« الوهابية ».. المرجعية الأولى للفكر التكفيري وكره الاخر
في ظل مناخات التفتت والتشظي الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية والعربية تشهد المنطقة منذ عقود ظاهرة صعود الحركات السياسية الإسلاموية، ومنها على وجه التحديد الحركات الراديكالية التي تعرف بالحركات الأصولية التي تدعي العمل لبناء الدولة الإسلامية أو إعادة بناء نظام الخلافة الإسلامية طوال السنوات الماضية.
« الوهابية ».. المرجعية الأولى للفكر التكفيري وكره الاخر
وترفض الحركات الراديكالية فكرة العمل السياسي أو حتى النشاط الجهادي من داخل المؤسسات الوطنية، بل تدعو إلى ضرب هذه البنى في محاولة لإيجاد البديل الذي لا يحظى بالتأييد من كافة الشرائح الديموغرافية والاجتماعية.
هي في الواقع تمثل تهديداً واضحاً للنظام الإقليمي القائم وللمؤسسات الوطنية للدول القائمة، لكنها في المقابل ليست قادرة حتى اللحظة على تجسيد نظرية متماسكة تكون البديل لما هي عليه الحال. بهذا المعنى، ربما نشهد ظاهرة اشتداد وطأة التحركات الإسلاموية في الحدث السياسي الداخلي والإقليمي على المزيد من التخبط الفكري وحتى التقاتل الميداني الذي نشهده حاليا في سوريا..
فالخطاب السياسي والأيديولوجي لهذه الحركات ليس جماهيرياً على الإطلاق، وإنما تتجسد فاعلية مثل هذه الحركات في قدرتها على تعبئة بعض الأفراد ودفعهم إلى اعتناق أفكارها العقائدية، وهم من العناصر الذين لديهم الاستعداد النفسي والعقلي والخلقي لتبني مثل هذه العقائد.
يبقى الحديث عن اللجوء الفعلي إلى العنف في محاولة منها لتحقيق مقاصدها ومآربها. فبدلاً من الاحتكام إلى مقولة «لا إكراه في الدين»، تعمد هذه الفرق أو المجموعات إلى التكفير وإصدار الأحكام بالإدانة والتجريم والردة على قاعدة استعمال القوة المسلحة والقسرية اعتقاداً منها بأن ما تقوم به أقرب ما يكون إلى الجهاد الذي خاضه المسلمون الأوائل في زمن الدعوة وفي عصر الفتوحات الإسلامية. فقد باتت مقولة « الإسلام السياسي » رديفاً لما يمكن أن تمثله أو تعبر عنه هذه السلوكيات، التي يعتورها التفكير المغلوط والبعيد عن الواقع المعاصر من الناحية الزمنية والعلمية والقيمية.
نظرة في نشأة المذهب الوهابي :
للحديث عن الخلفية الدينية الإيديولوجية لهذه الحركات يبرز أمامنا المذهب الوهابي بصفته المرجعية الأساسية التاريخية والمحركة لانبعاث هذا الحراك الدموي باسم الإسلام ابتداء من ما يعرف بتنظيم « القاعدة ». الباحث الدكتور فؤاد إبراهيم، وله مؤلفات عديدة عن المذهب الوهابي والحركات الإسلامية والدراسات الشرقية والشرق أوسطية، في مقابلة مع موقع المنار، يجزم بترابط قوي وفاعل بينهما. ولكن قبل الحديث عن سر هذا الترابط لا بد من العروج ولو سريعاً في نظرة تاريخية ومعرفية حول هذا المذهب وآليات تفكيره.
إن لهذا الرؤية الدينية (الوهابية) جذورا تاريخية تعود إلى القرن التاسع مع الإمام احمد بن حنبل والحنبلية من بعده، الذي قاوم الاتجاهات العقلانية والفلسفية والمعتزلية والكلامية عموماً، والتي صعدت بقوة في عهد الحاكم العباسي المأمون (218 ه)، ليأتي من بعده ابن تيمية (1328م) الذي « صرف » حياته لتنقية العقيدة وساجل المذاهب الإسلامية الأخرى، وألّف كتابا صار مرجعا لكل السلفيين هدفه تنقية الرسالة المحمدية من كل شائبة عنوانه « السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية »، لا يزال يطبع حتى الآن مما يدل على أثره بين هذه الجماعات. وهو يتعرض لعلاقة الأمير برعيته في ظل الشريعة، ويشدد على تطبيق الحدود بشكل حرفي، لكنه يولي الجهاد اهتماما بالغاً.
ويعدّ ابن تيمية الحلقة الوسطى بين ابن حنبل ومؤسس المذهب الوهابي محمد ابن عبد الوهاب(1703). فثمة حلقات ثلاث (الحنبلية- ابن تيمية – الوهابية) شكّلت المحضن التأسيسي والتاريخي للتيار السلفي، وفي كل حلقة كان هذا التيار يتجه نحو المزيد من التأصيل والتشدد. ولم تكن مصادفة أن يتزامن ذلك دائماً مع تحديات حضارية كبرى. والسلفية المعاصرة اليوم كحلقة راهنة تطلق موجة دفاع عن العقيدة لا تختلف في دوافعها عن سلفيات الأمس، وإن اختلفت في الوسائل والأساليب وبعض الاجتهادات.
« التكفير » بنية أساسية في المذهب الوهابي :
يقول الباحث الدكتور فؤاد إبراهيم، في أحد كتبه، إن الدعوة الوهابية انطلقت من قاعدة أن كل ما هو خارج إطارها كفر محض لتوجد لنفسها مبررات الدعوة والانتشار العنيف. ويوضح لنا هذا المسار التاريخي بأن « الوهابية قامت على أساس أن كل ما هو موجود منذ وفاة « شيخ الإسلام ابن تيميه » حتى ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعدّ زمنا بما فيه من مسلمين خارج نطاق التوحيد وخارج نطاق العقيدة الصحيحة.
فهي تعتقد بأن العقيدة الصحيحة التي جاء بها ابن تيميه انتهت بعد وفاته، تاليا عاش المسلمون ستة قرون في جهل وضياع إلى أن ظهر محمد ابن عبد الوهاب وأحيا هذه الدعوة وكأنما هو الإحياء الإسلامي الثاني أو إنبعاث الإسلام الثاني على يديه.. ولذلك النصوص التي كتبها ابن عبد الوهاب سواء في رسائله العقائدية أو في رسائله إلى الجوار أو حتى إلى الأبعدين كانت دائما تنطوي على تكفير الأخر وتبرز له كيف يكون على صواب وحق ويجب أن يصحح عقيدته.
ولذلك الوهابية قامت على ثلاثة أضلع : تكفير المجتمعات، والهجرة منها بمعنى أن ينفصل المؤمنون بالعقيدة الوهابية عن غير المؤمنين بها، وأن يشكلوا دار هجرة خاصة بهم، أي مجتمع مضاد كما يقال، بحيث إن هذا المجتمع المضاد يتأهب ويتهيأ لمرحلة يكون قادرا فيها على الجهاد..، والضلع الثالث هو إعلان الجهاد على هذا المجتمع.
وعندما نتكلم عن الانتشار العنيف، تثبت الوقائع التاريخية أن هذه الدعوة لا تنتشر بصورة سلمية، أي لا تعدّ السلمية جزءاً من دعوتها، بل إجبار المجتمعات وإرغامها على اعتناق الوهابية هي قناعة ينطلقون منها، وبنية أساسية، بمعنى أنها دعوة لا تنتشر إلا تحت ظلال السيوف، وتعتمد السلاح والقوة في أرغام كل من لا يؤمن بالعقيدة الوهابية على الدخول فيها تحت قوة السلاح ».
وينبري أمامنا سؤال ملّح هل في هذه المذهبية شيء متمايز عن بقية المذاهب الإسلامية الأخرى، يدعو أهلها إلى اعتبار أن لا مسلم غير الوهابي؟..
في دراسة مهمة أقامها الدكتور إبراهيم في قراءاته للمذهب الوهابي في مختلف كتبه يبيّن في سلسلة مصادر تاريخية موثقة أن الوهابية، كما ذكرنا أعلاه، هي إنبثاق لشكل متطرف للحنبلية في محاولة لإيجاد بعث سلفي متزمت لا يقر بحقائق التطور الإجتماعي والتعددية المذهبية والثقافية وإشكاليات التوفيق بين متطلبات كل مرحلة.
فاستندت إلى التوجيه السلفي، وأوصدت باب الاجتهاد، وذلك بعد أن قال علماء الحنابلة إن لا باب بعد الخلفاء الراشدين للاجتهاد مفتوح. ويقول الباحث جلال كشك، في كتاب له عن الوهابية، » إن قراءة كتب محمد ابن عبد الوهاب ومنشوراته تعطي انطباعا وكأنه يعيش خارج التأريخ، فليس له من تعليق على حدث معاصر خارج محيطه، بل يناقش قضايا فقهية سبق وبحثها وصدرت فيها إجابات حاسمة قبل مولدة بقرون عديدة ».
أسس الفكر الوهابي سطحية بعيدة عن الواقع :
ويؤكد الدكتور إبراهيم أن مجهودات الوهابية بلغت من التسطيح إلى حد الاشتغال الكثيف على موضوعات عقدية محسومة مثل الشفاعة والنذر وزيارة القبور، معتبرة إياها مجتمعة المفهوم الكلياني للإسلام دون الدخول في هذا المفهوم موضوعات ذات صلة بالواقع المعاش وخصوصاً موضوعات النظام الإسلامي، والحلول الإسلامية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية المستجدة، وبذلك لم تضع نظرية متكاملة حول الدين. فقد بدا الوعي الديني لدى الوهابية منحبسا في مجالات العقوبة والردع والأبعاد الأخروية التي تلتقي وأغراض ترسيخ السلطة السياسية وتعزيزها.
من هنا كان استفسارنا الأخر، بأن الوهابية كثّفت اهتمامها على المحكوم فجاءت أحكامها على المجتمع بصورة رعب ديني بالجحيم والعقارب، بينما ذهبت على صعيد الحاكم أن أعطته صفة ظل الله على الأرض ولا يجوز الخروج عليه.. وهي هنا قد تلتقي مع بعض المذاهب الأخرى في خصوص الحاكم، ولكن كيف تختلف عنها ؟!.
للوهابية تشدد مخيف تجاه المجتمع وتسامح لا نظير له مع الحاكم
صحيح، يقول الدكتور إبراهيم، ولكن الوهابية تجاوزت كل هذه المذاهب بحيث أقفلت أبواب الخروج على الحاكم نهائيا. هم قالوا بإنه لا يصح الخروج على الحاكم إلا بحال وصل إلى مرحلة الكفر البواح، يعني أن يصرح الحاكم بالكفر علنا ويشهره على الملأ. ولكن حتى هذا الكفر البواح هناك من تسامح به وقال الخروج عليه أشد فسادا من الإبقاء عليه. وتاليا فكرة الكفر البواح لم تعد مبررة للخروج على الحاكم.
بالمقابل هناك تشدد غير عادي إزاء المجتمع بحيث ليس هناك في الوهابية ما يمكن تسميته بالتسامح الديني. أو إشاعة روح القبول أو التعويض أو بحق الاختلاف والتعددية هذا كله ممنوع إنما المطلوب من المجتمع أن يتحوّل بأكمله إلى العقيدة الوهابية وإلا لا يبقى أمامه إلا حد السيف.. ولا يقدم إليه أي خيار أخر بما فيها الرحيل، غير مسموح له بذلك، إذاً لدينا تسامح إزاء السلطة بشكل مناقض ما هو إزاء المجتمع.. لأنه هو في الأساس مذهب للحكم وليس للمجتمع هو يريد إصلاح المجتمع بطريقة راديكالية ما يساعد الحاكم على اخضاع رعيته ..
ابن تيمية سبق ابن عبد الوهاب في مبدأ التكفير، الذي شهر هذا السلاح ضد من خالفوه في اعتقاداته الفلسفية مثل الغزالي والشافعي حتى قالوا عنه : « إنه كفّر الأمة الإسلامية جمعاء ». وهذا حال الوهابية، حيث التكفير من أبرز أدبياتها الدينية. ويؤكد الباحث إبراهيم : »فإذا عدنا إلى المراجع الأولى والكتب والرسائل التي كتبها محمد بن عبد الوهاب نراها تطفح بالفكر التكفيري ومفرداته والنزعة الاستعلائية على بقية المذاهب.
وأكثر من كتب بالتكفير هم الوهابيون. إذ يتجاوز الشيخ ابن عبد الوهاب الحدود العامة المتّفق عليها في الإيمان والإسلام ،ليضع شروطاً لم ترد لا في حديث ولا في سيرة المسلمين الأوائل، من قبيل تقسيم التوحيد الى ثلاثة: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فلم يخضع رسول الله صلى الله عليه واله أصحابه لامتحان في التوحيد بالطريقة التي يرسمها إبن عبد الوهاب، ولم تكن القبائل تسأل عن الأنواع الثلاثة للتوحيد،بل كانت الفطرة دليلاً على الإيمان بالله وحده لا شريك له.
ولم نجد في أي من مصنّفات العلماء الأوائل ولا حتى سجالاتهم الفكرية ما يشير الى وجود هذا التقسيم، بالرغم من أن موضوعات لاهوتية عدّة كانت حاضرة في نقاشات التيولوجيين المسلمين الأوائل« . .. والغالبية العظمى من المسلمين لا يؤمنون بهذا التقسيم، كما يتابع الدكتور إبراهيم، إذاّ فهم كافرون برأي الوهابية. ويقولون إن المعتزلة كفار والاشاعرة كفار وبقية المذاهب من السنة كفار والصوفية كفار والشيعة كفار فمن بقي إذاً؟.. « .
ويؤكد الدكتور فؤاد إبراهيم أن ثمة نصوص واضحة لدى إبن عبد الوهاب، ترى في أمة المسلمين في زمانه بأنهم أشبه بالكفار الذي قاتلهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كونهم « يعرفون الله ويعظمونه ويحجّون ويعتمرون ويزعمون أنهم على دين إبراهيم الخليل وأنه يشهدون أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر الا الله وحده لا شريك له.. »، فما المشكلة إذاً؟. يقول إنهم »يدعون الصالحين مثل الملائكة وعيسى وعزير وغيرهم.. »، الفارق أن »مشركي زماننا يدعون أناساً لايوازون عيسى والملائكة..))..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق