ذهب بعض الناس إلى تحريم الاشتغال بعلم الكلام مستدلين بأن الصحابة لم يتعلموا ولا علَّموا هذا العلم، وأن جماعة من السلف ذموه إلى غير ذلك من الشبهات، وجواباً على ذلك نقول: إن قولهم لم ينقل أنه ![]() وإن أريد أن الصحابة لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو: الجوهر والعرض، والجائز والمحال، والحدث والقِدم، فهذا مُسَلَّمٌ به، لكننا نعارض هذا بمثله في سائر العلوم، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفّظ بالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمتشابه، وغيرها كما هو المستعمل عند أهل التفسير، ولا بالقياس والاستحسان، والمعارضة والمناقضة، والطرد والشرط، والسبب والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء، ولا بالجرح والتعديل، والآحاد والمشهور والمتواتر والصحيح والغريب، وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل الحديث، فهل لقائل أن يقول يجب رفض هذه العلوم لهذه العلة، على أنه في عصر النبي ![]() وما يروى عن الشافعي أنه قال “لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام ” بهذا اللفظ فهو غير ثابت عنه، واللفظ الثابت عنه هو “لن يلقى الله عز وجل العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء” (2). والأهواء جمع هوى وهو ما مالت إليه نفوس المبتدعة الخارجين عما كان عليه السلف، أي ما تعلق به البدعيون في الاعتقاد كالخوارج والمعتزلة والمرجئة والنجارية وغيرهم، وهم الاثنتان والسبعون فرقة كما ورد في الحديث المشهور “وان هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة” رواه أبو داود (3). فليس كلام الشافعي على إطلاقه إنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم الذين جانبوا نصوص الشريعة كتاباً وسنّةً، وتعمقوا في الأهواء الفاسدة، وأما الكلام الموافق للكتاب والسنّة الموضح لحقائق الشريعة عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء قاطبة لم يذمّه الشافعي، وقد كان الشافعي رضي الله عنه يحسنه ويفهمه وقد ناظر بِشْراً المريسي وحفصاً الفرد فقطعهما. فإن قيل: قد ذمَّ علم الكلام جماعةٌ من السلف، فروي عن الشعبي أنه قال: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب، وروي مثله عن الإمام مالك والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة. قلنا: أجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله (4) “إنما يريد والله أعلم بالكلام كلام أهل البدع، فإن في عصرهم إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنّة فقلَّما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد” اهـ، قال ابن عساكر (5) “فهذا وجه في الجواب عن هذه الحكاية، وناهيك بقائله أبي بكر البيهقي فقد كان من أهل الرواية والدراية. وتحتمل وجهاً ءاخر وهو أن يكون المراد بها أن يقتصر على علم الكلام ويترك تعلم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفة الحلال والحرام، ويرفض العمل بما أُمر بفعله من شرائع الإسلام، ولا يلتزم فعل مـا أمر به الشارع وترك ما نهى عنه من الأحكام. وقد بلغني عن حاتم الأصم وكان من أفاضل الزهاد وأهل العلم أنه قال: الكلام أصل الدين، والفقه فرعه، والعمل ثمره، فمن اكتفى بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفى بالعمل دون الكلام والفقه ابتدع، ومن اكتفى بالفقه دون الكلام والعمل تفسَّق، ومن تفنَّن في الأبواب كلها تخلص” اهـ، وقد روي مثل كلام حاتم عن أبي بكر الورَّاق. ويضاف جواباً عما تمسك به المانعون مما يذكرونه عن مالك بأن شيخه ابن هرمز أحد فقهاء المدينة المنورة كان بصيراً بعلم الكلام يرد على أهل الأهواء، وقد جالسه مالك كثيراً وأخذ عنه (6) كما تقدم، فبطل بذلك ما تمسك به هؤلاء. فإن قيل: إن الإمام أحمد رضي الله عنه كان ينكر على مَن يتكلم في علم الكلام فلذلك أمر بهجر الحارث المحاسبي. فالجواب: أن الإمام أحمد لم يحرم الاشتغال بعلم الكلام بدليل ثنائه على المحاسبي، فقد قال تاج الدين السبكي في طبقاته (7) ما نصه “ذكر الحاكم أبو عبد الله أن أبا بكر أحمد بن إسحاق الصَّبْغِيَّ أخبره قال: سمعت إسماعيل بن إسحاق السرَّاج يقول: قال لي أحمد بن حنبل: بلغني أن الحارث هذا يُكثر الكون عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأسمع كلامه. فقصدت الحارث وسألته أن يحضرنا تلك الليلة وأن يحضر أصحابه، فقال: فيهم كثرة، فلا تَزِدْهم على الكُسْب (8) والتمر، فأتيت أبا عبد الله فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد في وِرده وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا ثم صلّوا العَتَمة ولم يصلّوا بعدها، وقعدوا بين يدي الحارث ينطقون إلى قريب نصف الليل، ثم ابتدأ رجل منهم فسأل عن مسئلة، فأخذ الحارث في الكلام وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير، فمنهم من يبكى ومنهم من يَحِنُّ، ومنهم من يزعق وهو في كلامه، فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي عبد الله فوجدته قد بكى حتى غُشي عليه، فانصرفت إليهم، ولم تزل تلك حالهم حتى اصبحوا وذهبوا، فصعدت إلى أبي عبد الله فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل، ومع هذا فلا أرى لك صحبتهم، ثم قام وخرج، وفي رواية أخرى أن أحمد قال: لا أُنكر من هذا شيئا. قلت: تأمل هذه الحكاية بعين البصيرة، واعلم أن أحمد بن حنبل إنما لم ير لهذا الرجل صحبتهم لقصوره عن مقامهم، فإنهم في مقامٍ ضيّق لا يسلكه كل أحد فيُخاف على سلكه، وإلا فأحمد قد بكى وشكر الحارث هذا الشكر، ولكلّ رأي واجتهاد حشرنا الله معهم أجمعين في زمرة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى ءاله وأصحابه وسلَّم” اهـ. قال الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله في “مناقب الشافعي” (9) ما نصه ”باب ما جاء عن الشافعي رحمه الله في مجانبة أهل الأهواء وبغضه إياهم وذمه كلامهم وإزرائه بهم ودقه عليهم ومناظرته إياهم. أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن عبدان قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشيء من الهوى. وفي رواية بشيء من الأهواء . زاد فيه غير الربيع: وذلك أنه رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه فقال الشافعي: في كتاب الله المشيئة له دون خلقه، والمشيئة إثبات إرادة الله يقول الله عز وجل: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ {30}) [سورة الإنسان]، فأعلم خلقه أن المشيئة له.، وكان يثبت القدر. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا عبد الله بن محمد القاضي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن زياد، قال: حدثنا أبو يحيى الساجي- أو فيما أجاز لي مشافهة- قال: أخبرنا الربيع فذكره وقال: بشيء من هذه الأهواء. أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا أبو الوليد يقول: سمعت إبراهيم بن محمود يقول: ح وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو الوليد الفقيه قال: حدثنا إبراهيم بن محمود قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: قال صاحبنا الليث بن سعد: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء ما قبلته، فقال الشافعي: أما إنه قصَّر، لو رأيته يمشي في الهواء ما قبلته. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو الحسن محمد بن عبد الله ابن محمد العمري قال: حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أتيت الشافعي بعدما كلم حفصاً الفرد فقال: غبت عنا يا أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شىء والله ما توهمنه قط، ولأن يُبْتَلى المرء بجميع ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه الله بالكلام. قلت: إنما أراد الشافعي رحمه الله بهذا الكلام حفصاً وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراده بكل ما حكي عنه في ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على مراده. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن حيان، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن زياد، قال: سمعت أبا الوليد بن الجارود يقول: دخل حفص الفرد على الشافعي فكلمه، ثم خرج إلينا الشافعي فقال لنا: لأن يلقى الله العبدُ بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول- أي حفص- بخلق القرءان، وهذه الروايات تدل على مراده بما أطلق عنه فيما تقدم وفيما لم يذكر هاهنا. وكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده وقد تكلم فيه وناظر من ناظره فيه، وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الأهواء شيئاً مما هم فيه. أخبرنا بصحة ذلك أبو عبد الله الحافظ ، قال: أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، قال: حدثنا عبد الرحمن- يعني ابن محمد- قال: في كتابي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف ابن عمرو بن يزيد وحفص الفرد- وكان الشافعي يسميه المنفرد- فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج الشافعي وطالت المناظرة، وغلب الشافعيُّ بالحجة عليه بأن القرءان كلام الله تعالى غير مخلوق، وكفَّر حفصاً الفرد. قال الربيع: فلقيت حفصاً الفرد فقال: أراد الشافعي قتلي. وقرأت في كتاب أبي يحيى زكريا بن يحيى الساجي فيما رواه الشيخ أبو الفضل الجارودي الحافظ، عن أبي إسحاق القرّاب قال: حدثنا زكريا، قال: سمعت أبا شعيب المصري- شيخ من أصحاب الحديث- يقول: حضرت الشافعي محمد بن إدريس وعنده يوسف بن عمرو بن يزيد وعبد الله بن عبد الحكم في منزله، فدخل عليهم حفص الفرد وكان متكلماً مناظراً، فقال ليوسف: ما تقول في القرءان؟ فقال: كلام الله ليس عندي غير هذا، وجعلوا يحيلون على الشافعي فأقبل حفص الفرد على الشافعي فقال: إنهم يحيلون عليك، فقال له الشافعي: دع هذا عنك، فلم يزل به، فقال له الشافعي. ما تقول أنت في القرءان؟ قال: أقول: إنه مخلوق، قال: من أين قلت؟ قال: فلم يزل يحتج عليه حفص الفرد بأنه مخلوق ويحتج الشافعي رضي الله عنه بأنه كلام الله غير مخلوق حتى كفَّره الشافعي وقطعه، قال أبو شعيب: وحججهما عندي في كتاب. قال أبو شعيب: فلما كان من الغد لقيني حفص الفرد في سوق الزجاج فقال: أما رأيت ما صنع بي الشافعي؟ أحب أن يريهم أنه عالم، ثم أقبل عليَّ فقال: مع أنه ما تكلم أحد في هذا مثله ولا أقدر منه على هذا. وقد ذكرنا قبل هذا مناظرته مع حفص في زيادة الإيمان ونقصانه، وذكر الحميدي أحسن ما يحتج به على أهل الأرجاء فذكر لابن هَرِم ما يحتج به على من أنكر الرؤية. وقرأت في كتاب الساجي عن أحمد بن مدرك الرازي قال: سمعت عبد الله بن صالح كاتب الليث يقول: كنا عند الشافعي في مجلسه فجعل يتكلم في تثبيت خبر الواحد عن النبي ![]() وقيل للقاضي أبي الطيب: إن قوماً يذمون علم الكلام فأنشد: عاب الكلام أناس لا خلاق لهم وما عليه إذا عابوه من ضرر ما عاب شمس الضحى في الأفق طالعة أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر” اهـ وقال الحافظ ابن عساكر (15) “أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي قال: قال لنا الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري: إن الأشعري لا يشرط في صحة الإيمان ما قالوه يعني من شنع عليه أن أغمار العوام عنده غير مؤمنين لأنهم خليون عن علم الكلام بل هو وجميع أهل التحصيل من أهل القبلة يقولون يجب على المكلف أن يعرف الصانع المعبود بدلائله التي نصبها على توحيده واستحقاقه نعوت الربوبية، وليس المقصود استعمال ألفاظ المتكلمين من لفظ الجوهر والعرض وإنما المقصود حصول النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله، وإنما استعمل المتكلمون هذه الألفاظ على سبيل التقريب والتسهيل على المتعلمين، والسلف الصالح وإن لم يستعملوا هذه الألفاظ فلم يكن في معارفهم خلل، والخلف الذين استعملوا هذه الألفاظ لم يكن ذلك منهم لطريق الحق مباينة ولا في الدين بدعة كما أن المتأخرين من الفقهاء عن زمان الصحابة والتابعين لم يستعملوا ألفاظ الفقهاء من لفظ العلة والمعلول والقياس وغيره، ثم لم يكن استعمالهم بذلك بدعة ولا خُلُو السلف عن ذلك كان لهم نقصاً وكذلك شأن النحويين والتصريفيين ونقلة الأخبار في ألفاظ تختص بها كل فرقة منهم. فإن قالوا: إن الاشتغال بعلم الكلام بدعة ومخالفة لطريقة السلف، لا يختص بهذا السؤال الأشعري دون غيره من متكلمي أهل القبلة، ثم الاسترواح إلى مثل هذا الكلام صفة الحشوية الذين لا تحصيل لهم، وكيف يظن بسلف الأمة أنهم لم يسلكوا سبيل النظر وأنهم اتصفوا بالتقليد، حاش لله أن يكون ذلك وصفهم ولقد كان السلف من الصحابة مستقلين بما عرفوا من الحق وسمعوا من لرسول صلوات الله عليه من أوصاف المعبود وتأملوه من الأدلة المنصوبة في القرءان وإخبار الرسول عليه السلام في مسائل التوحيد، وكذلك التابعون وأتباع التابعين لقرب عهدهم من الرسول ![]() فإن قال بعض الجهال من المبتدعة: لسنا نعرف غير المذاهب الأربعة فمن أين أتى هذا المذهب الخامس الذي اخترعتموه ولمَ رضيتم لأنفسكم بالانتساب إلى الأشعري الذي اتبعتموه، وهلا اقتنعتم بالانتساب إلى الإمام الألمعي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي فإنه أولى بالانتساب إليه ممن سواه وأحق بالانتماء إلى مذهبه ممن عداه؟ قلنا: هذا قول عري عن الصدق وقائله بعيد عن الحق فمن ذا الذي حصر المذاهب بالعدد الذي حصرتم ومن يصحح لكم من قولكم ما ذكرتم، بل المذاهب أكثرها لا ينحصر بهذا العدد الذي عددتم ولو كانت منحصرة به لم يحصل لكم بذلك ما قصدتم، وكأنكم لم تسمعوا بمذهب الليث بن سعد المصري وعثمان بن سليمان البتي البصري وإسحاق بن راهويه الخراساني وداود بن علي الأصبهاني وغيرهم من علماء الإسلام الذين اختلفوا في الفتاوى والأحكام لا في أصول الدين المبنية على القطع واليقين، وليس انقراض أرباب هذه المذاهب التي سمينا يصحح لهذا الجاهل هذه المقالة التي عنه حكينا. ولسنا نسلَّم أن أبا الحسن اخترع مذهباً خامساً وإنما أقام من مذاهب أهل السنة ما صار عند المبتدعة دارساً، وأوضح من أقوال من تقدمه من الأربعة وغيرهم ما غدا ملتبساً، وجدد من معالم الشريعة ما أصبح بتكذيب من اعتدى منطمساً، ولسنا ننتسب بمذهبنا في التوحيد إليه على معنى أنَّا نقلده فيه ونعتمد عليه ولكنا نوافقه على ما صار إليه من التوحيد لقيام الأدلة على صحته لا لمجرد التقليد، وإنما ينتسب منا من انتسب إلى مذهبه ليتميز عن المبتدعة الذين لا يقولون به من أصناف المعتزلة والجهمية المعطلة والمجسمة والكرامية والمشبهة السالمية وغيرهم من سائر طوائف المبتدعة وأصحاب المقالات الفاسدة المخترعة، لأن الأشعري هو الذي انتدب للرد عليهم حتى قمعهم وأظهر لمن لم يعرف البدع بدعهم، ولسنا نرى الأئمة الأربعة الذين عنيتم في أصول الدين مختلفين بل نراهم في القول بتوحيد الله وتنزيهه في ذاته مؤتلفين، وعلى نفي التشبيه عن القديم سبحانه وتعالى مجتمعين، والأشعري رحمه الله في الأصول على منهاجهم أجمعين، فما على من انتسب إليه على هذا الوجه جناح ولا يرجى لمن تبرأ من عقيدته الصحيحة فلاح، فإن عددتم القول بالتنزيه وترك التشبيه تمشعراً فالموحدون بأسرهم أشعرية، ولا يضر عصابة انتمت إلى موحد مجرد التشنيع عليها بما هي منه برية، وهذا كقول إمامنا الشافعي المطلبي ابن عم المصطفى النبي ![]() يا راكباً قف بالمحصب من منى**** واهتف بقاطن خيفها والناهض سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضاً حب ءال محمد ***** فليشهد الثقلان إني رافضي وأنشدت لبعضهم في المعنى المتقدم: إن اعتقاد الأشعري مسدد **** لا يمتري في الحق إلا ممتري وبه يقول العالمون بأسرهم *** من بين ذي قلم وصاحب منبر والمدعون عليه غير مقاله *** ما فيهم إلا جهول مفتري فذر التعامي واعتصم بمقاله ** واعلم يقيناً أنه القول السري وارفض ملامة من نهاك بجهله ** عما يراه لأنه لم يشعر وإذا لحاك العاذلون فقل لهم **** قول امرىء في دينه مستبصر إن كان من ينفي النقائص كلها *** عن ربه ترمونه بتمشعر وترونه ذا بدعة في عقله ****** فليشهد الثقلان أني أشعري” انتهى كلام الحافظ ابن عساكر. __________________________ (1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (ص/ 420). (2) أخرج طرقه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص/337). (3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب: رح السنّة. (4) و (5) تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص/ 334). (6) سير أعلام النبلاء (6/ 379- 0 38). (7) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 279). (8) الكسب بالضم: عصارة الدهن (9) مناقب الشافعي(1/452-464). (10) “تاران ” جزيرة في بحر القلزم بين القلزم وأيلة وهو أخبث مكان في هذا البحر، فيه دوران ماء في سفح جبل إذا وقع الريح على ذروته أنقطع الريح قسمين فيلقى المركب بين شعبتين من هذا الجبل متقابلتين فتخرج الريح من كليهما فيثور البحر على كل سفينة تقع في ذلك الدوران. راجع معجم البلدان (2/ 352- 353). (11) مناقب الشافعي (1/ 467). (12) إشارات المرام (ص/ 36). (13) المصدر السابق (ص/ 37). (14) الفتاوى الحديثية (ص/ 207- 208). (15) تبيين كذب المفتري (ص/ 357 وما بعدها)، وطبقات الشافعية (3/ 420 وما بعدها). | ||||
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق