ليس للحاكمِ أَنْ يحكمَ النَّاسَ والبلادَ بغيرِ شريعةِ القرءان، ليس للحاكمِ أنْ يحكمَ النَّاسَ والبلادَ بغيرِ ما أنزل الله، هذا حرامٌ لا يجوز، فإذا حَكَمَ الحاكمُ النَّاسَ بغيرِ شرعِ الله أي إذا حَكَمَ وَفْقَ هذه القوانينِ التي وَضَعَهَا البَشَرُ فقد عصى الله تعالى وكان واقعًا في الذنب الكبيرِ القريب من الكفر.
قال الله تعالى في سورةِ المائدة (ومَنْ لم يَحْكُمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هُمُ الكافرون) أنظر الآية 44، قال ابنُ عَبَّاسٍ في تفسيرِ هذه الآيةِ "إنه ليس بالكُفْرِ الذي يذهبونَ إليهِ إنه ليسَ كُفْرًا يَنْقُلُ عن الْمِلَّةِ ومَنْ لم يَحْكُمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هُمُ الكافرونَ كُفْرٌ دونَ كُفْرٍ".
وهذا التفسيرُ ذَكَرَهُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ الحاكمُ في[(المستدرَك)/كتاب التفسير] وصَحَّحَهُ ووافقهُ الذَّهَبيُّ على تصحيحه، وذَكَرَهُ الإمامُ أحمدُ في (كتاب أحكام النساء)، فلْيَعْلَمْ هؤلاء الجاهلون خوارج هذا الزمان، أنَّ مُجَرَّدَ الحُكْمِ بخلافِ ما أنزلَ الله من غيرِ جُحُودٍ لأحكامِ الإسلامِ ومن غيرِ تفضيلِ حُكْمِ القانونِ على حُكْمِ القرءانِ ومن غيرِ استحلالِ الحكمِ بغير ما أنزلَ الله لا يكونُ كُفْرًا مُخْرِجًا من المِلَّةِ ، هذه الآيةُ لا تعني الكفرَ الحقيقيَّ الذي يُخْرِجُ من الدِّينِ بل تعني الكفرَ الأصغرَ، ويقالُ له كُفْرٌ دونَ كُفْرٍ، لأنَّ الكُفْرَ كُفْرٌ أكبرُ وكُفْرٌ أصغرُ كما أنَّ الشِّرْكَ شركٌ أكبرُ وشِرْكٌ أصغر .. والحكمُ بغيرِ ما أنزلَ الله من غيرِ جحودٍ لأحكامِ القرءانِ ومن غيرِ تفضيلِ حُكْمِ القانونِ على حُكْمِ القرءانِ ومن غيرِ استحلالِ الحُكْمِ بغيرِ ما أنزلَ الله هو من هذا القِسْمِ الذي هو كُفْرٌ أصغرُ لا يُخْرِجُ من الإسلام.
أيها الناسُ، إنَّ شريعةَ القرءانِ أفضلُ الشَّرائعِ السَّمَاوِيَّةِ على الإطلاقِ وأفضلُ من هذه القوانينِ التي وَضَعَتْهَا الدُّوَلُ لتحكمَ بها شعوبَها، فلا يَعْتَقِدَنَّ أحدٌ أنَّ هذه القوانينَ التي وَضَعَهَا البَشَرُ أفضلُ من شريعةِ القرءانِ فإنَّ هذا الاعتقادَ كُفْرٌ صريح ، ولا يَظُنَّنَّ أحدٌ أنَّ الله أباح لحُكَّامِنَا أنْ يتركوا العملَ بشريعةِ القرءانِ ليحكموا الشعوبَ بقوانينَ تنافي ما أنزلهُ الله في كتابهِ العزيزِ وعلى لسانِ نبيِّه الكريم ، بل يجبُ الاعتقادُ بأنَّ الحاكمَ إذا حَكَمَ بغير ما أنزل الله فقد وقع في الذنب الكبير واقتربَ من الكُفْرِ كما قال الله تعالى في سورةِ المائدة (ومَنْ لم يَحْكُمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هُمُ الكافرون) ، أي أنَّ الحكمَ بغيرِ ما أنزلَ الله من غيرِ جُحُودٍ لأحكامِ الإسلامِ ومن غيرِ تفضيلِ حُكْمِ القانونِ على حُكْمِ القرءانِ ومن غيرِ استحلالِ الحُكْمِ بغير ما أنزلَ الله كُفْرٌ أصغرُ دونَ الكفرِ الأكبر . ولكنْ من استحلَّ تَرْكَ العملِ بأحكامِ القرءانِ من أجلِ قوانينَ وَضْعِيَّةٍ من صُنْعِ البشرِ فقد كَفَرَ الكُفْرَ الحقيقيَّ المُخْرِجَ من الإسلام، قال الإمامُ أبو جعفرٍ الطَّحَاوِيُّ في (عقيدتهِ) "ولا نُكَفِّرُ أَحَدًا من أهلِ القِبْلَةِ بذنبٍ ما لم يستحلَّه"اه -أي إلَّا إذا استحلَّه.
من معاصي اللِّسانِ الحُكْمُ بغيرِ حُكْمِ الله أيْ بغيرِ شَرْعهِ الذي أنزلهُ على نبيِّه صلَّى الله عليهِ وسلَّم، يقولُ الله تعالى في سورةِ المائدة )أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون ( ،والْحُكْمُ بغيرِ ما أنزلَ الله من الكبائرِ إجماعًا دونَ الكُفْرِ الحقيقيِّ إلَّا إذا كانَ عن جُحُودٍ لأحكامِ الإسلامِ أو تفضيلِ حُكْمِ القانونِ على حُكْمِ القرءانِ أو استحلالِ الحُكْمِ بغيرِ ما أنزلَ الله .وأمَّا الآياتُ الثَّلاثُ التي في سورةِ المائدةِ (ومَنْ لم يحكمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هم الكافرون)(ومَنْ لم يحكمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هم الظَّالمون) (ومَنْ لم يحكمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هم الفاسقون ) فقد رَوَى مسلمٌ عن البَرَاء بنِ عازِبٍ أنَّ اليهودَ حَرَّفُوا حُكْمَ الله الذي أَنْزَلَهُ في التَّوْرَاةِ حيثُ حَكَمُوا على الزَّاني الْمُحْصَنِ بالْجَلْدِ والتَّحْمِيمِ وقد أَنْزَلَ الله الرَّجْمَ في التَّوْرَاةِ فنَزَلَتْ فيهِمُ الآياتُ المذكورةُ ، والتَّحْمِيمُ هو تسويدُ الْوَجْهِ بالْحُمَمِ أيْ بالْفَحْمِ .
ومعنى هذه الآياتِ الثَّلاثِ أنَّ الْحُكْمَ بغيرِ ما أنزلَ الله ممنوع محظور ، وليس في الآيةِ الأُولى تكفيرُ الحاكمِ المسلمِ لِمُجَرَّدِ أنه حَكَمَ بغيرِ الشَّرْعِ ، فلا يجوزُ تكفيرُ المسلمِ الذي يحكمُ بغيرِ شَرْعِ الله من غيرِ أنْ يَجْحَدَ حُكْمَ الشَّرْعِ في قلبهِ أو بلسانهِ أو يُفَضِّلَ حُكْمَ القانونِ على حُكْمِ القرءانِ أو يستحلَّ تركَ العملِ بحُكْمِ القرءانِ وإنما يَحْكُمُ بهذه الأحكامِ العُرْفِيَّةِ التي تعارفَها النَّاسُ فيما بينَهم لكونها مُوَافِقَةً لأهواء النَّاسِ مُتَدَاوَلَةً بينَ الدُّوَلِ وهو غيرُ مُعْتَرِفٍ بصِحَّتِهَا على الحقيقةِ ولا مُعْتَقِدٌ لذلكَ وإنما غايةُ ما يقولُه إنه حُكْمٌ بالقانونِ .
إنَّ تكفيرَ المسلمِ أي اعتبارَه خارجًا من الإسلام لِمُجَرَّدِ أنه حَكَمَ بالقانونِ بلا تفصيلٍ خَطَأٌ كبير. وقد قال عبدُ الله بنُ العبَّاسِ، رضيَ الله عنهما، في تفسيرِ قولهِ تعالى (ومَنْ لم يحكمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هُمُ الكافرون) "إنه ليس بالكُفْرِ الذي يذهبونَ إليهِ إنه ليسَ كُفْرًا يَنْقُلُ عن الْمِلَّةِ ومَنْ لم يَحْكُمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هُمُ الكافرونَ كُفْرٌ دونَ كُفْرٍ" أيْ ذنبٌ كبير، وهذا الأَثَرُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ صحيحٌ ثابتٌ رواهُ الحاكمُ في [(الْمُسْـتَدْرَكِ)/كتاب التفسير] وصَحَّحَهُ ووَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ على تصحيحه.
ومِنْ عقائدِ أهلِ السُّـنَّةِ الْمُتَّفَقِ عليها أنهُ لا يُكَفَّرُ مسلمٌ بذنبٍ إنْ لم يستحلَّه وإنما يَكْفُرُ الذي يستحلُّه أيْ على الوَجْهِ الْمُقَرَّرِ عندَ أهلِ العِلْمِ فإنَّ المسألةَ يدخلُها تفصيلٌ فإنه إنِ استحلَّ معصيةً معلومًا حكمُها من الدِّينِ بالضَّرُورَةِ كأكلِ لحمِ الخِنْزِيرِ والرِّشْوَةِ فهو كُفْرٌ أيْ خروجٌ من الإسلامِ وإنْ لم يكنْ حكمُها معلومًا من الدِّينِ بالضَّرورةِ لم يَكْفُرْ مستحلُّها إلَّا أنْ يكونَ استحلالُه لها من باب رَدِّ النَّصِّ الشَّرْعِيِّ بأنْ عَلِمَ بوُرُودِ الشَّرْعِ بتحريمِها فعاندَ فاستحلَّها لأنَّ رَدَّ النُّصُوصِ كُفْرٌ كما قالهُ النَّسَفِيُّ في (عقيدتهِ)المشهورةِ والقاضي عِيَاضٌ والنَّوَوِيُّ وغيرُهم . فإذا عُرِفَ ذلكَ عُلِمَ أنَّ ما يُوجَدُ في مُؤَلَّفَاتِ سَيِّد قُطْب وغيره من الجماعات التكفيرية من تكفيرِ مَنْ يحكمُ بغيرِ شرعِ الله تكفيرًا مُطْلَقًا بلا تفصيلٍ لا يوافقُ مَذْهَبًا من المذاهب الإسلاميَّة، وإنما هو من رأيِ الخوارجِ الذينَ قاعدتُهم تكفيرُ مرتكبِ المعصية. فقد ذَكَرَ الإمامُ أبو منصورٍ البغداديُّ في كتابهِ (الفَرْقُ بينَ الفِرَق) وكتابهِ (تفسيرُ الأسماء والصِّفات) أنَّ صِنْفًا من الطَّائفةِ البَيْهَسِيَّةِ من الخوارجِ كانتْ تُكَفِّرُ السُّلْطَانَ إذا حَكَمَ بغيرِ الشَّرْعِ وتُكَفِّرُ الرَّعايا مَنْ تابعَه ومَنْ لم يتابعْه. كانوا يقولونَ، أيْ طائفةٌ منهم، إذا كَفَرَ الإمامُ كَفَرَتِ الرَّعِيَّةُ، فلْيُعْلَمْ أنَّ هؤلاء الجماعات ليس لهُم سَلَفٌ في ذلكَ إلَّا الخوارجُ.
والله اعلم واحكم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق