بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 31 يوليو 2018

معنى العبادة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

أما بعد،

قال الإمامُ السبكي: العِبادَةُ أَقصَى غايِةِ الخشوعِ والخضُوعِ ونقلَ ذلك الإمامُ اللغَوِيُّ مُرتَضَى الزبيدِيُّ في شَرحِ القاموسِ، مذكور في كتابه قال ابنُ الأثير معنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع (ج2/ص 410) ولو كان معنى العِبادَةِ مُطلقُ الطاعَةِ لِمَخلوقٍ في أي شيءٍ طاعَةً أو مَعصِيَةً لكان عُمَّالُ الحكّامِ الجائِرينَ كُفارًا فَهل يَقولُ هؤلاءِ الذينَ يُكفِّرونَ المتَوسِّلينَ بالأنبياءِ والأولياءِ إنَّهُم مُشرِكونَ أليسَ هؤلاءِ هم أنفُسُهُم يُطيعونَ الحكامَ في بعضِ المعاصي فيكونونَ كفَّروا أنفُسَهُم وإن لَم يَشعُروا في بِلادِهِم إذا قُتِلَ مُسلِمٌ خَطأً من غيرِ أهلِ تلك البلاد يَجعلونَ قيمَةَ الديَة مَبلغًا مِنَ المالِ، وإذا كان المقتولُ مِن أهلِ البلادِ فالمبلغُ أكثرُ بكثيرٍ، هذا ليس شرعُ اللهِ مع ذلك يُطيعونَ ملوكهم فيهِ، مثلُهُم مَثَلُ اليهود عن عائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المرْأَةِ المخْزُومِيَّةِ التي سَرَقَتْ فقالوا مَنْ يُكلِّمُ فيها رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا ومَنْ يجْتَرِئُ عليه إلا أُسامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عليه وسلم، فَكلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ)) ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقال: ((أَيُّهَا النَّاسُ إنَّما أَهْلَك الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَليهِ الحَدَّ واللهِ لو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعتُ يَدَها)) مسلم.

ومِمَّن فسَّرَ العِبادَةَ بذلِك الراغِبُ الأصبَهانيُّ وهو لُغَوِيٌّ مَشهورٌ يُكثِرُ النقلَ عنهُ صاحِبُ شَرحِ القاموسِ مُرتَضى الزبيدي قال في تَأليفِهِ مُفرَداتِ القُرءانِ: "العِبادَةُ غايَةُ التَّذَلُّلِ" وقال مثله الأزهري في التهذيب. فَهؤلاءِ الذينَ يُكفِّرونَ المستَغيثينَ بالأولِياءِ والأنبِياءِ ليِتَعَلَّموا معنى العبادَةِ في لغَةِ العَربِ قبلَ إطلاق أَلسنَتِهِم بالتكفيرِ؛ وهذا معنى العِبادَةِ الـمُرادَةِ بقولِهِ تعالى: ﴿وما أرسَلنا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ إلا نُوحِي إليه أنه لا إله إلا أناْ فاعبُدُونِ (25)﴾ سورة الأنبياء، وبِقَولِهِ تعالى: ﴿ إيَّاك نَعبُدُ وإيَّاك نَستَعِينُ (5)﴾ سورة الفاتحة، ﴿نَعبُدُ﴾ معناهُ نُطيعُ، والعبادَةُ الطاعَةُ والتذَلُّل، ونِطقُ المكلفِ به إقرارٌ بالربوبِيَّةِ وتحقيقٌ لعبادَةِ اللهِ تعالى، ﴿ وإياك نَستَعينُ ﴾ أي نطلبُ العونَ والتَأييدَ والتوفيقَ، لأنهُ لا معينَ على الحقيقةِ إلا اللهُ. وهذه هي العبادَةُ المختصَّةُ للهِ تعالى التي مَن صَرَفَها لِغَيرِهِ صارَ مُشرِكًا، وليس مَعناها مُجَرَّدُ النُّداءِ أو الاستِعانَةِ أو الاستِغاثَةِ أو الخوفِ أو الرَّجاءِ كما زَعَمَ بَعضُ الناسِ أَنَّ مُجَرَّدَ نِداءِ شَخصٍ مَيتٍ أو غائِبٍ شِرك، وكذلِك استِعانَتُهُ بِه إلا بِالحيِّ الحاضِرِ حتى لو قال قائِلٌ: يا رسولَ اللهِ المدَدَ صارَ كافرًا عِندَهُم، وهؤلاءِ جاهِلونَ بِمَعنى العِبادَةِ في لُغَةِ العَرَبِ قال اللَّيثُ وهو إمامٌ مِن أَئِمَّةِ اللغَةِ مُتَقدِّمٌ: ويُقالُ للمُشرِكينَ هُم عَبَدَةُ الطاغوتِ ويُقالُ للمُسلِمينَ عِبادُ اللهِ يَعبدونَ الله.

قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ اعبُدُوا رَبَّكُم (21)﴾ سورَة البَقَرَة، أي أَطِيعوا ربَّكُم، وقولُهُ: ﴿ إيَّاك نَعبُدُ وإيَّاك نَستَعِينُ (5)﴾ سورَة الفاتِحَة، أي نُطيعُ الطاعَةَ التي يُخضَعُ مَعَها. اهـ.

وفي المصباحِ للفيُّوميِّ أَحَدُ مَشاهِيرِ اللغوِيينَ: عَبَدتُ اللهَ أعبُدُهُ عِبادَةً وهي الانقيادُ والخضوعُ، فإن قال هؤلاءِ وأمثالُهُم: أليس ورَدَ في تَفسيرِ ﴿ اتَّخَذُوا أَحبارَهُم ورُهبانَهُم أَربابًا مِن دُونِ اللهِ (31)﴾ سورَة التوبَة، أنّ عِبادَتَهُم لَهُم طاعَتَهُم فيما حَرَّمُوا وحلَّلوا من تِلقَاءِ أنفُسِهِم، فالجوابُ أنّ ذلك داخِلٌ تَحتَ هذا التعريفِ: الانِقيادُ والتذلُّلُ، فَإنَّهُم انقادوا لَهم في ذلك، تذَلَّلوا لَهُم لأنَّهُم كانوا يَعتَقدونَ أنَّهُـم يَسـتَحقُّونَ أن يُطاعوا في ذلك حَقيقَةً وليس الذي حَصَلَ مِنهُم مُجَردَ أَنَّهُم أطاعوهُم فإنَّ المسلِمَ قد يُطيعُ مَن له عليه رئاسَةٌ في المعصِيَةِ لكنَّهُ لا يطيعُهُ على الوجهِ الذي أطاعَتهُ النَّصارى أحبارَهُم ورُهبانَهُم فلا يكونونَ عابِدينَ لِرُؤَسائِهِم كأُولئِك، لأَنَّ الذي يَقولُ لِشَخصٍ اعتَرِف عِندي بِذُنوبِك أَنا أَغفِرها لك فقد ادعَى الأُلوهيَّةَ لنفسِهِ لأنَّ ذلك لا يَكونُ إلا للهِ واللهُ تعالى يَقول: ﴿ ومَن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللهُ ﴾ سورَة آل عُمران، معناه لا أَحَدَ يَستَطيعُ أَن يَغفِرَ الذُّنوبَ لِمَن عَصَى إلا الله، لأَنَّ دَعوى الرُّبوبِيَّةِ لَها وُجوهٌ مِن جُملَتِها أَن يَعتَقِدَ الإنسانُ أَنَّ للعَبدِ حَقَّ التَّحليلِ والتَّحريمِ أو مَغفِرَةِ الذنوبِ أو الإيجادِ لِبَعضِ الأَشياءِ.

قال اللهُ تعالى: ﴿ قُل هَل نُنَبِّئُكُم بالأخسَرِينَ أَعمالا (103) الذينَ ضَلَّ سَعيُهُم في الحَياةِ الدُّنيَا وهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا (104)﴾ سورَة الكهِف، قال سيِّدُنا عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ في هذه الآيةِ إنَّها تَعني أصحابَ الصَّوامِعِ النَّصارَى الذينَ يَظُنونَ أنَّهُم يُحسِنونَ العَمَلَ وهُم ليس لَهُم في الآخِرَةِ إلا النارُ لِكونِهِم عَبَدوا غيرَ اللهِ أي تَذَللوا لِغَيرِ اللهِ غايةَ التذلُّلِ.

فالذي تَزعَمُهُ الوهابِيَّة بِأَنَّ التوسُّلَ والتبرُّك عِبادَة هذا غَيرُ صَحيح فقد ورَدَ أحادِيث عن النبِيِّ والصَّحابَةِ والتابِعينَ والسَّلَفِ والخلَفِ بأنَّ التوسُّلَ والتبرُّك جائِز مِنها قِصَّة عُثمان بنَ حُنَيف مَع الأعمى الذي رَواهُ الطبَرانِي في مُعجَمَيهِ وقال الطبَراني والحديثُ صَحيحٌ أي المرفوع والموقوف. الحديثُ يُطلَقُ على المرفوعِ وعلى الموقوفِ، فإذا قال الحافِظ الحديثُ صحيحٌ وكان أَورَدَ قَبلَهُ حديثًا مرفوعًا فَهذا يَعني المرفوع والموقوف.

قال السُّيوطِيُّ: وخُذهُ حَيثُ حَافِظٌ عليه نَص أو مِن مُصَنَّفٍ في جَمعِهِ يُخَص فائِدَةٌ: قال بَعضُهُم: بادِر إلى عِلمِ الحديثِ وكتبِهِ واجهَد على تَصحيحِهِ مِن كُتبِهِ واسمَعهُ مِن أشياخِهِ نقلا كما سَمِعُوهُ مِن أشياخِهِم تَسعَد به

قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وآلِهِ: ((حياتي خَيرٌ لكُم تُحدِثونَ ويُحدَثُ لَكُم ووفاتي خَيرٌ لَكُم تُعرَضُ على أعمالُكُم فما رأيتُ خَيرًا حَمِدتُ اللهَ وما رأَيتُ مِن شَرٍّ استَغفَرتُ لكُم)) رواهُ البَزار وكذلك رَوى البَيهَقِيُّ بإسنادٍ صَحيحٍ عن مالكِ الدار وكان خازِنَ عُمَرَ عليه السَّلامُ قال: أصابَ الناسُ قَحط في زمانِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ فَجاءَ رَجلٌ إلى قبرِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واسمُهُ بِلال بن الحارِث المزَنِي فَوقَفَ عِندَ قَبرِ النبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وقال: يَا رَسولَ اللهِ استَسقِ لأُمَّتِك فإنَّهُم قد هَلَكوا، فَأُتِيَ الرجُلُ في المنامِ وقيلَ له أَقرِئ عُمَرَ السَّلام وأَخبِرهُ أنَّهُم يُسقَون وقُل له عَليك الكيسَ الكيس، فَجاءَ الرَّجل إلى عُمَرَ ورَوى له ما حَصَلَ منهُ فَبَكى عُمَر وقال: يا رَبِّ ما ءالو إلا ما عَجَزتُ، أي لا أُقَصِّرُ في حَقِّ الأُمَّةِ إلا ما عَجَزتُ وكذلِك قِصَّةُ عَبد اللهِ بنِ عُمَرَ لَمَّا قال يا مُحَمَّد، وقَولُ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ يا مُحَمَّد معناه يَا مُحَمَّدُ تَوجَّه لي إلى اللهِ في شِفائِي مِن شَلَلِ رِجلِي، هذِه استغاثَةٌ، رَواهُ البُخاريُّ في الأَدَبِ المُفرَدِ.

النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بعد مَوتِهِ لا تَبلُغُهُ تَفاصيلُ أَعمالِ أمَّتِهِ إنَّما يَبلُغُهُ بَعضُ أَحوالِ أُمَّتِهِ مِنَ الأُمورِ الحَسَنَةِ فيفرَحُ وتُبلِّغُهُ الملائِكةُ عن بَعضِ أَحوالِهِم منَ المعاصي فَيَستَغفِر لَهُم.

والله أعلم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...