المَسْئَلَةُ الأُولَى
يَزعُمُ أَنَّ إرادةَ اللهِ تَابِعَةٌ لِإِرَادَةِ الإِنْسَان
يقول محمد راتب النابلسي(1): (ومتى توجهت إرادة الإنسان إلى فعل شىء، في الدائرة التي هي مناط اختياره، تعلقت إرادة الله فأمدته بالقدرة على تحقيقها) اهـ (2).
ويقول أيضًا(3): (فإذا بلغ الإصرار على شهوة منحرفة درجة عالية جدًا تعلقت إرادة الله بهذا العبد بأن يسمح له بأن يفعل ما اختار أما إذا كانت إرادته ضعيفة فالله سبحانه وتعالى لا يسمح له). اهـ
نقول في الرد: إن من أصول عقيدتِنا الإيمانَ بالقدر كما نصّ على ذلك كتاب الله تعالى وحديث جبريل المشهور، ومعناه الاعتقاد الجازم بأن كل ما يحصل في هذا العالم إنما يكون بعلم الله عز وجل ومشيئته وقضائه وقدره وتخليقه، بما في ذلك أعمال العباد الاختيارية خيرًا كانت أو شرًا لا يشذّ منها عمل ولا يستثنى منها فعل، ويشمل الإيمانُ بالقدر أيضًا اعتقادَ أن مشيئةَ العبدِ تحت مشيئة الله سبحانه وأن فعل العبد وقدرته مخلوقان، فالعبد يكتسب الفعل ولا يخلقه، والله خالق كل شىء كما قال ربنا عز وجل (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ (29)) التكوير29، وقال في سورة الصافات (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)) الصافات 96، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم وغيره (كل شىء بِقَدَر حتى العجز والكَيس). اهـ وفي حديث أبي داود وغيره (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن). اهـ وفي حديث ابن حبان والحاكم وغيرهما (إن الله صانع كل صانع وصنعتِه). اهـ
وعلى هذه العقيدة القويمة مضى سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وتبعهم خَلَف الأمة وفطاحل علماء المذاهب المعتبرين ولم يحِد عن ذلك إلا شُذَّاذ ذمَّهم القدماء وكفّروهم وتبرأ منهم المتأخرون وصرحوا بضلالهم.
ومن الكتب المسندة التي تبيّن ما تقدم كتاب القدر للحافظ أبي بكر جعفر بن محمد بن الحسن ابن المستفاض الفريابيّ وهو من أجمعها لأقاويل السلف في حكم القدرية القدماء ومن ورث اعتقادهم من المعتزلة الذين أنكروا تقدير الله تعالى لكل ما يحدث في العالم ومشيئته له وأنكروا خلق الله تعالى لأعمال العباد الاختيارية وزعموا أن العبد يفعل وإن لم يشأ الله له أن يفعل، فتنفذ مشيئة العبد ولا تنفذ مشيئة الله، وقالوا قبحهم الله (إن الله أعطى العبد القدرة على خلق أفعاله، فلم تعد تلك الأفعال بذلك من مقدوراته، وصار عزّ وجلّ عاجزًا عن التأثير فيها) تعالى الله عن كذبهم علوًّا كبيرًا.
فكلام محمد راتب هذا يتضمن توقُّف مشيئة الخالق الأزلية على مشيئة العبد الحادثة وإنكار أن يكون الأمر لله لا للعبد، وزَعْمَ أن الحكم والأمر للعبد، والله يقول (يُغْشِي الليْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ (54)) الأعراف 54 وهل يقبل مِن مُسلِم قائلٌ إنَّ مشيئة الله تحت مشيئة العبد وأنَّ العبد يتحكم بإرادة الله، وأن الله لا إرادة له في هذا الكون إنما إرادته تنحصر فقط بالشمس والقمر والنجوم والكواكب، وأنَّ ما كان من نحو إرادة الإنسان وفعله فإرادة الله متأخرة عنه ومتوقفة على ما يريده؟!. سبحانك ربي هذا إفك مفترى وبهتان عظيم.
وقد صرح النابلسي في تسجيل على اليوتيوب بأن الأعمال التي تقترفونها ليست من قضاء الله وقدره. وكلامه هذا خلاف القرآن كما تقدم.
روى البيهقي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال حين سئل عن القدر:
[متقارب تام]
ما شئتَ كان وإن لم أشأ *** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقتَ العبادَ على ما علِمْتَ *** ففي العِلم يجري الفتى والمُسِن
على ذا مَنَنْتَ وهذا خَذَلتَ *** وهذا أعَنْتَ وذا لم تُعِن
فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيد *** وهذا قبيحٌ وهذا حسن
يقول الشافعي رضي الله عنه مخاطبًا الله تبارك وتعالى (ما شئتَ) أي يا ربنا (كان) أي ما سبقَتْ به مشيئتُك في الأزل لا بد أن يوجد، (وإن لم أشأ) أي وإن لم أشأ أنا أي العبد حصولَه، لأن مشيئة الله نافذة لا تتغير، والمعنى أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله فهي مخلوقة حادثة، وكلُّ مشيئة في العباد حصلت فإنما حصلت فينا لأن الله تعالى شاء في الأزل أن نشاء في وقت معلوم فتنَفَّذَت مشيئةُ الله تعالى فينا أن نشاء على ما أراد، ثم مرادنا الذي تعلقَت به مشيئتُنا لا يحصل إلا أن يشاء اللهُ حصولَ هذا المراد وتحقّقه.
فمشيئة الله نافذة لا محالة لأنه لو كان لا يتحقّق شىء من مرادات الله تعالى أي مما شاء الله تعالى أن يتحقق ويحصل لكان ذلك عجزًا والعجز مستحيل على الله، لأن مِن شأن الإله أن تكون مشيئتُه نافذة في كلّ المرادات لا تتخلّف أي لا بد أن يحصل ما يشاء الله دخوله في الوجود وعدمه، فيجب عقلًا وشرعًا نفاذ مشيئة الله تبارك وتعالى أي تحقّق مقتضاها.
وقال رضي الله عنه (وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن) معناه إن أنا شئتُ حصولَ شىء بمشيئتي الحادثة وإنْ أنت يا ربي لم تشأ حصوله بمشيئتك الأزلية لا يحصل، لأن مشيئة الله أزلية نافذة لا تتخلف وأما مشيئة العبد فحادثة منها ما هو نافذ ومنها ما هو غير نافذ أي منها ما يتحقّق ومنها ما لا يتحقّق.
فالخلق منساقون إلى ما شاء الله تعالى في الأزل وعَلِم أنهم يفعلون، فالمؤمنون الذين آمنوا ينساقون إلى الإيمان باختيارهم، والكفار الذين شاء الله تعالى أن يموتوا كافرين انساقوا إلى الكفر باختيارهم وتنَفَّذَت مشيئةُ الله في الفريقين.
أما القول بأن الله يشاء ثم مشيئتُه تتبع مشيئة العبد فهذا يجعل الله في مُلكِه مغلوبًا مقهورًا وعاجزًا، لأنه على حسب اعتقاده يكون الله تعالى (4) قد أراد الخير فقط، فيكون قد وقع الشر من عدوه إبليس وأعوانه الكفار رغم إرادته، ويكفر من يعتقد هذا الرأي لمخالفته قوله تعالى (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)) يوسف21، أي لا أحد يمنع نفاذ مشيئة الله.
(1) المسمى نظرات في الإسلام، (ص38).
(2) موسوعة أسماء الله الحسنى (3/111) يقول النابلسي: فالله إذا أخر وقدم فالتقديم أولًا متعلق بتطلعات الإنسان ومتعلق بحكمة وعدالة.
(3) موسوعة أسماء الله الحسنى (3/451).
(4) موسوعة أسماء الله الحسنى (3/463-466). يقول النابلسي: والله عز وجل لا يريد إلا الخير، أما الشر المطلق في الكون فهو غير موجود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق