقال لم يزل مستويا على عرشه، كما أن العلم بأن الأشياء قد حدثت من صفات الذات، ولا يقال لم يزل عالما بأن قد حدثت ولمّا حدثت بعد، قال: وجوابي هو الأول وهو أن الله مستوٍ على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أنه لا تحله ولا يحلها ولا يمسها ولا يشبهها، وليست البينونة بالعزلةِ تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا). اهـ


ثم قال في نفس الكتاب ( 2/153) ما نصه: (وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب أن كثيراً من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة، ومعناه أن الرحمن غلب العرش وقهره، وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته وأنها لم تقهره، وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المملوكات فنبه بالأعلى على الأدنى. قال: والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة، كما يقال: استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها). اهـ


وقال الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله في كتاب التوحيد ( ص/70) ما نصه: (ثم القول بالكون على العرش ـ وهو موضع بمعنى كونه بذاته أو في كل الأمكنة ـ لا يعدو من إحاطة ذلك به أو الإستواء به، أو مجاوزته عنه وإحاطته به، فإن كان الأول: فهو إذا محدودٌ به محاطٌ منقوص عن الخلق إذ هو دونه، ولو جاز الوصف له بذاته بما يحيط به من الأمكنة لجاز بما يحيط به من الأوقات فيصير متناهيا بذاته مقصرا عن خلقه.وإن كان على الوجه الثاني: فلو زيد على الخلق لا ينقص أيضاً وفيه ما في الأول.وإن كان على الوجه الثالث: فهو الأمر المكروه الدال على الحاجة وعلى التقصير من أن ينشأ ما لا يفضل عنه، مع ما يُذم ذا من فعل الملوك أن لا يفضل عنهم من المعامد شيئاً. وبعد فإن في ذلك تجزئة بما كان بعضه في ذي أبعاض وبعضه يفضل عن ذلك، وذلك كله وصف الخلائق والله يتعالى عن ذلك.وبعد فإنه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس أو القيام شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء،كمن يعلو السطوح أو الجبال إنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه، مع ما فيها ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة يونس/3] فدَلّك على تعظيم العرش). اهـ


وقال الإمام أبو نصر القشيري في التذكرة الشرقية فيما نقله الحافظ الزبيدي: (فإن قيل أليس الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فيجب الأخذ بظاهره؟ قلنا الله يقول أيضا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ويقول تعالى: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَئٍ مُّحِيطٌ} فينبغي أيضا أن تأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكون على العرش وعندنا ومعنا ومحيطا بالعالم محدقا به بالذات في حالة واحدة. والواحد يستحيل أن يكون بذاته في حالة بكل مكان، قالوا: قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يعني بالعلم و: {بِكُلِّ شَئٍ مُّحِيطٌ} إحاطة العلم قلنا وقوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قهر وحفظ وأبقى). اهـ أنظر الإتحاف ( 2/175).


وقال الحافظ الزبيدي في الإتحاف ( 2/173) ما نصه: (قال الصاحب بن عباد في كتابه نهج السبيل: فإن قيل فهو مستول على كل شىء فما وجه اختصاصه العرش بالذكر؟ قيل: كما هو رب كل شىء وقال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} فإن قيل: فما معنى قولنا عرش الله إن لم يكن عليه؟ قيل: كما تقول بيت الله، وإن لم يكن فيه، والعرش في السماء تطوف به الملائكة كما أن الكعبة في الأرض تطوف بها الناس.اهـ وهو وإن كان يميل إلى رأي الاعتزال غير أنه وافق أهل السنة فيما قاله هنا). انتهى كلام الزبيدي.


وروى الحافظ الزبيدي في الإتحاف ( 2/132) بسنده إلى الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها في قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به إيمان والجحود به كفر). اهـ


قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/500) والزبيدي في الإتحاف (2/131) ما نصه: (وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر، ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش؟ فقال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول وعلى الله الرسالة وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم). اهـوأخرج البيهقي في الأسماء والصفات ( 2/150) والحافظ ابن حجر في الفتح ( 13/501) والزبيدي في الإتحاف ( 2/131) بسند جيد عن عبد الله بن وهب: (قال كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه). اهـ


وأما قولهم عن الإمام مالك رضي الله عنه بأنه قال: الاستواء معلوم – أي وروده في القرآن – والكيف غير معقول – فما معنى قوله: غير معقول؟ وقد يسرونها بزعمهم الفاسد بقولهم: ( لا ندرك كيف استوى) فأين هذا في كلام مالك؟ فقد قال رحمه الله: والكيف غير معقول. ومعنى غير معقول أي مستحيل، والكيف مستحيل على الله.


فقد ذكر الحافظ الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ج2 ص133 ما نصه: (وقال ابن اللبان في تفسير قول مالك، قوله: (كيف غير معقول) أي كيف من صفات الحوادث، وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل فيجزم بنفيه عن الله تعالى، قوله: (والاستواء غير مجهول) أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة، (والإيمان به) على الوجه اللائق به تعالى (واجب) لأنه من الإيمان بالله وبكتبه، (والسؤال عنه بدعة) أي حادث لأن الصحابة كانوا عالمين بمعناه اللائق بحسب اللغة، فلم يحتاجوا للسؤال عنه، فلما جاء من لم يحط بأوضاع لغتهم ولا له نور كنورهم يهديه لصفات ربه شرع يسأل عن ذلك، فكان سؤاله سببا لاشتباهه على الناس وزيغهم عن المراد.اهـ فهذا يوضح معنى قول الإمام مالك رحمه الله، على أنه واضح لا يحتاج إلى شرح لمن هدى الله قلبه للتنـزيه).


وقال العلامة البياضي في كتابه إشارات المرام ص186 ما نصه: (بلا كيف، أي بلا كيفية وجارحة ولا مشابهة للمخلوقات وفيه إشارات: الأولى: نفي الكيفيات، فإن الكيفية في اللغة بمعنى الهيئة والصفة كما في المصباح المنير). اهـ


وقال العلامة القسطلاني في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ( 15/615) ما نصه: (وقد ثبت عن الإمام مالك أنه سئل كيف استوى؟ فقال: كيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.فقوله: (كيف غير معقول). أي كيف من صفات الحوادث وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل فيجزم بنفيه عن الله تعالى). اهـ


وقد نفى مالك الكيف عن الله تعالى بقوله أيضا: (ولا يقال كيفٌ، وكيف عنه مرفوع).اهـ. كما رواه البيهقي في الأسماء والصفات ( 2/150) والحافظ في فتح الباري (13/501).


وقال الحافظ في الفتح أيضا ( 13/501) ما نصه: (وأسند البيهقي من طريق أبي بكر الضبعي قال: مذهب أهل السنة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: بلا كيف، والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال الترمذي في الجامع في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أمَرُّوها بلا كيف، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة). اهـ


وقال الإمام أحمد كما روى الخلال في السنة بسنده عن أحاديث الصفات ما نصه: (نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى).اهـ راجع تكملة الرد على نونية ابن القيم للعلامة الكوثري ( ص/60).


وعلى هذا المعنى جاءت الروايات عن السلف، فقد قال الإمام الترمذي في سننه ما نصه: (والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك ابن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ثم قالوا: تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال كيف). اهـ


حتى قال ابن أبي العز ـ وهو من المشبهة المجسمة كما سنبين لك ـ في شرحه على الطحاوية ( ص/ 218ـ219ـ من الطبعة الثامنة) ما نصه: (قال أبو داود الطيالسي: كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون كيف). اهـ


وقال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 16/97) ما نصه: (وتعالى الله أن يُحَدَّ أو يوصف إلا بما وصف به نفسه أو علّمه رسله بالمعنى الذي أراد بلا مثل ولا كيف { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}). اهـ  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...