لماذا خصّص البريطانيون راتبا شهريا لعبد العزيز آل سعود؟
"اسمحوا لي أن أُبدي أنني سبق أن رجوتُ سعادتكم أن ترسلوا لنا مدربا يُرينا كيفية استعمال المكائن، وقد أخبرتُ سعادتكم أيضا عن العتاد الخاص بالمدافع، فقد نفد كل ما كان عندي في معركتي مع العجمان، وإنني أطلب إلى سعادتكم إما أن ترسلوا لي المدافع المذكورة أو العتاد الذي يصلح للمدافع الموجودة، ورأيكم هو الأفضل، أرجو مواصلة رعايتكم لهذا الصديق المخلص"
(من عبد العزيز آل سعود إلى برسي كوكس المقيم البريطاني في الخليج بتاريخ 17/6/1917م)
(الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، المجلد الثالث، ص658)
حين قامت الحرب العالمية الأولى في أغسطس/آب 1914م كانت مكانة عبد العزيز آل سعود تزداد في نظر السياسة البريطانية التي بحثت عن حلفاء تستند إليهم في معركتها القادمة أمام الألمان والعثمانيين، لا سيما في الجزيرة العربية، وبعدما كانت سياستها الماضية تقتضي الابتعاد عن عمق الجزيرة العربية والحفاظ على مصالحها على ساحل الخليج العربي من الكويت شمالا إلى عُمان جنوبا، سارعت بريطانيا إلى إعادة الاتصال بعبد العزيز آل سعود من خلال صديقه الكابتن شكسبير، وكان هذا الاتصال الجديد ميلاد تحالف لا تزال آثاره واضحة إلى اليوم.
بالفعل تم استدعاء شكسبير ضابط الاتصال البريطاني مرة أخرى بعدما قدم طلبا للتقاعد، وعاد شكسبير متقدا حماسة للاتصال بابن سعود، وكان هدف البريطانيين من التحالف مع ابن سعود كما تشير المصادر "أن يشل صنيعة الأتراك أمير حائل (ابن الرشيد) الذي يُهدّد جناح الجيش البريطاني في جنوب وادي الرافدين"[1].
تمكّن شكسبير من الاتصال بعبد العزيز واللقاء به قرب الزلفى في نجد لوضع الخطوط العامة لاتفاقية مهمة وفاصلة بين الجانبين قبل معركة جراب التي وقعت بين ابن سعود وابن رشيد والتي قُتل فيها شكسبير في يناير/كانون الثاني 1915م بعدما قضى الرجل خمس سنوات من عُمره في تعريف السياسة البريطانية بابن سعود، وأهميته التي كانت تتأكد يوما بعد يوم في خدمة المصالح البريطانية بحسب ما تؤكده وثائقها [2].
كانت معركة "جراب" والتي تعادل فيها ابن سعود مع ابن الرشيد، ومقتل صديق عبد العزيز، وقائد مدفعية ابن سعود الكابتن شكسبير فيها، قد جعلت أمير الرياض يُعرض عن الدخول في حرب كبيرة طوال عامين أو ثلاثة، لكن عبد العزيز كان قد أخبر شكسبير قُبيل مقتله أنه لن يمد يد العون لبريطانيا طالما تركته يواجه مصيرا غامضا أمام العثمانيين في حالة الدخول في صدام مع حليفهم الأهم في وسط الجزيرة العربية أمير جبل شمر ابن الرشيد.
لذلك، وبحسب برقية عاجلة من وزارة المستعمرات في الهند بتاريخ 30 يناير/كانون الثاني 1915م إلى وزارة الخارجية البريطانية، نرى تأييد المقيم السياسي في الخليج ووزارة الهند لموقف عبد العزيز ابن سعود؛ نظرا للمكانة الإستراتيجية التي كان يحققها الرجل في الجزيرة العربية، وأن الإنجليز كانوا يُقدّرون هذا الدور المستقبلي حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
فمما جاء في البرقية: "إن الرغبة في عقد معاهدة مع الأمير ابن سعود لا تنجم فقط عن الضرورات الحالية التي تُحتم دفع ثمن فوري لصداقته، بل أيضا عن الوضع العام الذي سيطرأ على الخليج العربي كنتيجة للحرب الحالية، في حالة زوال الحكم التركي عن البصرة.. ومن الممكن أن نتوقع أن أمير نجد سيكون سيدا ليس في وسط الجزيرة العربية فقط، بل في شريط طويل من الساحل"[3].
كنتيجة لتأكيد ولاء ابن سعود للإنجليز ومطالبته لمعاهدة حماية حقيقية، فإنه أخبر صديقه شكسبير بسر حربي شديد الأهمية، فقد كانت الخطة العثمانية المعدة ضد الإنجليز في الحرب العالمية الأولى للدفاع عن البصرة التي وقعت في يد البريطانيين بعد ذلك، تتمثل في انضمام السعوديين للأتراك، والقيام بدور شديد الأهمية. لذا، وعلى وجه السرعة أرسل شكسبير برقية سرية عاجلة إلى القوات المسلحة البريطانية في الهند، والتي بدورها أرسلت على وجه السرعة والسرية تفاصيل هذه الخطة إلى وزارة الحرب البريطانية بتاريخ 19 يناير/كانون الثاني 1915م، وكان مما جاء في تلك البرقية السرية المكوّدة برقم (S. 1316 I.22): "أخبرنا الكابتن شكسبير، الذي هو لدى ابن سعود، أن الخطة التركية الأصلية هي كما يلي: ابن سعود كان سيُدافع عن البصرة ويقوم بهجوم خادع لعرقلة تقدم بريطاني، ابن رشيد وقبائل عنزة تتقدم نحو شبه جزيرة سيناء ومصر بالاتصال مع القبائل الغربية، وشريف مكة والإمام والإدريسي يُدافعون عن اليمن والحجاز والأماكن المقدسة"[4].
وبفضل شكسبير وتقاربه من عبد العزيز آل سعود، وتعهّده بإبرام معاهدة بين الجانبين فقد تم إفشال هذه الخطة، لذلك وبعد ستة أيام فقط تم إرسال برقية أخرى من نائب الملك في الهند إلى وزارة الهند بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 1915م تؤكد على موقف ابن سعود الحرج، وضرورة عقد معاهدة معه، ومما جاء فيها: "بدون أن تكون بيد (ابن سعود) معاهدة فعلية معنا، فإنه لم يكن بوسعه أن يستجيب بصورة مباشرة لطلبنا الذي جاء بعد ذلك بأن يتقدم نحو البصرة.. والواقع أنه محرج في الوقت الحاضر بسبب صعوبة وضعه الراهن، وإذا لم تُعقد المعاهدة قريبا فإنه يخشى أن تدفعه الظروف إلى تقديم تطبيق مكشوف لنياته في الانحياز إلى جانب الأتراك"[5].
وعلى مدار عدة شهور بين وضع المسودة الأولية والمعاهدة النهائية بين الطرفين تم تعديل المعاهدة عدة مرات من قِبل ابن سعود لضمان الشروط الكافية لحمايته أثناء الحرب أمام آل رشيد والعثمانيين من خلفهم، فضلا عن الضمانات اللازمة لتقوية استقلاليته وتقليل تحكم بريطانيا في سياسته، وبينما هم في ذلك الشد والجذب، يبدو أن ثمة أخبارا وصلت إلى العثمانيين الأتراك حول هذه الاتصالات السرية، فأسرعوا من جانبهم إلى "اجتذاب الإمام (السعودي) للمشاركة في الجهاد ضد الكفرة" على حد وصف أليكسي فاسيليف، لكن كانت المحاولة العثمانية فاشلة، فقد كان ابن سعود مغرما بالجانب البريطاني.
وبالفعل في 26 ديسمبر/كانون الأول 1915م وقّع الملازم بيرسي كوكس مع عبد العزيز آل سعود معاهدة في جزيرة دارين المقابلة للقطيف، وقد سُميت المعاهدة فيما بعد باسم معاهدة دارين، وصادق نائب ملك بريطانيا وحاكم الهند في يوليو/تموز 1916م على هذه المعاهدة شديدة الأهمية في تاريخ السعودية الحديثة، والتي اعتُبرت بمقتضاها السعودية دائرة بصورة كلية في فلك السياسة البريطانية أولا وأخيرا.
وفي هذه المعاهدة اعترفت الحكومة البريطانية بأن "سيادة عبد العزيز تشمل نجد والقطيف وجبيل وجميع المدن والمرافئ التابعة لهذه المقاطعات"، ومن ناحيتها "التزمت بحماية مصالحه ومصالح بلاده" بعد مشاورات مناسبة، ونصّت المادة الثالثة من المعاهدة على: "أن يتعهد ابن سعود أن يمتنع عن كل مخابرة أو اتفاق أو معاهدة مع أي حكومة أو دولة أجنبية". وأكدت المادة الرابعة أن أمير نجد لا يمكن أن يتنازل عن الأراضي أو جزء منها ولا أن يؤجرها أو يرهنها أو يتصرف بها بأي شكل ولا أن يقدّمها على سبيل الامتياز إلى أي دولة أجنبية أخرى أو لأي أحد من رعايا دولة أجنبية بدون موافقة الحكومة البريطانية". وكانت المادة السادسة أن "يتعهد ابن سعود كما تعهّد والده من قبل بأن يمتنع عن كل تجاوز وتدخّل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ قطر وعُمان وسواحلها وكل المشايخ الموجودين تحت حماية إنجلترا والذين لهم معاهدات معها"[6].
يتفق جُلّ المؤرخين على أن هذه المعاهدة كانت تعني في الواقع وبصورة مباشرة الحماية البريطانية على آل سعود ودولتهم في نجد، وكان هدف عبد العزيز آل سعود فوق ذلك الحصول على مرتبات شهرية ودعم تسليحي سخي قُدّر بألف رشاش وبندقية، ومئة ألف وحدة ذخيرة، وبالفعل استلم الدفعة الأولى من مرتبه المقدر بـ 5000 آلاف جنيه إسترليني، وكان للمساعدة البريطانية بالمال والسلاح أهميتها الخاصة لابن سعود، ليس فيما بتعلق بمجريات الحرب العالمية الأولى فحسب، بل في تحديد مصيره ومستقبله السياسي في مواجهة أعدائه الداخليين وخاصة قبائل الشمر والعجمان والمرة[7].
وتؤكد سجلات الخارجية البريطانية الثقة التي أولاها الإنجليز لعبد العزيز، ففي برقية مؤرخة في 29 ديسمبر/كانون الأول 1915م أرسلها نائب الملك في الهند إلى وزارة الهند في لندن جاء فيها: "كان موقف ابن سعود الشخصي صريحا ومستقيما، وإنني أعتقد أن انضمامه إلينا بثبات خلال الحرب يُمكن الاعتماد عليه"[8].
ويبدو أن الثقة البريطانية التي أولوها ووضعوها في عبد العزيز آل سعود كانت في محلها؛ ففي أثناء الخلافات بين آل سعود وشريف مكة الذي كان يتخوف من قوة ابن سعود الصاعدة والتي كانت تهدد الحدود بين نجد والحجاز، أكد الشريف حسين في لقائه مع جون فيلبي الرحالة وضابط المخابرات البريطاني والذي اتصل بعبد العزيز آل سعود في تلك الأثناء من سنة 1917م، أكد له وجود اتصالات سرية بين ابن سعود وبين الأتراك المحاصَرين في المدينة المنورة من قِبل شريف مكة والقوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى.
على أن جون فيلبي يُدافع بحسم عن ابن سعود قائلا: "عندما كنتُ في جدّة أكد لي الشريف بكثير من الشدة أن لديه برهانا لا جدال فيه على أن ابن سعود كان منذ مدة طويلة يتواصل سرا مع فخري باشا القائد التركي لحامية المدينة المنورة، والواقع أن ابن سعود لم يخبرني عندما كنتُ في الرياض باستلامه رسائل من فخري باشا فحسب، بل إنه سلّم إليَّ ثلاثا أصلية منها، وكانت إحداها على أية حال توضّح بشكل حاسم أنه لم يردّ أبدا على الرسالتين الأخريين".
ولم يخبر فيلبي تلك الحقيقة شفاهة فقط، بل أخرج للشريف حسين تلك الرسائل التي سلمها له عبد العزيز آل سعود من القائد التركي فخري أو فخر الدين باشا المحاصَر من قِبل الإنجليز وقوات الشريف حسين، لكن الشريف رفضها رفضا قاطعا نقمة على ابن سعود، على أن جون فيلبي كان مقتنعا وواثقا تمام الثقة في عبد العزيز وولائه المطلق للإنجليز[9]!
على أية حال، كان الإنجليز من خلال هنري مكماهون ومكتب المندوب السامي في القاهرة آنذاك قد أعطوا الضوء الأخضر في يونيو/حزيران 1916م للشريف حسين بإطلاق ما أسموه "الثورة العربية الكبرى" ضد العثمانيين، وكانت في حقيقتها استغلالا بريطانيا لحماسة العرب ودمائهم من أجل طرد العثمانيين من غرب الجزيرة العربية في الحجاز وحتى الأردن في الشمال فضلا عن الشام والعراق، مع وعود زائفة بالاستقلال والدعم مستقبلا، وهو الأمر الذي اعترف به لورانس العرب لاحقا، الضابط الشاب البريطاني، ذلك الداهية الذي كان يحرك الشريف وقواته كالعرائس، قائلا:
"بما أني لم أكن أحمق نهائيا، فقد رأيتُ أنه إذا انتصرنا نحن في الحرب فإن وعودنا للعرب ستكون حبرا على ورق، ولو كنت مستشارا نزيها لبعثتُ رجالي إلى ديارهم ولما سمحتُ لهم بالمجازفة بحياتهم من أجل هذه القضية، إلا أن الحماسة العربية كانت أداتنا الرئيسية لنكسب الحرب في الشرق، لذلك أكدتُ لهم أن إنجلترا ستبقى على العهد نصا وروحا… ولكنني، بالطبع، كنتُ على الدوام أشعرُ بالمرارة والخجل"[10].
كانت مهمة البريطانيين تذليل الخلافات بين الأمراء الموالين لهم في الجزيرة العربية بغية توحيد الصفوف في الوقوف ضد العثمانيين أثناء الحرب، لذا طالما حثّ البريطانيون عبد العزيز على الانضمام إلى الشريف حسين، لكن عبد العزيز لم يكن يثق في غريمه الشريف حسين الذي كان يكرهه ويكره تمدده في الجزيرة العربية، في المقابل أرسل حسين إلى عبد العزيز عدة رسائل محمّلة بالهدايا والذهب، وقد أثارت تلك الهدايا القيّمة حفيظة الأمير عبد العزيز الذي استشار والده الإمام عبد الرحمن وعددا من كبار مستشاريه في أمرها.
وهي الواقعة التي يوردها الأمير السعودي ابن هذلول في تاريخه قائلا: "قال (عبد العزيز للحاضرين) إذا كان القصد من إرسال الشريف هذا الذهب لطلب المساعدة منا في الحرب فقصدُه محقّق لأني أمرتُ أهل نجد وخاصّة أهل القصيم وعتيبة وحرب أن ينضموا مع الشريف لمساعدته. فقال الإمام عبد الرحمن: لو كان الشريف يبغي منا المساعدة لكتب إلينا بذلك، ولستُ أرى في قصده إلا الخوف من أن نغتنم الفرصة في قيامه إلى الترك فنحمل عليه، وأراد بهذا الذهب تسكيننا"[11].
من جهة أخرى كانت الدبلوماسية البريطانية تنظر إلى الصورة ككل في الجزيرة العربية، وعملت بجهود مضنية في توثيق الصلات بالأمراء والشيوخ العرب لتحقيق الإستراتيجية البريطانية، وتردد اسم برسي كوكس في تلك المساعي عن طريق توجيهه الدعوة لهؤلاء الزعماء لعقد مؤتمر كان قد أُجّل في الكويت قبل ذلك، وتم هذه المرة في الكويت أيضا في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1916م برئاسة كوكس للتأكد من دعمهم لبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وتوفير المساندة لثورة الحجاز ضد الدولة العثمانية[12]، وقد حضر ذلك المؤتمر عبد العزيز بن سعود، والشيخ جابر الصباح (1915-1917م)، والشيخ خزعل زعيم المحمرة وما يزيد على مئة شخصية من رؤساء القبائل العربية في الأحساء وجنوب العراق.
وكما تؤكد وثائق الإدارة البريطانية في الخليج، فقد لاقى المؤتمر نجاحا حقيقيا، حيث حقق البريطانيون أهدافهم التي تمثّلت في تثبيت دعائم نفوذهم في المنطقة، وترسيخ التعاون بين الزعماء العرب، لا سيما المختلفين منهم؛ خدمة للمصالح البريطانية، وبسبب ذلك الدور والإخلاص الذي قدّمه ابن سعود، فقد قلّد برسي كوكس، ملك الخليج البريطاني، عبد العزيز بن سعود وشاح "فارس الإمبراطورية الهندية"[13]؛ تقديرا للمكانة المتميزة التي تجمعه بالبريطانيين، وهكذا استطاع البريطانيون استمالة أمراء العرب لصالحهم وعلى رأسهم ابن سعود طوال سنوات الحرب العالمية الأولى، مما ضمن للجانب البريطاني سلامة الإمدادات اللازمة لقواتهم المشاركة في حملة احتلال العراق الناجحة بعد ذلك.
ومن أجل هذا النجاح الكبير الذي حققه المندوب السياسي البريطاني في الخليج المستر برسي كوكس، أرسل إليه اللورد كرزن وزير الخارجية البريطانية عقب المؤتمر رسالة مؤرخة في 22 يناير/كانون الثاني 1917م جاء فيها: "لقد قمتم بكل نُبل بالمهمة التي أوكلتها إليكم منذ ثمانية عشر عاما، لقد جعلتَ من نفسك ملكا على الخليج، وعندما تنتهي الحرب فسوف نُعزّز تلك الجهود ونعمل على ألا يقوم أحد بانتزاع هذا التاج منكم"[14].
كان كوكس بالفعل ملكا على الخليج يحرك شيوخه وأمراءه الموالين للسياسة البريطانية كيفما يشاء، ويلجأ إليه الجميع لأخذ التعليمات والتطمينات، فحين لاح لابن سعود خطر نفوذ الشريف حسين وبرزوه كقائد يبحث عن زعامة العرب كل العرب دون منازع في أثناء "الثورة العربية" ضد العثمانيين، كان ابن سعود قد أرسل إليه طالبا منه المشاركة في القيادة من خلال أحد أبنائه، وهو ما اعتبره الشريف حسين جنونا من ابن سعود وتعديا لحده أمام الشريف، فأرسل يقول له كما يروي ابن هذلول الأمير السعودي في تأريخه لملوك آل سعود: "إما إنك سكران أو مجنون، فلا تعلم لأي أمر قمنا، وأي غرض نبغي"[15]!
تلك الكلمات التي نزلت كالصاعقة على ابن سعود، فأسرع خائفا برسالة عاجلة إلى برسي كوكس يطلب فيها مقابلته ومعه رسالة الشريف حسين الآنفة، فما كان من كوكس إلا أن هدّأ من خوف عبد العزيز حين لاقاه في العقير على ساحل الخليج الشرقي، قائلا له: "لا تكترث، فنحن ضامنون لاستقلالك ونتعهّد بأن لا يعتدي عليك الشريف ولا غيره"، ويكمل ابن هذلول مؤرخ ملوك آل سعود وأحد أبناء هذه العائلة قائلا: "وقد ألح عليه عبد العزيز أن يُعطيه جوابا قاطعا أن لا يكون بينه وبين الشريف محاربة، فوعده بذلك على شرطين: أولهما أن لا يتدخل الشريف في شؤون نجد، والثاني أن لا يتكلم باسم العرب ويدعو نفسه ملكا عليهم، فتعهّد السير برسي بذلك"[16].
من أجل ذلك، عمل الأمير ابن سعود بكل جهده لصالح البريطانيين، وللقضاء على الدولة العثمانية في الجزيرة العربية من خلال حلفائهم في إمارة جبل شمر في حائل آل الرشيد، هؤلاء الذين كان الإنجليز يتشوقون للقضاء عليهم لأن نفوذهم كان ممتدا إلى العراق التي كان الإنجليز يتطلعون إلى إسقاطها في قبضتهم آنذاك، وتجلى ولاء عبد العزيز آنذاك في واقعة لافتة؛ فحين اشترى أحد الأثرياء 700 جمل لإرسالها إلى الأتراك داعما لهم في حربهم ضد الإنجليز، استطاع عبد العزيز الاستيلاء على هذه الجمال، وإرسالها إلى البريطانيين في الكويت في الجهة المقابلة[17]!
وحين تجلى ضعف موقف ابن الرشيد أثناء تلك الحروب بينه وبين ابن سعود المدعوم من البريطانيين، أرسل أمير جبل شمر إلى ابن سعود طالبا منه الصلح والسلام بين الجارتين، لكن عبد العزيز رفض الصلح، بل أرسل كل هذه الرسائل إلى برسي كوكس؛ تدليلا منه على ولائه التام للبريطانيين.
وبحسب سجلات الخارجية البريطانية فقد أرسل عبد العزيز إلى كوكس شارحا أسباب رفضه التصالح مع آل رشيد بقوله: "كما تعلمون سعادتكم أنه (ابن الرشيد) بعث إليّ برسول مع كتاب يُعرب فيه أنه ينوي السلم، أجبته أنه يستطيع أن يُصبح صديقا لنا بشرط أن يُظهر الصداقة نحو صديقتنا الحكومة البريطانية وحلفائها من رؤساء العرب كالشريف، وأن لا يقوم بأي شيء لا ترضى عنه الحكومة البريطانية أو ضدها… وعندما سلّمت الرسالة إلى ابن الرشيد فإنه أعقبها بجواب كتبه إلينا رافضا فيه هذه الشروط كما ترون من رسالته (المرفق أصلها)". ويبرر ابن سعود هذا الرفض لا لشيء إلا لولائه التام لخدمة بريطانيا العظمى قائلا: "إنني لم أستهدف الصلح معه لأي غرض شخصي، بل من أجل مصالح الحكومة البريطانية"[18].
هكذا ظل ابن سعود على ولائه للحكومة البريطانية، وخدمة مصالحها، وتحالفه الوثيق معها ضد الدولة العثمانية وضد إمارة جبل شمر في حائل طوال الحرب العالمية الأولى، وبعد الحرب ظل يدخل في صدام مع آل رشيد في معركة تلو الأخرى مستغلا الدعم التسليحي السخي، والمدفوعات أو المرتبات الشهرية التي كان يتقاضاها من البريطانيين، والغنائم التي كان يتحصّل عليها من هزائم آل رشيد، حتى استطاع إسقاط هذه الإمارة لتصبح المناطق الداخلية من الجزيرة العربية في قبضة آل سعود، وهكذا كان تحالف بريطانيا وآل سعود سببا قويا من أسباب هزيمة العثمانيين الأتراك وحلفائهم وسقوط دمائهم ورجالهم في الجزيرة العربية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق