بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الطاهر الأمين و بعد،
رَوى البيهقيُّ رحمه الله عن أبي جعفر الصّادق محمدِ بنِ عليّ الباقر عن أبيه قال قال أبي الحسين بنُ علي بنِ أبي طالب رضي الله عنهم : واللهِ ما قَد قَالت القدريّةُ بقَولِ اللهِ ولا بقَولِ الملائكةِ ولا بقَولِ النّبيينَ ولا بقَولِ أهلِ الجنّة ولا بقولِ أهلِ النار ولا بقولِ صاحبِهم إبليس، فقالوا له تُفسّرُه لنا يا ابنَ رسولِ الله، فقال قال اللهُ عزَّ وجَل : “واللهُ يَدعُو إلى دارِ السّلام ويَهدِي مَن يشَاء” الآية. هذه الآيةُ تدُلّ على أنّ اللهَ تَبارك وتعالى هو خالقُ أعمالِ العباد ليسَ العِبادُ خالقِي أعمالهِم، القَدريةُ خالَفُوا هذه الآيةَ بقولهِم نحنُ نَخلُق أعمالَنا اللهُ ما لهُ تصَرُّفٌ، بعدَ أن أعطانا القُدرةَ على أعمالنا هو لا يستطيعُ أن يخلقَ حركاتِنا وسكنَاتِنا، قالوا بعدَ أن أعطانَا القُدرةَ علَيها صارَ عاجزًا، بهذا خالَفُوا هذهِ الآيةَ لأنّ اللهَ تَعالى يقول “ويَهدِي مَن يشَاء” أي أنّ اللهَ تعالى هو الذي يَخلُق في عبادِه الحركاتِ إلى الطّاعة، الإيمان هو يخلقُه فيمَن شاءَ والطّاعاتِ هو يخلقُها فيمَن شاءَ مِن عبادِه أمّا هُم خالفوا هذا قالوا العبدُ يَخلُق بل كلُّ ذَوي الأرواح عندَهم يخلقُون أعمالَهم، هذا وجهُ مخالفتِهم للآية.
وقالت الملائكةُ : سُبحَانَك لا عِلْمَ لنا إلا ما علّمتَنا” هنا تُبَين لنا الآية أنّ الملائكة يعتقدونَ أن أعمالَ العباد بخلق الله لا بخلق العبادِ فإنّ الملائكةَ فَوَّضُوا العِلمَ إلى الله تبارك وتعالى أي أنّهُ تعالى هو الذي يَخلُق فيهم العلومَ التي وصَلَت إليهم وأنهم ليسُوا خالقِيْها “لا عِلمَ لَنا إلا ما عَلّمْتَنا” معناه المعلومات التي لنا أنتَ خلَقتَها فينا لسنَا نحنُ خالقِيْها، لا نَستطيع أكثرَ مما أنتَ أعطَيتَنا مِن العلوم، والمعتزلةُ خالَفُوا هذا لأنّ مِن عقيدةِ المعتزلة أنّ العبدَ هو يخلقُ العلوم والإدراكاتِ فتبَيّن بهذا أنهم مخالفونَ لقَولِ الملائكة كما أنهم مخالفونَ لقولِ الله تعالى “إخبارًا عن نوح عليهِ السّلام أنه قال “ولا يَنفَعُكم نُصحِي إن أردتُ أن أنصَحَ لكُم إنْ كانَ اللهُ يُريدُ أن يُغويَكم” الآية.
هذا بيانٌ لقولِ الحسينِ بنِ عليّ رضي الله عنهما، هو يبينُ وجهَ مخالفةِ القدَريّة لقَول النّبيّين حيث قال نوح عليه السلام لقومِه الذين هم كذّبوه وكفَروا به وبالله “ولا يَنفَعُكم نُصحِي إن أرَدتُ أن أَنصَح لكُم إن كانَ اللهُ يُريدُ أن يُغويَكُم” هذا أيضًا فيهِ إثباتُ أنّ الله تعالى هو خالقُ أعمال العباد، لو لم يكن اعتقاد نبي الله نوح ذلك ما قال هذا لكنّ هذا اعتراف منه بأن الله تعالى هو خالق أعمال العباد قال “إنْ كانَ اللهُ يُريدُ أن يُغوِيَكم” نصّ نوح عليه السلام على أن الله تبارك وتعالى هو خالقُ أعمال العباد خيرِها وشرّها وأنّ غَوايَة الغاوين مِن عباده فهي بخَلق الله تبارك وتعالى وأنّ غَوايَة الغَاوين مِن العباد فإنما تقَع بمشيئة الله لأنّهُ عليه السلام قال “إنْ كانَ اللهُ يُريدُ أن يُغويَكم” معناه إن كانَ اللهُ شاءَ في الأزل أن تَكونوا غاوِينَ باختِياركم فتَكونوا مُنسَاقِين إلى الغوَاية والضّلالة باختياركم فمَن يمنَع مشيئةَ الله منَ النّفاذ أنَا لا أستطيعُ أن أمنَع نفَاذَ مشيئةِ الله فيكُم ومع ذلك هو بما أنه مأمور بأن يدعوهم إلى الإيمان بالله وبرسوله نوح الداعي لهم إلى الله بلّغ، ظلّ يدعو ألف سنة إلا خمسين عاما، ظل يدعوهم إلى الإيمان والإسلام وهم عاكفون على عبادة الأوثان لم يتبعه منهم إلا قليل من البشر، هذا فيه دلالة على أن الله تبارك وتعالى لا يحصل شىء من أعمال العباد خيرها وشرها إلا بمشيئة الله أي بتخصيص الله، الذي يحبّه الله من أعمالنا فهو بمشيئته أي تخصيصه والذي يكرهه من أعمالنا فهو بمشيئته وتخصيصه يدخل في الوجود، لا فرق في ذلك، إنما الفرق أن أعمالنا التي أمرنا بها على ألسنة أنبيائه يحبّها وأعمالنا التي يكرهها هو لا يحبّها، هنا الفرق، أما من حيث المشيئة أي التخصيص فلا فرق بين أعمالنا الحسنة وبين أعمالنا السيئة التي هي المعاصي والضلالات والغوايات، “ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يُغويكم”.
فأمّا موسَى عليه السلام فقال “إنْ هيَ إلا فِتنَتُكَ تُضِلُّ بها مَن تشَاءُ وتَهدِي مَن تشَاء” لَو لم يكن في القرءانِ إلا هذه الآية لكانَت حُجّة دامغَة على هؤلاء الذينَ يقولونَ اللهُ تعالى ما شاءَ مَعاصي العباد أن تقَع وتحصُل إنما العبادُ هُم خلَقُوها بدونِ مَشيئةِ الله، هذه طائفةُ القَدريّة الضّالة تقولُ معاصي العباد مِن كُفرٍ فما دُونها حتى المكروهات عندَهم تحصُل بدونِ مشيئةِ الله، والقدَريّة على زَعمِهم اللهُ تعالى شاءَ أن يَهتدي كلُّ العباد ولم يَشأ ما حصَل مِنَ الكفّار مِن كُفر ومعاصي وما حصَل مِن عُصاةِ المسلمينَ مِن مَعاصيْهم ما شاءَ دخُولها في الوجود معنى ذلكَ أنّ اللهَ مَغلُوبٌ يَجرِي في مُلكِه مَا لا يشَاء، والمغلوبيّةُ تُنافي الألوهيّة، الإلهُ مِن خَصائصِه أنّهُ غَالبٌ غيرُ مَغلوب لا يقَعُ في مُلكِه مَا لا يشَاءُ حصُولَه ودخولَه ، كلُّ ما دخَل في الوجود علِمنا أنه بمشيئةِ اللهِ دخَل بما في ذلكَ مِن حَركاتِ العبادِ مِن خَيرٍ وحَركاتِهم مِن مَعاصي ونواياهم كلّ ذلكَ لا يحصُل إلا بمشيئةِ الله والمشيئةُ غيرُ الأمر وغَيرُ والمحبّة والرّضَى، المشيئةُ معناها التّخصيصُ ، اللهُ تَبارك وتعالى خصّص هذه الأعمالَ التي تَحصُل مِنَ العِباد خيرِها وشَرّها بالدّخُول في الوجودِ بدَلَ أن تَبقَى في العَدم ، هو العالَمُ بأَسرِه كانَ مَعدُومًا، المعتزلةُ في تمويهِهم على الناس يقولونَ كيفَ يشَاءُ ما لم يأمُر بهِ فيُقال لهم أليسَ عَلِم في الأزَل أنّ هؤلاء الكفّار يَكفرون وأنّ هؤلاء العُصاة يَعصُون، أليسَ عالما في الأزَل قَبلَ أن يَخلُقَ العَالَم أنّ ذلكَ سيَحصُل فهَل مِن بُدّ مِن حصُولِ ذلكَ منهُم بَعدَ أن يُخلَقوا فلَيس لهم مِن مَفرّ مِن أن يقُولوا لا بُدّ، فيُقال لهم كما أنّكُم اعترَفتُم بأنّهُ لا بُدّ مِن حصُولِ ذلكَ لأنّ اللهَ علِمَ في الأزل أنّهُ يَحصُل مِنهُم كذلكَ قُولوا شاءَ أن يَحصُلَ منهم وهو لا يحبُّه ليسَ لهم جَواب.
فمسألةُ موسَى عليه السلام هيَ أَوضَحُ دليلٍ لأنّه قال “إنْ هيَ إلا فِتنَتُك تُضِلُّ بها مَن تشَاءُ وتَهدِي مَن تشَاء “ وبيَانُ ذلكَ أنّ موسَى لما ذهَب لميقاتِ ربّه ثمّ خَلّف عليهِم أخَاهُ هَارون، خَلّف على قَومِه أخَاه هارون إلى أن يَعود، هارونُ كانَ نبِيّا رسولا كما أنّ موسى نبيّ رسول، الله تعالى أشركَه في النّبوة والرّسالة مع أخيه موسى، استَخلفَه فيهم ففي مدّةِ غَيبَتِه أضَلَّهم شَخصٌ يُقال له موسَى السّامري، صاغَ عِجْلا جَسَدًا مِن ذهَب ووَضَع فيهِ أثَر حَافِر فرَس جِبريل فصَارَ يخُور هذا العِجل مثلَ العِجل الحقيقيّ ففتَنَهم بذلكَ قال لهم انظُروا هذا إلهُكم وإلهُ موسَى فأطَاعَه بعضٌ مِن قَوم موسَى الذين كانوا مسلِمين وخالفَه بعضٌ فلمّا رجَع أُخبِر بما فعَلُوا فاغتَاظَ علَيهم اغتياظًا شَديدًا، ثم اللهُ تَعالى أَوحَى إليهِ أنْ يَختارَ مِنهُم سَبعينَ رجُلا فاختارَ سَبعينَ رجُلا فأخَذَتهمُ الرّجْفَةُ، اهتَزّت بهم الأرضُ، قال موسى متضَرّعًا إلى الله “رَبّ لو شِئتَ أهْلَكتَهُم مِن قَبلُ وإيّايَ أتُهلِكُنا بما فَعَلَ السُّفهاءُ مِنّا إن هيَ إلا فِتنَتُك تُضِلّ بها مَن تشَاءُ وتَهدِي مَن تشَاءُ أنتَ وَليُّنا فاغْفِرْ لنَا وأَنتَ خَيرُ الغَافِرين” [سورة الأعراف ءاية ١٥٥] الشّاهدُ في قولِ موسى تُضِلّ بها مَن تَشاء، هذا دليلٌ صَريحٌ أنّ اللهَ تَعالى شاءَ ما يَحدُث مِنَ العبادِ مِن الكفرِ والفسَادِ وهوَ لا يحبّه ولم يَأمُر به لكن شاءَ وقُوعَه أي خَصّصَه بالوجُود أي لولا أنّهُ خصّصَه بالوجودِ ما دخَل في الوجود، اللهُ تَعالى شاءَ دخُولَه في الوجودِ فدخَل في الوجود، هذا أكبرُ دَليل هذا يرُدُّ على هؤلاء الذين حرّفوا ءاياتٍ قُرءانية فجعَلُوها على المعنى الذي يوافِقُ مُعتقَدَهم الفاسد.
فالمعتزلةُ يقولونَ أيضًا في قوله تعالى “كذلكَ يُضِلّ اللهُ مَن يشَاءُ ويَهدِي مَن يَشاء” يقولونَ يَشاءُ هوَ أي العبدُ، يقولونَ إنِ العَبدُ شاءَ الضّلالةَ يُضلُّه الله وإنِ العبدُ شاءَ الهُدَى يَهديه اللهُ عكَسُوا الحقيقةَ، والله تبارك وتعالى يَعني بقولِه يُضِلُّ اللهُ مَن يشَاء هو أي الله لا يَعني مَن يَشاء هو أي العبد، الضّميرُ في يشاءُ عائدٌ إلى الله، “كذلكَ يُضِلّ الله” يعودُ إلى لفظِ الجلالة، “مَن يشَاءُ” هوَ أي الله “ويَهدي مَن يَشاء” هو أي اللهُ، الضّميرُ إلى الله يَعود، هؤلاء جعَلُوا الضّميرَ عَائدًا إلى العبدِ ليتَوصَّلُوا إلى معتقَدِهمُ الفَاسد.
فقولُه “إنْ هيَ إلا فِتنَتُك تُضِلُّ بها مَن تشَاءُ” يَفضَحُهم، لأنّ فيه ما هو صَريحٌ لا يحتَمِلُ التّأويل لا ظاهرًا ولا حقيقةً، موسى مَن يُخاطِبُ بقَولِه “إنْ هيَ إلا فِتنَتُك” يُخاطِبُ اللهَ، “إنْ هيَ إلا فِتنَتُك تُضِلُّ بها مَن تَشاء” أنتَ يا الله، تُضِلّ أنتَ يا اللهُ مَن تشَاء، هنا المعتزلةُ يَنقَطِعُونَ وكذلكَ مَن أخَذَ برَأيِهُم الفاسِد،
وقالَ الباقرُ رضيَ اللهُ عنه فيما يَرويهِ عن أبيه الحسين بنِ عليّ بنِ أبي طالب : وأمّا أهلُ الجنّة فإنهم قالوا “الحَمدُ للهِ الذي هدَانا لهذا وما كُنّا لنَهتَدِيَ لَولا أنْ هَدانا الله” فيه اعترافٌ مِن أهلِ الجنّة لأنهم أسنَدُوا خَلقَ أعمَالِهم إلى الله فبطَل كلامُ القَدرية، بطَل قولهم العبدُ يَخلُق أفعالَ نَفسِه وأنّ الله لا تَصرُّفَ لهُ في ذلكَ بَعدَ أن أعطَاهمُ القُدرةَ ، فهذا مخالفَتُهم لأهلِ الجنّة.
قالَ وأمّا أهلُ النار فإنهم “قالُوا لو هدَانا اللهُ لهَدينَاكُم” في جهَنّم يقولونَ لو هدَانا اللهُ لهدَيناكُم، معناه أنّ الكفرَ الذي ارتكبُوه باختيارهِم بمشيئةِ الله وأنّ اللهَ تعالى خصّهُم بالضّلال ما خصّهُم بالهدى، لو خَصَّهُم بالهُدَى لاهتَدَوا كما اهتَدى غَيرُهم منَ المؤمنين، هنا أيضًا ظهَرت مخَالفَةُ المعتزلةِ لأهلِ النّار لأنّ المعتزلةَ قالوا اللهُ شاءَ الاهتداءَ للجَميع لكن قِسمٌ مِنَ العبادِ خَرجُوا عن مشيئتِه.
س : أهلُ النارِ يُخاطِبُونَ مَن
الجواب : يخاطِبُون بعضَهم بعضًا لأنهم قَادةٌ وأتباعٌ. فِرعونُ قائِد إلى الضّلال وله أتباعٌ، القَادَة تقولُ لو هدَانا اللهُ لهدَينَاكم.
قال الحسينُ رضي الله عنه وأمّا أخُوهم إبليس “قالَ فبِمَا أَغْوَيتَني لأقعُدَنّ لهم صراطَك المستَقِيم” إبليسُ اعتَرف بأنّ اللهَ هو أغواهُ وأنّ غَوايتَه هذه بخلق الله لم يخلقْها إبليس، إبليسُ صارَ أفقهَ مِنَ المعتزلة لأنّهُ اعتَرف بالحقيقةِ أنّ اللهَ هو خالقُ الغَوايَة كما أنّه خالقُ الهُدَى “قالَ رَبّ” أي يا ربّ “فبِمَا أَغْوَيتَني” أي بإغوائك إيّايَ “لأقعُدَنَّ لهُم” أي لبَني ءادم “صِرَاطَك المستَقِيم” أي لأصرِفَهُم عنه.
اللهم توَفّنا على الإيمان ربّنا ءاتِنا في الدّنيا حسَنة وفي الآخِرة حسَنة وقنا عذابَ النار اللهمّ اغفر لنَا وارحَمْنا واهدنَا وأصلِح بالَنا واسترْ عَوراتِنا وءامِن رَوعاتِنا واجعلْنا هُداةً مُهتَدِين غيرَ ضَالّين ولا مضِلّين ربّنا اغفرْ لنَا ولإخوانِنا الذينَ سبَقُونا بالإيمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق