قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في كتابه “الفتاوى الحديثية” ما نصه (1) “الذي صرّح به أئمتنا أنه يجب على كل أحد وجوباً عينيّاً أن يعرف صحيح الاعتقاد من فاسده، ولا يشترط فيه علمه بقوانين أهل الكلام لأن المدار على الاعتقاد الجازم ولو بالتقليد على الأصح. وأما تعليم الحجج الكلامية والقيام بها للرد على المخالفين فهو فرض كفاية، اللهم إلا إن وقعت حادثة وتوقف دفع المخالف فيها على تعلم ما يتعلق بها من علم الكلام أو ءالاته فيجب عيناً على من تأهل لذلك تعلمه للرد على المخالفين” اهـ. وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (2) ”(ولم يكن شئ منه- أي علم الكلام – مألوفاً في العصر الأول) عند الصحابة والتابعين (فكان الخوض فيه بالكلية من البدع ) والمنكرات (ولكن تغير الآن حكمه) باختلاف الأزمنة ( إذ حدثت البدع) من المبتدعة ( الصارفة عن مقتضى نص القرءان والسنة) ومقتضى النص ما لا يدل اللفظ عليه ولا يكون ملفوظاً لكن يكون من ضرورة اللفظ (ونبغت) أي ظهرت (جماعة لفقوا) أي جمعوا (لها) لتلك البدع (شبهاً) وإيرادات (ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً) يقرؤه الناس (فصار ذلك المحذور) أي الممنوع منه (بحكم الضرورة) والاحتياج (مأذوناً) بالتكلم (فيه) تعلماً وتعليماً (بل صار) القدر المحتاج إليه (من فروض الكفايات) وقال السبكي ولا شك أن السكوت عنه ما لم تدع إليه الحاجة أولى والكلام فيه عند فقد الحاجة بدعة وحيث دعت إليه الحاجة فلا بأس به (وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة) أي دعاء الناس (إلى البدعة) وحملهم عليها” اهـ. وقال الشيخ شمس الدين الرملي الشافعي في شرح الزبد ما نصه (3) “التوغل في علم الكلام بحيث يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلاًّ منهم فعله، فكل منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به” اهـ. وقال النووي في “شرح صحيح مسلم” ما نصه (4) “قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك”اهـ. وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (5) (فإن قلت: مهما اعترفت بالحاجة إليه في دفع المبتدع) ورد شبهة (والآن فقد ثارت البدع) وهاجت (وعمت البلوى) الناس (وأرهقت الحاجة) أي دنت وقرب وقوعها (فلا بد أن يصير القيام بهذا العلم) والتصدي له (من فروض الكفايات كالقيام بحراسة الأموال) وحفظها من النهاب (وسائر الحقوق) كذلك (وكالقضاء والولاية وغيرهما) من المناصب العامة والخاصة (وما لم يشتغل العلماء بنشر ذلك) وتعليمه (والتدريس فيه والبحث عنه) والتحقيق فيه (لا يدوم ولو ترك) الاشتغال به (لاندرس) بالمرة وانمحى أثره، ولقائل أن يقول لا يحتاج إلى نشره وتعليمه بل يكتفي منه في رد شبه المبتدعة بما ركز في الجبلة والطباع فأجاب بقوله (وليس في مجرد الطباع) ولو كانت سليمة (كفاية) تامة (لحل شبه المبتدعة ما لم يتعلم) ويدأب فيه لأن أكثر هذا العلم أمور دقيقة نظرية (فينبغي أن يكون التدريس فيه والبحث عنه أيضاً من فروض الكفايات) وهذا (بخلاف زمان لصحابة) رضوان الله تعالى عليهم (فإن الحاجة ما كانت ماسة إليه) إما لعدم ظهور البدع في زمانهم أو لاكتفائهم بما أشرق الله من أنوار المشاهدة في صدورهم فكانت الأمور الخفية بالنسبة إلينا جلية عندهم (فاعلم أن الحق) الذي لا محيد عنه (أنه لا بد في كل بلد) من بلاد الإسلام (من قائم بهذا العلم) أي بإزائه (مستقل بدفع شبه المبتدعة الذين ثاروا في تلك البلدة) ونبغوا (وذلك يدوم بالتعليم) ويحفظ بالنشر والإفادة (ولكن ليس من الصواب تدريسه على العموم) أي على عامة الناس (كتدريس الفقه والتفسير) ولوازمهما (فإن هذا) أي علم الكلام (مثل الدواء) الذي لا يحتاج إليه في كل وقت وينتفع به ءاحاد الناس ويستضرُّ بِهِ الآخرون (والفقه مثل الغذاء) للأبدان الذي لا يستغنى عنه بحال في إقامة ناموس البدن (وضرر الغذاء لا يحذر وضرر الدواء محذور لما ذكرنا فيه من أنواع الضرر) التي لا تحصى (فالعالم به ينبغي أن يخصص بتعليم هذا العلم من) وجدت (فيه ثلاث خصال إحداها التجرد للعلم) والاستعداد لطلب المعرفة (والحرص عليه) بالإكباب على درسه وتعلمه (فإن المحترف) أي المشتغل بالحرفة والصناعة (يمنعه الشغل) الذي هو فيه (عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا عرضت) لعدم استعداده لذلك (والثانية الذكاء) وهو سرعة الإدراك وحدَّة الفهم وقيل هو سرعة اقتراح النتائج (والفطنة) وهي سرعة هجوم على حقائق معان مما تورده الحواس عليها (والفصاحة) وهي ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود (فإن البليد) المتحير في أمره الذي لا يوصف بذكاء ولا فطنة (لا ينتفع بفهمه) بل هو دائماً حيران في أمره (والفَدْم) وهو البطيء الفهم (لا ينتفع بحجاجه) أي بمحاجته (فيخاف عليه من ضرر الكلام ولا يرجى فيه نفعه والثالثة أن يكون في طبعه الصلاح ) وهو ضد الفساد ويختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وقوبل في القرءان تارة بالفساد وأخرى بالسيئة (والديانة) وهي التمسك بأمور الدين (والتقوى) وهي تجنب القبيح خوفاً من الله تعالى (ولا تكون الشهوات) النفسية (غالبة عليه) وفي معنى الشهوات التعصبات للمذاهب والمباهاة بالمعارف (فإن الفاسق بأدنى شبهة) إذا عرضت (ينخلع عن) ربقة (الدين فإن ذلك يحل عنه الحجز) أي الستر الحاجز (ويرفع الستر بينه وبين الملاذ) الشهوانية (فلا يحرص على إزالة الشبهة) ودفعها (بل يغتنمها ليتخلص من أعباء التكليف) ومشقاته (فيكون ما يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه) “اهـ. قال الشيخ الفقيه تقي الدين السبكي “أكثر العلوم التي نحن نتبع وندأب فيها الليل والنهار حاصلة عندهم- أي عند الصحابة- بأصل الخلقة من اللغة والنحو والتصريف وأصول الفقه وما عندهم من العقول الراجحة وما أفاض الله عليها من نور النبوة العاصم من الخطإ في الفكر يغني عن المنطق وغيره من العلوم العقلية، وما ألّف الله بين قلوبهم حتى صاروا بنعمته إخواناً يغني عن الاستعداد في المناظرة والمجادلة فلم يكونوا يحتاجون في علمهم إلا إلى ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة فيفهمونه أحسن فهم ويحملونه على أحسن محمل وينزلونه منزلته، وليس بينهم من يماري فيه ولا يجادل ولا بدعة ولا ضلالة، ثم التابعون على منوالهم قريباً منهم ثم أتباعهم وهم القرون الثلاثة التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون بعده، ثم نشأ بعدهم وربما في أثناء الثاني والثالث أصحاب بدع وضلالات فاحتاج العلماء من أهل السنة إلى مقاومتهم ومجادلتهم ومناظرتهم حتى لا يلبسوا على الضعفاء أمر دينهم ولا يدخلوا في الدين ما ليس منه، ودخل في كلام أهل البدع من كلام المنطقيين وغيرهم من أهل الإلحاد شئ كثير ورتبوا عليها شبهّا كثيرة، فإن تركناهم وما يصنعون استولوا على كثير من الضعفاء وعوام المسلمين والقاصرين من فقهائهم وعلمائهم فأضلوهم وغيروا ما عندهم من الاعتقادات الصحيحة وانتشرت البدع والحوادث ولم يكن كل واحد يقاومهم وقد لا يفهم كلامهم لعدم اشتغاله به، وإنما يرد على الكلام من يفهمه ومتى لم يرد عليه تعلو كلمته ويعتقد الجاهلون والأمراء والملوك المستولون على الرعية صحة كلام ذلك المبتدع كما اتفق في كثير من الأعصار وقصرت همم الناس عما كان عليه المتقدمون، فكان الواجب أن يكون في الناس من يحفظ الله به عقائد عباده الصالحين ويدفع به شبه الملحدين وأجره أعظم من أجر المجاهد بكثير وبه يحفظ أمر بقية الناس وعبادات المتعبدين واشتغال الفقهاء والمحدثين والمفسرين والمقرئين وانقطاع الزاهدين: لا يعرف الشوق إلا من يكابده…. ولا الصبابة إلا من يعانيها” انتهى كلام السبكي الذي نقلناه من شرح الإحياء (6) للحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي. __________________________ (1) الفتاوى الحديثية (ص/ 27). (2) إتحاف السادة المتقين (1/ 175). (3) غاية البيان (ص/ 20). (4) شرح صحيح مسلم ( 6/154- 155). (5) إتحاف السادة المتقين (2/ 62- 63). (6) إتحاف السادة المتقين (1/ 177). | |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق