بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 سبتمبر 2018

الشفاعة

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم أن الشفاعة هي طلب الخير من الغير للغير، وهي ثابتة بنص القرءان والحديث قال الله تبارك وتعالى ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [سورة البقرة] ، وقال تعالى ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [سورة الأنبياء]، وقال صلى الله عليه وسلم [مَن زار قبري وجبت له شفاعتي] رواه الدارقطني (1).
وروى مسلم (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لكل نبيّ دعوة مستجابة فَتَعَجَّلَ كلُّ نبي دعوتَه وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمّتي لا يُشرك بالله شيئًا]. وروى الحاكم في المستدرك (3) عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى معاذ بن جبل وأبا عبيدة وعوفَ بن مالك، قال فقلنا نعم، فأقبل إلينا فخرجنا لا نسأله عن شىء ولا يخبرنا حتى قعد على فراشه فقال [أتدري ما خيّرني ربّي الليلة؟]فقلنا الله ورسوله أعلم، قال [فإنه خيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة]، فقلنا يا رسول الله ادْعُ الله أن يجعلنا من أهلها، قال [هي لكل مسلم] اهـ.
المحتاجون للشفاعة
المحتاجون لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل الكبائر فقط لقوله صلى الله عليه وسلم [شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي] معناه هم الذين يحتاجون إليها، رواه أبو داود (4) والترمذي (5) وابن ماجه (6) وأحمد (7) وابن حبّان (8) والحاكم (9) والطبراني(10) والخطيب (11) .
وروى ابن ماجه (12) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [خُيّرت بين الشفاعة وبين أن يَدخُل نصف أمّتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعمّ وأكفى، أتُرَونها للمتقين، لا، ولكنها للمذنبين الخطَّائين المتلوّثين]. قال الحافظ البوصيري (13) إسناده صحيح.
وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح (14) ما نصه «وقال ابن الجوزي: وهذا مِنْ حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه ءاثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمَّته لكونهم أحوج إليها من الطائعين» اهـ. أمّا الأتقياء والأولياء والشهداء فلا حاجة لهم للشفاعة كما يُعلم من النصوص الصحيحة الواضحة، بل إنه ثبت في أحاديث كثيرة صحيحة أنهم هم أهل شفاعةٍ لغيرهم فقد روى ابن ماجه (15) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [للشهيد عند الله ستُّ خصال يَغفِر له في أوّل دُفعة من دمه، ويُرى مقعدَهُ من الجنّةِ، ويُجارُ من عذاب القبرِ، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُحَلّى حُلّةَ الإِيمان، ويُزَوَّج من الحور العين، ويُشَفَّع في سبعين إنسانًا من أقاربه].
والشفاعة تكون على نوعين
ـ شفاعة للمسلمين العصاة بعد دخولهم النار لإِخراجهم منها قبل أن تنتهي المدة التي يستحقّونها. ـ وشفاعة لمَن استحقوا دخول النار من عصاة المسلمين بذنوبهم فينقذهم الله من النار بهذه الشفاعة قبل دخولها.
أما الكفَّار فلا أحد يشفع لهم قال تعالى ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [سورة الأنبياء] أي لا يشفعون إلا لمَن ماتَ على الإِيمان. وقال تعالى إخبارًا عن أصحاب اليمين من أهل الجنة أنهم يسألون الكفار وهم في النار ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾ [سورة المدثر] ، وليس في قوله تعالى ﴿شفاعة الشافعين﴾ [سورة المدثر] إثبات لحصول الشفاعة لهم وأنها تُرَدُّ بل المعنى أنه لا شفاعة لهم. وقال تعالى ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سورة الأعراف] ، فرحمة الله وسِعَت في الدنيا كل مؤمن وكافر لكنها في الآخرة خاصة لمن اتَّقى الشرك وسائر أنواع الكفر. وقال تعالى ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[سورة الأعراف] أي أن الله حرّم على الكافرين الرزق النافع والماء المُروي في الآخرة وذلك لأنهم أضاعوا أعظمَ حقوق الله على عباده وهو توحيده تعالى. فتبيّن لنا أنَّ الكافر لا يرحمه الله ولا أحد يشفع له.
ثم إن النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسّلامُ هو أوَّلُ من يشفعُ وأوَّلُ من تُقبَلُ شفاعَتُهُ (16)، وهو يختصُّ بالشّفاعَةِ العُظمَى وقد سُمّيت بذلكَ لأنّها لا تختصُّ بأمّتِهِ فقط بل ينتفعُ بها غير أمّتِهِ من المؤمنينَ، وهي لتخليصهم من الاستمرارِ في حَرّ الشّمسِ في الموقِفِ فإنَّ النّاسَ عندما يكونونَ في ذلكَ الموقف يقولُ بعضهم لبعضٍ (17): تعالَوا لنذهبَ إلى أبينا ءادم ليشفَع لنا إلى ربّنا، فيأتونَ إلى ءادم يقولون: يا ءادمُ أنت أبو البشرِ خَلَقَكَ الله بيدِهِ - أي بعنايةٍ منه ـ وأسجَد لكَ ملائكتهُ فاشفَع لنا إلى ربّنا، فيقولُ لهم: لستُ فلانًا، اذهبوا إلى نوحٍ فيأتونَ نوحًا فيطلبونَ منه، ثمّ يقولُ لهم ايتوا إبراهيمَ، فيأتونَ إبراهيم، ثم إبراهيمُ يقولُ لهم لست هناك - و معناهُ أنا لستُ صاحبَ هذهِ الشّفاعَةِ - فيأتونَ موسى فيقولُ لهم لستُ هناك، فيقول لهم ايتوا عيسى، فيأتونَ عيسى فيقولُ لهم لست هناك ولكن اذهبوا إلى محمّدٍ فيأتونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فيسجدُ النَّبيُّ لربّهِ فيُقَالُ له ارفع رأسَكَ واشفَع تُشَفَّع وسَل تُعطَ. هذه تُسمَّى الشّفاعة العظمَى لأنّها عامَّةٌ. وأما الكفارُ فلا ينتفعونَ بها لأنهم يُنقَلونَ من هذا الموقفِ إلى موقفٍ أشدَّ لا يستفيدونَ تخفيفَ مشقةٍ ولا نَيلَ راحَةٍ.
--------------------------------------
(1) سنن الدارقطني: كتاب الحج: باب المواقيت (2/278). (2) صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمّته. (3) رواه ابن ماجه في سننه: كتاب الزهد: باب ذكر الشفاعة، والحاكم في المستدرك (1/66) وقال «هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتُج بسُليم بن عامر وأما سائر رواته فمتفق عليهم ولم يخرجاه». (4) سنن أبي داود: كتاب السُّنّة: باب الشفاعة. (5) جامع الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع: باب ما جاء في الشفاعة. (6) سنن ابن ماجه: كتاب الزهد: باب ذكر الشفاعة. (7) مسند أحمد (3/213). (8) صحيح ابن حبان: كتاب التاريخ: باب الحوض والشفاعة، انظر الإحسان (8/131). (9) مستدرك الحاكم، كتاب التفسير (2/382). (10) المعجم الكبير (1/258). (11) تاريخ بغداد (8/11). (12) سنن ابن ماجه: كتاب الزهد: باب ذكر الشفاعة. (13) مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (2/356). (14) فتح الباري (11/97). (15) سنن ابن ماجه: كتاب الجهاد: باب فضل الشهادة في سبيل الله. (16) رواه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل: باب تفضيل نبيّنا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق. (17) رواه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[سورة ص].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...