بسم الله الرحمن الرحيم وبعد
بعض الناس من غير أن يتعلموا العلم الشرعي القدر الكافي منه، يميلون إلى الإكثار من الذكر ومصاحبة الأولياء وحضور حلقات الذكر من غير تعلم، يميلون إلى الإكثار من الذكر ويُكثرون من صحبة الأولياء ويطنون أنهم بهذا يصيرون من الواصلين هيهات هيهات بهذا لا يصير من الواصلين إلا أن يسلكوا الطريقة الصحيحة وهو ان يتعلموا علم الدين ويؤدوا الفرائض ويجتنبوا المحرمات ويكثروا من الذكر ومصاحبة الصالحين وهذا أمر حسن ولكن بعد أن يكونوا قد تعلموا ما افترض الله عليهم
لأنه إذا سلكَ المرءُ طريقَ التصوفِ مع الجهالة يُخشى أن يموه الشيطانُ عليه فيقع في الزندقة بدل أن يصير من أولياء الله تبارك وتعالى.
لهذا قال العلماء : [ من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ] يعني الذي يتعلم علم الدين ولا يعمل بهذا العلم لا يؤدي الفرائض ويجتنب المحرمات وقع في الفسق، ومن سلك طريق التصوف بالجهالة من غير تفقه يُخشى عليه أن يقع بالزندقة وكثيرًا ما يقع في الزندقة.
امرأة في الشمال من لبنان في مدينة طرابلس سلكت طريق التصوف بجهالةٍ صارت تُكثر من الذكر وظنت أن هذا الطريق الموصل لرضى الله تبارك وتعالى حتى مع الجهل من غير أن تتعلم ما الذي فرضه الله عز وجل حتى يومًا جاءها شيطان وزعم أنه هو الإله فصار يدخل بها ويعمل بها اعمالا مشينة فصارت هي تقول: [ أنا يأتني ربي ويعمل معي كما يعمل الرجل مع زوجته ] وغير ذلك من الكلام فاعتقدت في حق الله ما لا يليق من النقائص فاعتقدت ان هذا الشيطان المتشكل هو رب العالمين والعياذ بالله تبارك وتعالى واعتقدت أن الله يأتيها فيمسُها ويُقعدها ويُجلسها في حضنه ويفعل معها كما يفعل الرجل مع زوجته وغير ذلك من السخافات والتفاهات فتزندقت والعياذ بالله تعالى.
وأما من سلك هذا الطريق بعلم فإن العلم حصنٌ له كما حصل مع سيدنا عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى فإنه ذات يوم بينما هو في خلوته إذْ ظهر عليه ضوءٌ ممتد ما بين السماء والأرض ويقول له هذا الضوء يقول لسيدنا عبد القادر الجيلاني الولي الصالح: [ يا عبدي يا عبد القادر إني أحللت لك المحرمات وأسقطت عنك الفرائض ] فقال له على الفور: [ خسئت يا لعين ] خسئت يا شيطان فانظفأ الضوء وسمع صوتًا يقول له بما عرفتني؟ فأجابه وهو من أهل التوحيد والمعرفة قال له: ربنا عزَّ وجلَّ " ليس كمثله شىء " هو الذي خلق الضوء فكيف يكون ضوءًا وإذا كان خير خلق الله محمّد صلى الله عليه وسلم لم تحلّ له المحرمات ولم تسقط عنه الفرائض فكيف تحلُّ لي وتسقط عني الفرائض، فبسبب علمه كشفه لكنه لو كان جاهلاً لسرَّ ولقال: الله تعالى أسقط عني الفرائض وما عليّ فرض بعد اليوم واحل لي المحرمات أفعل منها ما أشاء فلا يحاسبني عليها، يكون الشيطان موه عليه وأوقعه في الضلالة والزندقة والعياذ بالله تعالى. فاذًا لا يسلك الإنسان هذا الطريق إلا طرق الفلاح وطريق النجاة وبدء هذا الطريق يكون بطلب العلم هو كما قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ] قال الإمام علي رضي الله عنه: [ علموا أنفسكم وأهليكم الخير ].[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ]: أي بتعلم علم الدين وتعليم أهليكم ذلك فإن هذا هو سبيل النجاة من عذاب الله لكن ليحصل الإنسان النجاة الكاملة لا بد أن يعمل بما تعلم ولا يكفي أن يتعلم فقط ويعرف الحلال من الحرام ولكن لا بد أن يعمل بما تعلم، فمن عرف أن الصلاة فرض وتعلم أحكامها ولم يصلّ هل يكفيه أنه تعلم؟ لا، هل من تعلم احكام الصيام ثم لم يصُم كسلاً في شهر رمضان هل هذا معذور وكفاه تعلمُهُ ؟ لا. لا بدّ من العلم ومع العلم العمل. [ ولتنظر نفس ما قدمت لغد ] فيه دليلٌ على محاسبة العبد نفسه قبل أن يأتي يوم الحساب يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ].
أما قول الإمام علي رضي الله عنه: [ اليوم العمل وغدًا الحساب ] ففيه الحثُّ على التذكير على الاستعداد لما بعد الموت فقد قال في تمام الرواية: [ارتحلت الدنيا وهي مدبرة وارتحلت الآخرة وهي مقبلة فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، اليوم العمل ولا حساب وغدا الحساب ولا عمل ].أي اليوم في هذه الدنيا العمل ولا حساب لأن الدنيا دار العمل وأمّا الآخرة فهي دار الحساب على العمل هذه الدنيا مزرعة الآخرة فمن زرع فيها خيرًا كان حصاده خيرًا ومن زرع فيها شرًا ماذا حصاده؟ حصاده العقاب جزاءً على عمله الفاسد.
وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: [ الدنيا حلالها حساب وحرامها عقاب ] حلالها حساب معناه: أي الانسان يُسأل عن المال الحلال الذي دخل عليه في الدنيا من أين أخذه فإن اخذه بالحلال وأنفقه في حلال فقد نجا وليس عقوبة وإن كان جمعه بالحرام يُعاقب ولو صرفه في طريق الخير لكن جمعه من الحرام يعاقب ولو أنفقه بعد هذا على االفقراء والأيتام والمساكين ومداواة المرضى وغير ذلك من أوجه الخير فهذا المال الذي جمعه بالحرام يعاقب عليه في الآخرة إنما السالم هو المؤمن الذي اتقى الله وجمع ما وصل إليه من المال فصرفه في طريق الحلال ولم يصرفه في طريق الحرام.
النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أنه:[ أول ما يُسأل العبد عنه يوم القيامة ألم أُصِحَّ جسمك وأُرْوِكَ من الماء البارد ]. أي ألم أرزقك صحةً في جسمك تستطيع أن تؤدي به ما فرض الله عليك،[ وأُرْوِكَ من الماء البارد ]: يعني المرءُ محاسبٌ يوم القيامة على ما انعم الله عليه، يُسأل عن ماله من اين اكتسبه وفيما أنفقه وعن عمره فيما أفناه وعن صحته وعن ولده كلّ هذا يسأل عنه يوم القيامة إذا كان الماء البارد الذي رزقه الله إياه يسأل عنه فما بالك في غير ذلك وإذا كان عن المال الذي في الحلال وليس في الحرام يُسأل عنه يوم القيامة ليس سؤال عقاب فما بالكم مما هو غير ذلك من أمور ارتكبها الإنسان على خلاف ما يرضي الله تبارك وتعالى فحساب الله شديد،
لهذا أيها العبد المؤمن لا تغتر بنعيم الدنيا ومتاعها الفاني الزائل ولا تنغمس في الملذات والشهوات التي حرمها الله بل اذكر دومًا هاذم اللذات الذي يفاجئك وهو الموت فإن الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل والقبر صندوق العمل والقبر صندوق العمل لأن القبر لا يبنيه حفار القبور إنما الذي يبني قبرك هو انت بعملك فإن أحسنت فقبرك روضة من رياض الجنة وإن أسأت فقبرك حفرة من حفر النيران وقد صدق من قال:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها***إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب بانيها***وإن بناها بشر خاب بانيها
الكيس الفطن و من دان نفسه وعمل لما بعد الموت،
لهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه لمّا سُئل في مسئلة فقهية " رجلٌ أوصى ثلت ماله لأعقل الناس، قال: ثلت مالي بعد موتي يُعطى لأعقل الناس، فجآؤوا في تنفيذ الوصية فاحتاروا من هو أعقل الناس حتي نعطيه ثلث المال، فذهبوا الى الإمام الشافعي رضي الله عنه فقالوا له: رجل أوصى بثلث ماله بعد موته لأعقل الناس فلمن نصرف هذا المال؟ فقال: "إلى الزهاد" إلى الزهاد، لأن أعقل الناس في هذه الدنيا هم الزهاد.
إن لله عباد فطنا*** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلم علموا*** أنها ليست لحي سكنا
اتخذوها لجةً وجعلوا*** صالح الأعمال فيها سفنا
يعني نظروا في هذه الدنيا وفي أحوالها وتقلبها و رأوا أنها لاتدوم لأحد، أين الملوك الذين سبقونا أين أولئك الذين سبقونا أين الملوك؟ أين الذين كانوا لهم جاهٌ وقال نفوذٌ ٍ سلطة؟ ما أصابهم سوف يُصيبنا، عرفوا أن لاتدوم لأحد فاتخذوها "لجة" أي كالبحر ، وجعلوا السفن النجاة، ما هي؟ صالح الأعمال ليعبروا هذه اللجة، جعلوا صالحَ الأعمال هي السفن فتزودوا من دنياهم لآخرتهم لهذا هم أعقل الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق