*معنى عنده فوق العرش وشرح حديث إن رحمتي غلبت غضبي*
مَعْنَى " عِنْدَهُ " أَيْ : مُشَّرفٌ . ذَلِكَ الكِتَاب مُشَرَّفٌ، هَذَا مَعْناَهُ , لَيْسَ مَعْنَى " عِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مَكَانَ هُوَ الْعَرْش، وَأَنَّ هُنَاكَ عَلَى الْعَرْشِ كِتَابًا كَتَبَ فِيهِ هَذِهِ الْجُمْلَة : " إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي " كَلِمَةُ " عِنْدَ " تُسْتَعْمَلُ لِلتَّشْرِيفِ لَيْسَ لِلْمَكَانِ فَقَط، كَمَا يُقَالُ : عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هَذَا الشَّىءُ فَرْض، هَذَا الشّىء سُنَّة عِنْدَ الْعُلَمَاءِ .
مَاذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلِمَةِ عند ؟ تَشْرِيف وَتَعْظِيم . كَمَا أَنَّهُ في الْقُرْءَانِ الْكَرِيم : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِهِـمْ } [سورة السَّجْدَة ءاية 12] اللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ في هَذِهِ الآيَة أَنَّ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَة يَكُونُونَ نَاكِسِي رُؤوسِهِمْ أَيْ أَذِلاَّء، مُهَانِينَ .اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : " عِنْدَ رَبِهِمْ " " نَاكِسُو رُؤوسِهِمْ عِنْدَ رَبِـّهِمْ "هَلْ مَعْنَى ذَلِكَ يَكُونُونَ بِمَكَانٍ مِنْ حَضْرَةِ اللَّهِ ؟ هَذَا يَتَوَهَّمُهُ مَنْ لاَ يَفْهَمِ اللُّغَة .
كَلِمَةُ " عِنْدَ " تَأْتي لِلْمَكَانِ وَتَأْتِي لِلتَّشْرِيفِ، وَلتَعْظِيمِ الأمْرِ.
وَهَذَا الْكِتَاب وَرَدَ في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَابْنِ حِبَّان أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ : " مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ " بِزِيَادَةِ لَفْظ : مَرْفُوع.
*وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث* : " إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي " وَفي رِوَايَةٍ : " غَلَبَتْ غَضَبِي " مَعْنَى ذَلِكَ : مَظَاهِرُ الرَّحْمَة أَكْثر مِنْ مَظَاهِرِ الْغَضَبِ.
أَيْ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَلْقِهِ، مِنْ عِبَادِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَكْرَهُهُ . الملائكة عِبَادُ اللَّهِ، هُمْ مَحْبُوبُونَ عِنْدَ اللَّهِ، كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، كُلُّ فَرْدٍ مِنْ الملائكة طَائِعٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لاَ يَعْصِي اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ بِآلاَفِ الْمَرَّات.
الْجِنُّ وَالإِنْسُ بِالنِـّسْبَةِ لِكَثْرَةِ الْمَلاَئِكَة كلا شَىء . السَّمَواتُ السَّبْعُ، الرَّسُولُ أخْبَرَ بِأَنَّهُ لاَ يُوجَدُ في السَّمَاءِ مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِع إِلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ، أَوْ رَاكِعٌ، أَوْ سَاجِدٌ .
هَذَا إِخْبَارٌ عَن مَلاَئِكَةِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ . وَكُلُّ سَمَاءٍ أَكْبَرُ مِنْ أَرْضِنَا هَذِهِ ثُمَّ مَلاَئِكَةُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ مَلاَئِكَةُ جَهَنَّمَ الَّذِينَ مُوَكَّلُونَ بِتَهْيِئَةِ نَارِ جَهَنَّم وَتَعذِيبِ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهَا، ثُمَّ مَلاَئِكَةُ الْعَرْشِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلاَّ اللَّهُ.
الْعَرْشُ الَّذِي هُوَ في الارْتِفَاعِ يَكُونُ الْكُرسِيُّ بِالنِـّسْبَةِ إلَيهِ كَحَلقَةٍ مُلْقَاةٍ في فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ . الَّذِي هُوَ أَيْ هَذَا الْكُرْسِيُّ، السَّمَوَاتُ السَّبْعُ بِالنِـّسبَةِ إليه كَحَلقَةٍ مُلْقَاةٍ في فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ . هَؤُلاَءِ الْمَلاَئِكَةُ أكْثَرُ مِنْ مَلاَئِكَةِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، وَمَلاَئِكَةِ الْجَنَّةِ، وَمَلاَئِكَةِ النَّار، وَالْمَلاَئِكَةِ الَّذِينَ يَوجَدُونَ بَيْنَ الْبَشَرِ . كُلَّ يَوْم، كُلُّ فَرْدٍ مِنَ الإنْسَان، يَأْتِي إِلَيْهِ وَقْتَ الْعَصْر يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يَبِيتُونَ عِنْدَهُ ثُمَّ عِنْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ هَؤُلاَءِ يَصْعَدُونَ وَأُولاَئِكَ الآخَرُونَ الَّذِينَ يَظَلُّونَ مَعَهُ في النَّهَارِ يَنْزِلُونَ عِنْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ . هَؤُلاَءِ الْمَلاَئِكَة مَلاَئِكَة الْعَرشِ، اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِـّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } [سورة الزُّمَر ءاية 75] هَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ مَظَاهِرُ الرَّحْمَةِ، لَيْسَ فِيهِمْ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، كُلُّهُمْ أَحْبَابُ اللَّهِ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُم .
أمَّا الْمَسْخُوطُ عَلَيْهِمْ مِنَ العِبَادِ كَفَرَةِ الْجِنّ وَالإِنْسِ، هَؤُلاَءِ بِالنِـّسْبَةِ لِمَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ كلا شىء من حيث الكثرة، هَذَا مَعْنَى : " إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ، كَتَبَ في كِتَابٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي " .
الرَّحْمَةُ الْمُرَادُ بِهَا : مَظَاهِرُ الرَّحْمَةِ، أَيْ عِبَادُ الله ، الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَلاَئِكَةٍ وَمُؤْمِنِي الْجِنِّ وَالإِنْسِ
أمَّا مَظَاهِرُ الْغَضَب شَىءٌ قَلِيل بِالنِـّسْبَةِ لِلْمَلاَئِكَة، لكِنْ بِالنِـّسبَةِ لِلْبشَرِ مَظَاهِرُ الْغَضَبِ أَكْثَر . الكُفَّار الْيَوْمَ لَوْ عُدُّوا يَزِيدُ عَدَدُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً . أَمَّا صِفَةُ الله الَّتِي هِيَ الرَّحْمَة وَالْغَضَب فَهُمَا لَيْسَا كَصِفَاتِ الْخَلْقِ . ليسا كغضب الخلق ورحمة الخلق... رحمته ليست رقّة القلب ... وَكَذَلِكَ غَضَبُهُ لَيْسَ غَلَيَانَ الدَّم في القلب لأن هذا من صفات البشر غضبُه أزليّ ورضاه أزَليٌّ أبَدِيٌّ إِنَّمَا الأَثَر، أثَر الْغَضَب حَادِثٌ، مَخْلُوقٌ، وَأَثَرُ الرَّحْمَةِ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ . اهـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق