بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 28 يوليو 2018

أدلة أهل التنزيه في رد شُبَه أهل التشبيه

الحمد لله الذي تنزه عن مشابهة المحدثات والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المخلوقات وعلى ءاله وصحبه ما انقضى زمان وفات ،

اما بعد ،
إعلم أرشدني الله وإياك أنه في الأزمان الماضية في أثناء وجود الدولة الإسلامية كان هناك اهتمام من قبل السلاطين في أكثر الأوقات لتعيين العلماء من أهل الحق في مناصب القضاء والفتوى مما كان يقفل الباب في وجه اهل الضلال ويحدّ من نشر ضلالاتهم من خلال تلك المناصب الدينية، وكان كلما ظهر مبتدع ضال اجتمع اهل الحق من أهل العلم في تلك الناحية التي ظهر فيها ذلك الضال وأخمدوا فتنته وأقاموا عليه الحجة بالأدلة و البراهين الشرعية ، و أما إذا كانت ظهرت فتنةٌ عظيمةٌ ،على يد ضال ، ذو شبهة قوية وخشي العلماء على العامّة الإفتتان بها ، ألفوا في الرد عليه المؤلفات بالإضافة الى التحذير في البلاد منه والتأكيد على نشر الصواب بين الناس قبل وصول تلك الشبهة إليهم .
أما اليوم فالحال لا يخفى عليكم ، من حيث الغالب في كثير من البلاد اليوم لا يختارون اهل العلم لشغل المناصب الدينية وإنما ينظرون إلى المصالح الشخصية ، ولما كان الحال هكذا ولما كان المشبهة استغلوا هذا الضعف الذي في بعض الأحيان كانوا هم يساعدون في حصوله ،فقد نبشوا في الليالي الظلماء واخرجوا من تحت الغبار كتب أحمد بن تيمية المخطوطة ، تلك الكتب التي كان مر عليها مئات السنين ولم يهتم أحد بطبعها أو نسخها لما في طياتها من فساد وضلال . فحصلت المصيبة وأخذ أولئك المشبهة بطبع تلك الكتب في زمن ولي الأمرفيه إلى غير أهله وانشغل أكثر الناس عن العلم بطلب الدنيا . ولم يكتفوا بذلك فقط بل عملوا جاهدين على وقف طبع كتب اهل الحق من علماء الإسلام تلك الكتب التي تخالف ما ذهبوا اليه مستخدمين كل ما يملكون من اموال وسلطة ومراكز ، حتى وصل الأمر في كثير من البلاد إلى أن الواحد إذا اراد شراء كتاب ديني فتوجه الى المكتبة للشراء يكاد لا يجد فيها كتبا غير كتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن عبد الوهاب ومن تبعهم في هذا الزمان ، فكأنهم يقولون للناس هؤلاء الثلاثة ومن اتبعهم في زمننا هم فقط العلماء وأما غيرهم فاحذروا منهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
من قبل ، منذ سبعين سنة تقريبا ، كانت المجسمة لا يظهرون علنا كثيرا من اقوالهم الفاسدة خوفا من الناس الذين كانوا ما زالوا يحفظون عبارات سليمة في العقيدة مما يكشف تلك الأباطيل ، أما اليوم فتجرؤوا على ذلك ، فمثلا كانوا لا يصرحون في مجالسهم العامة بلفظ الجهة في حق الله أما اليوم فصاروا يفعلون ويموهون على ضعاف العقول من العامة بقولهم " أنّ الله في جهة فوق وهي جهة عدمية لا وجودية " وبعض الأحيان يقولون" الله فوق العالم بذاته حيث لا مكان " وكلا القولين فاسد لمخالفتهما للعقيدة الحقة التي اجمع عليها المسلمون سلفهم وخلفهم ، وقد استطاعوا أن يخدعوا بذلك كثيرا من الناس العوامِ وكذلك بعضِ من يدعي العلم .
فمن باب إظهار الحق وبيان الأدلة على فساد ما ذهبوا إليه ، سأقوم بعون الله وتوفيقه بكتابة ما يحضرني من الأدلة في الرد على هذين القولين سائلا الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه وأن يرزقني وإياكم حسن الختام .
الحمد لله وبعد 
إن شاء الله أذكر الآن مختصرة في العقيدة الإسلامية الصحيحة ثمّ أتبعها بعد ذلك ببعض الادلة النقلية مما يتعلق بهذا الموضوع .

" العقيدة المنجية " 
يقول الحافظ الكبير إمام أهل السنة في زمانه الفقيه المحدّث أبي عبد الرحمن الشيبي المفتي رضي الله عنه :
قال أهل الحق : العالَم جَوْهَرٌ أو عَرَضٌ ،- العالَم هو كل ما سِوى الله -
فالجوهر: ما له حجم وهو قسمان قسم متناهٍ في القِلة بحيث لا ينقسم ، وقسم ينقسم ويسمى جِِسما ،فالأول يسمى الجوهرَ الفردَ الجزءَ الذي لا يتجزأ ،
وأما العَرَض : فهو ما يقوم بالجوهر أي ما كان صفة له كحركة الجسم وسكونه وتحيّزه في حيّز ،
فأما الله تبارك وتعالى فهو غير ذلك كله ، يستحيل أن يكون جوهراً فرداً أو جوهراً متألفاً بحيث صار جسماً وهذا معنى قول بعضهم إنّ الله منزه عن الكمية و الكيفية ، ولا شىء سوى الله تعالى كذلك .
وأما قول أصحاب الهَيُولى أنها - أي يقولون في وصف الهيولى - ما لا كمية له ولا كيفية فهو باطل ،
وقول أهل الحق إنّ الله منزه عن الحد هذا معناه أنّ الله لو كان جوهراً فرداً لكان الجوهر الفرد مثلاً له ، ولو كان زائداً على ذلك إلى حدِ أكبر الأجرام وهو العرش أو أزيد إلى قدر يتناهى أو إلى قدرٍ يُفترض أنه لا يتناهى للزم كونه مؤلَفاً أي مركَباً والمؤَلَف يحتاج إلى المؤَلِف والمحتاج إلى غيره حادث لابد ،
وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " من زعم أنّ إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود " ، رواه أبو نعيم ، وقول علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زين العابدين : " إنّ الله ليس بمحدود " رواه بالإسناد المتصل الإمام مرتضى الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ، وقول أحمد بن سلامة الطحاوي :" تعالى ( أي الله ) عن الحدود " 
ولذلك استحال على الله أن يكون متصلا بالعالم أو حالاً فيه أو مباينا له بالمسافة ، وهذا هو الحق الذي لا يصحّ غيره ،وذلك لأنّ المخلوقات إما أن تكون متصلة ببعضها أو منفصلة بعضُها عن بعض وكلا الوجهين مستحيل وصف الله به ، وذلك لأنه يلزم منه إثبات المثل لله ، والله تبارك وتعالى نفى عن نفسه المثل على الإطلاق .
فإن قال الحشوية المجسمة المثبتون لله الحد : هذا نفي لوجود الله .
يقال لهم انتم بنيتم اعتقادكم على ما يصل إليه الوهم ولا عبرة بالوهم إنما العبرة بالدليل الشرعي والعقل وهذا الذي قررناه هو ما يقتضيه النقل والعقل ،
فإن قلتم - أي المجسمة - لا نؤمن بما لا يصل إليه وهمنا 
- يقال لهم - فقد أنكرتم مخلوقاً لا يصل إليه وهمكم مما أثبته القرءان كقوله تعالى { وجعل الظلمات والنور} . 
فالنور والظلام مخلوقان حادثان بشهادة القرءان ، فهل يَفهَم تصورُكم وقتاً لم يكن فيه نور ولا ظلام وقد ثبت ذلك بهذه الآية { وجعل الظلمات والنور } أي أنّ الله خلق الظلمات والنور بعد أن لم يكونا ، أوجدهما بغد أن كانا معدومين وهذا لا تصل إليه أوهامنا ولا أوهامكم ولا يتطرق إليه تصورنا ولا تصوركم ،
من يستطيع أن يتصور وقتاً لم يكن فيه نور و لا ظلام ، ومع ذلك يجب أن نؤمن أنه كان وقتٌ ( أي مخلوق ) لم يكن فيه نورٌ ولا ظلامٌ ، لأنه بعد خلق الماء والعرش خلق الله النور والظلام ، فأول خلق الله الماء ثمّ العرش ، فإذاً النور والظلام ما كانا إلا بعد وجود الماء والعرش ، وليعلم أنّ ما جاز عليه الدخول والخروج فهو مخلوق لله الواحد الذي ليس كمثله شىء ، وصلى الله على سيّدنا محمّد وعلى ءاله وصحبه وسلّم والحمد لله رب العالمين . 
انتهت " العقيدة المنجية " وهي من أجمل ما اُلِّف في هذا
العلم وهي تستحق أن تُكتب بماء الذهب .
الحمد لله وبعد
هاكم جواهر في العقيدة فاشدد عليها يدك واستحضرها دائما كلما واجهت تلك الشبه الباطلة التي يلقي بها شياطين المجسمة على البسطاء من الناس ليخرجوهم من النور الى الظلمات .

1- قال تعالى " ليس كمثله شىء 
2- قال تعالى " ولم يكن له كفوا أحد "
3-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان الله ولم يكن شىء غيره "
4-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا فكرة في الرب "
5-قال سيدنا ابو بكر " العجزعن درك الإدراك إدراك والبحث عن ذاته كفر وإشراك "
6- قال الإمام علي رضي الله عنه " كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان "
7-قال سيدنا عبد الله بن عباس " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله "
8- قال الإمام احمد بن حنبل والإمام ذو النون المصري " مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك "
9-قال الإمام الشافعي " من انتهض لمعرفة مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه "
10- قال الإمام الرفاعي " غاية المعرفة بالله الإيقان بوجوده بلا كيف ولا مكان " 
11- قال الإمام الطحاوي " تعالى ( يعني الله) عن الحدود" . وقال أيضا" لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات "
وغيرها من الأدلة الشىء الكثير .

واعلم أخي المسلم أنّ كل جوهرة من هذه الجواهر كافية في الدلالة على أنّ الله تعالى لا يسكن في جهةٍ ، لا فوق العرش كما تقول المجسمة الجهوية ، ولا غيرها من الجهات والأمكنة ، هم لو تركوا أوهامهم واتبعوا الحق الذي يشهد على صحته العقل لوضحت لهم الدِلالة على المراد من تلك الأدلة. 

هم يقولون : ما لنا وللعقل ، نحن نتبع الشرع و نترك ما عداه 
نقول لهم: بل انتم تائهون لا اتبعتم العقل ولا النقل ، فخرجتم صفر اليدين من الاثنين ، موّه عليكم الفيلسوف ابن تيمية واتباعه فظننتم انكم على الحق بإهمالكم العقل ، فصرتم تعجِزون عن إقامة الدليل على الملحدين والحلوليين واصحاب التناسخ وغيرهم ، وما ذاك إلا لأنكم ان انتم ناقشتموهم بما تعتبرونه ادلة نقلية ، فلن تستطيعوا اقامة الحجة عليهم :
فالملحد وغيره ممن لا يعتقد بوجود الله او ممن لا يصدق بالإسلام كيف سيقبل معكم بالأدلة النقلية ، وكذلك من يدعي الإسلام ويعتقد الحلول سيقول لكم : لا أُسِلّم لكم ، ثم يأتيكم بما يعتبره ادلة نقلية له !!! فإن لجأتم الى الأدلة العقلية لجدالهم ، نقضتم مذهبكم بعدم الإحتكام الى الأدلة العقلية. 
وإني أعلم يقيناً أنّ هؤلاء المجسمة لا يستطيعون أن يقيموا الحجة العقلية على عابد الشمس ، كيف يستطيعون ذلك وهم يشتركون مع عابد الشمس في اثبات علامات الحدوث لمعبودهم . 
تعالى الله عما يقول المشبهة وعابدو الشمس علواً كبيرا ً. 

ثم اعلم اخي المسلم أن المجسمة الجهوية - من ينسبون لله الجهة - قلما تجد بينهم من يتراجع عن اعتقاده بعد المناظرة ليس لضعفٍ في الأدلة التي تكون داحضةً لأقوالهم بل لأنّ قلوبهم متشرّبة هذا الإعتقاد. 
ولكن نسال الله ان يهديهم .

واعلم أنّ مناظرة هؤلاء القوم وإقامة الحجة عليهم امرٌ سهل جداً ، فهم لا يملكون حججاً عقلية و لا نقلية لإثبات اعتقادهم الفاسد ، فنقضه هيّن جداً ، كبيت العنكبوت لا يصعب نقضه ولو كان العنكبوت امضى سنيناً في نسجه
.
ذكر الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه ونصه : " لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها ، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُختَلَف فيه وجاء حديث ءاخر يَعْضِدُه فلا يُحتجُّ به " . 

قال فيه أيضًا ما نصّه : " وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متصل الإسناد رُدّ بأمور : أحدهما : أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا ، والثاني : أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ ، والثالث : أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له ، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه " انتهى . 

الثالثة : ذكر علماء الحديث أن الحديث إذا خالف صريح العقل أو النصّ القرءاني أو الحديث المتواتر ولم يقبل تأويلاً فهو باطل ، وذكره الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج الدين السبكي في " جمع الجوامع " وغيره . 

قال أبو سليمان الخطابي : " لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع له بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على صحتها ، وما بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من نفي التشبيه " . 

قاعدة مهمة : 
إن الشرع إنما ثبت بالعقل ، فلا يتصوّر وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده ، فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل معًا ، إذا تقرّر هذا فنقول : كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات بما يوهم خلاف العقل فلا يخلو إما أن يكون متواترًا أو ءاحادًا ، فإن كان ءاحادًا وهو نصّ لا يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو غلطه ، وإن كان ظاهرًا فالظاهر منه غير مراد ، وإن كان متواترًا فلا يُتصوّر أن يكون نصًّا لا يحتمل التأويل ، فلا بدّ أن يكون ظاهرًا أو محتملاً ، فحينئذٍ نقول الاحتمال الذي دلّ العقل على خلافه ليس بمراد منه ، فإن بقي بعد إزالته احتمال واحد تعيّن أنه المراد بحكم الحال ، وإن بقي احتمالان فصاعدًا فلا يخلو إما أن يدلّ قاطع على تعيين واحد منها أو لا ، فإن دلّ حمل عليه ، وإن لم يدلّ قاطع على التعيين فهل يعين بالظنّ والاجتهاد ؟ اختلف فيه ، فمذهب السلف عدم التعيين خشية الإلحاد " .

وقال الشيخ الفقيه شيث بن إبراهيم المالكي ( توفي سنة 598 هـ ) ما نصّه : " أهل الحق جمعوا بين المعقول والمنقول أي بين العقل والشرع ، واستعانوا في درك الحقائق بمجموعهما فسلكوا طريقًا بين طريقي الإفراط والتفريط ، وسنضرب لك مثالاً يقرّب من أفهام القاصرين ذكره العلماء كما أن الله تعالى يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ، فنقول لذوي العقول : مثال العقل العين الباصرة ، ومثال الشرع الشمس المضيئة ، فمن استعمل العقل دون الشرع كان بمنزلة من خرج في الليل الأسود البهيم وفتح بصره يريد أن يدرك المرئيات ويفرق بين المبصَرات فيعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، والأحمر من الأخضر والأصفر ، ويجتهد في تحديق البصر فلا يدرك ما أراد أبدًا مع عدم الشمس المنيرة وإن كان ذا بصر وبصيرة ، ومثال من استعمل الشرع دون العقل ، مثال من خرج نهارًا جهارًا وهو أعمى أو مغمض العينين ، يريد أن يدرك الألوان ويفرق بين الأعراض ، فلا يدرك الآخر شيئًا أبدًا ، ومثال من استعمل العقل والشرع جميعًا مثال من خرج بالنهار وهو سالم البصر ، مفتوح العين والشمس ظاهرة مضيئة ، فما أجدره وأحقّه أن يدرك الألوان على حقائقها ، ويفرق بين أسودها وأحمرها وأبيضها وأصفرها . 

فنحن بحمد الله السالكون لهذه الطريق وهو الطريق المستقيم ، وصراط الله المبين ، ومن زلّ عنها وحاد وقع في طريق الشيطان المتشعّبة عن اليمين والشمال ، قال تعالى : { وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } سورة الأنعام / الآية 153 . 

ومن هنا يعلم أن المشبهة المجسمة تائهون في المعتقد لأنهم خالفوا الشرع والعقل بقولهم إن الله جالس على العرش ، وتارة يقولون إنه مستقرّ عليه ، ومنهم من يقول إنّ الله ترك مكانًا يجلس فيه معه محمدًا يوم القيامة ، وبقولهم إن الله متحيّز في مكان فوق العرش بذاته ، وبقولهم إن الله يتحرّك كل ليلة بنزوله من العرش إلى السماء الدنيا ، حتى إن بعض هؤلاء قال إن الله يضع رجله في جهنّم لكنها لا تحترق والعياذ بالله تعالى ، وغير ذلك من أقوالهم التي تدلّ على التشبيه والتجسيم لقياسهم الخالق على المخلوق ، واتباعهم الوهم . 

فنحمد الله تعالى الذي جعلنا على منهج أهل السنة والجماعة الذين تكلموا في أمور التوحيد من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله ، وعلى صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال إمام الحرمين الجويني الشافعي (478 هـ) ما نصه (2) : (( ومذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيز والتخصص بالجهات )) ا هـ.

وقال الأستاذ عبد القاهر التميمي (429 هـ) في كتابه (( الفرق بين الفرق )) ما نصه (3) : ((وأجمعوا على أنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان )) ا هـ .

ونقل الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي الأشعري ( 771 هـ ) عن الإمام فخر الدين بن عساكر (ت 620 هـ ) أنه قال :
(( إن الله تعالى موجود قبل الخلق ، ليس له قبل ولا بعد ولا فوق ولا تحت ، ولا يمين ولا شمال ، ولا أمام ولا خلف )) 
ا هـ،
ثم قال تاج الدين السبكي بعد أن ذكر هذه العقيدة ما نصه (4) : (( هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سني )) ا هـ .

وأما الدليل العقلي على تنزيه الله عن المكان والجهة والجلوس
فنقول :
اعلم أن النظر العقلي السليم لا يخرج عما جاء به الشرع ولا يتناقض معه ، والعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع إذ أن الشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقول كما قال الحافظ الفقيه الخطيب البغدادي : (( الشرع إنما يرد بموجزات العقول وأما بخلاف العقول فلا )) ا هـ.
وقال أهل الحق : إن الله ليس بمتمكن في مكان أي لا يجوز عليه المماسة للمكان والاستقرار عليه ، وليس معنى المكان ما يتصل جسم به على أن يكون الجسمان محسوسين فقط ، بل الفراغ الذي إذا حل فيه الجرم شغل غيره عن ذلك الفراغ مكان له ، كالشمس مكانها الفراغ الذي تسبح فيه ، وعند المشبهة والكرامية والمجسمة الله متمكن على العرش وتعلقوا بظاهر قوله تعالى :
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [سورة طه ] فقالوا : الاستواء الاستقرار ، وقال بعضهم : الجلوس وهؤلاء المشبهة قسم منهم يعتقدون أن الله مستقر على العرش ، ويكتفون بهذا التعبير من غير أن يفسروا هل هذا استقرار اتصال أم استقرار محاذاة من غير مماسة ،
وقسم منهم صرحوا بالجلوس ، والجلوس في لغة العرب معناه تماس جسمين أحدهما له نصف أعلى ونصف أسفل ، فمن قال : إنه مستو على العرش استواء اتصال أي جلوس ، أو قال : استواؤه مجرد مماسة من غير صفة الجلوس فهو مجسم ضال ، والذين قالوا إنه مستو على العرش من دون مماسة أي إنما يحاذيه من فوق أي كما تحاذي أرضنا السماء فهؤلاء أيضا مجسمة ضالون ، فلا يجوز أن يكون قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه ] على إحدى هذه الصفات الثلاث , والتفسير الصحيح تفسير من قال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قهر، لأن القهر صفة كمال لله تعالى ، وهو وصف نفسه به قال تعالى : {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[سورة الرعد]

فيصح تأويل الاستواء بالاستيلاء وإن كانت المعتزلة وافقت أهل السنة في ذلك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...