بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 28 يوليو 2018

غاية البرهان في تنزيه الله عن الجهة والمكان

الحمد لله رب العالمين و الصّلاة و السَّلام على سيِّدِنا محمد أشرفِ خلقِ الله
و بعد
غاية البرهان في تنزيه الله عن الجهة والمكان
تمهيد
ليعلم إن العلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، وهو أصل كل علم ومنشأ كل سعادة، ولهذا سمي علم الأصول؛ وقد خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: "أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له" رواه البخاري، فكان هذا أهم العلوم تحصيلاً وأحقِّها تبجيلاً وتعظيمًا، قال تعالى :{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [سورة محمد/19]، قدم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار، والسبب فيه أن معرفة التوحيد إشارة إلى علم الأصول، والاشتغال بالاستغفار إشارة إلى علم الفروع، لأنه ما لم يعلم وجود الصانع يمتنع الاشتغال بطاعته. وقد حثّ الله تعالى عباده في كثير من ءايات القرءان على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال:{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الأعراف/185]، وقال تعالى:{سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [سورة فصلت/53].
فإن قيل: لم يُنقل أنه صلى الله عليه وسلم علَّم أحدًا من أصحابه هذا العلم، ولا عن أحد من أصحابه أنه تعلم أو علّم غيره، وإنما حدث هذا العلم بعد انقراضهم بزمان، فلو كان هذا العلم مهمًّا في الدين لكان أولى به الصحابة والتابعون.
قلنا: إن عني به أنهم لم يعلموا ذات الله وصفاته وتوحيده وتنزيهه وحَقيّة رسوله وصحة معجزاته بدلالة العقل فأقروا بذلك تقليدًا، فهو بعيد من القول شنيع من الكلام، وقد ردّ الله عزّ وجلّ في كتابه على من قلّد ءاباءه في عبادة الأصنام بقوله:{إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} [سورة الزخرف/23] أي على دين {وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [سورة الزخرف/23]. وقد حاجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا من المشركين واليهود والنصارى وذلك مما لا يخفى.
وإن أريد به أنهم لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو الجوهر والعرض والجائز والمحال والحدَث والقِدم، فهذا مُسلَّم، ولكنا نعارض بمثله في سائر العلوم، فإنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفظ بالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمتشابه وغيره كما هو مستعمل عند أهل التفسير، ولا بالقياس والاستحسان، والمعارضة والمناقضة والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء، ولا بالجرح والتعديل، والآحاد والمشهور والمتواتر، والصحيح والغريب، وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل الحديث، فهل لقائل أن يقول يجب رفض هذه العلوم لهذه العلة؟!
فإن قيل: قال ابن عباس: "تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق" فإنه منهيّ عنه.
قلنا: إنه ورد النهي عن التفكر في الخالق مع الأمر بالتفكر في الخلق، فإنه يوجب النظر والتأمل في ملكوت السموات والأرض ليستدل بذلك على الصانع أنه لا يشبه شيئًا من خلقه، ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا الأثر؟
وموضوع هذا العلم علم التوحيد النظر في الخلق لمعرفة الخالق، وقيل في تعريفه: إنه علم يتكلم فيه عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال المخلوقين من الملائكة والأنبياء والأولياء والأئمة والمبدإ والمعاد، على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة، فإنهم ـ أي الفلاسفة ـ تكلموا في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادًا على مجرد النظر والعقل فجعلوا العقل أصلاً للدين فلا يتقيدون بالتوفيق بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء.
أما علماء التوحيد فيتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله وعلى صحة ما جاء عن رسول الله، فعندهم العقل شاهد للدين وليس أصلا للدين.
وقال الشيخ العلامة عبد الله الهرري ما نصه: "قواعد نافعة
أحدها: ما ذكره الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقّه ونصه: "والثانية: لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُختَلَف فيه وجاء حديث ءاخر يَعْضِدُه فلا يُحتَجُّ به".
الثانية: قال فيه أيضًا ما نصّه: "وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متّصل الإسناد رُدّ بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوَّزات العقول وأمّا بخلاف العقول فلا، والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ، والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه" انتهى.
الثالثة: ذكر علماء الحديث أن الحديث إذا خالف صريح العقل أو النّص القرءاني أو الحديث المتواتر ولم يَقبل تأويلاً فهو باطلٌ، وذكره الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج الدين السبكي في "جمع الجوامع" وغيره.
قال أبو سليمان الخطابي: "لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع له بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على صحتها، وما بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من نفي التشبيه".
قال: "وذِكر الأصابع لم يوجد في الكتاب ولا في السنة التي شرْطها في الثبوت ما وصفناه، فليس معنى اليد في الصفات معنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه" اهـ. انتهى كلام الهرري.
وقال أيضًا ما نصه: "قاعدة مهمة:
إن الشرع إنما ثبت بالعقل، فلا يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده، فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل معًا، إذا تقرّر هذا فنقول: كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات بما يوهم خلاف العقل فلا يخلو إما أن يكون متواترًا أو ءاحادًا، فإن كان ءاحادًا وهو نص لا يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو غلطه، وإن كان ظاهرًا فالظاهر منه غير مراد، وإن كان متواترًا فلا يتصور أن يكون نصًّا لا يحتمل التأويل، فلا بُدّ أن يكون ظاهرًا أو محتملاً، فحينئذ نقول الاحتمال الذي دلّ العقل على خلافه ليس بمراد منه، فإن بقي بعد إزالته احتمال واحد تعين أنه المراد بحكم الحال، وإن بقي احتمالان فصاعدًا فلا يخلو إما أن يدل قاطع على تعيين واحد منها أو لا، فإن دَلّ حمل عليه، وإن لم يدل قاطع على التعيين فهل يعين بالظنّ والاجتهاد؟ اختلف فيه، فمذهب السلف عدم التعيين خشية الإلحاد" اهـ.
وقال الشيخ الفقيه شيث بن إبراهيم المالكي (توفي سنة 598هـ) ما نصه: "أهل الحق جمعوا بين المعقول والمنقول أي بين العقل والشرع، واستعانوا في درك الحقائق بمجموعهما فسلكوا طريقًا بين طريقي الإفراط والتفريط، وسنضرب لك مثالاً يقرب من أفهام القاصرين ذَكره العلماء كما أن الله تعالى يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، فنقول لذوي العقول: مثال العقل العين الباصرة، ومثال الشرع الشمس المضيئة، فمن استعمل العقل دون الشرع كان بمنزلة من خرج في الليل الأسود البهيم وفتح بصره يريد أن يدرك المرئيات ويفرق بين المبصَرات فيعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والأحمر من الأخضر والأصفر، ويجتهد في تحديق البصر فلا يدرك ما أراد أبدًا مع عدم الشمس المنيرة وإن كان ذا بصر وبصيرة، ومثال من استعمل الشرع دون العقل، مثال من خرج نهارًا جهارًا وهو أعمى أو مغمض العينين، يريد أن يدرك الألوان ويفرق بين الأعراض، فلا يدرك الآخر شيئًا أبدًا، ومثال من استعمل العقل والشرع جميعًا مثال من خرج بالنهار وهو سالم البصر، مفتوح العينين والشمس ظاهرة مضيئة، فما أجدره وأحقه أن يدرك الألوان على حقائقها، ويفرق بين أسودها وأحمرها وأبيضها وأصفرها.
فنحن بحمد الله السالكون لهذه الطريق وهو الطريق المستقيم، وصراط الله المبين، ومن زل عنها وحاد وقع في طريق الشيطان المتشعّبة عن اليمين والشمال، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام/153]" اهـ.
ومن هنا يعلم أن المشبهة المجسمة تائهون في المعتقد لأنهم خالفوا الشرع والعقل بقولهم إن الله جالس على العرش، وتارة يقولون إنه مستقر عليه، ومنهم من يقول إن الله ترك مكانًا يجلس فيه معه محمدًا يوم القيامة، وبقولهم إن الله متحيز في مكان فوق العرش بذاته، وبقولهم إن الله يتحرك كل ليلة بنزوله من العرش إلى السماء الدنيا، حتى إن بعض هؤلاء قال: إن الله يضع رجله في جهنم لكنها لا تحترق والعياذ بالله تعالى، وغيرِ ذلك من أقوالهم التي تدل على التشبيه والتجسيم لقياسهم الخالق على المخلوق، واتباعهم الوهم.
فنحمد الله تعالى الذي جعلنا على منهج أهل السنة والجماعة الذين تكلموا في أمور التوحيد من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله، وعلى صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الأول في تعريف المكان والجهة
1ـ عَرَّف المكان جمعٌ من اللغويين وأهل العلم، ونقتصر على ذكر البعض، فقد قال اللغوي أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (502هـ) ما نصه: "المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشىء" اهـ.
2ـ وقال اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزءابادي صاحب القاموس (817هـ) ما نصه: "المكان: الموضع، ج: أمكنة وأماكن" اهـ.
3 ـ وقال العلامة كمال الدين أحمد بن حسن البَياضي الحنفي (1098هـ) ما نصه: "المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم" اهـ.
4 ـ وقال الشيخ يوسف بن سعيد الصفتي المالكي (1193هـ) ما نصه: "قال أهل السُّنة: المكان هو الفراغ الذي يحُلُّ فيه الجسم" اهـ.
5 ـ وقال الحافظ المحدّث الفقيه اللغوي الحنفي السيد مرتضى الزبيدي (1205هـ) ما نصه: "المكان: الموضع الحاوي للشىء" اهـ.
6 ـ وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (1376هـ) ما نصه: "المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره، والجهة هي ذلك المكان" اهـ.
7 ـ وقال الشيخ المحدث الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحَبشي رَحِمَهُ الله ما نصه: "المكان هو ما يأخذه الحجم من الفراغ" اهـ.
فهذا النقل عن اللغويين وأهل العلم لبيان معنى المكان دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى موجودٌ بلا مكان، وأن الله لا يسكن العرش ولا يسكن السماء، لأن القرءان نزل بلغة العرب كما قال الله عزّ وجلّ في القرءان الكريم: {بلسان عربيّ مبين} [سورة الشعراء/195] والنبي أعلم الناس بلغة العرب، فبطل بذلك تمسك المشبهة المجسمة بظواهر بعض الآيات والأحاديث المتشابهة التي ظاهرها يوهم أن لله مكانًا، فمثل هذه النصوص لا تُحمل على الظاهر باتفاق علماء السلف والخلف لاعتقادهم بأن الله تبارك وتعالى يستحيل عليه المكان كما هو ثابت بالقرءان والحديث والإجماع وكلام اللغويين وغيرهم.
وبعد هذا البيان يتبيَّن لك أن الله تعالى ليس في مكان من الأماكن العلوية والسفلية وإلا لكان المكان حاويًا لله تعالى، ومن كان المكانُ حاويًا له كان ذا مقدار وحجم، وهذا من صفات الأجسام والمخلوقين، واتصاف الله تعالى بصفة من صفات البشر محال على الله، وما أدى إلى المحال فهو محال، فثبت صحة معتقد أهل السُّنة الذين ينزّهون اللهَ عن المكان والجهة.
أما موضوع الجهة فإن مجسمة هذا العصر يعمدون إلى التمويه على الناس فيقولون: "الله موجود في جهة ما وراء العالم"، فلبيان الحق من الباطل نبيّن معنى الجهة من أقوال العلماء من فقهاء ومحدثين ولغويين وغيرهم.
8 ـ قال اللغوي الشيخ محمد بن مكرّم الإفريقي المصري المعروف بابن منظور، كان عارفًا بالنحو واللغة والأدب (711هـ) ما نصه: "والجِهةُ والوِجْهةُ جميعًا: الموضع الذي تتوجه إليه وتقصده" اهـ.
9 ـ وقال الشيخ مصطفى بن محمد الرومي الحنفي المعروف بالكستلي (901هـ) ما نصه: "قد يطلق الجهة ويراد بها منتهى الإشارات الحِسيّة أو الحركات المستقيمة فيكون عبارة عن نهاية البُعد الذي هو المكان، ومعنى كون الجسم في جهة أنه متمكّن في مكان يلي تلك الجهة، وقد يُسمى المكان الذي يلي جهة ما باسمها كما يقال فوق الأرض وتحتها، فيكون الجهة عبارة عن نفس المكان باعتبار إضافة ما" اهـ.
10ـ وقال اللغويُّ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزءابادي (817هـ) ما نصه: "والجهة: الناحية، ج: جهات" انتهى باختصار.
11ـ وقال العلاّمة كمال الدين أحمد بن حسن المعروف بالبياضي، وكان وَلِيَ قضاء حلب (1098هـ) ما نصه: "والجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسمانيّ، وكل ذلك مستحيل ـ أي على الله ـ" اهـ.
12ـ وقال الشيخ عبد الغني النابلسي (1143هـ) ما نصه: "والجهة عند المتكلمين هي نفس المكان باعتبار إضافة جسم ءاخر إليه" اهـ.
13ـ وقال الشيخ سلامة القضاعي الشافعي (1376هـ) ما نصه: "واعلم أن بين المقدرات من الجواهر التي هي الأجسام فما دونها وبين المكان والجهة لزومًا بَيّنًا، وهو ما لا يحتاج عند العقلاء إلى دليل، فإن المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره، والجهة هي ذلك المكان لكن بقيد نسبته إلى جزء خاص من شىء ءاخر" اهـ.
14ـ وقال الشيخ العلامة المحدّث الفقيه عبد الله الهرري الشافعي الأشعري المعروف بالحَبَشي ما نصه: "وإذا لم يكن ـ الله ـ في مكان لم يكن في جهة، لا عُلْوٍ ولا سُفلٍ ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء" اهـ.
الباب الثاني الدليل على تنزيه الله عن المكان والجهة من القرءان
1 ـ قال الله تعالى :{ليس كمثلِه شىء} [سورة الشورى/11]، أي أن الله تعالى لا يشبه شيئًا من خلقه بوجه من الوجوه، ففي هذه الآية نفي المشابهة والمماثلة، فلا يحتاج إلى مكان يحُل فيه ولا إلى جهة يتحيز فيها، بل الأمر كما قال سيدنا عليّ رضي الله عنه: "كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان" رواه أبو منصور البغدادي. وفي هذه الآية دليلٌ لأهل السنة على مخالفة الله للحوادث، ومعْنى مُخالفةِ الله للحوادِثِ أنّه لا يُشْبِهُ المخْلُوقاتِ، وهذِه الصِّفةُ من الصِّفاتِ السّلْبِيّةِ الخمْسةِ أي التي تدُلُّ على نفْي ما لا يلِيْقُ بالله.
والدّلِيْلُ العقْلِيُّ على ذلِك أنّهُ لو كان يُشْبِهُ شيْئًا مِنْ خلْقِه لجاز عليْهِ ما يجُوزُ على الخلْق مِن التّغيُّرِ والتّطوُّرِ، ولو جاز عليْهِ ذلِك لاحْتاج إلى منْ يُغيّرُهُ والمُحْتاجُ إلى غيْرِه لا يكُونُ إِلهًا، فثبت لهُ أنّهُ لا يُشْبِهُ شيئًا.
والبُرْهانُ النّقْلِيُّ لِوُجُوْبِ مُخالفتِهِ تعالى لِلْحوادِثِ قوله تعالى :{ليس كمثله شىء} وهُو أوْضحُ دلِيْلٍ نقْلِيّ في ذلِك جاء في القُرءانِ، لأنّ هذِهِ الآية تُفْهِمُ التّنْزِيْه الكُلِّيّ لأنّ الله تبارك وتعالى ذكر فِيْها لفْظ شىءٍ في سِياقِ النّفْي، والنّكِرةُ إِذا أُوْرِدت في سِياقِ النّفْي فهِي للشُّمُوْلِ، فالله تبارك وتعالى نفى بِهذِهِ الجُمْلةِ عنْ نفْسِهِ مُشابهة الأجْرامِ والأجْسامِ والأعراضِ، فهُو تبارك وتعالى كما لا يُشْبِهُ ذوِي الأرواحِ مِنْ إِنسٍ وجِنّ وملائِكةٍ وغيْرِهِم، لا يُشْبِهُ الجماداتِ من الأجرامِ العُلْوِيّةِ والسُّفْلِيّةِ أيضًا، فالله تبارك وتعالى لم يُقيّد نفْي الشّبهِ عنْهُ بنوْعٍ منْ أنْواعِ الحوادِثِ، بل شمل نفْيُ مُشابهتِهِ لِكُلّ أفْرادِ الحادِثاتِ، ويشْملُ نفْيُ مُشابهةِ الله لخلْقِه تنْزِيْهه تعالى عن المكان والجهة والكميّة والكيْفِيّةِ، فالكمّيّةُ هِي مِقْدارُ الجِرمِ، فهُو تبارك وتعالى ليْس كالجِرمِ الذي يدْخُلُهُ المِقْدارُ والمِساحةُ والحدُّ، فهُو ليْس بِمحْدُودٍ ذِي مِقْدارٍ ومسافةٍ.
فلو كان الله فوق العرشِ بذاتِهِ كما يقولُ المشبِّهةُ لكان محاذيًا للعرشِ، ومِنْ ضرورةِ المُحاذِي أنْ يكون أكبر مِن المحاذى أو أصغر أو مثله، وأنّ هذا ومثله إنما يكونُ في الأجسامِ التي تقبلُ المِقدار والمساحة والحدّ، وهذا مُحالٌ على الله تعالى، وما أدّى إلى المُحالِ فهو محالٌ، وبطل قولُهُم إن الله متحيّزٌ فوق العرشِ بذاتهِ. ومنْ قال في الله تعالى إِنّ لهُ حدًّا فقدْ شبّههُ بخلْقِهِ لأنّ ذلِك يُنافي الألُوهِيّة، والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ لاحتاج إِلى منْ جعلهُ بذلِك الحدّ والمِقْدارِ كما تحتاجُ الأجْرامُ إِلى منْ جعلها بحدُوْدِها ومقادِيْرِها لأنّ الشّىء لا يخْلُقُ نفْسه بمِقْدارِه، فالله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقْدارٍ كالأجْرامِ لاحْتاج إلى منْ جعلهُ بذلك الحدّ لأنّه لا يصِحُّ في العقْلِ أنْ يكُون هُو جعل نفْسه بذلِك الحدّ، والمُحْتاجُ إِلى غيْرِهِ لا يكُونُ إِلهًا، لأنّ مِنْ شرْطِ الإلهِ الاسْتِغْناء عنْ كُلّ شىءٍ.
2ـ قال الله تعالى :{وللهِ المثَلُ الأعلى} [سورة النحل/60] أي الوصف الذي لا يشبه وصف غيره، فلا يوصف ربنا عزَّ وجلَّ بصفات المخلوقين من التغيّر والتطور والحلول في الأماكن والسُّكْنى فوق العرش، تعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا. قال المفسِّر اللغوي أبو حيان الأندلسي في تفسيره: "{وللهِ المثَلُ الأعلى} أي الصفة العليا من تنزيهه تعالى عن الولد والصاحبة وجميع ما تنسب الكفرةُ إليه مما لا يليق به تعالى كالتشبيه والانتقال وظهوره تعالى في صورة" اهـ.
3ـ ومما يدل على ما قدمنا قول الله تعالى :{فلا تضربوا للهِ الأمثال} [سورة النحل/74]، أي لا تجعلوا لله الشبيهَ والمِثْل فإن اللهَ تعالى لا شبيه له ولا مثيل له، فلا ذاتُه يشبه الذواتِ ولا صفاتُه تشبه الصفاتِ.
4ـ وقال الله تعالى :{هل تعلمُ لهُ سميًّا} [سورة مريم/65] أي مِثلاً، فالله تعالى لا مِثْلَ له ولا شبيه ولا نظير، فمن وصفه بصفة من صفات البشر كالقعود والقيام والجلوس والاستقرار يكون شَبَّهَهُ بهم، ومن قال بأن الله يسكن العرش أو أنه ملأه يكون شبّه اللهَ بالملائكة سُكّان السّموات. وهذا الاعتقاد كفر والعياذ بالله تعالى لتكذيبه قول الله: {ليس كمثله شىء} [سورة الشورى/11]، وقول الله تعالى :{هل تعلمُ له سميًّا} [سورة مريم/65].
5ـ وكذلك مما يدل على تنزيهه تعالى عن المكان قول الله تعالى :{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [سورة الحديد/3] قال الطبري في تفسيره: "فلا شىء أقرب إلى شىء منه، كما قال :{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق/16]" اهـ. أي أن الطبري نفى القُرْبَ الحِسِّي الذي تقول به المجسمةُ، أما القرب المعنوي فلا يَنفيه، وهذا دليل على تنزيه الله عن المكان والجهة.
فالله تعالى هو الأول أي الأزلي الذي لا ابتداء لوجوده، كان ولم يكن مكانٌ ولا زمان ثم خلق الأماكنَ والأزمنة ولا يزال موجودًا بلا مكان، ولا يطرأ عليه تغيّر لا في ذاته ولا في صفاته.
6ـ وقال الله تعالى :{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص/4] أي لا نظير له بوجه من الوجوه، وهذه الآية قد فسَّرتها ءاية الشورى :{ليس كمثله شىء}.
7ـ وقال الله تعالى :{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [سورة البقرة/115] قال المفسّر اللغوي الشيخ أبو حيان الأندلسي ما نصه: "وفي قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [سورة البقرة/115] ردٌّ على من يقول إنه في حيِّز وجهة، لأنه لمّا خيَّر في استقبال جميع الجهات دلَّ على أنه ليس في جهة ولا حيِّز، ولو كان في حيِّزٍ لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن، فحيث لم يُخصِّص مكانًا علِمْنا أنه لا في جهة ولا حيِّز، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه، فأيّ جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره" اهـ
الباب الثالث الدليل على تنزيه الله عن المكان والجهة من الحديث
اعلم أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تتضمن تنزيه الله عن المكان والجهة، وقد استدل بها العلماء لتقرير هذه العقيدة السُّنيّة، نذكر منها:
1ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"كان الله ولم يكن شىءٌ غيره" رواه البخاري والبيهقي.
ومعناه أن الله لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيرُه لا ماءٌ ولا هواءٌ ولا أرضٌ ولا سماءٌ ولا كرسيٌّ ولا عرشٌ ولا إنسٌ ولا جنٌّ ولا ملائكةٌ ولا زمانٌ ولا مكانٌ، فهو تعالى موجودٌ قبل المكان بلا مكان، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه.
والله تعالى لا يوصف بالتغيّر من حالة إلى أخرى لأن التغيّر من صفات المخلوقين، فلا يقال كما تقول المشبّهة إن الله كان في الأزل ولا مكان ثم بعد أن خلق المكان صار هو في مكان وجهة فوق والعياذ بالله تعالى. وما أحسن قول المسلمين المنزهين في لبنان: "سبحان الذي يُغيِّر ولا يتغيَّر"، وهذه عبارة سليمة عند أهل السنة، غير أن المشبهة المجسمة أدعياء السلفية تشمئز نفوسهم منها لأنها تهدم عليهم عقيدة التشبيه.
2ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنت الأوَّلُ فليس قبلَك شىءٌ، وأنت الآخِر فليس بعدَك شىءٌ، وأنت الظاهرُ فليس فوقَكَ شىءٌ، وأنت الباطن فليس دونَك شىءٌ" رواه مسلم.
قال الحافظ البيهقي الشافعي الأشعري ما نصه: "استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه ـ أي عن الله ـ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الظاهر فليس فوقك شىء، وأنت الباطن فليس دونك شىء"، وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان" اهـ كلام البيهقي.
أما ما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أنكم دَلَّيْتُم رجُلاً بحبلٍ إلى الأرض السفلى لهبط على الله" رواه الترمذي، هو حديث ضعيف، لكن تأوَّله علماء الحديث على أن علم الله شامل لجميع الأقطار وأنه منزه عن المكان، فالشاهد هو في استدلال العلماء به على نفي المكان عن الله، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "معناه أن علم الله يشمل جميع الأقطار، فالتقدير لهبط على علم الله، والله سبحانه وتعالى تنزه عن الحلول في الأماكن، فالله سبحانه وتعالى كان قبل أن تحدث الأماكن" اهـ، نقله عنه تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه "المقاصد الحسنة"، وذكره أيضًا الحافظ المحدِّث المؤرخ محمد بن طولون الحنفي وأقرَّه عليه.
وقال الحافظ المحدّث أبو بكر البيهقي الشافعي الأشعري بعد أن ذكر هذه الروايةَ ما نصه: "والذي رُويَ في ءاخر هذا الحديث إشارةٌ إلى نفي المكان عن الله تعالى، وأن العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء، وأنه "الظاهر" فيصح إدراكه بالأدلة، "الباطن" فلا يصح إدراكه بالكون في مكان" اهـ.
وكذلك استدل به أبو بكر بن العربي المالكي في شرحه على سنن الترمذي على أن الله موجود بلا مكان، فقال ما نصه: "والمقصود من الخبر أن نسبة البارىء من الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته" اهـ. أي أن الله منزه عن الجهة فلا يسكن فوق العرش كما تقول المجسمة، ولا هو بجهة أسفل، لأن الله تعالى كان قبل الجهات الست، ومن استحال عليه الجهةُ استحال عليه المكانُ، فالله تعالى لا يحُل في شىء ولا يشبه شيئًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
3ـ ومن الأحاديث الدالة على تنزيه الله عن الجهة، ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"أقربُ ما يكونُ العبدُ مِن ربّه وهو ساجد، فأكثروا الدُّعاء".
قال الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي :"قال البدر بن الصاحب في تذكرته: في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى".
4ـ ويدل أيضًا على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"ما ينبغي لعبدٍ أن يقول: إني خيرٌ من يونس بن متَّى" اهـ. واللفظ للبخاري.
قال الحافظ المحدِّث الفقيه الحنفي مرتضى الزبيدي ما نصه: "ذَكر الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن المُنَيِّر الإسكندري المالكي في كتابه "المنتقى في شرف المصطفى" لما تكلم على الجهة وقرر نفيَها قال: ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التنزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رفع إلى العرش ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحقّ جل جلاله نسبة واحدة، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفضل وَلمَا نهى عن ذلك. ثم أخذ الإمام ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة لا بالمكان، هكذا نقله السبكي في رسالة الرد على ابن زفيل" اهـ.
وابن زفيل هو ابن قيم الجوزية المبتدع تلميذ الفيلسوف المجسم ابن تيمية الذي قال مؤيدًا لعقيدة متأخري الفلاسفة: إن الله لم يخلق نوع العالم، وهذا كفرٌ بإجماع المسلمين كما ذكر العلاَّمة الشيخ بدر الدين الزركشي في كتابه "تشنيف المسامع".
وقال المفسّر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره ما نصه: "قال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضّلوني على يونس بن متى" المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه وهو في قعر البحر في بطن الحوت، وهذا يدل على أن البارىءَ سبحانه وتعالى ليس في جهة" اهـ.
5ـ قال العلامة المحدّث الفقيه عبد الله الهرري ما نصه: "ومما استدل به أهل السنة على أن العروج بالنبي إلى ذلك المستوى (الذي لمّا وصل إليه سمع كلام الله) لم يكن لأن الله تعالى متحيزٌ في تلك الجهة: أن موسى لم يسمع كلامه وهو عارجٌ في السموات إلى محل كالمحل الذي وصل إليه الرسول محمد، بل سمع وهو في الطور، والطور من هذه الأرض؛ فيُعلَمُ من هذا أن الله موجودٌ بلا مكان، وأن سماع كلامه ليس مشروطًا بالمكان، وأن صفاته ليست متحيزة بالمكان؛ جعل سماع محمد لكلامه الأزلي الأبدي في وقت كان فيه محمد في مستوى فوق السموات السبع حيث يعلمُ الله، وموسى كان سماعُه في الطور، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم صار مشرفًا بجميع أقسام التكليم الإِلهيّ المذكور في تلك الآية، ولم يجتمع هذا لنبي سواه" اهـ.
6ـ ومما يدل أيضًا على تنزيهه تعالى عن الجهة ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كَفَّيْه إلى السماء" اهـ. أي أن النبي جعل بطون كفَّيْه إلى جهة الأرض، وفي ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل ليس متحيّزًا في جهة العلو كما أنه ليس في جهة السُّفل.
الباب الرابع الدليل على تنزيه الله عن المكان والجهة من الإجماع
اعلم أن المسلمين اتفقوا على أن الله تعالى لا يحلُّ في مكان، ولا يحويه مكان ولا يسكن السماء ولا يسكن العرش، لأن الله تعالى موجود قبل العرش وقبل السماء وقبل المكان، ويستحيل على الله التغيّر من حال إلى حال ومن صفة إلى صفة أخرى، فهو تبارك وتعالى كان موجودًا في الأزل بلا مكان، وبعد أن خلق المكان لا يزال موجودًا بلا مكان. وما سنذكره في هذا البحث بمشيئة الله تعالى وعونه وتوفيقه من أقوالٍ في تنزيه الله عن المكان لأعلام ظهروا على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمن منذ الصدر الأول أي منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا يُعْتَبَرُ من أقوى الأدلة على رسوخ هذه العقيدة وثبوتها في نفوس المسلمين سلفًا وخلفًا.
ليُعلم أن أهل الحديث والفقه والتفسير واللغة والنحو وعلماء الأصول، وعلماء المذاهب الأربعة من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة ـ إلا من لحق منهم بأهل التجسيم ـ والصوفية الصادقين كلهم على عقيدة تنزيه الله عن المكان، إلا أن المشبهة ومنهم نفاة التوسل شذّوا عن هذه العقيدة الحقة فقالوا إن الله يسكن فوق العرش بذاته والعياذ بالله تعالى.
1ـ وممن نقل إجماع أهل الحق على تنزيه الله عن المكان الشيخ عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي (429هـ)، فقد قال ما نصه: "وأجمعوا ـ أي أهل السنة والجماعة ـ على أنه ـ أي الله ـ لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان" اهـ.
2ـ وقال الشيخ إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجُويني الشافعي (478هـ) ما نصه: "ومذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيّز والتخصص بالجهات" اهـ.
3ـ وقال المفسّر الشيخ فخر الدين الرازي (606هـ) ما نصه: "إنعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيّز" اهـ.
4ـ وقال الشيخ إسماعيل الشيباني الحنفي (629هـ) ما نصه: "قال أهل الحق: إن الله تعالى متعالٍ عن المكان، غيرُ متمكِّنٍ في مكان، ولا متحيز إلى جهة خلافًا للكرّامية والمجسمة" اهـ.
5ـ وقال سيف الدين الآمدي (631هـ) ما نصه: "وما يُروى عن السلف من ألفاظ يوهم ظاهرها إثبات الجهة والمكان فهو محمول على هذا الذي ذكرنا من امتناعهم عن إجرائها على ظواهرها والإيمان بتنزيلها وتلاوة كل ءاية على ما ذكرنا عنهم، وبيَّن السلف الاختلاف في الألفاظ التي يطلقون فيها، كل ذلك اختلاف منهم في العبارة، مع اتفاقهم جميعًا في المعنى أنه تعالى ليس بمتمكن في مكان ولا متحيّز بجهة" اهـ.
وللشيخ ابن جَهْبَل الحلبي الشافعي (733هـ) رسالة ألَّفَها في نفي الجهة ردَّ بها على المجسم الفيلسوف ابن تيمية الحرَّاني الذي سَفَّه عقيدة أهل السنة، وطعن بأكابر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كعمر وعليّ رضي الله عنهما.
6ـ قال ابن جَهْبَل ما نصه: "وها نحن نذكر عقيدة أهل السنة، فنقول: عقيدتنا أن الله قديم أزليٌّ، لا يُشبِهُ شيئًا ولا يشبهه شىء، ليس له جهة ولا مكان" اهـ.
7ـ نقل الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي الأشعري (771هـ) عن الشيخ فخر الدين بن عساكر أنه قال: "إن الله تعالى موجود قبل الخلق ليس له قَبْلٌ ولا بَعْدٌ، ولا فوقٌ ولا تحتٌ، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خَلْفٌ". ثم قال ابن السبكي بعد أن ذكر هذه العقيدة ما نصه: "هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سُنّي" اهـ.
8ـ ووافقه على ذلك الحافظ المحدّث صلاح الدين العلائي (761هـ) أحَد أكابر علماء الحديث فقال ما نصه: "وهذه "العقيدة المرشدة" جرى قائلها على المنهاج القويم، والعَقْد المستقيم، وأصاب فيما نزَّه به العليَّ العظيم" اهـ.
9ـ قال الشيخ محمد مَيَّارة المالكي (1072هـ) ما نصه: "أجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له، فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف" اهـ.
10ـ وقال شيخ الجامع الأزهر سليم البِشْري (1335هـ) ما نصه: "مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السُّنّيون أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في جميع سمات الحدوث ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان" اهـ، ذكره القضاعي في "فرقان القرءان".
11ـ وقال الشيخ يوسف الدجوي المصري (1365هـ) عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في مصر ما نصه :"واعلم أن السلف قائلون باستحالة العلو المكاني عليه تعالى، خلافًا لبعض الجهلة الذين يخبطون خبط عشواء في هذا المقام، فإن السلف والخلف متفقان على التنزيه" اهـ.
12ـ وقال أيضًا: "هذا إجماع من السلف والخلف" اهـ.
13ـ وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (1376هـ) ما نصه: "أجمع أهل الحق من علماء السلف والخلف على تنزه الحق ـ سبحانه ـ عن الجهة وتقدسه عن المكان" اهـ.
14ـ وقال المحدث الشيخ محمد عربي التبان المالكي المدرس بمدرسة الفلاح وبالمسجد المكي (1390هـ) ما نصه: "اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة وغيرهم على أن الله تبارك وتعالى منزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته" اهـ.
15ـ وممن نقل الإجماع على ذلك في مواضع كثيرة من مؤلفاته ودروسه المتكلم على لسان السلف الصالح العلامة الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحَبَشي وله عناية شديدة بتعليم عقيدة أهل السنة والجماعة للناس فقال ما نصه: "قال أهل الحق نصرهم الله: إن الله سبحانه وتعالى ليس في جهة" اهـ، فالحمد لله على ذلك.
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الأهواء بقوله :"وإنه سيخرج من أمتي أقوامٌ تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرقٌ ولا مفصلٌ إلا دخله" رواه أبو داود. فالحمد لله الذي جعل لنا من يبيِّن عقيدة أهل السنة ويدافع عنها. وتمسك أخي المسلم بهذه العقيدة التي عليها مئات الملايين من المسلمين، والحمد لله على توفيقه.اهـ.
الباب الخامس الدّليل العقلي على تنزيه الله عن المكان والجهة
الجزء الثَّاني
4ـ وقال الشيخ أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم المعروف بابن القشيري (514هـ) عند بيان جواز تأويل الاستواء بالقهر ما نصه (إتحاف السادة المتقين للزبيدي ج2/108-109) :"ولو أشْعر ما قلنا توهم غلبته لأشْعر قوله:{وهو القاهر فوق عباده} [سورة الأنعام/61] بذلك أيضًا حتى يقال كان مقهورًا قبلَ خلقِ العباد، هيهاتَ، إذ لم يكن للعباد وجودٌ قبلَ خلقِه إيّاهم، بل لو كان الأمر على ما توهمَه الجهلةُ مِنْ أنه استواءٌ بالذاتِ لأشعر ذلك بالتغيُّر واعوجاج سابقٍ على وقتِ الاستواء، فإن البارىء تعالى كان موجودًا قبلَ العرش.
ومَنْ أنصفَ عَلِمَ أنّ قولَ مَن يقول: العرشُ بالربِّ استوى أمثلُ مِن قول مَن يقول: الربُّ بالعرشِ استوى، فالربُّ إذًا موصوفٌ بالعُلُو وفوقية الرتبةِ والعظمةِ منزهٌ عن الكون في المكان وعن المحاذاة" اهـ. ثم قال: "وقد نَبَغَت نابغةٌ من الرَّعاعِ لولا استنزالُهم للعوامِ بما يقربُ مِن أفهامهم ويُتصوّرُ في أوهامِهم لأَجْلَلْتُ هذا المكتوب عن تلطيخه بذكرهم. يقولون: نحن نأخذُ بالظاهر ونجري الآياتِ الموهمةَ تشبيهًا والأخبارَ المقتضية حدًّا وعُضوًا على الظاهر ولا يجوز أن نطرقَ التأويلَ إلى شىء مِن ذلك، ويتمسكون بقول الله تعالى: {وما يعلم تأويلَه إلا الله} [سورة ءال عمران/7]. وهؤلاء والذي أرواحنا بيده أضَرُّ على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وعَبَدةِ الأوثانِ، لأن ضلالاتِ الكفارِ ظاهرةٌ يَتَجَنَّبُها المسلمون، وهؤلاء أَتَوا الدينَ والعوامَّ مِن طريقٍ يَغْتَرُّ به المُسْتَضعفُون، فأَوْحَوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأَحَلُّوا في قلوبهم وصفَ المعبودِ سبحانَه بالأعضاء والجوارح والركوب والنزول والاتكاء والاستلقاءِ والاستواء بالذات والترددِ في الجهات، فمن أَصْغى إلى ظاهرهم يبادرُ بوهمِه إلى تخيّلِ المحسوسات فاعتقدَ الفضائحَ فسالَ به السيلُ وهو لا يَدْري" اهـ.
5ـ وقد نص الإمام المحدث الحافظ المفسر عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي (597هـ) على نفي التحيز في المكان والاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق عن الله تعالى، وردّ في كتابه "الباز الأشهب" على ابن الزاغوني المجسم الذي قال: "فلما قال ـ تعالى ـ {ثمّ استوى} [سورة الأعراف/54] علمنا اختصاصه بتلك الجهة"، وقال ابن الزاغوني أيضا والعياذ بالله :"ولا بد أن يكون لذاته نهايةٌ وغاية يعلمها" قال ابن الجوزي ما نصه :"قلتُ: هذا رجلٌ لا يدري ما يقول، لأنه إذا قَدّر غايةً وفصلاً بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقر بأنه جسم وهو يقول في كتابه إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما يتحيز، ثم يثبت له مكانًا يتحيز فيه.
قلت: ـ أي ابن الجوزي ـ وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه، فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يُقابَل ويحاذَى، ومن ضرورة المحاذِي أن يكون أكبر من المحاذَى أو أصغر أو مثله، وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام، وكلّ ما يحاذِي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المماسةَ والمباينة، فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدوثه، وإن منعوا هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدوث الجواهر، ومتى قدّرنا مستغنيًا عن المحل ومحتاجًا إلى الحيز، ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالاً، فإن التجاور والتباينَ من لوازم التّحيز في المتحيّزات.
وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز، لأنه لو كان متحيزًا لم يخل إما أن يكون ساكنًا في حيّزهِ أو متحركًا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاورَ أو باين فقد تناهى ذاتًا والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصِّصًا، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخلٍ في العالم وليس بخارجٍ منه، لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختصُّ بالأجرام.
وأما قولهم خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها قلنا: ذاته المقدس لا يَقبل أن يُخلَق فيه شىء ولا أن يحل فيه شىء، وقد حملهم الحِسُّ على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم إنما ذكَر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضًا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم، ويَعِزُّ علينا كيف يُنْسَبُ هذا القائل إلى مذهبنا. واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر/10] وبقوله:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام/18] وجعلوا ذلك فوقية حسيّة ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان، ثم إنه كما قال تعالى:{فوق عباده} قال تعالى :{وهو معكم}، فمن حملها على العلم حمل خصمُه الاستواء على القهر، وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه وقد ملأهُ والأشْبَه أنه مماس للعرش والكرسي موضِعُ قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين وما أبقى هذا في التجسيم بقية" انتهى كلام الحافظ ابن الجوزي ولقد أجاد وشفى وكفى.
6ـ وقال المفسّر فخر الدين الرازي (606هـ) ما نصه: "فلو كان علوّ الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلوّ لله تعالى صفة ذاتية، ولكان حصول هذا العلوّ لله تعالى حصولاً بتبعية حصوله في المكان، فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى، فيكون علو الله ناقصًا وعلوّ غيره كاملا وذلك محال" اهـ.
7ـ وقال أيضًا عند تفسير ءاية :{الرحمنُ على العرشِ استوى} [سورة طه/5] ما نصه :"المسألة الثانية: المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه:
أحدها: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان، ولما خلق الخلق لم يحتجْ إلى مكان بل كان غنيًّا عنه، فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن يزعُمَ زاعم أنه لم يزل مع الله عرش.
وثانيها: أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش، فيكون في نفسه مؤلَّفًا مركَّبًا، وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلِّف والمركِّب، وذلك محال.
وثالثها: أن الجالس على العرش إما أن يكون متمكنًا من الانتقال والحركة أو لا يُمْكِنُه ذلك، فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون مُحْدَثًا لا محالة، وإن كان الثاني كان كالمربوط بل كان كالزَّمِن بل أسوأ حالاً منه، فإن الزَّمِنَ إذا شاء الحركة في رأسه وحدقته أمكنه ذلك وهو غير ممكن على معبودهم.
ورابعها: هو أن معبودهم إما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان، فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل، وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصِّصه بذلك المكان فيكون محتاجًا وهو على الله محال" اهـ.
الباب الخامس الدّليل العقلي على تنزيه الله عن المكان والجهة
الجزء الثَّالِث
8ـ وقال سيف الدين الآمدي (631هـ) في كتابه "غاية المرام" ما نصه: "فإن قيل ما نشاهده منَ الموجودات ليس إلا أجسامًا وأعراضًا، وإثبات قسم ثالث مما لا نعقِله، وإذا كانت الموجودات منحصرة فيما ذكرناه فلا جائز أن يكون البارىء عرضًا لأن العرض مفتقِر إلى الجسم والبارىء لا يفتقِر إلى شىء، وإلا كان المفتقرُ إليه أشرفَ منه وهو محال، وإذا بطل أن يكون عرضًا بقي أن يكون جسمًا.
قلنا: منشأ الخبط ههنا إنما هو من الوهم لإعطاء الحق حكم الشاهد والحكم على غير المحسوس بما حكم به على المحسوس، وهو كاذب غير صادق، فإن الوهم قد يرتمي إلى أنه لا جسم إلا في مكان بناء على الشاهد، وإن شهد العقل بأن العالم لا في مكان لكَون البرهان قد دلَّ على نهايته، بل وقد يشتد وهم بعض الناس بحيث يقضي به على العقل، وذلك كمن ينفِر عن المبيت في بيت فيه ميت لتوهمه أنه يتحرك أو يقوم، وإن كان عقله يقضي بانتفاء ذلك، فإذًا اللبيب من ترك الوهم جانبًا ولم يتخذ غير البرهان والدليل صاحبًا. وإذا عرف أن مستند ذلك ليس إلا مجرد الوهم، فطريق كشف الخيال إنما هو بالنظر في البرهان فإنا قد بيَّنا أنه لا بد من موجودٍ هو مُبدىء الكائنات، وبيَّنا أنه لا جائز أن يكون له مثل من الموجودات شاهدًا ولا غائبًا، ومع تسليم هاتين القاعدتين يتبين أن ما يقضي به الوهم لا حاصل له. ثم لو لزم أن يكون جسمًا كما في الشاهد للزم أن يكون حادثًا كما في الشاهد وهو ممتنع لما سبق، وليس هو عرضًا وإلا لافتقر إلى مقوم يقومه لوجوده، إذ العرض لا معنى له إلا ما وجوده في موضوع، وذلك أيضًا محال" اهـ.
9ـ وقال أيضًا مبيِّنًا أن الله يستحيل عليه التحيّز في جهة من الجهات ما نصه: "لو كان في جهة لم يخل إما أن يكون في كل جهة أو في جهة واحدة، فإن كان في كل جهة فلا جهة لنا إلا والرب فيها، وهو محال، وإن كان في جهة مخصوصة، فإما أن يستحقها لذاته أو لمخصص، لا جائز أن يستحقها لذاته، إذ نسبة سائر الجهات إليه على وتيرة واحدة، فإذًا لا بد من مُخصصٍ، وإذ ذاك فالمحال لازم من وجهين:
الأول: أن المخصص إما أن يكون قديمًا أو حادثًا، فإن كان قديمًا لزم منه اجتماع قديمين وهو محال، وإن كان حادثًا استدعى في نفسه مخصصًا ءاخر، وذلك يفضي إلى التسلسل وهو ممتنع.
الوجه الثاني: هو أن الاختصاص بالجهة صفة للرب تعالى قائمة بذاته، أي على قول معتقد الجهة في الله، ولو افتقرت إلى مخصص لكانت في نفسها ممكنة، لأن كل ما افتقر في وجوده إلى غيره فهو باعتبار ذاته ممكن، وذلك يوجب كون البارىء ممكنًا بالنسبة إلى بعض جهاته، والواجب بذاته يجب أن يكون واجبًا من جميع جهاته" اهـ.
10ـ وقال السبكي الشافعي :"صانع العالم لا يكون في جهة لأنه لو كان في جهة لكان في مكان ضرورة أنها المكان أو المستلزمة له، ولو كان في مكان لكان متحيزًا ولو كان متحيزًا لكان مفتقِرًا إلى حيّزه ومكانه فلا يكون واجب الوجود وثبت أنه واجب الوجود وهذا خُلْفٌ، وأيضًا فلو كان في جهة فإما في كل الجهات وهو محال وشنيع، وإما في البعض فيلزم الاختصاص المستلزم للافتقار إلى المخصِّص المنافي للوجوب" اهـ أي الاحتياج إلى المخصِّص ينافي كونه واجب الوجود، فثبت استحالة الجهة والمكان على الله تعالى.
11ـ وقال العلامة البياضي الحنفي (1098هـ) في كتابه "إشارات المرام" ممزوجًا بالشرح ما نصه :"الخامس: ما أشار إليه ـ أبو حنيفة ـ (وقال في "الفقه الأبسط": كان الله تعالى ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخلق كان ولم يكن أين) أي مكان (ولا خلق ولا شىء و{هو خالق كل شىء} [سورة الأنعام/102]) مُوجِد له بعد العدم فلا يكون شىء من المكان والجهة قديمًا وفيه إشارات:
الأولى: الاستدلال بأنه تعالى لو كان في مكان وجهة لزم قدمهما، وأن يكون تعالى جسمًا، لأن المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم، والجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسماني، وكل ذلك مستحيل كما مر بيانه، وإليه أشار بقوله: "كان ولم يكن أين ولا خلق ولا شىء وهو خالق كل شىء". وبطل ما ظنه ابن تيمية منهم من قدم العرش كما في شرح العضدية.
الثانية: الجواب بأن لا يكون البارىء تعالى داخل العالم لامتناع أن يكون الخالق داخلاً في الأشياء المخلوقة، ولا خارجًا عنه بأن يكون في جهة منه لوجوده تعالى قبل خلق المخلوقات وتحقق الأمكنة والجهات، وإليه أشار بقوله:{هو خالق كل شىء} [سورة الأنعام/102] وهو خروج عن الموهوم دون المعقول" اهـ.
12ـ وقال الفقيه المتكلم المؤرخ الفخر ابن المعلم القرشي الدمشقي (725هـ) ما نصه: "قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر الأنصاري القرطبي: والذي يقتضي بطلان الجهة والمكان مع ما قررناه من كلام شيخنا وغيره من العلماء وجهان:
أحدهما: أن الجهة لو قدّرت لكان فيها نفيُ الكمال، وخالق الخلق مستغنٍ بكمال ذاته عمّا لا يكون به كاملاً.
والثاني: أن الجهة إما أن تكون قديمة أو حادثة، فإن كانت قديمة أدّى إلى مُحالين، أحدهما أن يكون مع البارىء في الأزل غيرُه، والقديمان ليس أحدهما بأن يكون مكانًا للثاني بأولى من الآخر، فافتقر إلى مخصِّصٍ يُنقَلُ الكلام إليه، وما يُفْضي إلى المحال محال" اهـ.
13ـ وقال الحافظ المحدّث اللغوي الفقيه السيد محمد مرتضى الزَّبيدي الحنفي (1205هـ) عند شرح كلام الغزالي: "الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه كون المتمكِّن جسمًا مماسًا للعرش: إما مثله أو أكبر منه أو أصغر، وذلك محال، وما يؤدي إلى المحال فهو محال" ما نصه: "وتحقيقه أنه تعالى لو استقر على مكان أو حاذى مكانًا لم يخل من أن يكون مثل المكان أو أكبر منه أو أصغر منه، فإن كان مثل المكان فهو إذًا متشكل بأشكال المكان حتى إذا كان المكان مربعًا كان هو مربعًا أو كان مثلَّثا كان هو مثلَّثا وذلك محال، وإن كان أكبر من المكان فبعضه على المكان، ويُشْعِرُ ذلك بأنه متجزىء وله كلٌّ ينطوي على بعض، وكان بحيث ينتسب إليه المكان بأنه ربعه أو خمسه، وإن كان أصغر من ذلك المكان بقدر لم يتميز عن ذلك المكان إلا بتحديد وتتطرق إليه المساحة والتقدير، وكل ما يؤدي إلى جواز التقدير على البارىء تعالى فتجوّزه في حقه كفر من معتقِدِه، وكل من جاز عليه الكون بذاته على محل لم يتميز عن ذلك المحل إلا بكون، وقبيح وصف البارىء بالكون، ومتى جاز عليه موازاة مكان أو مماسته جاز عليه مباينته، ومن جاز عليه المباينة والمماسة لم يكن إلا حادثًا، وهل علمنا حدوث العالم إلا بجواز المماسة والمباينة على أجزائه. وقصارى الجهلة قولهم: كيف يتصوّر موجود لا في محل؟ وهذه الكلمة تصدر عن بدع وغوائل لا يَعْرِفُ غورَها وقعرها إلا كلُّ غوّاص على بحار الحقائق، وهيهات طلب الكيفية حيث يستحيل محال.
والذي يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ أن يُقال لهم: قبلَ أن يَخْلُقَ العالم أو المكانَ هل كان موجودًا أم لا؟ فمِن ضرورة العقلِ أن يقول: بلى، فيلزمه لو صحَّ قولُه: لا يُعلمُ موجود إلا في مكان أَحَدُ أمرين: إما أن يقول: المكان والعرش والعالم قديم، وإما أن يقول: الربُّ تعالى محدَثٌ، وهذا مآلُ الجهلة والحشويةِ، ليس القديمُ بالمحدَثِ، والمُحدَثُ بالقديم. ونعوذ بالله من الحَيْرة في الدين" اهـ.
14ـ وقال ما نصه: "فإن قيل: نفيه عن الجهات الست إخبار عن عدمه إذ لا عدَم أشد تحقيقًا من نفي المذكور عن الجهات الست. قلتُ: النفي عن الجهات الست لا يكون ذلك إخبارًا عن عدم ما لو كان لكان في جهة من النافي لا نفي ما يستحيل أن يكون في جهة منه، ألا ترى أن من نفى نفسه عن الجهات الست لا يكون ذلك إخبارًا عن عدمه لأن نفسه ليست بجهة منه. وأما قول المعتزلة: القائمان بالذات يكون [كل] واحد منهما بجهة صاحبه لا محالة، فالجواب عنه: هذا على الإطلاق أم بشريطة أن يكون كل واحد منهما محدودًا متناهيًا؟ الأوّل ممنوع، والثاني مُسَلَّم، ولكن البارىء تعالى يستحيل أن يكون محدودًا متناهيًا.
(تنبيه) هذا المعتقد لا يخالف فيه بالتحقيق سُني لا محدِّث ولا فقيه ولا غيره ولا يجىء قط في الشرع على لسان نبي التصريح بلفظ الجهة، فالجهة بحسب التفسير المتقدم منفية معنًى ولفظًا وكيف لا والحق يقول:{ليس كمثله شىء} (سورة الشورى/11) ولو كان في جهة بذلك الاعتبار لكان له أمثال فضلاً عن مثل واحد" اهـ.
15ـ ومما قاله الشيخ العلامة المحدث عبد الله الهرري في إثبات تنزيه الله عن المكان ما نصه: "والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزمُ قدمُ الحيز، أو لا، فيكون محلاًّ للحوادث، وكلا ذلك مستحيل؛ وأيضًا إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهيًا، أو يزيد عليه فيكون متجزئًا. وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا عُلْوٍ ولا سفل ولا غيرهما، لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء. ثم إن بعض المجسمة إذا أُثبت لهم برهان وجوب تنزهه تعالى عن المكان يقول: "جهة العلو غير جهة السفل، جهة السفل نقص عليه يجب تنزيهه عنها، وأما جهة العلو فكمال ولا يدل العقل على نفيها عن الله."
فالجواب أن يقال لهم: الجهات كلها لا تقتضي الكمال في حد ذاتها، لأن الشأن ليس في علو المكان بل الشأن في علو القدر، بل قد يختص الشخص من البشر بالمكان العالي ومن هو أعلى منه قدرًا يكون في المكان المنخفض، ويحصل ذلك للسلاطين، فإن حرسهم يكونون في مكان عال وهم أسفل منهم، فلم يكن في علو الجهة وعلو المكان شأن. ثم الأنبياء مستقرهم في الدنيا: الأرض، وفي الآخرة: الجنة، وهم أعلى قدرًا من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيث الجهة، وكون مستقر أولئك حملة العرش فوق مستقر الأنبياء من حيث الجهة لم يكن دليلاً على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا يساوونهم" اهـ.
16ـ وقال أيضًا ما نصه:
"تنزيه الله عن المكان وتصحيح وجوده بلا مكانٍ عقلاً
والله تعالى غنيٌّ عن العالمين، أي مستغن عن كلّ ما سواه أزلا وأبدًا، فلا يحتاجُ إلى مكان يقومُ به أو شىء يحُلُّ به أو إلى جهة. ويكفي في تنزيه الله عن المكان والحيّز والجهة قوله تعالى:{ليس كمثله شىء} [سورة الشورى/11]، فلو كان له مكان لكان له أمثالٌ وأبعادٌ طولٌ وعرضٌ وعمقٌ، ومن كان كذلك كان محدَثًا محتاجًا لمن حدَّه بهذا الطول وبهذا العرض وبهذا العمق، هذا الدليل من القرءان.
أما من الحديث فما رواه البخاري وابن الجارود والبيهقي بالإسناد الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"كان الله ولم يكن شىء غيره"، ومعناه أن الله لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيرُهُ لا ماءٌ ولا هواءٌ ولا أرضٌ ولا سماءٌ ولا كرسيٌّ ولا عرش ولا إنسٌ ولا جنٌّ ولا ملائكةٌ ولا زمانٌ ولا مكانٌ، فهو تعالى موجودٌ قبل المكان بلا مكان، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه. وهذا ما يستفاد من الحديث المذكور.
وقال البيهقيُّ في كتابه "الأسماء والصفات" ما نصه: "استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم :"أنت الظاهرُ فليس فوقكَ شىءٌ وأنت الباطنُ فليس دونكَ شىءٌ"، وإذا لم يكنْ فوقَهُ شىءٌ ولا دونَهُ شىءٌ لم يكنْ في مكانٍ"اهـ. وهذا الحديثُ فيه الردُّ أيضًا على القائلينَ بالجهةِ في حقهِ تعالى. وَقَدْ قال عليٌّ رضي الله عنهُ :"كانَ الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كانَ". رواه أبو منصورٍ البغداديُّ.
وليس محور الاعتقاد على الوهم بل على ما يقتضيه العقلُ الصحيحُ السليمُ الذي هو شاهدٌ للشرع، وذلك أنَّ المحدودَ محتاجٌ إلى من حدَّه بذلك الحد فلا يكون إلهًا. فكما صحَّ وجودُ الله تعالى بلا مكانٍ وجهةٍ قبل خلقِ الأماكن والجهات فكذلك يصحُّ وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكانٍ وجهةٍ، وهذا لا يكون نفيًا لوجوده تعالى" انتهى كلام الشيخ الهرري.
17ـ وقال أيضًا في الرد على المشبهة المجسمة الذين يقولون بالعلو الحسي في حق الله ما نصه :"والعلو على وجهين: علو مكان، وعلو معنى أي علو قدر، والذي يليق بالله هو علو القدر لا علو المكان، لأنه لا شأن في علوّ المكان إنما الشأن في علو القدر، ألا ترون أن حملة العرش والحافين حوله هم أعلى مكانًا من سائر عباده وليسوا أفضل خلق الله، بل الأنبياء الذين مكانهم تحت أفضل منهم، ولو كان علو المكان يستلزم علو القدر لكان الكتاب الذي وضعه الله فوق العرش وكتب فيه: "إن رحمتي سبقت غضبي" مساويًا لله في الدرجة على قول أولئك ـ أي على قول من قال إن الله فوق العرش بذاته ـ، ولكان اللوح المحفوظ على قول بعض العلماء إنه فوق العرش ليس دونه، مساويًا لله في الدرجة بحسب ما يقتضيه زعمهم، فعلى هذا المعنى يحمل تفسير مجاهد لقول الله تعالى:{الرحمنُ على العرش استوى} [سورة طه/5] بعلا على العرش كما رواه البخاري" انتهى كلام الهرري، وهو نفيس جدًّا، فتمسك به تسلم من شبهات المجسمة المشبهة.
18ـ وقال أيضًا ما نصه: "ثم إن المتكلمين على لسان أهل السنة قالوا: الموجود ثلاثة أقسام موجود متحيز قائم بنفسه وهو الجواهر والأجسام وهي ما تركب من جوهرين فأكثر كالإنسان والحيوان والشجر والقمر والعرش والنور والريح ونحو ذلك، وموجود غير قائم بنفسه تابع للمتحيز وهو العرض كحركة الجوهر وسكونه وحرارته وبرودته وطعم الحلاوة وطعم المرارة، وموجود ليس بمتحيز ولا تابع لمتحيز وهو الله، والدليل النقلي على ذلك قوله تعالى:{ليس كمثله شىء} [سورة الشورى/11] لأنه لو كان كأحد القسمين الأولَين لكان له أمثال، وقد نفت هذه الآية مشابهة الله لغيره بوجه من الوجوه لأن كلمة {شىء} المذكورة في الآية وقعت نكرة في معرض النفي فهي للعموم لا للخصوص كما تدعي مُشَبّهة العصر الوهابية أن معناها أنه لا يشبه شيئًا من الأشياء التي نعرفها ليتوصلوا بهذا إلى إثبات عقيدتهم أن الله جرم متصل بالعرش، فكأنهم قالوا الله لا يشبه بعض الأشياء، ويشبه بعض الأشياء وكفاهم هذا إلحادًا." اهـ.
19ـ وقال أيضًا في تنزيهه تعالى عن الجهة ما نصه :"والله تعالى متنزه أيضًا عن الجهات والأماكن إذ الجهات والأماكن خَلْقُهُ أحدثها بعد أن لم تكن فلا يوصف تعالى بالفوقية بالحيز والمكان فلو كان فوق العالم بالحيز والمكان لكان محاذيًا له والمحاذي للجسم إمّا أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر منه مساحة، وما يقدّر بالمساحة محتاج لمن خصه بها والمحتاج حادث، ولو كان مُقَدَّرًا بالمِساحة لصحت الألُوهِيَّةُ للشمس ونحوها من الكواكب. وأمّا رفع الأيدي والوجوه إلى السماء عند الدعاء فلأنها قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصّلاة تستقبل بالصّدر، وفي رفع اليد والرأس إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والعظمة" اهـ.
20ـ وقال أيضًا في بيان الدليل العقلي على تنزيه الله عن الجهة ما نصه :"والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزمُ قدمُ الحيز، أوْ لا فيكون محلاًّ للحوادث وكلا ذلك مستحيل، وأيضًا إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهيًا أو يزيد عليه فيكون متجزئًا، وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا عُلْوٍ ولا سُفل ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء.
ثم إن بعض المجسمة إذا أُثبت لهم برهان وجوب تنزهه تعالى عن المكان يقول: جهة العلو غير جهة السفل، جهة السفل نقص عليه يجب تنزيهه عنها وأما جهة العلو فكمال ولا يدل العقل على نفيها عن الله".
فالجواب أن يقال لهم: الجهات كلها لا تقتضي الكمال في حد ذاتها، لأن الشأن ليس في علو المكان بل الشأن في علو القدر، بل قد يختص الشخص من البشر بالمكان العالي ومن هو أعلى منه قدرًا يكون في المكان المنخفض ويحصل ذلك للسلاطين فإن حرسهم يكونون في مكان عال وهم أسفلَ منهم فلم يكن في علو الجهة وعلو المكان شأن، ثم الأنبياء مستقرهم في الدنيا: الأرض وفي الآخرة: الجنة وهم أعلى قدرًا من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيث الجهة، وكون مستقر أولئك حملة العرش فوق مستقر الأنبياء من حيث الجهة لم يكن دليلاً على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا يساوونهم.
ثم الخلاء وهو هذا الفراغ عند أهل الحق يتناهى، ليس وراء العالم فراغ لا نهاية له فهو مستحيل، وكذلك القول بأن وراء العالم أجرامًا متواصلة بلا نهاية مستحيل أيضًا، وإن أهل الحق لا يثبتون هذا ولا يثبتون هذا، بل يقولون: وراء العالم لا يوجد فراغ لا متناه ولا أجرام لا متناهية، انتهت الأجسام والأعراض بانتهاء حد العالم، انتهى الخلاء والملاء. والملاء هو الجرم المتواصل" اهـ.
الباب السادس بيان أنه لا يَمتنع شرعًا ولا عقلاً أن يكون فوق العرش مكان
1
. يُشيع مجسمة هذا العصر أنه لا مكان فوق العرش إنما المكان تحت العرش فقط، فيقولون تمويهًا على الناس: الله فوق العرش بلا مكان، وأحيانًا يقولون الله فوق العرش حيث لا مكان، ومنهم من يقول "فوق العرش مكان عدمي فالله فوق العرش حيث المكان العدمي" على زعمهم، فهذا قول لا دليل عليه، لأنه لا يمتنع عقلاً ولا شرعًا أن يكون فوق العرش مكان.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لمّا قضى اللهُ الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي". وفي رواية عند البخاري (صحيح البخاري: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى :{ويحذّركم الله نفسه}) بلفظ :"وهو وَضْعٌ عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي"، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (فتح الباري 13/385) :"وضع: بفتح فسكون، أي موضوع، ووقع كذلك في "الجمع" للحُمَيْدِي بلفظ "موضوع" وهي رواية الإسماعيلي" اهـ.
* (أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى :{وهو الذي يبدؤ الخلق ثمّ يعيده} (سورة الروم/27)، ومسلم في صحيحه: كتاب التوبة: باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه)
وفي رواية عند ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 6/8/ص5) بلفظ :"وهو مرفوع فوق العرش" اهـ.
فلولا أن فوق العرش مكانًا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الكتاب: فهو موضوع عنده فوق العرش.
وأما تأويل البعض لكلمة فوق العرش بأن معناها دون العرش واحتجاجهم بأن فوق تأتي لغة بمعنى دون فهو مردود برواية ابن حبان لهذا الحديث بلفظ :"وهو مرفوع فوق العرش"، فبطل هذا التأويل لأن كلمة مرفوع تبطل ذلك إبطالاً صريحًا، ويُرد أيضًا برواية البخاري بلفظ :"وهو وَضْعٌ عنده على العرش". ويقال لهم: التأويل للنص لا يجوز إلا لضرورة اقتضاء الدليل العقلي لذلك أو اقتضاء الدليل النقليّ الثابت كما قرر ذلك الأصولييون، فقالوا: تأويل النص لغير ذلك عبث والنص يصان عن العبث.
2. قال العلامة الفقيه المحدّث الشيخ عبد الله الهرري ما نصه (صريح البيان في الرد على من خالف القرءان: ص62) :"وأما معنى "عنده" المذكور في الحديث فهو للتشريف كما في قوله تعالى:{في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [سورة القمر/55]، وقد أثبت اللغويون أن "عند" تأتي لغير الحيّز والمكان، فكلمة "عند" في هذا الحديث لتشريف ذلك المكان الذي فيه الكتاب" اهـ.
3. وقال الحافظ المحدّث ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي (826هـ) ما نصه (طرح التثريب: كتاب القضاء والدعاوى، باب تسجيل الحاكم على نفسه: 8/84) :"وقوله ـ أي النبي ـ "فهو عنده فوق العرش" لا بد من تأويل ظاهر لفظة "عنده" لأن معناها حضرة الشىء والله تعالى منزه عن الاستقرار والتحيّز والجهة، فالعنديّة ليست من حضرة المكان بل من حضرة الشرف أي وضع ذلك الكتاب في محل معظّم عنده" اهـ.
الباب السابع بيان حُكم من يَنسِبُ لله مكانًا
ننقل في هذا الفصل بعون الله تعالى عن العلماء حكم من يعتقد أن الله يسكن السماء أو يتحيَّز فوق العرش أو في غير ذلك من الأماكن.
1ـ فقد كفّر الإمام المجتهد أبو حنيفة (150هـ) رضي الله عنه من ينسب المكان لله تعالى، فقال في كتابه "الفقه الأبسط" (الفقه الأبسط، ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري ص12) ما نصه :"من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر، وكذا من قال إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض" اهـ.
2ـ ووافقه على ذلك الشيخ العزّ بن عبد السلام (660هـ) في كتاب "حلّ الرموز"، فقال ما نصه :"لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانًا، ومن توهم أن للحق مكانًا فهو مُشَبِّه" اهـ.
3ـ وارتضاه الشيخ ملاّ علي القاري الحنفي وقال ما نصه (نقله في شرح الفقه الأكبر بعد أن انتهى من شرح رسالة الفقه الأكبر ص:198) :"ولا شك أن ابن عبد السلام من أجلّ العلماء وأوثقهم، فيجب الاعتماد على نقله" اهـ.
4ـ وقال الإمام الحافظ الفقيه الحنفي السلفي أبو جعفر الطحاوي (321هـ) ما نصه: "ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر" اهـ.
5ـ قال أبو القاسم القشيري (465هـ) في رسالته (الرسالة القشيرية ص5) ما نصه :"سمعتُ الإمام أبا بكر ابن فورك رحمه الله تعالى يقول: سمعتُ أبا عثمان المغربي يقول: كنتُ أعتقدُ شيئًا من حديث الجهة، فلما قدِمتُ بغداد زال ذلك عن قلبي فكتبتُ إلى أصحابنا بمكة: إني أسلمتُ الآن إسلامًا جديدًا" اهـ.
6ـ وقال الشيخ لسان المتكلمين أبو المعين ميمون بن محمد النسفي الحنفي (508هـ) ما نصه (تبصرة الأدلة 1/169) :"والله تعالى نفى المماثلة بين ذاته وبين غيره من الأشياء، فيكون القول بإثبات المكان له ردًّا لهذا النص المحكم ـ أي قوله تعالى :{ليس كمثله شىء} ـ الذي لا احتمال فيه لوَجْهٍ ما سوى ظاهره، ورادُّ النص كافر، عصمنا الله عن ذلك" اهـ.
7ـ وقال الشيخ زين الدين الشهير بابن نُجَيْم الحنفي (970هـ) ما نصه (البحر الرائق: باب أحكام المرتدين 5/129) :"ويكفر بإثبات المكان لله تعالى، فإن قال: الله في السماء، فإن قصد حكاية ما جاء في ظاهر الأخبار لا يكفر، وإن أراد المكان كفر".
8ـ وقال الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد المصري الشافعي الأشعري المعروف بابن حجر الهيتمي (974هـ) ما نصه (المنهاج القويم ص:224) :"واعلم أن القَرَافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم، وهم حقيقون بذلك" اهـ.
9ـ وقال الشيخ ملاّ علي القاري الحنفي (1014هـ) ما نصه (شرح الفقه الأكبر: بعد أن انتهى من شرح الرسالة ص215) :"فمن أظلم ممن كذب على الله أو ادعى ادعاءً معينًا مشتملاً على إثبات المكان والهيئة والجهة من مقابلة وثبوت مسافة وأمثال تلك الحالة، فيصير كافرًا لا محالة" اهـ. وقال (ص271-272) :"من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها فهو كافر وإن عُدّ قائله من أهل البدعة، وكذا من قال: بأنه سبحانه جسم وله مكان ويمرّ عليه زمان ونحو ذلك كافر، حيث لم تثبت له حقيقة الإيمان" اهـ.
10ـ وقال أيضًا ما نصه (مرقاة المفاتيح 3/300) :"بل قال جمع منهم ـ أي من السلف ـ ومن الخلف إن معتقد الجهة كافر كما صرح به العراقي، وقال: إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني" اهـ.
11ـ وقال الشيخ العلامة كمال الدين البَياضي الحنفي (1089هـ) في شرح كلام الإمام أبي حنيفة ما نصه (إشارات المرام ص200) :"فقال ـ أي أبو حنيفة ـ (فمن قال: لا أعرف ربي أفي السماء أم في الأرض فهو كافر) لكونه قائلاً باختصاص البارىء بجهة وحيّز وكل ما هو مختص بالجهة والحيز فإنه محتاج محدَث بالضرورة، فهو قول بالنقص الصريح في حقه تعالى (كذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض) لاستلزامه القول باختصاصه تعالى بالجهة والحيز والنقص الصريح في شأنه سيما في القول بالكون في الأرض ونفي العلوّ عنه تعالى بل نفي ذات الإله المنزه عن التحيز ومشابهة الأشياء. وفيه إشارات:
الأولى: أن القائل بالجسمية والجهة مُنكِر وجود موجود سوى الأشياء التي يمكن الإشارة إليها حسًّا، فمنهم منكرون لذات الإله المنزه عن ذلك، فلزمهم الكفر لا محالة. وإليه أشار بالحكم بالكفر.
الثانية: إكفار من أطلق التشبيه والتحيز، وإليه أشار بالحكم المذكور لمن أطلقه، واختاره الإمام الأشعري، فقال في النوادر: من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه وإنه كافر به، كما في شرح الإرشاد لأبي قاسم الأنصاري" اهـ.
12ـ قال الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي (1143هـ) (الفتح الرباني والفيض الرحماني ص124) ما نصه :"وأما أقسام الكفر فهي بحسب الشرع ثلاثة أقسام ترجع جميع أنواع الكفر إليها، وهي: التشبيه، والتعطيل، والتكذيب... وأما التشبيه: فهو الاعتقاد بأن الله تعالى يشبه شيئًا من خلقه، كالذين يعتقدون أن الله تعالى جسمٌ فوق العرش، أو يعتقدون أن له يدَين بمعنى الجارحتين، وأن له الصورة الفلانية أو على الكيفية الفلانية، أو أنه نور يتصوره العقل، أو أنه في السماء، أو في جهة من الجهات الست، أو أنه في مكان من الأماكن، أو في جميع الأماكن، أو أنه ملأ السموات والأرض، أو أنَّ له الحلول في شىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أنه متحد بشىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أن الأشياء منحلَّةٌ منه، أو شيئًا منها. وجميع ذلك كفر صريح والعياذ بالله تعالى، وسببه الجهل بمعرفة الأمر على ما هو عليه" اهـ.
13ـ وقال الشيخ محمد بن أحمد عليش المالكي (1299هـ) عند ذِكر ما يوقع في الكفر والعياذ بالله ما نصه (منح الجليل شرح مختصر خليل 9/206) :"وكاعتقاد جسمية الله وتحيّزه، فإنه يستلزم حدوثه واحتياجه لمحدِث" اهـ.
14ـ وذكر هذا الحكم أيضًا الشيخ العلامة المحدث الفقيه أبو المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي اللبناني الحنفي (1305هـ) في كتابه "الاعتماد في الاعتقاد" ص5، فقد قال: "ومن قال لا أعرِفُ الله في السماء هو أم في الأرض كفَر ـ لأنه جعل أحدُهما له مكانًا ـ " اهـ.
15ـ وفي كتاب "الفتاوى الهندية" لجماعة من علماء الهند (فتاوى العالمكيرية وهي الفتاوى الهندية 2/259) ما نصه :"يكفر بإثبات المكان لله تعالى. ولو قال: الله تعالى في السماء فإن قصد به حكاية ما جاء فيه ظاهر الأخبار لا يكفر وإن أراد به المكان يكفر" اهـ.
16ـ قال الشيخ محمود بن محمد بن أحمد خطاب السبكي المصري (1352هـ) ما نصه (إتحاف الكائنات ص:3-4) :"سألني بعض الراغبين في معرفة عقائد الدين والوقوف على مذهب السلف والخلف في المتشابه من الآيات والأحاديث بما نصه: ما قول السادة العلماء حفظهم الله تعالى فيمن يعتقد أن الله عز وجل له جهة وأنه جالس على العرش في مكان مخصوص ويقول ذلك هو عقيدة السلف ويحمل الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد، ويقول لهم: من لم يعتقد ذلك يكون كافرًا مستدلاً بقوله تعالى:{الرحمن على العرش استوى}، وقوله عز وجل:{ءأمنتم من في السمآء} [سورة الملك/16]، أهذا الاعتقاد صحيح أم باطل؟ وعلى كونه باطلاً أيكفر ذلك القائل باعتقاده المذكور ويبطل كل عمله من صلاة وصيام وغير ذلك من الأعمال الدينية وتبين منه زوجه، وإن مات على هذه الحالة قبل أن يتوب لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهل من صدّقه في ذلك الاعتقاد يكون كافرًا مثله؟ فأجبت بعون الله تعالى، فقلت: بسم الله الرحهمن الرحيم الحمد لله الهادي إلى الصواب، والصلاة والسلام على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وعلى ءاله وأصحابه الذين هداهم الله ورزقهم التوفيق والسداد. أما بعد: فالحكم أن هذا الاعتقاد باطل ومعتقِدُه كافر بإجماع من يعتد به من علماء المسلمين، والدليل العقلي على ذلك قِدَم الله تعالى ومخالفته للحوادث، والنقلي قوله تعالى:{ليس كمثله شىء وهو السميع البصير} (سورة الشورى/11) فكل من اعتقد أنه تعالى حلّ في مكان أو اتصل به أو بشىء من الحوادث كالعرش أو الكرسي أو السماء أو الأرض أو غير ذلك فهو كافر قطعًا، ويبطل جميع عمله من صلاة وصيام وحج وغير ذلك، وتبين منه زوجه، ووجب عليه أن يتوب فورًا، وإذا مات على هذا الاعتقاد والعياذ بالله تعالى لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ومثله في ذلك كله من صدَّقه في اعتقاده أعاذنا الله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأما حمله الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد المكفر، وقوله لهم: من لم يعتقد ذلك يكون كافرًا، فهو كفر وبهتان عظيم" اهـ.
17ـ قال الشيخ الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في دار الخلافة العثمانية (1371هـ) ما نصه (مقالات الكوثري ص321) :"إن القول بإثبات الجهة له تعالى كفر عند الأئمة الأربعة هداة الأمة كما نَقل عنهم العراقي على ما في "شرح المشكاة" لعلي القاري" اهـ.
18ـ وقال العلامة الشيخ المحدث الفقيه عبد الله الهرري المعروف بالحبشي رَحِمَه الله ما نصه (الصراط المستقيم ص26) :"وحكم من يقول:"إنّ الله تعالى في كل مكان أو في جميع الأماكن" التكفير إذا كان يفهم من هذه العبارة أنَّ الله بذاته منبثٌّ أو حالٌّ في الأماكن، أما إذا كان يفهم من هذه العبارة أنه تعالى مسيطر على كل شىءٍ وعالمٌ بكل شىء فلا يكفر. وهذا قصدُ كثير ممن يلهج بهاتين الكلمتين، ويجب النهي عنهما في كل حال" اهـ.
19ـ وقال أيضًا (الصراط المستقيم ص26) :"ويكفر من يعتقد التحيُّز لله تعالى، أو يعتقد أن الله شىءٌ كالهواء أو كالنور يملأ مكانًا أو غرفة أو مسجدًا، ونسمّي المساجد بيوت الله لا لأن الله يسكنها بل لأنها أماكن يُعْبَدُ الله فيها.
وكذلك يكفر من يقول (الله يسكن قلوب أوليائه) إن كان يفهم الحلولَ. وليس المقصود بالمعراج وصول الرسول إلى مكان ينتهي وجود الله تعالى إليه ويكفر من اعتقد ذلك، إنما القصدُ من المعراج هو تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم باطلاعه على عجائب في العالم العلويّ، وتعظيمُ مكانته ورؤيتُه للذات المقدس بفؤاده من غير أن يكون الذات في مكانٍ" اهـ.
الباب الثامن ذِكْر النُقول من المذاهب الأربعة وغيرها على أن أهل السُّنة يقولون: الله موجودٌ بلا مكان ولا جهة
الجزء الأوَّل
1ـ قال صباح التوحيد ومصباح التفريد الصحابي الجليل والخليفة الراشد سيدنا عليٌّ رضي الله عنه (40هـ) ما نصه (الفرق بين الفرق لأبي منصور البغدادي ص 333) :"كان ـ الله ـ ولا مكان، وهو الآن على ما ـ عليه ـ كان" اهـ. أي بلا مكان.
2ـ وقال أيضًا (الفرق بين الفرق لأبي منصور البغدادي ص 333) :"إن الله تعالى خلق العرش إظهارًا لقدرته لا مكانًا لذاته" اهـ.
3ـ وقال أيضًا (حلية الأولياء: ترجمة علي بن أبي طالب 1/73) :"من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود" اهـ.(المحدود: هو ما كان له حجم صغيرًا أو كبيرًا)
4ـ وقال التابعي الجليل الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم (94هـ) ما نصه (إتحاف السادة المتقين 4/380) :"أنت الله الذي لا يَحويك مكان" اهـ.
5ـ وقال أيضًا (إتحاف السادة المتقين 4/380) :"أنت الله الذي لا تُحَدُّ فتكونَ محدودًا" اهـ.
6ـ وقال الإمام جعفر الصادق* بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين رضوان الله عليهم (148هـ) ما نصه :"من زعم أن الله في شىء، أو من شىء، أو على شىء فقد أشرك. إذ لو كان على شىء لكان محمولاً، ولو كان في شىء لكان محصورًا، ولو كان من شىء لكان محدَثًا ـ أي مخلوقًا ـ" اهـ.
* كان من سادات أهل البيت فقهًا وعلمًا وفضلاً. انظر الثقات لابن حبان 6/ص131.
7ـ قال الإمام المجتهد أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه (150هـ) أحد مشاهير علماء السلف إمام المذهب الحنفي ما نصه (ذكره في الفقه الأكبر، انظر شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري ص 136-137) :"والله تعالى يُرى في الآخرة، ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كميّة، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة" اهـ.
8ـ وقال أيضًا في كتابه الوصية (ص4 ونقله ملا علي القاريّ في شرح الفقه الأكبر ص 138) :"ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهةٍ حقٌّ" اهـ.
9ـ وقال أيضًا (الفقه الأبسط ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري ص20. ونقل ذلكَ أيضًا المحدّث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي في كتابه الدليل القويم ص 54) :"قلتُ: أرأيتَ لو قيل أين الله تعالى؟ فقال ـ أي أبو حنيفة ـ : يقال له كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خَلْق ولا شىء، وهو خالق كل شىء" اهـ.
10ـ وقال أيضًا (كتاب الوصية، ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري ص2، ذكره الشيخ الهرري في كتابه الدليل ص54، وملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر ص 70 عند شرح قول الإمام :"ولكن يده صفته بلا كيف".) :"ونقر بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه، وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجًا لَمَا قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوقين، ولو كان محتاجًا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا" اهـ.
وهذا رد صريح على المشبهة المجسمة أدعياء السلفية الذين يسمّون أنفسهم الوهابية ويزعمون أن السلف لم يصرحوا بنفي الجهة عن الله تعالى. فإن أبا حنيفة رأس من رءوس السلف الذين تلقّى العلم عن التابعين، والتابعون تلقوا العلم عن الصحابة رضي الله عنهم، فاحفظ هذا أخي المسلم فإنه مهم في رد افتراءات الوهابية على علماء السلف.
ونلفت النظر إلى أن أتباع أبي حنيفة أي الذين هم على مذهبه سواء في لبنان وسوريا وتركيا وأندنوسيا والهند وغيرها من البلدان على هذا المعتقد أي ينزهون الله تعالى عن التحيّز في جهة فوق العرش ويقولون الله موجود بلا كيف ولا جهة ولا مكان، إلا من لحق منهم بأهل التجسيم الذين فُتِنُوا بالوهابية وغرتهم الحياة الدنيا أو فتنوا بابن تيمية رافع لواء المجسمة في القرن السابع الهجري كابن أبي العز الحنفي الذي فُتِن به أي ابن تيمية فشرح العقيدة الطحاوية على خلاف منهج أهل الحق عامة وأهل مذهبه خاصة، فقد حشا شرحه وملأه بضلالات ابن تيمية، فإنه كالظِّل له، ومما ذكره* في هذا الشرح من عقيدة ابن تيمية أن أهل السنة على زعمه يقولون بفناء النار أي عنده وعند ابن تيمية وعند الوهابية عذاب الكفار والمشركين والوثنيين الذين حاربوا الله وأنبياءه في نار جهنم ينتهي وينقطع مكذبين قول الله تعالى :{ولا يخفّف عنهم من عذابها} [سورة فاطر/36]. ومما ذكره** أيضًا من عقيدة ابن تيمية قوله بأزلية نوع العالم التي أخذها ابن تيمية عن الفلاسفة أي على زعمهم أن الله لم يخلق نوع العالم إنما خلق الأفراد فقط والعياذ بالله.
* ذكر ذلك عند الكلام على قول الطحاوي :"والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان" ص 427 سطر 16 و 20، ط9، عام 1408هـ.
** ذكر ذلك عند الكلام على قول الطحاوي :"ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق" ص 132 سطر 5 و 6، ط9 عام 1988ر)
وقد اتفق علماء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها منذ زمن الصحابة إلى يومنا هذا على أن هاتين العقيدتين هما عقيدتان كفريتان لما في ذلك من تكذيب لله ورسوله، ومما علم من الدين بالضرورة أن النار باقية إلى ما لا نهاية له لأن الله شاء لها البقاء، وأن العالم كله مخلوق لله نوعه وأفراده، وهذا توارثه المسلمون خلفًا عن سلف لا يناقضه ولا يعارضه إلا من استحوذ الشيطان على قلبه وأضله الله وطمس على بصيرته.
ومن العجب مع ما في هذا الشرح لابن أبي العز الحنفي من ضلالات كثيرة أن الوهابية استحسنته وصاروا ينشرون هذه العقيدة الفاسدة بين المسلمين ويتدارسونه فيما بينهم، حتى قرروا تدريس هذا الشرح في المعاهد والكليات بالرياض (صحيفة 5 من الشرح)، وادعوا (صحيفة 5 من الشرح) أن هذا الشرح يمثل عقيدة السلف أحسن تمثيل.
ونقول نحن: والذي أرواحنا بيده لقد كذبوا في ادعائهم وافترائهم على السلف كما هو دأبهم، وستكتب شهادتهم ويُسألون.
وأما تكفير الإمام أبي حنيفة لمن يقول :"لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض"، وكذا من قال :"إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض" فلأن قائل هاتين العبارتين جعل الله تعالى مختصًّا بجهة وحَيِّز ومكان، وكل ما هو مختصٌّ بالجهة والحيز فإنه محتاج مُحْدَث بالضرورة. وليس مراده كما زعم المشبهة إثبات أن السماء والعرش مكان لله تعالى، بدليل كلامه السابق الصريح في نفي الجهة والمكان عن الله.
وقال الشيخ الإمام العز بن عبد السلام الشافعي في كتابه "حلّ الرموز" في بيان مراد أبي حنيفة ما نصه (نقله ملا علي القاريّ في شرح الفقه الأكبر بعد أن انتهى من شرح رسالة الفقه الأكبر ص198) :"لأن هذا القول يُوهِم أن للحق مكانًا، ومن توهم أن للحقّ مكانًا فهو مشبّه" اهـ، وأيّد ملاَّ عليّ القاري كلام ابن عبد السلام بقوله (المصدر السابق) :"ولا شك أن ابن عبد السلام من أجلّ العلماء وأوثقهم، فيجب الاعتماد على نقله" اهـ.
11ـ وقال الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه إمام المذهب الشافعي (204هـ) ما نصه (إتحاف السادة المتقين 2/24) :"إنه تعالى كان ولا مكان فخلق المكان وهو على صفة الأزلية كما كان قبل خلقه المكان لا يجوز عليه التغيير في ذاته ولا التبديل في صفاته" اهـ.
12ـ وأما الإمام المجتهد الجليل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (241هـ) رضي الله عنه إمام المذهب الحنبلي وأحد الأئمة الأربعة، فقد ذكر الشيخ ابن حجر الهيتمي أنه كان من المنزهين لله تعالى عن الجهة والجسمية، ثم قال ابن حجر ما نصه (الفتاوى الحديثية ص144) :"وما اشتهر بين جهلة المنسوبين إلى هذا الإمام الأعظم المجتهد من أنه قائل بشىء من الجهة أو نحوها فكذب وبُهتان وافتراء عليه" اهـ.
13ـ وقال الصوفي الزاهد ذو النون المصري (245هـ) ما نصه (حلية الأولياء ترجمة ذو النون المصري 9/388):
"ربي تعالى فلا شىء يحيط به * وهْو المحيط بنا في كل مرتصد
لا الأين والحيث والتكييف يدركه * ولا يحد بمقدار ولا أمد
وكيف يدركه حد ولم تره * عين وليس له في المثل من أحد
أم كيف يبلغه وهم بلا شبه * وقد تعالى عن الأشباه والولد"
انتهى.
14ـ وسُئل ذو النون عن معنى قوله تعالى:{الرحمن على العرش استوى} [سورة طه/5] فقال (الرسالة القشيرية ص6): أثْبَتَ ذاته ونفى مكانه، فهو موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمة كما شاء سبحانه" اهـ.
15ـ وكذا كان على هذا المعتقد الإمام شيخ المحدّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح (256هـ) فقد فَهِم شُرَّاح صحيحه أن البخاري كان ينزه الله عن المكان والجهة.
قال الشيخ علي بن خلف المالكي المشهور بابن بطال أحد شرَّاح البخاري (449هـ) ما نصه (فتح الباري 13/416) :"غرض البخاري في هذا الباب الرد على الجهمية المجسمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا يحتاج إلى مكان يستقرّ فيه، فقد كان ولا مكان، وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف، ومعنى الارتفاع إليه اعتلاؤه ـ أي تعاليه ـ مع تنزيهه عن المكان" اهـ.
وقال الشيخ ابن المُنَيِّر المالكي (695هـ) ما نصه :"جميع الأحاديث في هذه الترجمة مطابقة لها إلا حديث ابن عباس فليس فيه إلا قوله "رب العرش" ومطابقته، والله أعلم من جهة أنه نبه على بطلان قول من أثبت الجهة أخذًا من قوله :{ذي المعارج} [سورة المعارج/3]، ففهم أن العلو الفوقي مضاف إلى الله تعالى، فبيَّن المصنف ـ يعني البخاري ـ أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء والجهة التي يصدق عليها أنها عرش، كل منهما مخلوق مربوب مُحْدَث، وقد كان الله قبل ذلك وغيره، فحدثت هذه الأمكنة، وقِدَمه يحيل وصفه بالتحيز فيها" اهـ، نقله عنه الحافظ ابن حجر وأقرّه عليه (فتح الباري 13/418-419).
16ـ وقال الإمام الحافظ المجتهد أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310هـ) ما نصه (تاريخ الطبري 1/25) :"القول في الدلالة على أن الله عز وجل القديم الأول قبل كل شىء، وأنه هو المُحدِث كل شىء بقدرته تعالى ذِكره فمن الدلالة على ذلك أنه لا شىء في العالم مشاهَد إلا جسم أو قائم بجسم، وأنه لا جسم إلا مفترِق أو مجتمع، وأنه لا مفترِق منه إلا وهو موهوم فيه الائتلاف إلى غيره من أشكاله، ولا مجتمع منه إلا وهو موهوم فيه الافتراق، وأنه متى عدِمَ أحدهما عدم الآخر معه، وأنه إذا اجتمع الجزءان منه بعد الافتراق، فمعلوم أن اجتماعهما حادث فيهما بعد أن لم يكن، وأن الافتراق إذا حدث فيهما بعد الاجتماع فمعلوم أن الافتراق فيهما حادث بعد أن لم يكن. وإذا كان الأمر فيما في العالم من شىء كذلك، وكان حكم ما لم يُشاهد وما هو من جنس ما شاهدنا في معنى جسم أو قائم بجسم، وكان ما لم يخلُ من الحدث لا شك أنه محدَث بتأليف مؤلِّف له إن كان مجتمعًا، وتفريق مفرِّق له إن كان مفترِقًا؛ وكان معلومًا بذلك أن جامع ذلك إن كان مجتمعًا، ومفرّقه إن كان مفترقًا مَن لا يشبهه ومن لا يجوز عليه الاجتماع والافتراق، وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات الذي لا يشبهه شىء، وهو على كل شىء قدير. فبيِّنٌ بما وصفنا أن بارىء الأشياء ومحدِثها كان قبل كل شىء (أي وقبل الزمان والمكان وغيرهما من المخلوقات)، وأن الليل والنهار والزمان والساعات محدثات، وأن محدِثها الذي يُدبرها ويُصَرّفها قبلها (ومن ضرورة العقل أن يكون خالق الزمان والمكان والجهة لا يجري عليه زمان ولا ينحل في الأماكن بعد خلقه الزمان والمكان والجهة، لأنّ التغير من صفات المخلوقات فتنبّه)، إذ كان من المحال أن يكون شىء يُحدث شيئًا إلا ومحدثه قبله، وأن في قوله تعالى ذِكره:{أفلاَ ينظرون إلى الإبِل كيف خُلقت* وإلى السماء كيف رفعت* وإلى الجبال كيف نصبت* وإلى الأرض كيف سُطحت} [سورة الغاشية/17،18،19،20] لأبلغ الحجج وأدلَّ الدلائل لمن فكر بعقل واعتبر بفهم على قِدَم بارئها، وحدوث كل ما جانسها، وأن لها خالقًا لا يشبهها" اهـ.
17ـ ثم قال (تاريخ الطبري 1/26) :"فتبيَّن إذًا أن القديم (فيه رد على أتباع ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب الذين ينكرون على أهل السنّة إطلاق لفظ "القديم" على الله) بارىء الأشياء وصانعها هو الواحد الذي كان قبل كل شىء، وهو الكائن بعد كلّ شىء، والأول قبل كل شىء، والآخر بعد كل شىء، وأنه كان ولا وقت ولا زمان ولا ليل ولا نهار، ولا ظلمة ولا نور ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، وأن كل شىء سواه محدَث مدبَّر مصنوع، انفرد بخلق جميعه بغير شريك ولا مُعين ولا ظهير، سبحانه مِنْ قادر قاهر" اهـ.
18ـ وقال أيضًا عند تفسير قول الله تعالى:{هُوَ الأول والآخِرُ والظاهرُ والباطِنُ} [سورة الحديد/3] ما نصه (جامع البيان 13/ ج27 ص215) :"لا شىء أقرب إلى شىء منه كما قال:{ونحنُ أقربُ إليهِ من حبلِ الوريد} [سورة ق/16]" اهـ.
أي أن القُرب المسافي منفيٌّ عن الله، فالذي في رأس الجبل والذي في أسفل الوادي هما بالنسبة إلى الله تعالى من حيث المسافة على حدٍّ سواء لأن الله تعالى منزه عن القرب الحسِّي أي القرب بالمسافة، أما القرب المعنوي فلا ينفيه هذا الإمام ولا غيره من علماء المسلمين. فهذا دليل ءاخر أن السلف كانوا ينزهون الله عن الجهة.
19ـ وقال اللغوي إبراهيم بن السّري الزّجاج أحد مشاهير اللغويين (311هـ) ما نصه (تفسير أسماء الله الحسنى ص 48) :"العلي: هو فَعِيل في معنى فاعل، فالله تعالى عالٍ على خَلْقِه وهو عليٌّ عليهم بقدرته، ولا يجب أن يُذهَب بالعلو ارتفاع مكانٍ، إذ قد بيَّنَّا أن ذلك لا يجوز في صفاته تقدست، ولا يجوز أن يكون على أن يُتصور بذهن، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا" اهـ.
20ـ وقال أيضًا (المصدر السابق ص60) :"والله تعالى عالٍ على كل شىء، وليس المراد بالعلو: ارتفاع المحلِّ، لأن الله تعالى يجلُّ عن المحلِّ والمكان، وإنما العُلو علوُّ الشأن وارتفاعُ السلطان" اهـ.
الباب الثامن ذِكْر النُقول من المذاهب الأربعة وغيرها على أن أهل السُّنة يقولون: الله موجودٌ بلا مكان ولا جهة
الجزء الثّاني
21ـ وقال الإمام الحافظ الفقيه أبو جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي الحنفي* (321هـ) في رسالته "العقيدة الطحاوية" ما نصه :"وتعالى ـ أي الله ـ عن الحدودِ والغاياتِ والأركانِ والأعضاءِ والأدواتِ، لا تحويه الجهات السِتُّ كسائر المبتدعات" اهـ.
* الطحاوي هو من علماء السلف، قال في أو رسالته :"هذا ذِكر بيان عقيدة أهل السنّة والجماعة" أي أن هذه عقيدة السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين في تنزيه الله عن المكان والجهة والجسميّة، وكلام الطحاوي في غاية الأهميّة فهو من علماء الحديث ومن علماء الفقه وهو حنفيّ أيضًا.
وهذه العقيدة تُدرّس في أنحاء الأرض في المعاهد والجامعات الإسلامية.
22ـ وقال إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري (324هـ) رضي الله عنه ما نصه (تبيين كذب المفتري ص150) :"كان الله ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتجْ إلى مكان، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه" اهـ أي بلا مكان ومن غير احتياج إلى العرش والكرسي. نقل ذلك عنه الحافظ ابن عساكر نقلاً عن القاضي أبي المعالي الجويني.
23ـ وقال أيضًا ما نصه (انظر رسالته: استحسان الخوض في علم الكلام ص 40) :"فأما الحركة والسكون والكلام فيهما فأصلهما موجودٌ في القرءان وهما يدلان على التوحيد، وكذلك الاجتماع والافتراق، قال الله تعالى مخبرًا عن خليله إبراهيم صلواتُ الله عليه وسلامُه ـ {فلمَّا أفلَ قال لا أحبّ الآفلين} [سورة الأنعام/76] ـ في قِصّةِ أفولِ الكوكب والشمس والقمر وتحريكها من مكان إلى مكان ما دَلَّ على أن ربَّه عز وجل لا يجوز عليه شىء من ذلك، وأن من جاز عليه الأفولُ والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله" اهـ.
24ـ وقال إمام أهل السنة أبو منصور الماتُريدي (333هـ) رضي الله عنه ما نصه: (كتاب التوحيد ص 69) "إن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن، جلَّ عن التغيّر والزوال والاستحالة" اهـ. يعني بالاستحالة التحوّل والتطور والتغير من حال إلى حال وهذا منفيٌّ عن الله ومستحيل عليه سبحانه وتعالى.
والإمام محمد بن محمد الشهير بأبي منصور الماتريدي إمام جليلٌ من أئمة السلف الصالح مناضل عن الدين موضح لعقيدة أهل السنة التي كان عليها الصحابة ومن تبعهم بإيراد أدلة نقلية من القرءان والحديث وأدلة عقلية مع ردّ شبه المعتزلة وذوي البدع في مناظراتهم وخصَمهم في محاوراتهم حتى أسكتهم، ومجاهدٌ في نصرة السنة وإحياء الشريعة حتى لقب بإمام أهل السنة.
25ـ قال في كتابه "التوحيد" في إثبات رؤية المؤمنين لله في الآخرة ما نصه (كتاب التوحد ص85) : "فإن قيل: كيف يُرى؟ قيل: بلا كيف، إذ الكيفية تكون لذي صورة، بل يُرى بلا وصف قيامٍ وقعودٍ واتكاءٍ وتعلق، واتصال وانفصال، ومقابلة ومدابرة، وقصير وطويل، ونور وظلمة، وساكن ومتحرك، ومماس ومباين، وخارج وداخل، ولا معنى يأخذه الوهم أو يقدره العقل لتعاليه عن ذلك" اهـ.
فالماتريدي يصرح بنفي الجهة عن الله تعالى، وهذا فيه رد أيضًا على المجسمة والمشبهة كالوهابية الذين يزعمون أن السلف يقولون بإثبات الجهة، فتمسك بما قاله الماتريدي تكن على هدى.
26ـ وقال أيضًا (كتاب التوحيد ص75-76) :"وأما رفع الأيدي إلى السماء فعلى العبادة، ولله أن يتعبَّد عبادَهُ بما شاء، ويوجههم إلى حيث شاء، وإن ظَنّ من يَظنّ أنّ رَفْع الأبصار إلى السماء لأن الله من ذلك الوجه إنما هو كظن من يزعم أنه إلى جهة أسفل الأرض بما يضع عليها وجهه متوجهًا في الصلاة ونحوها، وكظن من يزعم أنه في شرق الأرض وغربها بما يتوجه إلى ذلك في الصلاة، أو نحو مكة لخروجه إلى الحج، جلّ الله عن ذلك". انتهى باختصار.
27ـ وقال الحافظ محمد بن حبان (453هـ) صاحب الصحيح المشهور بصحيح ابن حبان ما نصه (الثقات 1/1) :"الحمد لله الذي ليس له حد محدود فيحتوى، ولا له أجل معدود فيفنى، ولا يحيط به جوامع المكان، ولا يشتمل عليه تواتر الزمان" اهـ.
28ـ وقال أيضًا ما نصه (صحيح ابن حبان، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 8/4) : "كان ـ الله ـ ولا زمان ولا مكان" اهـ.
29ـ وقال أيضًا (صحيح ابن حبان، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 2/136) :"كذلك ينزل ـ يعني الله ـ بلا ءالة ولا تحرك ولا انتقال من مكان إلى مكان" اهـ.
30ـ وقال الصوفي أبو عثمان المغربي سعيد بن سلام (373هـ) فيما نقله عنه أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري (964هـ) ونصه (الرسالة القشيرية ص5): "سمعت الإمام أبا بكر محمد بن الحسن بن فورك رحمه الله تعالى يقول: سمعتُ محمد ابن المحبوب خادم أبي عثمان المغربي يقول: قال لي أبو عثمان المغربي يومًا: يا محمد، لو قال لك أحدٌ: أين معبودك أيش تقول؟ قال: قلتُ أقول حيث لم يزل، قال: فإن قال أين كان في الأزل، أيش تقول؟ قال: قلت أقول حيث هو الآن، يعني أنه كما كان ولا مكان فهو الآن كما كان، قال: فارتضى مني ذلك ونزع قميصه وأعطانيه" اهـ.
وهو الصوفي الزاهد الشيخ سعيد بن سلام أبو عثمان المغربي، قال عنه الحافظ الخطيب البغدادي (تاريخ بغداد 9/112) :"ورد بغداد وأقام بها مدة ثم خرج منها إلى نيسابور فسكنها، وكان من كبار المشايخ له أحوال مأثورة وكرامات مذكورة" اهـ.
31ـ قال أبو القاسم القشيري ما نصه (الرسالة القشيرية ص5) :"سمعت الإمام أبا بكر ابن فورك رحمه الله تعالى يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول: كنت أعتقد شيئًا من حديث الجهة فلما قدمت بغداد زال ذلك عن قلبي، فكتبت إلى أصحابنا بمكة إني أسلمت الآن إسلامًا جديدًا" اهـ.
32ـ وقال الشيخ أبو بكر محمد بن إسحق الكلاباذي الحنفي (380هـ) في بيان عقيدة الصوفية ما نصه (التعرف لمذهب أهل التصوف ص33) :"اجتمعت الصوفية على أن الله لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان" اهـ.
33ـ وقال الشيخ أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (883هـ) صاحب "معالم السنن" ما نصه (أعلام الحديث، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى :{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}: "وليس معنى قول المسلمين إن الله على العرش هو أنه تعالى مماس له أو متمكِّن فيه أو متحيّز في جهة من جهاته، لكنه بائن من جميع خلقه، وإنما هو خبر جاء به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف إذ {ليس كمثله شىء وهو السميع البصير}" اهـ.
34ـ وقال الشيخ أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الشافعي (403هـ) ما نصه: (المنهاج في شعب الإيمان 1/184) "وأما البراءة من التشبيه بإثبات أنه ـ تعالى ـ ليس بجوهر ولا عرض، فلأن قومًا زاغوا عن الحق فوصفوا البارىء جل ثناؤه ببعض صفات المحدَثين، فمنهم من قال: إنه جوهر، ومنهم من قال: إنه جسم، ومنهم من أجاز أن يكون على العرش كما يكون الملك على سريره، وكان ذلك في وجوب اسم الكفر لقائله كالتعطيل والتشريك".
فإذا أثبت المثبت أنه ليس كمثله شىء، وجماع ذلك أنه ليس بجوهر ولا عرض فقد انتفى التشبيه، لأنه لو كان جوهرًا أو عرضًا لجاز عليه ما يجوز على سائر الجواهر والأعراض، ولأنه إذا لم يكن جوهرًا ولا عرضًا لم يجز عليه ما يجوز على الجواهر من حيث إنها جواهر كالتآلف والتجسم وشغل الأمكنة والحركة والسكون، ولا ما يجوز على الأعراض من حيث إنها أعراض كالحدوث وعدم البقاء" اهـ.
35ـ وقال القاضي أبو بكر محمد الباقلاني المالكي الأشعري (403هـ) ما نصه (الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص65) :"ولا نقول إن العرش له ـ أي لله ـ قرار ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغيّر عما كان" اهـ.
36ـ وقال أيضًا ما نصه (الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص 64) :"ويجب أن يعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، والاتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى: {ليس كمثله شىء} [سورة الشورى/11]، وقوله :{ولم يكُن له كفوًا أحد} [سورة الإخلاص/4] ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك" اهـ.
37ـ وقال الحافظ المؤرخ ابن عساكر (تبيين كذب المفتري، ترجمة الباقلاني ص221) نقلاً عن أبي عبد الله الحسين بن محمد الدامغاني :"وكان أبو الحسن التميمي الحنبلي يقول لأصحابه: تمسكوا بهذا الرجل ـ أي بالباقلاني ـ فليس للسنة عنه غنى أبدًا. قال: وسمعت الشيخ أبا الفضل التميمي الحنبلي رحمه الله وهو عبد الواحد بن أبي الحسن بن عبد العزيز بن الحارث يقول: اجتمع رأسي ورأس القاضي أبي بكر محمد ابن الطيب ـ يعني الباقلاني ـ على مخدة واحدة سبع سنين.
قال الشيخ أبو عبد الله: وحضر الشيخ أبو الفضل التميمي يوم وفاته العزاء حافيًا مع إخوته وأصحابه وأمر أن ينادى بين يدي جنازته :"هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردًّا على الملحدين"، وقعد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام فلم يبرح، وكان يزور تربته كل يوم جمعة في الدار" اهـ.
38ـ وذكر الشيخ أبو الطيب سهل بن محمد الشافعي مفتي نيسابور (404هـ) ما نقله عنه الحافظ البيهقي :"سمعتُ الشيخ أبا الطيب الصُّعلُوكي
يقول :"تُضامّون" بضم أوله وتشديد الميم يريد لا تجتمعون لرؤيته ـ تعالى ـ في جهة ولا ينضم بعضكم إلى بعض فإنه لا يُرى في جهة" اهـ، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (فتح الباري 11/447).
الباب الثامن ذِكْر النُقول من المذاهب الأربعة وغيرها على أن أهل السُّنة يقولون: الله موجودٌ بلا مكان ولا جهة
الجزء الثّالِث
39ـ وقال أبو بكر محمد بن الحسن المعروف بابن فورك الأشعري (406هـ) ما نصه (مشكل الحديث ص57) :"لا يجوز على الله تعالى الحلول في الأماكن لاستحالة كونه محدودًا ومتناهيًا وذلك لاستحالة كونه مُحْدَثا" اهـ.
40ـ وقال أيضًا ما نصه (مشكل الحديث ص64) :"واعلم أنّا إذا قلنا إن الله عزّ وجل فوق ما خلق لم يُرْجَع به إلى فوقية المكان والارتفاع على الأمكنة بالمسافة والإشراف عليها بالمماسة لشىءٍ منها" اهـ.
41ـ وقال الأديب النحوي أبو علي المَرْزُوقي (421هـ) ما نصه (الأزمنة والأمكنة 1/92) :"الله تعالى لا تحويه الأماكن ولا تحيط به الأقطار والجوانب" اهـ.
42ـ وقال الشيخ الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي الإسفراييني (429هـ) ما نصه (الفرق بين الفرق ص333) :"وأجمعوا ـ أي أهل السنة ـ على أنه ـ أي الله ـ لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان" اهـ.
43ـ وقال أيضًا ما نصه (أصول الدين ص73) :"لو كان الإله مقدَّرًا بحدّ ونهاية لم يخل من أن يكون مقداره مثل أقل المقادير فيكون كالجزء الذي لا يتجزأ، أو يختص ببعض المقادير فيتعارض فيه المقادير فلا يكون بعضها أولى من بعض إلا بمخصص خصه ببعضها، وإذا بطل هذان الوجهان صح أنه بلا حد ولا نهاية" اهـ.
44ـ وقال الشيخ علي بن خلف المشهور بابن بطال المالكي (449هـ) أحد شُرّاح صحيح البخاري ما نصه (فتح الباري 13/416) :"غرض البخاري في هذا الباب الرد على الجهمية المجسمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا يحتاج إلى مكان يستقر فيه، فقد كان ولا مكان، وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف، ومعنى الارتفاع إليه اعتلاؤه ـ أي تعاليه ـ مع تنزيهه عن المكان" اهـ.
45ـ وقال أيضًا ما نصه :"لا تعلق للمجسمة في إثبات المكان، لما ثبت من استحالة أن يكون سبحانه جسمًا أو حالاًّ في مكان" اهـ. وقد نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني مقرًّا وموافقًا له (فتح الباري 13/433)، مما يدل على أن هذه هي عقيدة أهل الحديث أيضًا.
46ـ وقال أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي (456هـ) ـ وهو منتَقَد من العلماء على بعض مقالاته التي انفرد بها ـ ما نصه (انظر كتابه علم الكلام مسئلة في نفي المكان عن الله تعالى ص65) :"وأنه تعالى لا في مكان ولا في زمان، بل هو تعالى خالق الأزمنة والأمكنة، قال تعالى:{وخلقّ كلَّ شىء فقدّره تقديرًا} [سورة الفرقان/2]، وقال تعالى:{خلق السموات والأرضَ وما بينهما} [سورة الفرقان/59] والزمان والمكان هما مخلوقان، قد كان تعالى دونهما، والمكان إنما هو للأجسام" اهـ.
47ـ وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الشافعي (458هـ) ما نصه (الأسماء والصفات ص400) :"والذي روي في ءاخر هذا الحديث [أي حديث :"والذي نفسُ محمد بيده لو أنكم دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة لهبط على الله تبارك وتعالى" وهو حديث ضعيف] إشارة إلى نفي المكان عن الله تعالى، وأن العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء، وأنه الظاهر فيصح إدراكه بالأدلة، الباطن فلا يصح إدراكه بالكون في مكان. واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الظاهر فليس فوقك شىء، وأنت الباطن فليس دونك شىء"، وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان" اهـ.
48ـ وقال أيضًا ما نصه (السنن الكبرى 3/3) :"أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله تعالى: {وجآء ربّك والملَك صفًّا صفًّا} [سورة الفجر/22] والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه، جل الله تعالى عما تقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوًّا كبيرًا. قلت: وكان أبو سليمان الخطابي رحمه الله يقول: إنما ينكر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس الأمور في ذلك بما يشاهده من النزول الذي هو تدلٍّ من أعلى إلى أسفل وانتقال من فوق إلى تحت وهذه صفة الأجسام والأشباح، فأما نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه وإنما هو خبر عن قدرته ... واستجابته دعاءهم ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كميّة سبحانه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير" اهـ.
49ـ وقال أيضًا ما نصه (الأسماء والصفات، باب ما جاء في العرش والكرسي ص396-397) :"قال أبو سليمان الخطابي: وليس معنى قول المسلمين: إن الله استوى على العرش هو أنه مماس له أو متمكِّن فيه أو متحيّز في جهة من جهاته، لكنه بائن* من جميع خلقه، وإنما هو خبر جاء به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف، إذ {ليس كمثله شىء وهو السميع البصير} " اهـ.
* قال الكوثري :"بمعنى أنّه غير ممازج للخلق لا بمعنى أنه متباعد عن الخلق بالمسافة، تعالى الله عن القرب والبعدِ الحسيّين والبَيْنونة الحسيّة فليس في ذلكَ ما يطمع المجسمة في كلامه" اهـ.
50ـ وقال أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري (465هـ) في رسالته المشهورة بـ "الرسالة القشيرية" عند ذكر عقيدة الصوفية ما نصه (الرسالة القشيرية ص7) :"وهذه فصول تشتمل على بيان عقائدهم في مسائل التوحيد ذكرناها على وجه الترتيب. قال شيوخ هذه الطريقة على ما يدل عليه متفرقات كلامهم ومجموعاتها ومصنفاتهم في التوحيد: إن الحق سبحانه وتعالى موجود قديم لا يشبهه شىء من المخلوقات، ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا صفاته أعراض، ولا يتصور في الأوهام، ولا يتقدر في العقول، ولا له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت وزمان" انتهى باختصار.
51ـ وقال الفقيه المتكلم أبو المظفر الإسفراييني الأشعري (471هـ) ما نصه (التبصير في الدين ص161) :"الباب الخامس عشر في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة: وأن تعلم أن كل ما دل على حدوث شىء من الحد، والنهاية، والمكان، والجهة، والسكون، والحركة، فهو مستحيل عليه سبحانه وتعالى، لأن ما لا يكون محدَثًا لا يجوز عليه ما هو دليل على الحدوث" اهـ.
52ـ وقال الفقيه الإمام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي الأشعري (476هـ) في عقيدته ما نصه (انظر عقيدة الشيرازي في مقدمة كتاب شرح اللمع 1/106) :"وإن استواءه ليس باستقرار ولا ملاصقة لأن الاستقرار والملاصقة صفة الأجسام المخلوقة، والرب عز وجل قديم أزلي، فدل على أنه كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو على ما عليه كان" اهـ.
53ـ وقال إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني الأشعري (478هـ) ما نصه (الإرشاد إلى قواطع الأدلة ص53) :"البارىء سبحانه وتعالى قائم بنفسه*، متعال عن الافتقار إلى محل يحله أو مكان يُقله" اهـ.
* اعلم أن معنى قيامه بنفسه هو استغناؤه عن كل ما سواه، فلا يحتاج إلى مخصّص له بالوجود، لأنّ الاحتياج إلى الغير ينافي قدِمه، وقد ثبتَ وجوب قدمه وبقائه.
54ـ وقال أيضًا ما نصه (الإرشاد ص 58) :"مذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيّز والتخصص بالجهات" اهـ.
55ـ وقال أيضًا ما نصه (الشامل في أصول الدين ص511) :"واعلموا أن مذهب أهل الحق: أن الرب سبحانه وتعالى يتقدس عن شغل حيز، ويتنزه عن الاختصاص بجهة.
وذهبت المشبهة إلى أنه مختص بجهة فوق، ثم افترقت ءاراؤهم بعد الاتفاق منهم على إثبات الجهة، فصار غلاة المشبهة إلى أن الرب تعالى مماس للصفحة العليا من العرش وهو مماسّه، وجوزوا عليه التحول والانتقال وتبدل الجهات والحركات والسكنات، وقد حكينا جُملاً من فضائح مذهبهم فيما تقدم" اهـ.
الباب الثامن ذِكْر النُقول من المذاهب الأربعة وغيرها على أن أهل السُّنة يقولون: الله موجودٌ بلا مكان ولا جهة
الجزء الرّابِع
56ـ وقال الفقيه المتكلم أبو سعيد المتولي الشافعي الأشعري (478هـ) أحد أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي ما نصه (الغنية في أصول الدين ص83) :"ثبت بالدليل أنه لا يجوز أن يوصف ذاته ـ تعالى ـ بالحوادث، ولأن الجوهر متحيز، والحق تعالى لا يجوز أن يكون متحيزًا" اهـ.
57ـ وقال أيضًا ما نصه (الغنية ص73) :"والغرض من هذا الفصل نفي الحاجة إلى المحل والجهة خلافًا للكرامية والحشوية الذين قالوا: إن لله جهة فوق" اهـ.
58ـ وقال اللغويُّ أبو القاسم الحسين بن محمد المشهور بالراغب الأصفهاني (502هـ) ما نصه (المفردات في غريب القرءان مادة "ق ر ب"، ص399) :"وقربُ الله تعالى من العبد هو بالإفضال عليه والفيض لا بالمكان" اهـ.
60ـ وقال أيضًا في كتابه (إحياء علوم الدين، كتاب قواعد العقائد، الفصل الثالث، الأصل السابع 1/128) ما نصه :"الأصل السابع: العلم بأنّ الله تعالى منزه الذات عن الاختصاص بالجهات، فإن الجهة إما فوق وإما أسفل وإما يمين وإما شمال أو قدّام أو خلف، وهذه الجهات هو الذي خلقها وأحدثها بواسطة خَلْق الإنسان إذ خَلَق له طرفين أحدهما يعتمد على الأرض ويسمى رِجْلاً، والآخر يقابله ويسمى رأسًا، فحدث اسم الفوق لما يَلي جهة الرأس واسم السُّفل لما يَلي جهة الرِّجْل، حتى إنّ النملة التي تدب منكسة تحت السقف تنقلب جهة الفوق في حقها تحتًا وإن كان في حقنا فوقًا. وخلَق للإنسان اليدين وإحداهما أقوى من الأخرى في الغالب، فحدث اسم اليمين للأقوى واسم الشمال لما يقابله وتسمى الجهة التي تلي اليمين يمينًا والأخرى شمالاً، وخلَق له جانبين يبصر من أحدهما ويتحرّك إليه فحدث اسم القدّام للجهة التي يتقدم إليها بالحركة واسم الخلف لما يقابلها، فالجهات حادثة بحدوث الإنسان" ثم قال: "فكيف كان في الأزل مختصًّا بجهة والجهة حادثة؟ أو كيف صار مختصًّا بجهة بعد أن لم يكن له؟ أبأن خلَق العالم فوقه، ويتعالى عن أن يكون له فوق إذ تعالى أن يكون له رأس، والفوق عبارة عما يكون جهة الرأس، أو خَلَق العالم تحته، فتعالى عن أن يكون له تحت إذ تعالى عن أن يكون له رِجْل والتحت عبارة عما يلي جهة الرِّجْل؛ وكل ذلك مما يستحيل في العقل ولأن المعقول من كونه مختصًّا بجهة أنه مختص بحيز اختصاص الجواهر أو مختص بالجواهر اختصاص العَرَض، وقد ظهر استحالة كونه جوهرًا أو عَرَضًا فاستحال كونه مختصًّا بالجهة؛ وإن أريد بالجهة غير هذين المعنيين كان غلطًا في الاسم مع المساعدة على المعنى ولأنه لو كان فوق العالم لكان محاذيًا له، وكل محاذ لجسم فإما أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر وكل ذلك تقدير محوج بالضرورة إلى مقدّرٍ ويتعالى عنه الخالق الواحد المدبِّر، فأما رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء، وفيه أيضًا إشارة إلى ما هو وصف للمدعوّ من الجلال والكبرياء تنبيهًا بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء، فإنه تعالى فوق كل موجود بالقهر والاستيلاء" اهـ.
61ـ وقال لسان المتكلمين الشيخ أبو المعين ميمون بن محمد النسفي (508هـ) ما نصه (تبصرة الأدلة 1/171) :"القول بالمكان ـ أي في حق الله ـ منافيًا للتوحيد" اهـ.
62ـ وقال أيضًا (تبصرة الأدلة 1/182) :"إنا ثبّتنا بالآية المحكمة التي لا تحتمل التأويل، وبالدلائل العقلية التي لا احتمال فيها أنّ تمكّنه ـ سبحانه ـ في مكان مخصوص أو الأمكنة كلها محال" اهـ.
63ـ وقال الإمام أبو القاسم سليمان (سلمان) بن ناصر الأنصاري النيسابوري (512هـ) شارح كتاب "الإرشاد" لإمام الحرمين بعد كلام في الاستدلال على نفي التحيّز في الجهة عن الله تعالى ما نصه (شرح الإرشاد (ق/58ـ59)، مخطوط) :"ثم نقول سبيل التوصل إلى درك المعلومات الأدلة دون الأوهام، ورُب أمر يتوصل العقل إلى ثبوته مع تقاعد الوهم عنه، وكيف يدرك العقل موجودًا يحاذي العرش مع استحالة أن يكون مِثْل العرش في القدر أو دونه أو أكبر منه، وهذا حكم كل مختص بجهة" اهـ.
64ـ وقال أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي شيخ الحنابلة في زمانه (513هـ) ما نصه (الباز الأشهب: الحديث الحادي عشر ص/86) :"تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة، هذا عين التجسيم، وليس الحق بذي أجزاء وأبعاض يعالج بها" اهـ.
65ـ وقال الشيخ أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم المعروف بابن القشيري (514هـ) الذي وصفه الحافظ عبد الرزاق الطبسي بإمام الأئمة كما نقل ذلك الحافظ ابن عساكر في كتابه "تبيين كذب المفتري" ما نصه (إتحاف السادة المتقين ج2/180) :"فالرب إذًا موصوف بالعلو وفوقية الرتبة والعظمة منزه عن الكون في المكان" اهـ.
66ـ وقال القاضي الشيخ أبو الوليد محمد بن أحمد قاضي الجماعة بقُرطُبَة المعروف بابن رُشْد الجَد المالكي (520هـ) ما نصه :"ليس ـ الله ـ في مكان، فقد كان قبل أن يَخْلُق المكان" اهـ. ذكره ابن الحاج المالكي في كتابه "المدخل" (المدخل: فصل في الاشتغال بالعلم يوم الجمعة 2/149).
67ـ وقال ابن رُشْد أيضًا (المدخل: نصائح المريد 3/181) :"فلا يقال أين ولا كيف ولا متى لأنه خالق الزمان والمكان"اهـ.
68ـ وقال أيضًا ما نصه (المدخل: فصل في الاشتغال بالعلم يوم الجمعة 2/149) :"وإضافته ـ أي العرش ـ إلى الله تعالى إنما هو بمعنى التشريف له كما يقال: بيتُ الله وحرمه، لا أنه محلٌّ له وموضع لاستقراره" اهـ.
وذكر ذلك أيضًا الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري" موافقًا له ومقرًّا لكلامه (فتح الباري 7/124).
69ـ وقال أبو الثناء محمود بن زيد اللاَّمشي الحنفي الماتريدي من علماء ما وراء النهر (كان حيًّا سنة 539هـ) ما نصه (التمهيد لقواعد التوحيد ص 62-63) :"ثم إن الصانع جل وعلا وعزَّ لا يوصف بالمكان لما مر أنه لا مشابهةَ بينه تعالى وبينَ شىء من أجزاء العالم، فلو كان متمكنًا بمكان لوقعت المشابهةُ بينه وبين المكان من حيث المقدار لأن المكان كل متمكن قدر ما يتمكن فيه. والمشابهة منتفية بين الله تعالى وبين شىء من أجزاء العالم لما ذكرنا من الدليل السمعي والعقلي، ولأن في القول بالمكان قولا بِقِدَمِ المكان أو بحدوث البارىء تعالى، وكل ذلك محالُ، لأنه لو كان لم يزل في المكان لكان المكان قديمًا أزليًّا، ولو كان ولا مكان ثم خلق المكان وتمكَّن فيه لتغير عن حاله ولحدثت فيه صفةُ التمكن بعد أن لم تكن، وقَبول الحوادث من أمارات الحَدَث، وهو على القدير محالٌ" اهـ.
70ـ وقال المحدّث أبو حفص نجم الدين عمر بن محمد النسفي الحنفي (537هـ) صاحب العقيدة المشهورة بـ "العقيدة النسفية" ما نصه (العقيدة النسفية "ضمن مجموع مهمات المتون" ص28) :"والمُحدِثُ للعالَم هو الله تعالى، لا يوصف بالماهيَّة ولا بالكيفية ولا يَتمكَّن في مكان" انتهى باختصار.
71ـ وقال أيضًا ما نصه (المصدر السابق ص29) :"وقد وَرد الدليلُ السمعيُّ بإيجاب رؤية المؤمنين اللهَ تعالى في دار الآخرة، فيُرَى لا في مكان، ولا على جهة من مقابلة أو اتصال شُعاعٍ أو ثبوتِ مَسافةٍ بين الرائي وبين الله تعالى" اهـ.
72ـ وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي الأندلسي (543هـ) ما نصه (القبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس 1/395) :"البارىء تعالى يتقدس عن أن يُحَدّ بالجهات أو تكتنفه الأقطار" اهـ.
73ـ وقال أيضًا ما نصه (المصدر السابق 1/289) :"إن الله سبحانه منزه عن الحركة والانتقال لأنه لا يحويه مكان كما لا يشتمل عليه زمان، ولا يشغل حيِّزًا كما لا يدنو إلى مسافة بشىء، متقدس الذات عن الآفات منزه عن التغيير، وهذه عقيدة مستقرة في القلوب ثابتة بواضح الدليل" اهـ.
74ـ وقال أيضًا ما نصه (المصدر السابق 1/395) :"الله تعالى يتقدس عن أن يُحد بالجهات" اهـ.
75ـ وقال أيضًا ما نصه (عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 12/184) :"وإنّ عِلْمَ الله لا يحل في مكان ولا ينتسب إلى جهة، كما أنه سبحانه كذلك، لكنه يعلم كل شىء في كل موضع وعلى كل حال، فما كان فهو بعلم الله لا يشذ عنه شىء ولا يعزب عن علمه موجود ولا معدوم، والمقصود من الخبر أن نسبة البارىء من الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته" اهـ.
76ـ وقال القاضي عياض بن موسى المالكي (455هـ) ما نصه (الشفا: فصل في حديث الإسراء 1/205) :"اعلم أن ما وقع من إضافة الدُّنُوِّ والقُرْبِ هنا من الله أو إلى الله فليس بدنوِّ مكان ولا قُرب مدى، بل كما ذكرنا عن جعفر بن محمد الصادق: ليس بدُنوِّ حدٍّ، وإنما دنوّ النبي صلى الله عليه وسلم من ربّه وقربه منه إبانةُ عظيم منزلته وتشريفُ رُتبته" اهـ.
77ـ وقال الشيخ محمد بن عبد الكريم الشهرستاني الشافعي (548هـ) ما نصه: (نهاية الإقدام ص103) :"فمذهب أهل الحق أن الله سبحانه لا يشبه شيئًا من المخلوقات ولا يشبهه شىء منها بوجه من وجوه المشابهة والمماثلة {ليس كمثله شىء وهو السميع البصير} [سورة الشورى/11]، فليس البارىء سبحانه بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا في مكان ولا في زمان" اهـ.
78ـ وقال الشيخ سراج الدين علي بن عثمان الأوشي الحنفي (569هـ) ما نصه: (انظر منظومته بدء الأمالي "ضمن مجموع مهمات المتون" رقم البيت 7، ص19)
"نُسَمِّي الله شيئًا لا كالاشيا وذاتًا عن جهاتِ السّتِّ خالي" اهـ
أي أن الله تعالى لا يحتاج إلى جهة ولا إلى مكان يحلُّ به لأنه خالق الأماكن والجهات. ومعنى الشىء: الثابت الوجود، قال الله تعالى :{قُلْ أَيُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [سورة الأنعام/19].
79ـ وقال الحافظ المؤرخ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشهير بابن عساكر الدمشقي (571هـ) في بيان عقيدته التي هي عقيدة أبي الحسن الأشعري نقلاً عن القاضي أبي المعالي بن عبد الملك ما نصه (تبيين كذب المفتري ص150) :"قالت النجارية: إن البارىء سبحانه بكل مكان من غير حلول ولا جهة. وقالت الحشوية والمجسمة: إنه سبحانه حالّ في العرش وإن العرش مكان له وهو جالس عليه ـ وهي عقيدة ابن تيمية وأتباعه الوهابية ـ فسلك طريقة بينهما فقال: كان ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتج إلى مكان، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه" اهـ.
80ـ وقال أيضًا في تنزيه الله عن المكان والجهة ما نصه (انظر مقدمة تبيين كذب المفتري للكوثري ص 2):
"خَلَقَ السماءَ كما يشا * ء بلا دعائمَ مُسْتَقِلَّهْ
لا للتحيز كي تكو * نَ لذاته جهةً مُقِلَّهْ
ربٌّ على العرش استوى * قهرًا وينزلُ لا بنُقْلَهْ" اهـ.
81ـ وقال الشيخ إمام الصوفية العارف بالله السيد أحمد الرفاعي الشافعي الأشعري (578هـ) ما نصه (البرهان المؤيد ص/18،17) :"وطهِّروا عقائدكم من تفسير معنى الاستواء في حقه تعالى بالاستقرار، كاستواء الأجسام على الأجسام المستلزم للحلول، تعالى الله عن ذلك. وإياكم والقول بالفوقية والسُّفْلية والمكان واليد والعين بالجارحة، والنزول بالإتيان والانتقال، فإن كل ما جاء في الكتاب والسنة مما يدل ظاهره على ما ذُكر فقد جاء في الكتاب والسنة مثله مما يؤيد المقصود" اهـ.
82ـ وقال أيضًا ما نصه (المصدر السابق ص18) :"وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: من قال لا أعرف الله أفي السماء هو أم في الأرض، فقد كفر، لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانًا، ومن توهم أن للحق مكانًا فهو مشبه" اهـ.
83ـ وقال أيضًا ما نصه (انظر كتاب حكم الشيخ أحمد الرفاعي الكبيرص 36،35) :"غاية المعرفة بالله الإيقان بوجوده تعالى بلا كيف ولا مكان" اهـ.
84ـ وقال أيضًا ما نصه (إجابة الداعي إلى بيان اعتقاد الإمام الرفاعي ص44) :"وأنه ـ أي الله ـ لا يَحُلُّ في شىء ولا يَحُلُّ فيه شىء، تعالى عن أن يحويه مكان، كما تقدَّس عن أن يحُدَّه زمان، بل كان قبلَ خلق الزمان والمكان، وهو الآن على ما عليه كان" اهـ.
85ـ وقال أيضًا ما نصه (المرجع السابق ص43) :"لا يحُدُّه ـ تعالى ـ المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه السموات، وأنه مستوٍ على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده، استواءً منزَّهًا عن المماسة والاستقرار والتمكّن والتحوّل والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملتُه محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش، وفوق كل شىء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربًا إلى العرش والسماء بل هو رفيع الدرجات عن العرش كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى" اهـ.
الباب الثامن ذِكْر النُقول من المذاهب الأربعة وغيرها على أن أهل السُّنة يقولون: الله موجودٌ بلا مكان ولا جهة
الجزء الخامِس
86ـ وكذا كان على هذا المعتقد السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله (589هـ) كما وصفه أصحاب التراجم :"شافعي المذهب، أشعري الاعتقاد"، وقد كان له اعتناء خاص بنشر عقيدة الإمام الأشعري رحمه الله فقد قال السيوطي ما نصه (الوسائل إلى مسامرة الأوائل ص15) :"فلما ولي صلاح الدين بن أيوب أمر المؤذنين في وقت التسبيح أن يعلنوا بذكر العقيدة الأشعرية، فوظف المؤذنين على ذكرها كل ليلة إلى وقتنا هذا" اهـ أي إلى وقت السيوطي المتوفى سنة 911هـ.
ويقول الشيخ محمد بن علاّن الصديقي الشافعي ما نصه (الفتوحات الربانية 2/113) :"فلما ولي صلاح الدين بن أيوب وحمل الناس على اعتقاد مذهب الأشعري أمر المؤذنين أن يُعلنوا وقت التسبيح بذكر العقيدة الأشعرية التي تُعرف بالمرشدية فواظبوا على ذكرها كل ليلة" اهـ.
ولما كان للسلطان المذكور هذا الاهتمام بعقيدة الأشعري ألّف الشيخ الفقيه النحوي محمد بن هبة الله رسالة في العقيدة وأسماها "حدائق الفصول وجواهر الأصول" وأهداها للسلطان فأقبل عليها وأمر بتعليمها حتى للصبيان في المكاتب، وصارت تسمى فيما بعد "بالعقيدة الصلاحية".
ومما جاء في هذه الرسالة (انظر كتاب حدائق الفصول ص10):
وَصَانِعُ العَالَمِ لا يَحْوِيهِ * قُطْرٌ تَعَالَى الله عَن تَشْبِيهِ
قَدْ كَانَ مَوْجُودًا وَلا مَكَانَا * وَحُكْمُهُ الآنَ عَلى مَا كَانا
سُبْحَانَهُ جَلَّ عَن المكَانِ * وَعَزَّ عَن تَغَيُّرِ الزَّمَانِ
فَقَدْ غَلا وَزَادَ في الغُلُوِّ * مَنْ خَصَّهُ بِجِهَةِ العُلُوِّ
وحَصَرَ الصَّانِعَ في السَّمَاءِ * مُبْدِعَهَا وَالعَرشُ فَوقَ الماءِ
وَأثبَتُوا لِذَاتِهِ التَّحَيُّزا * قَد ضَلَّ ذُو التَّشْبِيهِ فِيمَا جَوَّزا
ولا يستغرب هذا الاهتمام البالغ من السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، فإنه كان قد نشأ على هذا الاعتقاد منذ كان في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، فحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري وصار يحفّظها صغار أولاده، فلذلك عقد جميع سلاطين بني أيوب الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري واستمر الحال جميع أيامهم وانتقل إلى أيام السلاطين المماليك ثم إلى سلاطين بني عثمان رحمهم الله تعالى إلى وقتنا هذا.
ولما كان أهل السنة والجماعة هم حرَّاس العقيدة الحقة والمدافعين عنها والداحضين لشبه المشبهة والمجسمة الذين انكسروا أمام الحجج القاطعة التي يوردها أهل الحق، ولمّا كان الوهابية أتباع محمد بن عبد الوهاب الذي خرج من نجد من الفِرق التي تدعو إلى عقيدة تشبيه الخالق بالمخلوق، كوصف الله بالجلوس والاستقرار على العرش، ونسبة الجهة والمكان والأعضاء والجوارح لله عزَّ وجل، والعياذ بالله من الكفر، عمدوا إلى التضليل والطعن بعلماء أهل السنة والجماعة وبالأخص علماء التوحيد، حتى وصل الأمر بالوهابية إلى تعليم الناس أن هؤلاء العلماء كفار عند أهل السنة، فقالوا بعد أن ذكروا أن الجهمية ينفون أسماء الله ما نصه (انظر كتابهم المسمى فتح المجيد باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات ص 353 مكتبة دار السلاك ـ الرياض الطبعة الأولى 1413هـ ـ 1992) :"وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، فلهذا كفّرهم كثيرون من أهل السنة" انتهى بحروفه. وهذا الكلام لعبد الرحمن بن حسن حفيد محمد بن عبد الوهاب مؤسس بدعة المذهب الوهابي، ذكره في كتابه المسمّى "فتح المجيد"، وهذا دليل على أن الوهابية يضللون علماء المسلمين من الأشاعرة وغيرهم منذ مائتي سنة تقريبًا، وزعمه أن أهل السنة كفروا الأشاعرة كذب وزور وبُهتان فإن أكثر علماء الحديث والفقه والتفسير والتجويد واللغة وغيرهم من الأشاعرة..
ودعاة الوهابية على هذا الانحراف في سب علماء الأمة، فهذا صالح ابن فوزان الفوزان أحد أبرز دعاتهم يقول ما نصه: "والأشاعرة والماتريدية خالفوا الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة في كثير من المسائل الاعتقادية وأصول الدين فلم يستحقوا أن يلقبوا بأهل السنة والجماعة" انتهى بحروفه.
وقال زميله محمد بن صالح العثيمين وهو من أبرز دعاة الوهابية أيضًا عندما قيل له: "ـ سؤال: النووي وابن حجر نجعلهما من غير أهل السنة والجماعة؟ ـ قال العثيمين: فيما يذهبان إليه في الأسماء والصفات ليسا من أهل السنة والجماعة.
ـ سؤال: بالإطلاق ليسوا من أهل السنة والجماعة؟ ـ قال العثيمين: لا نطلق" انتهى بحروفه.
قلنا: علماء أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية الذين انتشروا في أنحاء الأرض لتعليم الناس عقيدة أهل الحق منذ ألف ومائة سنة تقريبًا لا يعلم عددهم على الحقيقة إلا الله تبارك وتعالى، وإذا أردنا أن نجمع أسماءهم فقط مع تعدد فنونهم إن كان في العقيدة أو الحديث أو الفقه أو التفسير أو غير ذلك لجاء ذلك في مجلدات كثيرة. ولو عُمل بقول الوهابية بتضليل كل ماتريدي وأشعري في عقيدته لانقطع سند العدالة بيننا وبين السلف الصالح الذي يزعم الوهابية أنهم ينتسبون إليه.
فإن كان هؤلاء يقولون عن النووي وابن حجر وغيرهما من الأشاعرة والماتريدية إنهم على البدعة والضلال والكفر، فلا عجب بعد ذلك إذا وَصفوا الشيخ العلامة المحدِّث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي بما وَصفوا به علماء المسلمين لكونه على منهج هؤلاء العلماء في نشر عقيدة أهل الحق. وعلى مقتضى كلام الوهابية فالمجاهد صلاح الدين الأيوبي الذي دافع عن بلاد المسلمين ونصر المظلومين يكون من المبتدعة الضالين لأنه أشعري المعتقد، فلم تسلم من ألسنتهم الأموات ولا الأحياء، وإلى الله المشتكى وإليه المصير.
87ـ قال الإمام الحافظ المفسّر عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي الحنبلي (597هـ) ما نصه (دفع شبه التشبيه ص58) :"الواجب علينا أن نعتقد أن ذات الله تعالى لا يحويه مكان ولا يوصف بالتغيّر والانتقال" اهـ.
88ـ وقال أيضًا (صيد الخاطر ص 476) :"فترى أقوامًا يسمعون أخبار الصفات فيحملونها على ما يقتضيه الحس، كقول قائلهم: ينزل بذاته إلى السماء وينتقل، وهذا فهم رديء، لأن المنتقل يكون من مكان إلى مكان، ويوجب ذلك كون المكان أكبر منه، ويلزم منه الحركة، وكل ذلك محال على الحق عز وجل" اهـ.
وابن الجوزي من أساطين الحنابلة وصاحب كتاب "دفع شبه التشبيه" الذي رد فيه على المجسمة الذين ينسبون أنفسهم إلى مذهب الإمام أحمد والإمامُ أحمد بريء مما يعتقدون. وقد بيّن ابن الجوزي في هذا الكتاب أن عقيدة السلف وعقيدة الإمام أحمد تنزيه الله عن الجهة والمكان والحد والجسمية والقيام والجلوس والاستقرار وغيرها من صفات الحوادث والأجسام.
89ـ ومما قاله في هذا الكتاب (الباز الأشهب ص 57) :"كل من هو في جهة يكون مقدَّرًا محدودًا وهو يتعالى عن ذلك، وإنما الجهات للجواهر والأجسام لأنها أجرام تحتاج إلى جهة، وإذا ثبت بطلان الجهة ثبت بطلان المكان" اهـ.
90ـ وقال أيضًا ما نصه (المصدر السابق ص 59) :"فإن قيل: نفي الجهات يحيل وجوده، قلنا: إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فقد صدقتَ، فأما إذا لم يقبلهما فليس خُلُوه من طرق النقيض بمحال" اهـ.
91ـ وقال الشيخ تاج الدين محمد بن هبة الله المكي الحموي المصري (599هـ) في تنزيه الله عن المكان ما نصه (منظومة حدائق الفصول وجواهر الأصول في التوحيد التي كان أمر بتدريسها السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي):
وَصَانِعُ العَالَمِ لا يَحْوِيهِ * قُطْرٌ تَعَالَى الله عَن تَشْبِيهِ
قَدْ كَانَ مَوْجُودًا وَلا مَكَانَا * وَحُكْمُهُ الآنَ عَلى مَا كَانا
سُبْحَانَهُ جَلَّ عَن المكَانِ * وَعَزَّ عَن تَغَيُّرِ الزَّمَانِ
[قال تاج الدين السبكي في طبقاته :"كان فقيهًا فرضيًّا نحويًّا متكلمًا، أشعري العقيدة، إمامًا من أئمة المسلمين، إليه مرجع أهل الديار المصرية في فتاويهم. وله نظم كثير منه أرجوزة سماها "حدائق الفصول وجواهر الأصول" صنفها للسلطان صلاح الدين، وهي حسنة جدًّا نافعة، عذبة النظم" اهـ. (7/23ـ25)]
92ـ وقال المبارك بن محمد المعروف بابن الأثير (606هـ) ما نصه (النهاية في غريب الحديث مادة ق ر ب 4/32) :"المرادُ بقرب العبد من الله تعالى القُرب بالذِّكْر والعمل الصالح، لا قرب الذات والمكان لأن ذلك من صفات الأجسام، والله يتعالى عن ذلك ويتقدس" اهـ.
93ـ وقال المفسّر فخر الدين الرازي (606هـ) ما نصه (تفسير الرازي المسمى بالتفسير الكبير سورة الملك ءاية 16-30/69) :"واعلم أن المشبهة احتجوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله {ءأمنتم من في السماء}"اهـ، أي أن اعتقاد أن الله في مكان فوق العرش أو غير ذلك من الأماكن هو اعتقاد المشبهة الذين قاسوا الخالق على المخلوق وهو قياس فاسد منشؤه الجهل واتباع الوهم" اهـ.
94ـ وقال أيضًا (المصدر السابق سورة الشورى ءاية 4ـ27/144) :"قوله تعالى: {وهو العلي العظيم} لا يجوز أن يكون المراد بكونه عليًّا العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده، ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم، لأن ذلك يقتضي كونه مؤَّلَّفًا من الأجزاء والأبعاض، وذلك ضد قوله :{قل هو الله أحد} فوجب أن يكون المراد من العَلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدَثات، ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر بالاستعلاء وكمال الإلهية" اهـ.
95ـ وقال الشيخ أبو منصور فخر الدين عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن عساكر (620هـ) عن الله تعالى ما نصه (طبقات الشافعية 8/186) :
"موجودٌ قبل الخَلْق، ليس له قَبْلٌ ولا بَعْدٌ،
ولا فوقٌ ولا تحتٌ، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خَلْفٌ،
ولا كُلٌّ ولا بعضٌ، ولا يقال متى كان، ولا أين كان ولا كيف،
كان ولا مكان، كوَّن الأكوان، ودبَّر الزمان،
لا يتقيد بالزمان، ولا يتخصص بالمكان" اهـ.
96ـ وقال الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الشيباني الحنفي (629هـ) ما نصه (انظر شرحه على العقيدة الطحاوية المسمى بيان اعتقاد أهل السنة ص 45) :"مسألة: قال أهل الحق: إن الله تعالى متعالٍ عن المكان، غيرُ متمكِّنٍ في مكان، ولا متحيز إلى جهةٍ خلافًا للكرَّامية والمجسمة ... والذي يدل عليه قوله تعالى:{ليس كمثله شىء وهو السميع البصير} [سورة الشورى/11] فالله سبحانه وتعالى نفى أن يكون له مثل من الأشياء، والمكان والمتمكن متساويان قدرًا متماثلاً لاستوائهما في العدد، فكان القول بالمكان والتمكن ردًّا لهذا النص المحكم الذي لا احتمال فيه، وردُّ مثله يكون كفرًا. ومن حيث المعقول: ان الله تعالى كان ولا مكان، لأن المكان حادث بالإجماع، فعُلِمَ يقينًا أنه لم يكن متمكنًا في الأزل في مكان، فلو صار متمكِّنًا بعد وجود المكان لصار متمكنًا بعد أن لم يكن متمكِّنًا، ولا شكَّ أن هذا المعنى حادثٌ وحدوث المعنى في الذات أمارة الحدث، وذات القديم يستحيل أن يكون محل الحوادث على ما مرَّ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا" اهـ.
97ـ وقال المتكلم سيف الدين الآمدي (631هـ) ما نصه (أبكار الأفكار ص194-195 مخطوط) :"وما يروى عن السلف من ألفاظ يوهم ظاهرها إثبات الجهة والمكان فهو محمول على هذا الذي ذكرنا من امتناعهم عن إجرائها على ظواهرها والإيمان بتنزيلها وتلاوة كل ءاية على ما ذكرنا عنهم، وبيّن السلف الاختلاف في الألفاظ التي يطلقون فيها، كل ذلك اختلاف منهم في العبارة، مع اتفاقهم جميعًا في المعنى أنه تعالى ليس بمتمكن في مكان ولا متحيز بجهة، ومن اشتغل منهم بتأويل يليق بدلائل التوحيد قالوا في قوله:{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [سورة الزخرف/84] أراد به ثبوت الألوهية في السماء لا ثبوت ذاته، وكذي في هذا قوله:{وهو الله في السموات وفي الأرض} [سورة الأنعام/3] أي ألوهيته فيهما لا ذاته، وكذي في [هذا] قوله:{ءأمنتم من في السماء} [سورة الملك/16] ألوهيته إلا أن ألوهيته أضمرت بدلالة ما سيق من الآيات، وقوله:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [سورة المجادلة/7] أي يعلم ذلك ولا يخفى عليه شىء، وقوله:{ونحن أقربُ إليهِ من حبل الوريد} [سورة ق/16] أي بالسلطان والقدرة، وكذي القول بأنه فوق كل شىء أي بالقهر على ما قال تعالى:{وهو القاهر فوق عباده} [سورة الأنعام/18] وقالوا في قوله:{إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [سورة فاطر/10] إن الله تعالى جعل ديوان أعمال العباد في السماء والحفظة من الملائكة فيها فيكون ما رفع إلى هناك رفعًا إليه، وهذا كما في قوله: {ونحن أقربُ إليه منكم ولكن لا تبصرون} [سورة الواقعة/85] وقوله:{وأنتم حينئذٍ تنظرون} [سورة الواقعة/84] قالوا ملك الموت وأعوانهُ، والمجسمة لا يمكنهم أن يقولوا: إنه بالذات عند كل محتضر، ولا أن يقولوا: إنه بالذات في السماء لما يلزمهم القول بجعله تحت العرش وتحت عدد من السموات، فوقعوا بهواهم في مثل هذه المناقضات الفاحشة فيكون معنى قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب } [سورة فاطر/10] كما في قوله تعالى خبرًا عن إبراهيم صلوات الله عليه:{وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [سورة الصافات/99] أي إلى الموضع الذي أمرني ربي أن أذهب إليه، وقالوا في قوله:{إن الذين عند ربك} [سورة الأعراف/206] يعني الملائكة، أنَّ المراد منه قرب المنزلة لا قُرْب المكان كما قال في موسى:{وكان عند الله وجيهًا} [سورة الأحزاب/69] وقال تعالى:{واذكر عبدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} [سورة ص/45]، قال المفسرون وأئمة الهدى: أي أولو القوة في الدين والبصارة في الأمر، ولم يفهم أحد من السلف والخلف منه الأيدي الجارحة مع كونهم موصوفين حقيقة بالأبصار الجارحة والأيدي الجارحة: فكيف فهمت المشبهة من قوله:{خلقت بيديّ} [سورة ص/75] اليدين الجارحتين، ومن قوله:{ولتصنعَ على عيني} [سورة طه/39] العين الجارحة، ومن الخبر المروي :"إن الصدقة تقع في كف الرحمن" (أخرجه مسلم في صحيحه بنحوه: كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها) الكف الجارحة مع قوله تعالى:{ليس كمثله شىء} [سورة الشورى/11] وقوله:{ولم يكن له كفوًا أحد} [سورة الإخلاص/4] وقوله:{سبحان الله عما يصفون} [سورة المؤمنون/91] وقوله:{إن الله لغنيّ عن العالمين} [سورة العنكبوت/6]، فما فهموا من تلك المتشابهات إثبات الجسم والجوارح والصورة إلا لخبث عقيدتهم وسوء سريرتهم. وبالله العصمة من الخذلان" اهـ.
98ـ وقال الشيخ جمال الدين محمود بن أحمد الحَصِيري شيخ الحنفية في زمانه (636هـ) بعد أن قرأ فتوى ابن عبد السلام في تنزيه الله عن المكان والحروف والصوت ما نصه (طبقات الشافعية الكبرى: ترجمة عبد العزيز بن عبد السلام 8/237) :"هذا اعتقاد المسلمين، وشعار الصالحين، ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار" اهـ.
في اللغة العربية تأتي كلمة "أين" للسؤال عن المكان كما تأتي للسؤال عن المكانة.
يقال في اللغة العربية: أين فلان فلان من فلان أي أين قدر فلان من فلان؟، ويقال أين أصبح فلان. أي أين أصبح من القدر؟
فأما السؤال عن المكان في حق الله تعالى فمستحيل لأنه سبحانه قال في القرءان الكريم: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} والمكان مخلوق لله تعالى جعله الله تعالى حاويًا للأجسام الكبيرة والصغيرة والله ليس جسمًا، فكل ما كان في مكان فهو مخلوق، والله تعالى خالق سبحانه لا يتغيّر ولا يتبدّل.
فسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية لم يكن سؤالاً عن المكان بل عن المكانة وهذا جائز في لغة العرب كما أوضحت. فكأنما يقول لها: ما مدى تعظيمك لله.
هذا وإن حديث الجارية مضطرب لأنه ورد في عدة روايات مختلفة ومنها ما رواه الإمام مالك عن أن الجارية كانت خرساء.
فإن سأل سائل فقال نحن لا نستطيع تصوّر أن لا يكون الله تعالى إلا في جهة وأن جهة فوق هي أشرف الجهات، نقول لهم: الله تعالى لا يُتصوّر في العقل، نحن نستطيع تصوّر المخلوق أما الخالق فلا يمكن أن نتصوره بعقولنا والنجاة هو ما أرشدنا إليه علمائنا كالإمام أحمد بن حنبل الذي قال: مهما تصوّرت ببالك فالله بخلاف ذلك.
وقول الإمام أبو جعفر الطحاوي السلفي: "ومن وصف الله بمعنًى من معاني البشر فقد كفر" وقوله أيضًا: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات" أي أن المبتدعات أي المخلوقات تكون في إحدى الجهات الست فوق أو تحت يمين أو شمال أمام أو خلف.
نحن المخلوقون عقولنا محدودة، لا نستطيع أن نتصور أنه أنه لم يكن هناك ليل أو نهار، لا نستطيع أن نتصور أنه لم يكن هناك مكان ولا زمان، والليل والنهار والمكان والزمان كلهم مخلوقات، الله خلقهم سبحانه، وذات الله تعالى أي حقيقة الله لا يعلمه إلا الله سبحانه.
ثم إن العلوّ المكاني ليس دائمًا تشريف لساكنه..

فكم وكم من الخدام سكنوا في الطوابق العليا وملوكهم أسفل منهم 

وسبحان الله والحمدلله والصلاة والسلام على معلم الناس الخير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...