المَسْئَلَةُ الثَّالِثَةُ
زعمُهُ أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ ضَلَالَ العَبْدِ
قال النابلسي في كتابه أسماء الله الحسنى (ما دامت آيات كتاب الله تؤكد أن الإنسان مخير، وأن الشر ليس إيجابيًا بل هو شىء سلبي، وليس مقصودًا لذاته، فهو موظف للخير المطلق، عندئذ يجب أن نفهم معنى الضلال لا على أن الله خلق في الإنسان الضلال، بل على أنه أعطاه حرية الاختيار، فاختار الضلال فوجده الله ضالًا) (1). اهـ
وقال أيضًا (اختار الضلال فقدر الله عليه الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، وإذا عزي الإضلال إلى الله الجزائي المبني على ضلال اختياري) (2). اهـ
وقال في بيان ما زعمه من أن الله تعالى لا يخلق الضلالة في العبد ابتداءً (قد يفهم أن الله أضله أي جعله ذا ضلال وخلق فيه الضلال، يا رب إذا خلقت فيه الضلال فلماذا تحاسبه؟! هذا المعنى لا يليق بالله عز وجل، فبناء على أن المقدمات لا بد لها من نتائج متوافقة معها، فمن اختار الضلال بمحض مشيئته وأصر عليه خلقه الله فيه جزاء لا ابتداء) (3). اهـ
وقال في موضع ءاخر (فعندما يختار الإنسان الهدى، والله سبحانه ييسر له سبيل الهدى، يستحيل على كمال الله عز وجل أن يضله بعد أن اهتدى إليه) (4). اهـ
نقول في الرد: روى البيهقي بالإسناد الصحيح أن عمر بن الخطاب كان بالجابية [وهي أرض من الشام] فقام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له)، وكان عنده كافر من كفار العجم من أهل الذمة فقال بِلُغَتِه (إن الله لا يضل أحدًا)، فقال عمر للترجمان (ماذا يقول)؟ قال إنه يقول إن الله لا يضل أحدًا، فقال عمر (كذبتَ يا عدوَّ الله، ولولا أنك من أهل الذمة لضربتُ عنقك، هو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء).
معنى كلام عمر رضي الله عنه أن هذا الاعتقاد كفر وضلال وهو اعتقاد أن الله لا يضل أحدًا أي أن الإنسان يضل بمشيئته لا بمشيئة الله، وأن العبد هو يخلق هذه الضلالة ليس الله خالقها.
ومعنى قول سيدنا عمر (إن شاء) أي إن شاء أن تموت على كفرك هذا لا بد من دخولك النار، وقد احتج سيدنا عمر بهذه الآية (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) الزمر 37، ومعناه أن الذي شاء الله له في الأزل أن يكون مهتديًا لا أحد يجعله ضالًّا، (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ) الأعراف 186، أي ومن شاء الله أن يكون ضالًّا فلا هادي له أي لا أحد يهديه ولا أحد يجعله مهتديًا.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنذر قومه أوّل ما نزل عليه الوحي عملًا بقول الله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214)) الشعراء 214، أي حذّرهم من الكفر، ثم اهتدى به أناس ولم يهتد به أناس حتى من أقاربه كأبي لهب وغيره فإنهم لم يهتدوا، والرسول بلّغهم دعوته لكن لم يهتدوا، وأولئك الذين اهتدوا اهتدوا، فما هو الموجب لذلك أي لأن يهتدي هؤلاء ولا يهتدي هؤلاء؟
الموجب لذلك أن الله تبارك وتعالى شاء في الأزل أن يهتدي هؤلاء بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يشأ أن يهتدي الآخرون فتنفّذت مشيئة الله في الفريقين. والله تعالى يكره الكفر والمعاصي لكن خصّص هؤلاء بأن ينساقوا باختيارهم إلى الضلال كما خصّص أولئك بأن ينساقوا باختيارهم إلى الهدى، هذا معنى المشيئة.
وليُعْلَم أن كتاب الشقاء والسعادة ثابت لا يغيَّر ولا يدخله التعليق وإنما الذي يتغير بمشيئة الله ما كان من نحو الرزق والمصيبة، فالدعاء ينفع في الأشياء التي هي مما سوى السعادة والشقاوة لأن السعادة والشقاوة هذا شىء لا يدخله التعليق لأن السعادة هي الموت على الإيمان والشقاوة هي الموت على الكفر، فمن علم الله أنه يموت على الإيمان لا يتبدّل ذلك، ومن علمه يموت على الكفر لا يتبدل ذلك، فكلا الفريقين يختم له على ما كتب له ولو سبق له التنقل من إيمان إلى كفر أو من كفر إلى إيمان مرات عديدة.
أما السعادة الدنيوية فتتبدّل وقد يدخلها التعليق بأن يكون كتب في صحف الملائكة إن دعا بكذا أو تصدّق بكذا أو وصل رحمه أو برّ والديه ينال كذا وإن لم يفعل ذلك لا ينال ذلك الشىء، السعادة الدنيوية هي كالبيت الواسع والمركب الهنىء والزوجة الصالحة والجار الصالح هذه الأمور الأربعة هي من السعادة الدنيوية كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الحافظ ضياء الدين المقدسي (5).
فتبين بهذا أن الضمير في قوله تعالى (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) النحل 93، يعود إلى الله لا إلى العبد كما زعمت القدرية بدليل قوله تعالى إخبارًا عن سيدنا موسى أنه قال (إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) الأعراف 155 (6).
إن موسى عليه السلام لما ذهب لميقات ربه أي لمناجاة الله أي لسماع كلام الله الأزلي خلّف على قومه أخاه هارون وكان نبيًّا، ثم قضى أربعين ليلة ثم عاد إليهم فوجدهم قد عبدوا العجل إلا بعضًا منهم وذلك بعد أن اجتاز بهم البحر ورأوا هذه المعجزة الكبيرة وهي انفلاق البحر اثني عشر فرقًا كل فرق كالجبل العظيم وأنقذهم من فرعون، فتنهم شخص يقال له موسى السّامري فقد صاغ لهم عجلًا من ذهب ووضع فيه شيئًا من أثر حافر فرس جبريل فصار يخور كالعجل الحقيقي خلق الله فيه الحياة، وحملهم على عبادة هذا العجل ففتنوا فعبدوا هذا العجل.
ثم اختار موسى وجرّد من قومه سبعين شخصًا ليأخذهم للتضرع إلى الله تعالى فأخذتهم الرّجفة أي اهتزّت بهم الأرض، قال تعالى حكايةً عن تضَرُّع موسى إليه سبحانه (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) الأعراف 155.
معناه هذا الأمر الذي حدث بقومي من عبادتهم العجل فتنتك أي امتحان وابتلاء منك، تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء أي يا ربي أضللت بها قسمًا وهديت قسمًا.
وقد ضلّ عن معنى هذه الآية أناس يدّعون العلم كالنابلسي في قوله تعالى (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) المدثر 31، قالوا أي إن شاء العبد الضلالة يضله الله لأنهم يعتقدون أن الله ما شاء ضلالة مَن ضَلَّ إنما هم شاءوا والله شاء لهم الهداية، فجعلوا مشيئة الله مغلوبة حيث إنها لم تتنفذ على قولهم، ومشيئة العبد جعلوها نافذة، فجعلوا الله مغلوبًا والله غالب غير مغلوب، وعقيدتهم هذه تنقيص لله تعالى فليعلموا ذلك.
(1) أسماء الله الحسنى (3/360).
(2) أسماء الله الحسنى (3/352).
(3) أسماء الله الحسنى (3/355).
(4) أسماء الله الحسنى (4/355).
(5) الأحاديث المختارة.
(6) وذكر فساده في صحائف عديدة ليست على سبيل الحصر منها (3/362-364) (3/453،367-454)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق