بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 17 سبتمبر 2019

فصل في إزالة شبه المانعين من تفسير الاستواء بالاستيلاء

الشبهة الأولى :

يقول أحد مجسمة الوهابية : (( ما يستند إليه هؤلاء المعطلة في زعمهم هذا من قولهم أن تفسير استوى باستولى أمر مشهور في اللغة ، هو قول باطل مردود لأنه لم يثبت عند أحد من أهل اللغة أن لفظ استوى يصح استعمالها بمعنى استولى ، بل إن هذا القول منكر عند اللغويين )) اهـ .

وقال ءاخر منهم أيضا : (( لم يرد في اللغة العربية أن استوى بمعنى استولى )) اهـ .

وقال ءاخر أيضا : (( لم ينقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتد بقولهم )) (2) اهـ .

قلنا : يعني هذا الوهابي ب (( المعطلة )) من تأول من أهل السنة والجماعة الاستواء بالاستيلاء ، وهم أي الوهابية والمعتزلة المبتدعة سواء في عدائهم لأهل السنة ، فالمعتزلة قالوا عن أهل السنة مجبرة لأنهم أي أهل السنة يقولون كل شئ بقدر ما كان خيرا وما كان شرا والمعتزلة ضد هذه العقيدة يقولون الشر ليس بقدر الله ، وهذا كفر والعياذ بالله ، وعليهم من الله ما يستحقون .

ومن تناقض الوهابية أنهم يذكرون أن ابن الأعرابي يقول إن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى ثم يذكرون له قولا ءاخر يعارض قوله الأول ( انظر الشبهة الرابعة عشرة ) مستدلين به على أن الاستيلاء يكون مع مغالبة وهذا يدل على تهورهم وعدم التثبت وأنهم يقولون ما لا يعقلون .

أما الدليل على أن هذا التفسير سائغ في اللغة فنثبته كالتالي :

قال اللغوي أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصبهاني (ت502هـ) ما نصه (1) : (( ومتى عدي – أي الاستواء – ب (( على )) اقتضى معنى الاستيلاء كقوله : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ سورة طه ] )) اهـ


وقال اللغوي أبو عبد الرحمن عبد الله بن يحيى بن المبارك اليزيدي (2) (ت237هـ ) ما نصه (3) :{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ] : استولى )) اهـ ، وابن المبارك هذا كان من أصحاب اللغوي المشهور أبي زكريا يحيى ابن زياد الفراء (ت207هـ) ، قال أحمد بن يحيى النحوي (4): (( ما رأيت في أصحاب الفراء أعلم من عبد الله بن [ أبي ] محمد اليزيدي – وهو أبو عبد الرحمن – وخاصة في القرءان ومسائله )) اهــ .

وقال الإمام المجتهد أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) في تفسيره ما نصه (5) : (( الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه )) ، ثم ذكر هذه الوجوه ثم قال : (( ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم : استوى فلان على المملكة بمعنى احتوى عليها وحازها )) اهـ .

فهذا ابن جرير وهو من السلف نص على أن الاستواء بمعنى الاستيلاء من لغة العرب .

وقال اللغوي أحمد بن محمد بن علي الفيومي ( توفي نحو 770هــ) ما نصه (1) : (( واستوى على سرير الملك : كناية عن التملك وإن لم يجلس عليه )) اهـ .

وقال اللغوي أبو إسحاق الزجاج (ت311 هـ ) : (( وقالوا: معنى استوى :استولى )) (2) اهـ ، وقد ذكره بصيغة الجمع ، الأمر الذي يدل على أن هذا المعنى كان مقررا معروفا عند اللغويين .

وقال اللغوي أبو القاسم الزجاجي (ت340 هـ ) ما نصه (3) : (( فقول العرب : علا فلان فلانا أي غلبه وقهره كما قال الشاعر :

فــلـما عــلــونــا واســتويــنـا عــلـيـهم وتـركــناهــم صــرعــى لـنسر وكــاسـر

يعني غلبناهم وقهرناهم واستولينا عليهم )) اهــ ، أبو القاسم هذا يقول فيه الذهبي (4) في (( السير )) :
(( شيخ العربية )) اهـ ، وهذا منه نص صريح بأن العرب تقول استوى بمعنى القهر والغلبة الذي هو الاستيلاء .

وقال اللغوي محمد بن أبي بكر الرازي ( كان حيا سنة 666هـ ) ما نصه (5) : (( واستوى أي استولى وظهر )) اهـ .

وكذا قال مثله اللغوي ابن منظور (ت711 هـ) في (( لسان العرب )) (6) ومن اللغويين أيضا الفيروزابادي (7) (ت718هـ ) ، فقد فسر الاستواء بالقهر والقدرة في كتابه (( البصائر )) وبالاستيلاء في كتابه (( القاموس )).

وقال الشاعر وهو الأخطل (ت90هـ ) :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

أي أنه سيطر على العراق وملكها من غير حرب وإراقة دماء .

وقال اللغوي الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في (( شرح الإحياء )) (1) : (( فإنه قد ثبت إطلاقه وإرادته لغة )) اهـ، أي تفسير استوى باستولى .





• أما من احتج بهذا البيت من اللغويين والفقهاء والأصوليين والمفسرين فأكثر من أن يحصى ويحصر بين دفتي هذا المصنف ، ولكن نذكر عددا من أبرزهم وإلا فإنه تغنيك عن البحر مَصّةُ الوَشَلِِ ، وفي طلعة الشمس ما يُغنيك َ عن زحل ، ومن جملة من احتج به من اللغويين : أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي (2) (ت756هـ ) ، ومحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (3) ،وأبو حيان الأندلسي (4) (ت745 هـ ) وخاتمة اللغويين الحافظ محمد بن محمد الحسيني الشهير بمرتضى الزبيدي (5) (1205هـ) .

وقال ءاخر:

هما استويا بفضلهما جميعا على عرش الملوك بغير زور
ذكره اللغوي المفسر أبو حيان في تفسيره (6) .

وقال الشاعر :

إذا ما غزى قوما أباح حريمهم وأضحى على ما ملكوه قد استوى

ذكره المفسر الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في (( الباز الأشهب )) (1) مستشهداً به .

وقال ءاخر :

أذكر بلانا بصفين ونصرتنا حتى استوى لأبيك الملك في عدن
ذكره الإمام أبو المعين النسفي في (( التبصرة ))(2).

وقال الشاعر :

فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر

وقد استشهد بهذا البيت من اللغويين : المفسر أبو حيان الأندلسي (3) ،والحافظ محمد مرتضى الزبيدي (4) لكن عنده :
(( مرعى )) و((طائر )) بدل : (( صرعى )) و(( كاسر )) ، واللغوي الكبير أبو القاسم الزجاجي (5) (ت340 هـ ) شيخ العربية.

فهذه أقوال بعض من وقفنا على كلامهم من اللغويين المتقدمين والمتأخرين الذين قالوا بأن تفسير الاستواء بالاستيلاء من لغة العرب ، فبالتمسك بقول ابن الأعرابي فقط لرد هذا التفسير من دون الرجوع إلى من ذكرنا من أئمة اللغة تحكم وتعام عن الحقيقة . على أن ابن الأعرابي ليس مجسما كالوهابية بل هو يؤول كما أول (( العرش )) بالملك كما نقل عنه اللغوي الزبيدي في
(( شرح القاموس)) ( ج4/321 ) والوهابية تعتبر من يؤول معطلاًَ )) !

الشبهة الثانية :

إذا قال لك المجسم ( الوهابي ) : سلّمنا أن الاستواء في اللغة من معانيها الاستيلاء والقهر ، لكن الاستيلاء معناه المغالبة فيلزمكم على هذا أن يكون الله له منازع ينازعه والله لم ينازعه أحد في العرش .

قلنا : الاستواء معناه القهر والغلبة والاستيلاء ، وتفسير الاستواء بالاستيلاء لا يقتضي المغالبة لأن المراد به القهر وقد وصف الله تبارك وتعالى نفسه بأنه القاهر فوق عباده ، قال تعالى : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ سورة الأنعام ] ، وقال : {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [سورة الرعد ] .

فإن قالوا : قهر لا يدل على أنه كان مغالبا (1) .

قلنا : وكذلك الاستيلاء لا يقتضي أنه كان يتشاجر ويتغالب مع غيره فغلبه الله ، لأن الاستيلاء المراد به القهر كما ذكرنا .

قال الإمام أبو نصر عبد الرحيم القشيري (ت514 هـ ) في الرد على المجسمة وبعد أن تأول الاستواء بالقهر ما نصه :
(( ولو اشعر ما قلنا توهم غلبته لأشعر قوله : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }[ سورة الأنعام ] بذلك أيضا حتى يقال كان مقهورا قبل خلق العباد ، هيهات إذ لم يكن للعباد وجود قبل خلقه إياهم )) اهـ، نقله الحافظ الزبيدي في شرح الإحياء (2) .

وقال إمام الحرمين عبد الملك الجويني (ت478 هـ) ما نصه (3) : (( فإن قيل : الاستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مكافحة ومحاولة ، قلنا : هذا باطل ، إذ لو أنبأ الاستواء عن ذلك  لأنبأ عنه القهر )) اهـ .

وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري ( ت 1371هـ ) في تعليقه على (( الأسماء والصفات )) ما نصه (4) :
(( من حمله على معنى الاستيلاء حمله عليه بتجريده من معنى المغالبة )) اهـ .




نقول : نحن أهل السنة وصفنا الله بما هو لائق به وهو الاستيلاء ومعناه القهر أما المجسمة فوصفوه بما هو غير لائق به وهو الاستقرار وهذا يقتضي سبق الاضطراب والاعوجاج وذلك محال في وصفه تعالى ، فما شنعوا به علينا يلزمهم ومنطبق عليهم لأنهم شبهوه بخلقه ووصفوه بما لم يصفه به أحد من أهل السنة لا من السلف ولا من الخلف إلا أن يكون من أسلافهم المجسمة . ويورد عليهم قوله تعالى : {وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [سورة النساء] فإن أهل العلم بالتفسير قالوا : معناه لم يزل كذلك .

ويورد عليهم أيضا قوله تعالى : {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [سورة المجادلة ] ، فهل يقولون إن الله تعالى كان ينازعه ويغالبه الكفار والمشركون ثم صارت الغلبة لله ، فإن قالوا منفي عن الله ، قلنا : كذلك قولوا في استولى فليس المراد منها المغالبة في حق الله وإن كان ذلك في الغالب إذا أطلقت على البشر ، فلذلك انتبه أحد مجسمة الوهابية ودعاتهم البارزين فقال في كتابه
(( شرح العقيدة الواسطية )) ما نصه (1) : (( إن الغالب من كلمة استولى أنها لا تكون إلا بعد مغالبة ولا أحد يغالب الله )) اهـ ، فعجبا لهم ! فلماذا إذا يصرون على حمل معنى استولى على المغالبة في جميع استعمالاتها ؟ مع أنها تستعمل لغير المغالبة أيضا .

ومما يدل على أنها تستعمل لغير المغالبة ما قاله أهل اللغة والمفسرون في تفسير قوله تعالى حكاية عن قول المنافقين للكفار :
{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } [سورة النساء ]، أي ألم نستول عليكم بالموالاة لكم ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون للمسلمين إذا غنموا أعطونا من الغنيمة وإذا حصل للكافرين ظهور على المسلمين قال المنافقون للكافرين أعطونا مما أصبتم الم نستحوذ عليكم أي بالاستيلاء والغلبة أي الم نستول عليكم ونحافظ عليكم وذلك بأننا تمكنا من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك وأبقينا عليكم {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [سورة النساء ] بأن ثبطناهم عنكم .

قال اللغوي الفيروزابادي في (( القاموس )) ما نصه (1) : (( واستحوذ : غلب واستولى )) اهـ، وقال ابن منظور في
(( لسان العرب)) ما نصه (2) : وقال أبو إسحاق : معنى { أَلَمْ نسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمْ }: ألم نستول عليكم بالموالاة لكم )) اهـ. فأهل اللغة عبروا باستيلاء وغلبة المنافقين على الكفار هنا ولم يكن قتال ولا مغالبة ولا شجار ولا منازعة بين الكفار والمنافقين ،فهذا دليل على أن الاستيلاء عندهم ليس في كل موارده يكون على معنى المغالبة والمنازعة .

