بيان نشأة علم الكلام | |
كان الحجاز وما حوله من فلسطين والشام وبلاد الروم والعراق وأرض الفرس والهند وبلاد إفريقية وما والاها حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك من عبادة الأوثان والأصنام والكواكب وغير ذلك، فقام سيدنا محمد بالدعوة إلى الإسلام وأقام الحجة لدعوته بحيث لا يدع لمعاند عذراً، وأيقظ العقول بطريقة لا تعلو عن مدارك العامة ولا يستنكرها الخاصة فدانوا له تباعاً، وعلمهم طريق التنزيه وفقههم في أبواب العمل ودربهم على الفضيلة والسجايا الكريمة فانتشرت دعوته إلى جميع الآفاق فدانت الأمم بنور هدايته في مشارق الأرض ومغاربها. وأمهات ما تلقت الأمة من النبي هي العلم بالله وصفاته والعلم بالأحكام العملية من عبادات ومعاملات. وقد كان أصحاب رسول الله يسألونه عن الحق لصحة الاعتقاد والمعرفة، ويسألونه عن الباطل والشر للتمكن من المجانبة حتى قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني ” رواه البخاري (1)، وإنما كان يفعله لتصح له مجانبته لأن من لم يعلم الشر يوشك أن يقع فيه كما قال الشاعر: عرفتُ الشرَّ لا للشرّ لكن لتوقيه **** ومن لا يعَرف الشر من الناس يقع فيه وقد أخبر رسول الله أنه سيظهر في زمن الإسلام فرق مختلفة تخالف ما عليه المتمسكون بالكتاب والسنة، فقال “إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة, وهي الجماعة“(2) رواه ابو داود. فظهرت بعد وفاته فرق عديدة منها المعتزلة ويسمّون القدرية لإنكارهم القدر، والجهمية ويسمّون الجبرية أتباع جهم بن صفوان يقولون إن العبد مجبور في أفعاله لا اختيار له وإنما هو كالريشة المعلقة في الهواء يأخذها الهواء يمنة ويسرة، والخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه ويكفرون مرتكب المعصية الكبيرة، والمرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب بمعنى لا يعاقب عصاة المؤمنين في الآخرة، والكرّامية الذين يقولون إن الله تقوم به الحوادث في ذاته وأقواله ويقولون بأن الله ليس له نهاية من الجهات الخمس وله نهاية من الأسفل، والمشبهة والمجسمة- أسلاف الطائفة المسماة بالوهابية في يومنا هذا- الذين يتقوّلون في الله ما لا يجوّزه الشرع ولا العقل من إثبات الحركة له والنقلة والحد والجهة والقعود والإقعاد (3) والاستلقاء والاستقرار إلى نحوها مما تلقوه بالقبول من دجاجلة الملبسين من الثنوية وعباد الأوثان ومما ورثوه من أمم قد خلت، ويؤلفون في ذلك كتباً يملأونها بالوقيعة في أهل السنة ويتسترون بالسلف مستغلين ما ينقل عن بعض السلف من الأقوال المجملة التي لا حجة فيها، نعم لهم سلف ولكن من غير هذه الأمة وهم على سنة ضلالة ولكن على من سنها الأوزار إلى يوم القيامة. وكان أناس يواصلون السعي في نشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الفلاسفة والملاحدة والثنوية من الفرس حتى أستفحل أمرهم، فأمر المهدي العلماء من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على هؤلاء فأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وأوضحوا الحق وخدموا الدين. وكان لخصماء الدين من الأسلحة ما لا يمكن مقابلته إلا بمثل أسنتهم، وجروا مع المسلمين على طريق التدرج في مراحل العداء، فلو تُرك الأمر وشأنه لكاد أن تتسرب شكوكهم إلى قلوب جماعة المسلمين فيطم الخطب. قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ممزوجاً بكلام الشارح البياضي (4) “(وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما لم يدخلوا فيه) أي فيما فيه اختلاف الأمة من الاعتقادات (لأن مثلهم) بإفنائهم الزائغين بعد كشف شبههم لإصرارهم في اللجاج لم يحوج إلى التوغل في الاحتجاج، وصار مثلهم فيه وحالهم (كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم) ويبرز لهم (فلا يتكلفون) ولا يظهرون الكلفة والمشقة في تعاطيهم (السلاح) لدفع من لم يقاتلهم”اهـ، ثم قال “(ونحن قد ابتلينا) في عصرنا (بمن يطعن) في الاعتقاديات (علينا) من أهل البدع والأهواء (ويستحلّ الدماء منا) ويستطيلون علينا لشيوع بدعتهم، ونصرة بعض ملوك السوء لهم كيزيد بن الوليد ومروان بن محمد من الأموية كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي وغيره. (فلا يسعنا أن لا نعلم) بإقامة البراهين اليقينية (من المخطئ منا) أي من المتخالفين (ومن المصيب، وأن لا نذب) ونمنع المخالفين بإقامة الحجج عليهم وإبطال نحلهم (عن) الاستطالة على (أنفسنا وحرمنا، فقد ابتلينا” بمن يقاتلنا) من أهل الأهواء بإظهار الشبه والإغراء الذي هو القتال المعنوي (فلا بد لنا) في دفعهم وإزالة شبههم (من) إقامة الحجج الساطعة والبراهين القاطعة التي في معنى (السلاح) فقد أشار إلى أن البحث فيه والمحاجة صارت من الفروض على الكفاية دون البدع المنهية، وصرّح به في ”الملتقط ” “والتتار خانية”اهـ. ففي مثل هذه الظروف الحرجة غار الإمام أبو الحسن الأشعري على ما حل بالمسلمين من ضروب النكال وقام لنصرة السنة وقمع البدعة فوفقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وقمع المعاندين وكسر تطرفهم، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها فطبق في ذِكره الآفاق وملأ الدنيا بكتبه وكتب أصحابه في السنة والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة، وتفرق أصحابه في بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب ومضى لسبيله وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض قوتهم في عهد بني بويه لكن الإمام ناصر السنة أبا بكر الباقلاني قام في وجههم وقمعهم بحججه، ودانت السنة على الطريقة الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد إفريقية. وقد بعث ابن الباقلاني في جملة من بعث من أصحابه إلى البلاد أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن حاتم الأزدي إلى الشام ثم إلى قيروان وبلاد المغرب فدان له أهل العلم من أئمة المغاربة وانتشر إلى صقلية والأندلس، وقام بنشر المذهب في الحجاز راوي الجامع الصحيح الحافظ أبو ذر الهروي وأخذ عنه من ارتحل إليه من علماء الآفاق. وفي كلام المتقدمين من المتكلمين ما ينبغي أن يسترشد به القائمون بالدفاع عن الدين في كل عصر، ومن البيّن أن طرق الدفاع عن عقائد الإسلام ووسائل الوقاية عن تسرب الفساد إلى الأخلاق والأحكام مما يتجدد في كل عصر بتجدد أساليب الأخصام وهي في نفسها ثابتة عند ما حده الشرع لا تتبدل حقائقها، فيجب على المسلمين في جميع أدوار بقائهم أن يتفرغ منهم جماعة لتتبع الآراء السائدة في طوائف البشر والعلوم المنتشرة بينهم وفحص كل ما يمكن أن يأتي من قبله ضرر للمسلمين لا سيما في المعتقد الذي لا يزال ينبوع كل خير ما دام راسخاً رصيناً ويصير منشأ كل فساد إن استحال واهناً واهياً، فيدرسون هذه الآراء والعلوم دراسة أصحابها أو فوق دراستهم ليجدوا فيها ما يدفعون به الشكوك التي يستثيرها أعداء الدين بوسائط عصرية حتى إذا فوَّق متقصد سهاما منها نحو التعاليم الاسلامية من المعتقد وأحكام ردوها الى نحره ، وإن لم يفعلوا ذلك يسهل على الأعداء أن يجدوا سبيلاً إلى مراتع خصبة بين المسلمين تنبت فيها بذور تلبيساتهم بحيث يصعب اجتثاث عروقها الفوضوية بل تسري سموم الإلحاد في قلوب خالية تتمكن فيها فيهلك الحرث والنسل وقانا الله شر ذلك. فتبين من ذلك أن نشأة علم الكلام كان ضرورة للرد على أهل البدع من المعتزلة والمجسمة وغيرهما من الفرق الضالة، وللرد على الفلاسفة والملاحدة والمخالفين لأهل الحق في المعتقد. قال (5) القاضي أبو المعالي بن عبد الملك “من اعتقد أن السلف الصالح رضي الله عنهم نهوا عن معرفة الأصول وتجنبوها أو تغافلوا عنها وأهملوها فقد اعتقد فيهم عجزاً وأساء بهم ظنّاً لأنه يستحيل في العقل والدين عند كل من أنصف من نفسه أن الواحد منهم يتكلم في مسئلة العول وقضايا الجد وكمية الحدود وكيفية القصاص بفصول ويباهل عليها ويلاعن ويجافي فيها ويبالغ ويذكر في إزالة النجاسات عشرين دليلاً لنفسه وللمخالف ويشقق الشعر في النظر فيها ثم لا يعرف ربه الآمر خلْقَه بالتحليل والتحريم والمكلّف عباده للترك والتعظيم فهيهات أن يكون ذلك، وإنما أهملوا تحرير أدلته وإقرار أسئلته وأجوبته فإن الله سبحانه وتعالى بعث نبينا محمداً صلوات الله عليه وسلامه فأيده بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة حتى أوضح الشريعة وبيَّنها وعلَّمهم مواقيتها وعينها فلم يترك لهم أصلاً من الأصول إلا بناه وشيده ولا حكماً من الأحكام إلا أوضحه ومهده لقوله سبحانه وتعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{44} [سورة النحل]، فاطمأنت قلوب الصحابة لما عاينوا من عجائب الرسول وشاهدوا من صدق التنزيل ببدائة العقول والشريعة غضة طرية متداولة بينهم في مواسمهم ومجالسهم يعرفون التوحيد مشاهدة بالوحي والسماع ويتكلمون في أدلة الوحدانية بالطباع مستغنين عن تحرير أدلتها وتقويم حجتها وعللها، كما أنهم كانوا يعرفون تفسير القرءان ومعاني الشعر والبيان وترتيب النحو والعروض وفتاوى النوافل والفروض من غير تحرير العلة ولا تقويم الأدلة. ثم لما انقرضت أيامهم وتغيرت طباع مَن بعدهم وكلامهم وخالطهم من غير جنسهم وطال بالسلف الصالح والعرب العرباء عهدهم أشكل عليهم تفسير القرءان ومَرَن (6) عليهم غلط اللسان وكثر المخالفون في الأصول والفروع واضطروا إلى جمع العروض والنحو وتمييز المراسيل من المسانيد والآحاد من التواتر وصنفوا التفسير والتعليق وبينوا التدقيق والتحقيق، ولم يقل قائل إن هذه كلها بدع ظهرت أو أنها محالات جمعت ودونت بل هو الشرع الصحيح والرأي الصريح، وكذلك هذه الطائفة كثّر الله عدَدهم وقوى عُدَدهم، بل هذه العلوم أولى بجمعها لحرمة معلومها فإن مراتب العلوم تترتب على حسب معلوماتها والصنائع تكرم على قدر مصنوعاتها، فهي من فرائض الأعيان وغيرها إما من فرائض الكفايات أو كالمندوب والمستحب، فإن من جهل صفة من صفات معلومه لم يعرف المعلوم على ما هو به، ومن لم يعرف البارىء سبحانه على ما هو به لم يستحق اسم الإيمان ولا الخروج يوم القيامة من النيران” اهـ. __________________________ (1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الفتن: باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة. (2) سنن أبي داود: كتاب السنة، باب. شرح السُّنة. (3) أي زعمهم أن الله يقعد محمداً إلى جنبه على العرش يوم القيامة، كما قال ابن تيمية في فتاويه وغيرها. (4) إشارات المرام (ص/ 32 وما بعدها)، بتصرف لا يغير المعنى. (5) تبيين كذب المفتري (ص/ 354- 355). (6) في القاموس المحيط: مَرَنَ على الشيء مرونًا و مرانة: تعوَّده (ص/1592). | |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق