بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 31 يوليو 2018

تفسير ايات الاستواء 2- تفسير البحر المحيط لأبي حيان

2-  تفسير البحر المحيط لأبي حيان


{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
الاستواء: الاعتدال والاستقامة ، استوى العود وغيره: إذا استقام واعتدل، ثم قيل:  استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء، والتسوية: التقويم والتعديل.

ثم قال :
 ومعنى (جميعاً ) العموم . فهو مرادف من حيث المعنى للفظة ( كل)  كأنه قيل: ما في الأرض كله ، ولا تدل على الاجتماع  في  الزمان ، وهذا هو الفارق بين معاً وجميعاً .
والعطف  بثم   يقتضي التراخي في الزمان ، ولا زمان إذ  ذاك ،
 فقيل: أشار  بثم   إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر،
وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف   بثم  ، إذ بين خلق الأرض والاستواء  تراخ يدل على ذلك:  { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ} ، الآية.
  ثم قال عند شرح ( استوى):
 (وفي الاستواء هنا سبعة أقوال):
أحدها: أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، وهو استعارة من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء، قال معناه الفراء، واختاره الزمخشري، وبين ما الذي استعير منه.

الثاني: علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد، قاله الربيع بن أنس، والتقدير: علا أمره وسلطانه، واختاره الطبري.

لثالث: أن يكون إلى بمعنى على ، أي استوى على السماء، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكاً لخلقه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
               فلما  علونا  واستوينا  عليهم            تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر:
قد  استوى  بشر على العراق            من غير سيف ودم مهراق   .

الرابع: أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها، والاستواء هو الاستقرار، فيكون ذلك على حذف مضاف، أي ثم استوى أمره إلى السماء، أي استقر لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء، قاله الحسن البصري.

والخامس: أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء، قاله ابن كيسان، ويؤول المعنى إلى القول الأول.
السادسأن المعنى كمل صنعه فيها، كما تقول: استوى الأمر، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه.
السابع: أن الضمير في استوى عائد على الدخان ، وهذا بعيد جدًّا يبعده  قوله تعالى:{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِىَ دُخَانٌ} ، واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور، ولا يفسره سياق الكلام .
  وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى ، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش ، إن شاء الله تعالى .
وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل، فمنهم من قال: السماء خلقت قبل الأرض، ومنهم من قال: الأرض خلقت قبل السماء، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعاً لا غير، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء، وخلقت السماء بعدها، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات.
{شَىْء }: قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء. فمن أطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهراً، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالى بالمعدوم مستفاداً من دليل آخر غير هذه الآية.
{عَلِيمٌ }؛ قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة، وقد وصف تعالى نفسه بعالم وعليم وعلام، وهذان للمبالغة.  وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة، ولا يجوز وصفه به تعالى.
والمبالغة بأحد أمرين: أما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر، وأما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف. ومن هذا الثاني المبالغة في صفات الله تعالى، لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه، فلما تعلق علمه تعالى بالجميع كلية وجزئية دقيقة، وجليلة معدومة وموجودة، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم، لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء.
وقال بعض الناس: العليم من كان علمه من ذاته، والعالم من كان علمه متعدياً من غيره، وهذا ليس بجيد لأن الله تعالى قد وصف نفسه بالعالم، ولم يكن علمه بتعلم. وفي تعميم قوله تعالى: {بكل شيء عليم رد على من زعم أن علم الله تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات، تعالى الله عن ذلك.  وقالوا: علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحداً يعلم به جميع المعلومات، وبأنه لا يتغير بتغيرها، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية. وفي قولهم لا يشغله علم عن علم، يريدون، معلوم عن معلوم، لأنه قد تقدم أن علم الله واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لا يصح الصوم كله فرضه ونفله مقيّده ومطلقه إلا بنية

 قال شيخ المالكية أبو القاسم بن الجلاب في التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، باب النية في الصوم، (فصل) النية (ولا يصح الصوم كله فر...