ويقال أيضا : استحوذ الشيطان على الكفار بمعنى استولى على قلوبهم ، قال الله تعالى عن الكفار: { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ }
[سورة المجادلة ]، قال البغوي في تفسيره (3) عند تفسير هذه الآية : (( غلب واستولى )) اهـ ، وقال اللغوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره (4): (( أي أحاط بهم من كل جهة وغلب على نفوسهم واستولى عليها )) اهـ ، فهل كان الكفار يتشاجرون وينازعون ويغالبون الشيطان حتى استولى عليهم !.

ومما يدل على أن الاستيلاء يستعمل مجردا عن المغالبة والمنازعة ما فسر به ابن عباس رضي الله عنهما قوله الله تعالى إخبارا عن إبليس : {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } [سورة الإسراء ]، قال : (( لأستولين عليهم )).

والمراد بالذرية ذرية ءادم عليه السلام ، ذكره الفراء في كتابه (( معاني القرءان )) (5) ، وأسنده ابن جرير في تفسيره (6) عن الصحابي الجليل عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه فسر ابن جرير الآية فقال (7) : (( يقول : لأستولين عليهم ،وعن مجاهد قال : لأحتوينهم ، وعن ابن عباس : لأستولين ، قال ابن زيد : لأضلنهم . وهذه الألفاظ وإن اختلفت فإنها متقاربات المعنى لأن الاستيلاء والاحتواء بمعنى واحد وإذا استولى عليهم فقد أضلهم )) انتهى باختصار ، والفراء من كبار اللغويين ومشاهيرهم ، وابن عباس من فصحاء العرب فهما عبرا باستيلاء الشيطان على قلوب بني ءادم إلا قليلا منهم وليس ثَمّت منازعة ولا مغالبة بين الشيطان وبين من أضلهم من البشر ، وإنما كان استيلاؤه عليهم بالوسوسة والاستمالة إليه ليضلهم ويبعدهم عن طاعة ربهم .

وقال اللغوي أبو القاسم الأصبهاني في (( المفردات )) ما نصه (1): (( احتنك الجراد الأرض أي استولى بحنكه عليها فأكلها واستأصلها ، فيكون معناه – يعني قوله تعالى : {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } [سورة الإسراء ]- لأستولين عليهم استيلاءه على ذلك )) اهـ ، فهل الأرض كانت مغالبة ومنازعة للجراد حتى استولى عليها ؟ !!.

وقال النحوي اللغوي ابن مالك ( ت672 هـ ) في مقدمة كتابه (( التسهيل )) ما نصه (2) : (( هذا كتاب في نحو جعلته بعون الله مستوفياً لأصوله ، مستوليا على أبوابه وفصوله فسميته لذلك ... )) اهـ ، فأي مغالبة هنا ؟ فليفق المشبهون من غيهم وفسادهم ، وابن مالك هذا غني عن التعريف .

ولا بأس بذكر ما قاله الحافظ السيوطي في كتابه (( بغية الوعاة ))من الثناء والمدح وبيان مرتبة ابن مالك بين علماء النحو واللغة ونص عبارته (3) : (( إمام النحاة وحافظ اللغة ، وكان إماما في القراءات وعللها ، وأما اللغة فكان إليه المنتهى في الإكثار من نقل غريبها ، وأما النحو والتصريف فكان فيهما بحرا لا يجارى وحبرا لا يبارى .. )) اهـ .

وبعد هذا البيان الشافي لا يسع المنصف إلا أن يتبع ما جاء في لغة العرب وما أثبته اللغويون ، فعندهم أن الاستيلاء ليس في كل موارد استعمالها للمغالبة والمنازعة ، وكذلك فليكن تعبير من عبر من أهل السنة بأن الله استولى على العرش مجردا عن المغالبة والمنازعة ، والاستيلاء المراد به هنا القهر كما سبق بيان ذلك ، وبالله التوفيق .

ويستدل أيضا بقول الشاعر :

إن هــو مســتـولــيـا عــلى أحـــد إلا عــلى أضــعــف الــمـجــانـيـن

وهذا البيت يكثر استشهاد النحاة به في باب المشبهات ب (( ليس )) ومعناه أن الشاعر يصف رجلا بالعجز وضعف التأثير فيقول إنه ليس غالبا لأحد من الناس ولا مؤثرا فيه إلا أن يكون ذلك المغلوب والمؤثر عليه من ضعاف العقول ، فهذا الاستيلاء قد يحصل من دون مغالبة .
قاصمة :

من العجيب أن ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وأتباعهما الوهابية يشتد نكيرهم على تفسير الاستواء بالاستيلاء لأنهم يزعمون أنه يقتضي سبق المغالبة والعجز وكون العرش في ملك غيره ثم صار إليه مع أنهم يقولون : إن الله استولى على جميع خلقه . قال ابن تيمية في (( مجموع الفتاوى )) ما نصه (1) / (( فلما اتفق المسلمون على أنه يقال : استوى على العرش ولا يقال : استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال : استولى على العرش والأشياء )) اهـ ، وقال في موضع ءاخر ما نصه (2) : (( والاستواء مختص بالعرش باتفاق المسلمين مع أنه مستول مقتدر على كل شئ من السماء والأرض وما بينهما ))اهـ .

قال تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه المسمى (( بدائع الفوائد )) ما نصه (3) : (( بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على جميع خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرش ولا غيره ))اهـ.

والوهابية ينقلون كلام زعيميهما ( ابن تيمية وابن قيم الجوزية ) موافقين لهم في ذلك كما في الكتاب المسمى (( الكلمات الحسان )) (4) لأحد دعاة الوهابية وغيره من كتبهم .

فانظروا كيف يعيبون على غيرهم ما هم واقعون فيه ، فعلى مقتضى مذهبهم : الله كان مغالبا لخلقه ولم يكونوا في ملكه ثم صاروا إليه ،وهذا يهدم عليهم ما أنكروه علينا ، وبالله التوفيق .
الشبهة الثالثة :

يقول المانعون بأن قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

1- لا يعرف قائله فهو مجهول ، فكيف تحتجون بقول مجهول .
2- إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة .
3- ومنهم من يقول هو شاعر نصراني ، فكيف تستشهدون بكلامه .
4- ومنهم من يقول هذا البيت أنكره أئمة اللغة .

قلنا :أما الجواب عن المسئلة الأولى فنقول إن علماء اللغة استشهدوا به ، فقولهم حجة ، ولا يضر بعد ذلك أننا لم نعرف قائله ، وأهل مكة أدرى بشعابها وكم من أبيات استشهد بها اللغويون ولا يعرف قائلها .

وقد سبق بيان من استشهد به من علماء اللغة . على أن هذا البيت نسبه خاتمة اللغويين الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرح (1) على القاموس)) للأخطل (ت90 هـ ) ، وكذا ابن كثير (ت774هـ ) في تاريخه (2) فقال : ((وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق )) اهـ

والأخطل كان نصرانياً من شعراء العرب المتنصرة ، قال فيه الذهبي في (( السير )) (3) : شاعر زمانه )) اهـ .

وكذلك يستشهد بكلام العرب في الجاهلية مع كونهم عباداً للأوثان.

وأما المسئلة الثانية والرابعة فيجاب عنها بما أجبنا به في المسئلة الأولى ، على أنهم لم يذكروا من قال بأنه مصنوع ولا من أنكره من أئمة اللغة ، وغاية ما يذكرونه إنكار ابن الأعرابي لهذا التأويل ، وليس في رواية ابن الأعرابي أنه عرض عليه هذا البيت فرده وأنكره ، وإذا غاب عن ابن الأعرابي هذا التفسير فقد عرفه غيره من أئمة اللغة ، فلا يضر بعد ذلك أن قلنا به ، قال الشاعر :

إذا قــالــت حــذام فــصـدقــوهــا فــإن الـــقـول مــا قــالـــت حـــذام

وأما المسئلة الثالثة فنقول : إن كتب أئمة اللغة طافحة في الاستشهاد بكلام شعراء الجاهلية وكانوا يعبدون الأوثان والأصنام ويسجدون لهم ويشركون بالله تعالى ولم يمنعهم ذلك من الاستشهاد بكلامهم ، بل إن كتب اللغة فيها أيضا الاستشهاد بكلام الأخطل نفسه ، ولا يخفى حاله على ذي عينين ، فلا معنى لكلامهم إلا التهويل وتنفير الناس من هذا التأويل السائغ لغة وشرعاً ليوهموا العامة أننا نأخذ عقيدتنا من نصراني وهم أي الوهابية المجسمة أخذوا عقيدتهم من اليهود الذين نسبوا الجلوس لله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ً.

وعقيدتنا بحمد الله تعالى ثابتة راسخة هي عقيدة أهل السنة والجماعة مأخوذة من القرءان والسنة وإجماع الأمة ، والعقل شاهد لصحة هذه العقيدة وبالله التوفيق .

الشبهة الرابعة :

إذا قال المجسم الوهابي بأن استواء الله على العرش ورد في سبعة مواضع من القرءان ، ولم يرد في موضع منها استولى، فلو ساغ تأويلكم لكان عبر به القرءان .

قلنا : الأيات السبع التي وردت في القرءان هي :

1- قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [سورة الأعراف ].

2- قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [سورة يونس ].

3- قوله تعالى : {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [سورة الرعد ] .

4- قوله تعالى : {تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }
[سورة طه] .

5- قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } [سورة الفرقان ].

6- قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [سورة السجدة ] .

7- قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } [سورة الحديد ].

وجوابنا عما قالوه هو ما أجاب به الحافظ اللغوي الفقيه تقي الدين السبكي في رده على المجسم ابن قيم الجوزية ، ونص عبارته (1) : (( وهذا الذي قاله ليس بلازم فالمجاز قد يطرد )) اهـ .

وماذا يقولون في قول الله تعالى : {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } [سورة الفتح ] .

ويقال لهذا المجسم لم يأت لفظ استوى بمعنى جلس أو استقر في هذه المواضع السبعة كما تعتقدون ، فكيف تنكرون على غيركم ما أنتم واقعون فيه .
الشبهة الخامسة :

يقول أحد المجسمة : (( لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزاً ثم ظهر ، والله سبحانه لا يعجزه شئ والعرش لا يغالبه في حال ، فامتنع أن يكون بمعنى استولى )) اهـ .

قلنا : هذا المجسم نقله عن ابن تيمية (1) فهو عمدتهم في التجسيم كما علمت ، ونقول له : لا يجوز تفسير الاستواء بالاستقرار على العرش كما زعمتم لأن الاستقرار من صفات الأجسام باتفاق أهل  السنة من السلف والخلف ، فقولكم إن الله مستقر على العرش تجسيم يمقته من  رزق الفهم ، وقد سبق بيان تنزيه الله عن الاستقرار والجلوس ، فليراجع .

واعلم أن من الألفاظ الموضوعة في لغة العرب التي تحتمل أكثر من معنى منها أي من هذه المعاني ما هو مستحيل على الله ومنها ما هو لائق وصفه تعالى به ، فإذا أطلق على الله هذا اللفظ لا يحمل إلا على المعنى اللائق به لأنه سبحانه وتعالى موصوف بكل كمال يليق به ، مثاله لفظ الاستواء فإن من معانيه القهر والجلوس و الاستقرار وغيرها ، فالقهر صفة لائقة بالله وقد وصف نفسه بها ، أما الجلوس والاستقرار فمن صفات الأجسام ، فعندما نقول الله استوى على العرش يحمل على الاستواء اللائق بالله .

وكذلك لفظ القديم إذا أطلق على الله كان المعنى أنه لا بداية لوجوده ، فيقال : الله قديم ، إذا أطلق على المخلوق كان معنى تقادم العهد والزمن ، قال الله تعالى : {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [سورة يس ]، فالعرجون هو عذق النخل وهو شئ في أعل النخل فإنه إذا مضى عليه زمان ييبس فيتقوس ، فالقمر في ءاخره يصير بهيئة ذلك ، فهنا القديم جاء بمعنى الشئ الذي مضى عليه زمان طويل .

قال أبو المعين النسفي في كتابه (( التبصرة )) ما نصه (1) : (( وكون الاستيلاء إن كان في الشاهد عقيب الضعف ولكن لم يكن هذا عبارة عن استيلاء عن ضعف في اللغة ، بل ذلك يثبت على وفاق العادة ، كما يقال : علم فلان ، وكان ذلك في المخلوقين بعد الجهل ، ويقال : قدر ، وكان ذلك بعد العجز ، وهذا الإطلاق جائز في الله تعالى على إرادة تحقق العلم والقدرة بدون سابقة الجهل والعجز ، فكان هذا . على أن اللفظ الموضوع لمعنيين يستحيل أحدهما على الله تعالى ولا يستحيل الآخر يفهم منه إذا أضيف إلى الله تعالى ما لا يستحيل عليه دون ما يستحيل عليه . ففي اللفظ الذي ما وضع للضعف بل وضع لنفاذ السلطنة والتصرف وتثبت فيه سابقة الضعف لا بدلالة اللفظ بل يوافق العادة ، لأن لا يفهم منه ما يستحيل على الله أولى ، والله الموفق )) اهـ ، فمن أين لهؤلاء أن يقولوا إن العرب لا تستعمل استولى إلا في حق من كان عاجزاً ثم ظهر؟ وما دليلهم على أن استولى وضعت للضعف عند العرب ؟ أليس يقال عن ملك من الملوك امتد ملكه وسلطانه شرقاً وغرباً إذا دخل بليدة صغيرة : استولى عليها ؟ أكان ذلك عن ضعف وعجز ؟ ثم القهر قد يكون عن عجز وضعف وقد لا يكون ، والقهار من أسماء الله عز وجل ، فهو الذي قهر جميع خلقه وجعلهم تحت حكمه وتصرفه ولم يكن ذلك عن عجز منه ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

ثم نحن نلزمهم بحجة لا جواب لهم عنها إلا بما هو ينقض ويهدم أصول مذهبهم ، فنقول لهم : ماذا تقولون في قول الله تعالى :
{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ }[سورة التوبة ]، وقوله تعالى : { اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ سورة البقرة ] ،وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ضحك الله الليلة )) أو : (( عجب من فعالكما )) رواه البخاري (1). فإن قالوا تحمل على ما يليق بالله تعالى ، قلنا : وكذلك الاستيلاء يحمل على ما يليق بالله وهو الاستيلاء المجرد عن المغالبة والعجز والضعف ، فإن أبوا فقد تحكموا أي قالوا قولا لا دليل لهم عليه واتبعوا أهواءهم .

قال الفراء وهو أحد كبار اللغويين في كتابه (( معاني القرءان )) ما نصه (2) : (( و (( العجب )) وإن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد ، ألا ترى أنه قال : {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ } [ سورة التوبة ]، وليس السخري من الله كمعناه من
العباد ، وكذلك قوله : { اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [سورة البقرة] ليس ذلك من الله كمعناه من العباد )) اهـ ، ونسبة الضحك والتعجب إلى الله مجازية والمراد بهما الرضا بصنيعهما ، والمراد بالاستهزاء والسخرية أي أن الله يجازيهم على استهزائهم وسخريتهم .

فالحاصل أن الألفاظ المحتملة التي تكون للكمال بوجه وللنقصان بوجه وجب حملها أو جعلها كناية – على حسب موضعها من السياق – عن المعاني التي تجوز عليه سبحانه وتعالى ونفي ما لا يجوز عليه .
الشبهة السادسة :

إن قيل : إن حملتم الاستواء على الاستيلاء لم يبق لذكر العرش فائدة ، فإن ذلك في حق كل المخلوقات فلا يختص بالعرش.

قلنا : تخصيص العرش بالذكر لتشريفه ، إذ إضافة بعض الأشياء إلى الله تعالى تكون لتعظيم ذلك الشئ ، كما خص ناقة صالح بالذكر بالإضافة إليه تعالى فقال : {نَاقَةَ اللَّهِ }[سورة الشمس ] مع كون كل النوق متساوية من حيث الملكية لله تعالى .

ويقال أيضا : فائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم مخلوقات الله تعالى حجما فيعلم شمول ما دونه من باب الأولى ، فإذا قلنا : الله تعالى قهر العرش معناه قهر كل شئ ، فكل المخلوقات لما كانت دون العرش في الحجم كان الاستيلاء عليه استيلاء على جميعها ولا كذلك غيره .

قال الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ما نصه (1) : (( وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب أن كثيرا من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو قهر والغلبة ، ومعناه أن الرحمن غلب العرش وقهره ، وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته وأنها لم تقهره ، وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المملوكات ، فنبه بالأعلى على الأدنى )) اهـ .

ومما يدل على عظم حجم العرش ما رواه ابن حبان في صحيحه (2) وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة ))

الشبهة السابعة :

قال بعض الوهابية في رده على بعض علماء أهل السنة ما نصه : (( هذا البيت لو صح لم يكن فيه حجة ، بل هو حجة عليهم – يقصد أهل السنة – فإن بشرا هذا كان أخا لعبد الملك بن مروان وكان أميرا على العراق فاستوى على سريرها كعادة الملوك ونوابهم يجلسون على سرير الملك مستوين عليه ، ولو كان المراد بالبيت الاستيلاء والقهر والملك لكان المستولي على العراق عبد الملك بن مروان ، فإن بشرا نائب له على العراق ، ولا يقال لمن استولى على بلدة ولم يدخلها ولم يستقر فيها بأنه استوى عليها ، فلا يقال : استوى أبو بكر على الشام ولا استوى على مصر والعراق )) اهـ .

قلنا : عمدة الوهابية في المعتقد هو ابن تيمية ، هو أضلهم وأضر بهم كما أضر بغيرهم ، نعني بذلك ما قال تاج الدين السبكي (ت771هـ ) في طبقاته (1) : (( واعلم أن هذه الرفقة أعني المزي والذهبي والبرزالي وكثيرا من أتباعهم أضر بهم أبو العباس بن تيمية إضرارا بينا ، وحملهم من عظائم الأمور أمرا ليس هينا ، وجرهم إلى ما كان التباعد عنه أولى بهم ، وأوقفهم في دكادك من نار )) اهـ ، فإذا كان أمر هؤلاء كما وصفهم السبكي وهم من هم ، بالشرذمة الوهابية الذين ليس فيهم عالم ولا فقيه ولا محدث ، استحوذ عليهم الشيطان وزين لهم عقيدة ابن تيمية الباطلة فعكفوا على قراءة كتبه والأخذ منها بلا تمحيص ولا تدقيق فكانوا كالظل له ، بل زادوا على ضلاله ضلالات والعياذ بالله تعالى .

وهذه الشبهة التي ذكرها هذا المجسم الذي أخذها من ابن تيمية (2) لم يذكر مستنده فيها ، وزعمه أنه لا يقال استوى فلان على بلدة كذا إذا استولى عليها ولم يدخلها ولم يستقر فيها . فما الدليل عليه من كلام العرب ، وأين نص اللغويون على ذلك ، ومن اشترط الإقامة فيها ؟ ولقد قيل :

والــدعـاوى مــا لــم تـقـيــمــوا عــليـها بــيــنــات أبـــنـأؤهــا ادعــيــاء

ألا يقال إذا استولى جيش الملك على بلدة ما بأنه استوى على تلك البلدة أي قهر أهلها وغلبهم مع أن مستقره قد يكون في الغرب وتلك البلدة في الشرق . فإذا كان يقال استوى قائد الجيش على تلك البلدة بمعنى قهر أهلها وغلبهم أي استولى فمن باب أولى يكون الذي أرسله وهو ذلك الملك قاهر وغلب لتلك البلدة أي مستول عليها أي استوى عليها .

وزعمه أنه لا يقال استوى فلان على بلدة كذا إذا لم يدخلها ولم يستقر فيها لم يبنه على دليل وما بني على غير دليل فلا حجة فيه وأخذه ذلك عن ابن تيمية لا يسعفه وابن تيمية نفسه لم يقم عليه دليلا ، وقوله ليس بحجة .

فإذا كان الأمر كذلك سقط زعمه أنه لا يقال استولى عبد الملك على العراق وبالتالي سقط زعمه لا يقال استوى بشر على العراق . فصح عندئذ القول به .

ويقال أيضا عبد الملك بن مروان (ت86هـ )استولى على العراق بعد قتله مصعب بن الزبير سنة 71هـ أو 72هـ - على اختلاف في ذلك – وكان مصعب واليا على العراق فوليها من بعده بشر بن مروان (ت 75 هـ )
ومدحه الشاعر بقوله :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

قال الذهبي في تاريخه (( العبر )) ما نصه (1) : (( استولى عبد الملك على العراق وما يليها ، فأمر أخاه بشرا على العراق وبعث الأمراء على الأعمال وجهز الحجاج إلى مكة لحرب ابن الزبير )) اهـ ، وهذا رد على ما زعمه هذا المبتدع من أنه لا يقال استولى عبد الملك على العراق .
الشبهة الثامنة :

قال أحد مجسمة الوهابية في هذه العصر في كتابه المسمى (( الكلمات الحسان )) ما نصه (2) : (( السادس : أنه أتى بلفظة ( ثم ) التي حقيقتها الترتيب والمهلة ، ولو كان معناه القدرة على العرش والاستيلاء عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض فإن العرش كان موجودا قبل خلق السموات والأرض ، فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مستول على العرش إلى أن خلق السموات والأرض ؟! )) اهـ.

وقال مجسم ءاخر منهم : (( كلمة استوى قد جاءت بعد (( ثم )) التي حقها الترتيب والمهلة )) اهـ ثم ذكر مثل قوله حذو النعل بالنعل – وعمدتهم في ذلك ابن تيمية (1) المجسم – وزاد عليه هذا الوهابي استدلاله بحديث البخاري (2) الذي رواه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شئ ثم خلق السموات والأرض )) بأن العرش خلق قبل السموات والأرض .

قلنا : يرد عليهما وعلى غيرهما من مجسمة هذا العصر بما يلي :

أولا : لا يلزمنا ما قالوه فإننا نقول إن (( ثم )) في ءاية الاستواء ليست للترتيب في الحدوث والوقوع بل للترتيب في الإخبار ، أي أن الله قاهر للعرش قبل خلق السموات والأرض ، وقد سبق بيان ذلك مفصلا في باب (( بيان أن كلمة (( ثم )) تأتي بمعنى المهلة والتراخي كما تأتي بمعنى الإخبار )) ، وباب (( بيان معنى قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [سورة الأعراف ].

ثانيا : الحديث الذي ذكره حجة عليه ، وهو قوله صلى الله عليه  وسلم : (( كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء )) ،قال المفسر ابن الجوزي الحنبلي في (( النزهة )) ما نصه (3) : (( كان : معناه في الأصل وقع ووجد )) اهـ ، فهل يزعمون أن الله وجد بعد أن لم يكن ! فإن قالوا : كان في الأول تفيد الأزلية وفي الثاني الحدوث بعد العدم ، قلنا : وكذلك قولوا كلمة (( ثم )) في ءاية الاستواء تفيد الإخبار فإن منعوا ذلك فليأتوا ببينة ، وعلينا البيان وعلى الله التكلان .

وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن سعد بن جبير قال : (( قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرءان أشياء تختلف عليَّ ))، فسأله عن مسائل ومنها قوله : (( قال تعالى : {وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [سورة النساء ] ، {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [سورة النساء ]،
{وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [سورة النساء ] ، فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس : { وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا } سمى نفسه ذلك ، وذلك قوله ، أي : لم يزل كذلك )) اهـ .

وقال القاضي بدر الدين بن جماعة في كتابه (( الإيضاح )) ما نصه (2) : (( فإن قيل : إنما يقال استولى لمن لم يكن مستوليا قبل أو لمن كان له منازع فيما استولى عليه أو عاجز ثم قدر ؟

قلنا : المراد بهذا الاستيلاء القدرة التامة الخالية من معارض ، وليس لفظة (( ثم )) هنا لترتيب ذلك بل هي من باب ترتيب الأخبار وعطف بعضها على بعض )) اهـ .
الشبهة التاسعة :

قال الوهابية (3) : الاستواء هو العلو وهو علو الذات ، قال مجاهد : استوى :علا ، وقال أبو العالية : {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء }
[سورة البقرة ] : ارتفع ، وقال ابن جرير : استوى : علا وارتفع .

قلنا : الاستواء قد يراد به العلو، والعلو على وجهين : علو مكان وعلو معنى أي علو قدر ، والذي يليق بالله هو علو القدر لا علو المكان ، لأنه لا شأن في علو المكان إنما الشأن في علو القدر ، ألا ترون أن حملة العرش والحافين حوله هم أعلى مكانا من سائر عباده وليسوا أفضل خلق الله ، بل الأنبياء الذين مكانهم تحت أفضل منهم ، ولو كان علو المكان يستلزم علو القدر لكان الكتاب الذي وضعه الله فوق العرش وكتب فيه : (( إن رحمتي سبقت غضبي )) (1) مساوياً لله في الدرجة على قول أولئك ، ولكان اللوح المحفوظ على قول بعض العلماء إنه فوق العرش ليس دونه مساويا لله في الدرجة بحسب ما يقتضيه زعمهم ، فعلى هذا المعنى يحمل تفسير مجاهد لقول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ سورة طه ] بعلا على العرش كما رواه البخاري (2) .

وقال الحافظ الفقيه تقي الدين السبكي في رده على المبتدع ابن قيم الجوزية ما نصه (3) : (( أسماء الله قديمة ، فإن لزم من العلي والأعلى كونه فوق جسم لزم قدم العالم )) اهـ .
قلنا : ومن قال بقدم العالم فهو كافر إجماعاً .

وقال في موضع ءاخر (4) : (( قال ابن القيم : (( تركيب استوى مع حرف الاستعلاء نص في العلو بوضع كل لسان )) ، نص في العلو أما في الذات فلا ، فقولك استوى قيس على العراق لا يستلزم أن يكون إذ ذاك في العراق بل ملكه فيها وعليها )) اهــ.

وقد أوهموا أن ابن جرير أراد بالعلو علو الذات والارتفاع بالمسافة وهذا محض افتراء يرد عليهم بكلام ابن جرير نفسه فإنه حمل العلو على علو الملك والسلطان ونزه الله عن الحركة والانتقال ، ونص عبارته في تفسيره (5) : (( فقل : علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال )) اهـ .

وقال عند تفسير ءاخر ءاية الكرسي ما نصه (6) : (( وأما تأويل قوله : {وَهُوَ الْعَلِيُّ } [سورة البقرة ] فإنه يعني : والله العلي ، والعلي : الفعيل من قولك علا يعلو علوا إذا ارتفع فهو عال وعلي ، والعلي : ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته )) اهـ.

وقال في موضع ءاخر ما نصه (1) : (({الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [سورة الرعد ] ، المتعال : المستعلي على كل شئ بقدرته ، وهو المتفاعل من العلو ، مثل المتقارب من القرب والمتداني من الدنوّ )) اهـ .

هكذا يفهم العلماء العلو في حق الله عز وجل ، فإن علو المكان إنما هو من صفات ذوي الحدوث والإمكان ، وجل القديم واجب الوجود عن الأمكنة والحدود . فتعالى الله عما يقول أهل الأوهام المحبوسون في سجون خيالاتهم القاصرة التي لا تدرك من الموجود إلا ما حصرته الحدود ورفعته الأمكنة ، فيحكمون على أحكم الحاكمين بأنه من أمثالهم ، تعالى الله عما يقول الجاهلون به علوّا كبيرا .
وأما قول أبي العالية فمرداه كما قال الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) (2) : (( ارتفاع أمره ، وهو بخار الماء الذي منه وقع خلق السماء )) اهـ .

فلا حجة يتمسك بها الوهابية المجسمة بعد ذلك في حمل العلو على العلو الحسي وهو العلو بالذات بالمسافة ، تعالى الله عن قولهم .

الشبهة العاشرة :

قال بعض زعماء الوهابية المجسمة إن صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل مذموم وهو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله ، قال (3): (( مثاله قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[ سورة طه]، ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش : استقر عليه وعلا عليه ، فإذا قال قائل: معنى استوى : استولى على العرش ، فنقول : هذا تأويل عندك لأنك حرفت اللفظ عن ظاهره ، ولكن هذا تحريف في الحقيقة لأنه ما دلّ عليه دليل ، بل الدليل على خلافه )) اهـ .

قلنا : تسمية هذا المجسم من تأول من أهل السنة ءاية الاستواء بالاستيلاء بأنهم محرفون ليس كما زعم لأن أهل السنة لا ينكرون على من ترك تأويل الآيات المتشابهة مع التنزيه ولا على من تأولها بما هو موافق للغة العرب ، بل السلف والخلف ينكرون تفسير الاستواء بالاستقرار لأن هذا تجسيم ، فالوهابية هم المجسمة المشبهة الذين وصفوا معبودهم تارة بالاستقرار على العرش وتارة بالجلوس ، تعالى الله عما يقول المشبهة علوا كبيرا .

فعلماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله اعتمادا على مجرد النظر بالعقل ، بل يتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع ليس أصلا للدين ، أما الوهابية فلا يتقيدون بالجمع بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عما جاء به الشرع ولا يتناقض معه ، إذ  الشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقل كما هو مقرر عند أهل الحق .

قال الشيخ الفقيه شيث بن إبراهيم المالكي (توفي سنة 598هـ ) ما نصه (1) : (( أهل الحق جمعوا بين المعقول والمنقول أي بين العقل والشرع ، واستعانوا في درك الحقائق بمجموعهما فسلكوا طريقا بين طرقي الإفراط والتفريط ، وسنضرب لك مثالا يقرب من أفهام القاصرين ذكره العلماء كما أن الله تعالى يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ، فنقول لذوي العقول : مثال العقل العين الباصرة ، ومثال الشرع الشمس المضيئة ، فمن استعمل العقل دون الشرع كان بمنزلة من خرج في الليل الأسود البهيم وفتح بصره يريد أن يدرك المرئيات ويفرق بين المبصرات فيعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، والأحمر من الأخضر والأصفر ، ويجتهد في تحديق البصر فلا يدرك ما أراد أبدا مع عدم الشمس المنيرة وإن كان ذا بصر وبصيرة ، ومثال من استعمل الشرح دون العقل مثال من خرج نهاراً جهاراً وهو أعمى أو مغمض العينين ، يريد أن يدرك الألوان ويفرق بين الأعراض ، فلا يدرك الآخر شيئا أبدا ، ومثال من استعمل العقل والشرع جميعا مثال من خرج بالنهار وهو سالم البصر مفتوح العينين والشمس ظاهرة مضيئة ، فما أجدره وأحقه أن يدرك الألوان على حقائقها ، ويفرق بين أسودها وأحمرها وأبيضها وأصفرها .

فنحن بحمد لله السالكون لهذه الطريق وهو الطريق المستقيم وصراط الله المبين ، ومن زل عنها وحاد وقع في طريق الشيطان المتشعبة عن اليمين والشمال ، قال تعالى : {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }
[ سورة الأنعام ] )) اهـ.

ومن هنا يعلم أن المشبهة المجسمة تائهون في المعتقد لأنهم خالفوا الشرع والعقل بقولهم إن الله جالس على العرش ، وتارة يقولون إنه مستقر عليه ، ومنهم من يقول إن الله ترك مكاناً يجلس فيه معه محمدًا يوم القيامة ، وبقولهم إن الله متحيز في مكان فوق العرش بذاته ، وبقولهم إن الله يتحرك كل ليلة بنزوله من العرش إلى السماء الدنيا ، حتى إن بعض هؤلاء قال : إن الله يضع رجله في جهنم لكنها لا تحترق والعياذ بالله تعالى من الكفر ، ولهم غير ذلك من أقوالهم التي تدل على التشبيه والتجسيم لقياسهم الخالق على المخلوق ، واتباعهم الوهم .

فنحمد لله تعالى الذي جعلنا على منهج أهل السنة والجماعة الذين تكلموا في أمور التوحيد من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله ، وعلى صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقول هذا المجسم : (( صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل مذموم )) اهـ ،
حق أريد به باطل ليحمل ءاية الاستواء على ظاهرها من الاستقرار ونحوه من صفات الأجسام ليوافق ذلك مشربه الفاسد .

وقد سبق هذا المجسم أسلافه من المجسمة الذين قالوا إن الله جالس ومستقر على العرش ، وقد رد عليهم الإمام أبو نصر القشيري ونقله الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في (( إتحاف السادة المتقين )) فقال (1) : (( قال أبو نصر القشيري في (( التذكرة الشرقية )): (( فإن قيل أليس الله يقول : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[ سورة طه ] فيجب الأخذ بظاهره ، قلنا : الله يقول أيضا :
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [سورة الحديد ] ، ويقول : { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } [ سورة فصلت ] فينبغي أيضا أن نأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكون على العرش وعندنا ومعنا ومحيطا بالعالم محدقا به بالذات في حالة واحدة ، والواحد يستحيل أن يكون بذاته في حالة واحدة بكل مكان .

قالوا : قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ } يعني بالعلم ، و : {بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } إحاطة العلم قلنا : وقوله : { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
قهر وحفظ وأبقى )) اهـ ،انتهى نقل الزبيدي لكلام القشيري .

أي إن قالت المشبهة المجسمة لنا : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } نأخذ بظاهره فنقول إنه هناك ونثبت أنه ساكن على العرش قاعد عليه أو مستقر ، قلنا لهم : الله تعالى قال أيضا : {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } وقال : { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } فنحن إذا على زعمكم أخذنا بظاهر هاتين الآيتين كما أنتم أخذتم بظاهر استوى فقلتم ساكن فوق ، فيكون الله تعالى على كلامكم معنا وعلى العرش ومحيطا بنا وبالعالم هكذا كالدائرة فهل يصح عندكم ؟ فإن حملتم أنتم تلك على ظاهرها ونحن حملنا هاتين الآيتين على ظاهرهما ،
الله على زعمكم يكون بذاته فوق العرش  ويكون بذاته مع كل شخص في الأرض ويكون كالدائرة المحيطة بما فيها فماذا تقولون ؟ فليس لهم جواب، فهل يصح في العقل أن يكون الله بذاته فوق ، وهو  بذاته مع كل شخص لأن ظاهر قول الله تعالى :
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } أنه مع هذا بذاته ومع هذا ومع هذا ، وظاهر قول الله تعالى : { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } أن يكون هو كالدائرة تحيط بما فيها بما في ضمنها ، فهذا لا يعقل أي أن يكون الشئ الواحد في أماكن متعددة بذات واحد ، هذا معنى قول أبي نصر القشيري رحمه الله وهو حجة مفحمة قاطعة .

ثم نقل عنه الزبيدي ما نصه (1) : (( وقد نبغت نابغة من الرعاع لولا استنزالهم للعوام بما يقرب من أفهامهم ويتصور في أوهامهم لأجللت هذا الكتاب  عن تلطيخه بذكرهم ، يقولون : نحن نأخذ بالظاهر ونحمل الآيات الموهمة تشبيها والأخبار الموهمة حدا وعضوا على الظاهر ولا يجوز أن نطرق التأويل إلى شئ من ذلك ، ويتمسكون على زعمهم بقول الله تعالى :
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [ سورة ءال عمران] . وهؤلاء والذي أرواحنا بيده أضر على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس
وعبدة الأوثان لأن ضلالات الكفار ظاهر يتجنبها المسلمون ، هؤلاء أتوا الدين والعوام من طريق يغتر به المستضعفون فأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلوا في قلوبهم وصف المعبود سبحانه بالأعضاء والجوارح والركوب والنزول والاتكاء والاستلقاء والاستواء بالذات والتردد في الجهات .

فمن أصغى إلى ظاهرهم يبادر بوهمه إلى تخيل المحسوسات فاعتقد الفضائح فسال به السيل وهو لا يدري )). انتهى نقل الزبيدي .

ومعنى المحسوسات أي الأشياء التي نراها بأعيننا من المخلوقات ،

فهؤلاء المشبهة يوهمون الناس أن الله مثل ذلك ، مثل هذه الأشياء البشر والضوء ونحو ذلك .

وعلم مما ذكرنا أن صرف اللفظ عن ظاهره فيما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهة ليس من قبيل اتباع الهوى والتحكم ، بل اتبعنا ما ذكره علماء الأصول من أن التأويل أي إخراج النص عن ظاهره لا يسوغ إلا لدليل عقلي قاطع  أو سمعي ثابت ، وقد ثبت بالأدلة العقلية أن الله سبحانه وتعالى يستحيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لا يصح الصوم كله فرضه ونفله مقيّده ومطلقه إلا بنية

 قال شيخ المالكية أبو القاسم بن الجلاب في التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، باب النية في الصوم، (فصل) النية (ولا يصح الصوم كله فر...