في دفع شبهة
من قال: إن من لوازم الرؤية الجهة
من قال: إن من لوازم الرؤية الجهة
أما استدلالهم على معتقدهم الفاسد لإثبات الجهة لله تعالى بأن المسلمين يرونه وهم في الجنة فهو استدلال فاسد لوجوه منها:
أنه ليس من شرط الرؤية أن يكون الله في جهة، فكما عرفناه تبارك وتعالى موجود لا يشبه الموجودات بلا جهة ولا مكان، كذلك نراه إن شاء الله من غير أن يكون في جهة أو مكان.
وأيضا اتفقت سائر أقوال الأمة على التنـزيه إلا شرذمة من المشبهة والمجسمة، فقاسوا الخالق على المخلوق، وقالوا: كما أن الرائي يكون في جهة فكذلك المرئي لا بد أن يكون في جهة! وهذا ينطبق على جسمين، جسم رائي وءاخر مرئي، وقد بينا أن الله تعالى ليس بجسم فسقط هذا الاستدلال.
وأيضا يدل على فساد ما زعموا أنه لو كان الله في جهة فلا بد أن يكون متصلا بالعالم أو منفصلا عنه! والاتصال والانفصال من صفات الأجسام وليس من صفات مَن ليس كمثله شىء.
وأيضا يدل على فساد ما زعموا أنه لو كان الله في جهة فلا بد أن يكون داخل العالم أو خارج العالم، ولو كان داخل العالم لكان جسما محصورا، ولو كان خارج العلم لكان جسما منفصلا عنه ولكان له أمثال والله عز وجل ليس كمثله شىء. وسنفرد فصلا في هذا الكتاب لإبطال قول المجسمة: بأنه لا يعلم موجود لا داخل العالم ولا خارجا عنه.
ولنقل أقوال بعض العلماء حول هذا الموضوع والله الموفق. وهذه أقوال بعض العلماء حول الرؤية والرد على المشبهة.
قال الإمام الرازي في أساس التقديس: (الشبهة الثالثة للكرامية في إثبات كونه تعالى في الجهة قالوا: ثبت أنه تعالى تجوز رؤيته والرؤية تقتضي مواجهة المرئي أو شيئا هو في حكم مقابلته وذلك يقتضي كونه تعالى مخصوصا بجهة. والجواب: اعلم أن المعتزلة والكرامية توافقتا في أن كل مرئي لا بد وأن يكون في جهة إلا أن المعتزلة قالوا لكنه ليس في الجهة فوجب أن لا يكون مرئيا، والكرامية قالوا لكنه مرئي فوجب أن يكون في الجهة وأصحابنا رحمهم الله نازعوا في هذه المقدمة، وقالوا لا نسلم أن كل مرئي فإنه مختص بالجهة بل لا نزاع في أن الأمر في الشاهد كذلك لكن لم قلتم أن ما كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك؟ وتقريره أن هذه المقدمة إما أن تكون مقدمة بديهية أو استدلالية فإن كانت بديهية لم يكن في إثبات كونه تعالى مختصا بالجهة حاجة إلى هذا الدليل وذلك لأنه ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وثبت أن البارىء تعالى قائم بالنفس فوجب القطع بأنه مختص بالجهة لأن العلم الضروري حاصل بأن كل ما ثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك، فإذا كان هذا الوجه حاصلا في إثبات كونه تعالى في الجهة كان إثبات كونه تعالى في الجهة بكونه مرئيا، ثم إثبات أن كل ما كان مرئيا فهو مختص بالجهة تطويل من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان، وأما إن قلنا أن قولنا أن كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلا لا تصير هذه المقدمة يقينية، وأيضا انا كما لا نعقل مرئيا في الشاهد إلا إذا كان مقابلا أو في حكم المقابل للرائي، فكذلك لا نعقل مرئيا إلا إذا كان صغيرا أو كبيرا أو ممتدا في الجهات أو مؤتلفا من الأجزاء وهم يقولون أنه تعالى يرى لا صغيرا ولا كبيرا ولا ممتدا في الجهات والجوانب والأحياز فإذا جاز لكم أن تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز أيضا أن المرئي في الشاهد وإن وجب كونه مقابلا للرائي إلا أن المرئي في الغائب لا يجوز أن يكون كذلك). اهـ
وفي كتاب إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني ( 15/462) باب قول الله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال القسطلاني: ({إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة). اهـ
وكذا قال ( 15/463) عند قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون" (وقال البيهقي سمعت الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي يقول في إملائه في قوله: (لا تضامون) بالضم والتشديد معناه لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا يضم بعضكم إلى بعض ومعناه بفتح التاء كذلك والأصل لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة وبالتخفيف الضيم ومعناه لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه وأنتم في جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة، والتشبيه برؤية القمر للرؤية دون تشبيه المرئي تعالى الله عن ذلك). اهـ
روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبيّ عليه الصلاة والسلام أنه قال: "جنتانِ من فضةٍ ءانيتُهُما وما فيهما وجنتانِ من ذهبٍ ءانيتُهُما وما فيهما وما بين القومِ وبيَن أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهِه في جنةِ عدنٍ". قال الإمام النووي في شرحه على الحديث ( 3/15) ما نصه: (ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط وقد قرر أئمتنا المتكلمون ذلك بدلائله الجلية ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة تعالى عن ذلك بل يراه المؤمنون لا في الجهة كما يعلمونه لا في الجهة. قوله صلى الله عليه وسلم: "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر في جنة عدن" قال العلماء: كان النبيّ عليه السلام يخاطب العرب بما يفهمونه ويقرب الكلام إلى أفهامهم ويستعمل الاستعارة وغيرها من أنواع المجاز ليقرب متناولها فعبر صلى الله عليه وسلم عن زوال المانع ورفعه عن الأبصار بإزالة الرداء. قوله صلى الله عليه وسلم: "في جنة عدن" أي الناظرون في جنة عدن فهي ظرف للناظر). اهـ
قال الحافظ ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ما نصه: (الرائي في جنة عدن لا المرئي لأنه لا تحيط به الأمكنة). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 13/523) ما نصه: (ومنع جمهور المعتزلة من الرؤية متمسكين بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة والله منـزه عن الجهة، واتفقوا على أنه يرى عباده، فهو راء لا من جهة). اهـ
قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13/531) ما نصه: (قوله: "في جنة عدن" قال ابن بطال: لا تعلق للمجسمة في إثبات المكان لما ثبت من استحالة أن يكون سبحانه جسماً أو حالاً في مكان…. وقال عياض: معناه راجع إلى الناظرين أي وهم في جنة عدن لا إلى الله فإنه لا تحويه الأمكنة سبحانه. وقال القرطبي: يتعلق بمحذوف في موضع الحال من القوم مثل كائنين في جنة عدن) .اهـ
قال الإمام القرطبي فيما نقله الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13/524) ما نصه: (اشترط النفاة في الرؤية شروطا عقلية كالبنية المخصوصة والمقابلة واتصال الأشعة وزوال الموانع كالبعد والحجب في خبط لهم وتحكم، وأهل السنة لا يشترطون شيئا من ذلك سوى وجود المرئي وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي فيرى المرئي وتقترن بها أحوال يجوز تبدلها والعلم عند الله). اهـ
وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الوصية ما نصه: (ولقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة). اهـ ( مجموعة رسائل أبي حنيفة ص/75)
وقال رضي الله عنه في الفقه الأكبر ما نصه: (والله تعالى يرى في الآخرة و يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤسهم، بلا تشبيه ولا كيفية ولا جهة، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة). اهـ ( مجموعة رسائل أبي حنيفة ص/61ـ62)
وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/15) ما نصه: (ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة تعالى عن ذلك، بل يراه المؤمنون لا في جهة، كما يعلمونه لا في جهة).اهـ
وقال الشيخ خالد البغدادي في كتابه الإيمان والإسلام: (يجب الاعتقاد برؤية الله تعالى…وهو منـزه عن الجهات الست وليس بعرض ولا جسم ولا جوهر وليس بمركب ولا بمحدود ولا معدود ولا يقاس ولا يحسب ولا يكون فيه تغيير ولا تبديل ولا يتمكن بمكان ولا يجري عليه زمان وليس له تعالى أول ولا ءاخر ولا أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولهذا السبب لا يُدرك الإنسان بأفكاره وعلومه وعقله أي شىء من أفعاله تعالى ولا يحيط كيفية رؤيته أيضًا). اهـ
قال العلامة المحدث أبو حفص نجم الدين عمر بن أحمد النسفي الحنفي الإمام الزاهد في عقيدته النسفية ما نصه: (ورؤية الله تعالى جائزة في العقل واجبة بالنقل وقد ورد الدليل السَّمعي بإيجاب رؤية المؤمنين لله تعالى في دار الآخرة فيُرى لا في مكان ولا على جهة من مُقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى). اهـ
يتبع بإذن الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق