بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مارس 2020

القَصْدُ منَ المِعْراجِ هُو تَشْريفُ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم بإطْلاعِه علَى عَجَائِبَ في العَالَمِ العُلْوِيّ وتَعظِيمُ مكَانتِه

الصراط المستقيم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

ولَيسَ المَقْصودُ بالمِعراجِ وصُولَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم إلى مكانٍ يَنْتَهِي وجُودُ الله تَعَالى إِلَيهِ ويَكْفُر مَن اعْتَقدَ ذلكَ، إِنّمَا القَصْدُ منَ المِعْراجِ هُو تَشْريفُ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم بإطْلاعِه علَى عَجَائِبَ في العَالَمِ العُلْوِيّ وتَعظِيمُ مكَانتِه ورُؤْيتُه لِلذَّاتِ المُقَدَّسِ بفُؤَادِه منْ غَيرِ أن يكُونَ الذَّاتُ في مكَانٍ وإنما المكانُ للرسولِ.
وأمَّا قولُه تَعَالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)﴾  [سورة النجم] فَالمَقصُودُ بِهَذِهِ الآيةِ جِبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ8حَيْثُ رَءاهُ الرسول صلى الله عليه وسلم بمكةَ بمكانٍ يقالُ له أجيادٌ وله سِتُّمائَةِ جَنَاحٍ سادًّا عُظْمُ خَلْقِه مَا بَيْنَ الأُفُقِ، كَما رَءاهُ مَرّةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)﴾  [سورة النجم].
وأمّا ما في مسلم9من أن رجلا جاءَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فسألهُ عن جاريةٍ لهُ قال قلتُ يا رسولَ الله أفلا أعتِقُها، قال: "ائتني بها"، فأتاهُ بها فقالَ لها: "أينَ الله"، قالت: في السماءِ، قال: "مَن أنا"، قالت: أنتَ رسولُ الله، قال: "أعتِقْها فإنّها مؤمنةٌ". فليسَ بصحيحٍ لأمرينِ للاضطرابِ لأنّه رُويَ بهذا اللفظ وبلفظِ10"مَن رَبُّك"، فقالت الله، وبلفظ: "أينَ الله"، فأشارت إلى السّماءِ، وبلفظ11"أتشهَدينَ أن لا إله إلا الله" قالت نعم، قال: "أتشهدينَ أنّي رسولُ الله" قالت نعم.
والأمرُ الثَّاني
أن رواية أين الله مخالفةٌ للأصولِ لأنَّ من أصولِ الشريعةِ أن الشخصَ لا يُحكَمُ له بقولِ "الله في السماءِ" بالإسلامِ لأنَّ هذا القولَ مشتَركٌ بين اليهودِ والنّصارَى وغيرِهم وإنّما الأصلُ المعروفُ في شريعةِ الله ما جاءَ في الحديثِ المتواتر12: "أمرتُ أن أقاتلَ النّاسَ حتّى يشهَدُوا أن لا إله إلا الله وأنّي رسولُ الله"13.
ولفظُ روايةِ مالكٍ14"
أتشهدينَ" موافقٌ للأصول.فإن قيلَ: كيف تكونُ روايةُ مسلم "أينَ الله" فقالت: في السماءِ إلى ءاخره مردودةً مع إخراج مسلمٍ لها في كتابهِ وكلُّ ما رواهُ مسلمٌ موسومٌ بالصّحّةِ، فالجوابُ: أن عدَدًا من أحاديثِ مسلمٍ ردَّها علماءُ الحديثِ وذكرَها المحدّثونَ في كتبهم كحديث أن الرسولَ قال لرجُلٍ15: "إنَّ أبي وأبَاكَ في النّار"، وحديث16إنه يُعطى كل مسلم يومَ القيامَةِ فِداءً لهُ مِنَ اليهودِ والنصارَى، وكذلكَ حديث أنسٍ17: "صَليتُ خلفَ رسولِ الله وأبي بكرٍ وعمرَ فكانوا لا يذكرونَ بسم الله الرحمن الرحيمِ". فأمَّا الأولُ فضَعَّفَهُ الحافظُ السيوطيُّ18، والثاني رَدَّهُ البخاريُّ19، والثالثُ ضَعَّفَهُ الشافعيُّ وعدد من الحفاظ20.
فهذا الحديثُ على ظاهرِهِ 
باطلٌ لمعارضَتِهِ الحديثَ المتواترَ المذكورَ وما خالفَ المتواترَ فهو باطلٌ إن لم يقبل التأويلَ. اتفقَ على ذلك المحدِّثونَ والأصوليُّونَ، لكن بعض العلماءِ أوَّلُوهُ على هذا الوجهِ قالوا معنى أينَ الله سؤال عن تعظيمِها لله وقولها في السماءِ عالي القدرِ جدًّا أما أخذه على ظاهره من أن الله ساكن السماء فهو باطلٌ مردودٌ لِما تقررَ فإن ظاهرَه ظاهرُ الفساد فإن ظاهرَه أنَّ الكافرَ إذا قالَ الله في السماءِ يُحكم لهُ بالإيمانِ.
وحمل المُشبهة رواية مسلم على ظاهرهَا فَضَلُّوا ولا يُنجيهم منَ الضلالِ قولُهم إننا نحملُ كلمةَ في السماءِ بمعنى إنهُ فوقَ العرشِ لأنهم يكونونَ بذلكَ أثبتوا لهُ مِثلا وهوَ الكتابُ الذي كَتَبَ الله فيه "إن رَحمَتي سَبَقَت غَضبي"21فوقَ العرشِ فيكونونَ أثبتوا المُمَاثَلَةَ بينَ الله وبينَ ذلكَ الكتاب لأنهم جعلوا الله وذلكَ الكتاب مستقرَّيْنِ فوقَ العرش  فيكونونَ كذبوا قولَ الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ (11)﴾  وهذا الحديثُ رواهُ ابن حبانَ بلفظ22"مرفوع فوقَ العرشِ"، وأما روايةُ البخاري فهي23"موضوع فوقَ العرشِ"، وقد حَملَ بعضُ الناسِ فوقَ بمعنى تحت وهو مردودٌ بروايةِ ابنِ حبانَ "مرفوع فوق العرشفإنه لا يَصحُّ تأويلُ فوقَ فيه بتحتثم على اعتقادِهم هذا يلزمُ أن يكونَ الله محاذيًا للعرشِ بقدرِ العرشِ أو أوسَعَ منهُ أو أصغرَ، وكلُّ ما جَرَى عليهِ التّقديرُ حَادِثٌ محتاجٌ إلى من جَعَلَهُ على ذلكَ المقدارِ، والعرشُ لا مناسبةَ بينهُ وبينَ الله كما أنه لا مناسبةَ بينهُ وبينَ شىءٍ من خَلقِهِ، ولا يتشرَّفُ الله بشىءٍ من خلقِهِ ولا ينتفعُ بشىءٍ من خلقِه. وقولُ المشبهةِ الله قاعدٌ على العرشِ شَتمٌ لله لأن القعودَ من صفةِ البشرِ والبهائمِ والجِنّ والحشرات وكلُّ وَصفٍ من صفاتِ المخلوقِ وَصْفُ الله به شَتمٌ لهُ، قالَ الحافظُ الفقيهُ اللغويُّ مرتضى الزبيديُّ24"مَن جَعَلَ الله تعالى مُقَدَّرًا بِمقدَارٍ كَفَرَ" أي لأنهُ جعلَهُ ذا كميةٍ وحجمٍ والحجمُ والكميةُ من موجبَاتِ الحُدوثِ، وهل عرفنا أن الشمس حادثةٌ مخلوقةٌ من جهةِ العقلِ إلا لأن لها حَجمًا، ولو كانَ لله تعالى حجمٌ لكانَ مِثلا للشمسِ في الحجميَّةِ ولو كانَ كذلكَ ما كانَ يستحقُّ الألوهيةَ كَما أن الشمسَ لا تستحقُّ الألوهية. فلو طَالَبَ هؤلاءِ المشبهةَ عابدُ الشمسِ بدليلٍ عقليّ على استحقاقِ الله الألوهية وعدم استحقاقِ الشمسِ الألوهية لم يكن عندَهم دليلٌ، وغَايَةُ ما يستطيعونَ أن يقولوا قالَ الله تعالى: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ (62)﴾ [سورة الزمر]، فإن قالوا ذلكَ لعابدِ الشمسِ يقولُ لهم عابدُ الشمسِ: أنا لا أؤمنُ بكتابكم أعطوني دليلا عقليًّا على أن الشمسَ لا تستحقُّ الألوهيةَ فهنا ينقطعونَ.
فلا يوجدُ فوقَ العرش شىءٌ حيٌّ يسكنه إنما يوجدُ كتابٌ فوقَ العرشِ مكتوبٌ فيه: "إنَّ رحمتي سَبَقَت غَضبيأي أن مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب، الملائكة من مظاهر الرحمة وهم أكثرُ عددًا من قطرات الأمطار وأوراق الأشجار، والجنة من مظاهر الرحمة وهي أكبر من جهنم بآلاف المرات.
وكونُ ذلك الكتابِ فوقَ العرشِ ثابتٌ أخرجَ حديثهُ البخاريُّ والنسائيُّ في السننِ الكبرى وغيرُهما25، ولفظ روايةِ ابن حبّانَ26: "لمَّا خلقَ الله الخلقَ كتبَ في كتابٍ يكتبُهُ على نفسِهِ27وهو مرفوعٌ فوقَ العرشِ إن رحمتي تَغلبُ غَضَبي".
فإن حاوَلَ محاوِلٌ أن يؤوّلَ "فوق" بمعنى دون قيلَ لهُ تأويلُ النصوصِ لا يجوزُ إلا بدليلٍ نقليّ ثابتٍ أو عقليّ قاطِعٍ وليس عندهم شىءٌ من هذين، ولا دليلَ على لزومِ التأويلِ في هذا الحديثِ، كيفَ وقد قالَ بعضُ العلماءِ إن اللوحَ المحفوظَ فوقَ العرشِ لأنه لم يَرد نصٌّ صريحٌ بأنه فوق العرشِ ولا بأنه تحتَ العرشِ فبقي الأمرُ على الاحتمالِ أي احتمالِ أن اللوحَ المحفوظ فوقَ العرشِ واحتمالِ أنه تحتَ العرشِ، فَعَلى قولهِ إنهُ فوقَ العرشِ يكون جعلَ اللوحَ المحفوظَ معادِلا لله أي أن يكونَ الله بمحاذاةِ قسمٍ منَ العرشِ واللوحُ بمحاذاةِ قسمٍ مِنَ العرش وهذا تشبيهٌ لهُ بخلقِهِ لأن محاذاةَ شىءٍ لشىءٍ مِن صفاتِ المخلوقِ. ومما يدل على أن ذلك الكتاب فوق العرش فوقيةً حقيقيةً لا تحتمل التأويل الحديث الذي رواه النسائيُّ في السنن الكبرى28"إنَّ الله كتَب كتابًا قبل أن يخلُقَ السموات والأرض بألفي سنة فهوَ عندَهُ على العرشِ وإنه أنزلَ من ذلك الكتاب ءايتين ختم بهما سورة البقرةِ"، وفي لفظ لمسلم29: "فهو موضوعٌ عندهُفهذا صريحٌ في أنَّ ذلكَ الكتاب فوقَ العرشِ فوقيةً حقيقيةً لا تحتَمِلُ التأويلَ.
وكلمةُ "عندَ" للتشريفِ ليسَ لإثباتِ تحيزِ الله فوقَ العرشِ لأنَّ "عندَ" تُستعمَلُ لغيرِ المكانِ قالَ الله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ (83)﴾ [سورة هود] إنّما تدلُّ "عندَ" هنا أنَّ ذلكَ بعلمِ الله وليسَ المعنى أنَّ تلكَ الحجارة مجاورةٌ لله تعالى في المكَان. فمَن يحتجُّ بمجرّدِ كلمةِ عند لإثباتِ المكانِ والتَّقارُبِ بينَ الله وبينَ خلقِهِ فهوَ من أجهَل الجاهلينَ، وهل يقولُ عاقلٌ إنَّ تلكَ الحجارةَ التي أنزلها الله على أولئكَ الكفرةِ نَزَلَت مِنَ العرشِ إليهم
وكانت مكوّمَةً بمكان في جنبِ الله فوقَ العرشِ.
8) فتح الباري (1/23).
9) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب المساجد: باب تحريم الكلام في الصلاة.
10) رواه النسائي في سننه: كتاب الوصايا: باب فضل الصدقة عن الميت.
11) رواه أحمد في مسنده (3/451)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/388).
12) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب استتاب المرتدين والمعاندين وقتالهم: باب من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة.
13) رواه خمسة عشر صحابيًا.
14) الموطأ (ص/666).
15) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار.
16) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب التوبة: باب قبول توبة القاتل.
17) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الصلاة: باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة.
18) الحاوي للفتاوى (2/393).
19) فتح الباري (11/398).
20) السنن الكبرى (2/52).
21) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى بل هو قرءان مجيد.
22) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (8/5).
23) رواية البخاري "بلفظ وضع عنده على العرش"، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (3/385): "وضع بفتح فسكون أي موضوع ووقع كذلك في الجمع لحميدي بلفظ موضوع وهي رواية الإسماعيلي".
24) إتحاف السادة المتقين (2/109).
25) تقدم تخريج البخاري، وأما النسائي فقد رواه في السنن الكبرى: كتاب النعوت: باب 51 و 52، وأحمد في مسنده (2/258).
26) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (8/5).
27) معناه وعد.
28) أخرجه النسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة: باب 228.
29) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب التوبة: باب في سعة رحمة الله.
__________________________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...