بيان أن رفع الأيدي عند الدعاء إلى السماء لأنها قبلة الدعاء
استدلوا على مدعاهم الفاسد بتحيز الله في السماء بأن الناس يتوجهون إلى السماء عند الدعاء.اهـ
وقد قال مؤلف كتاب أين الله الوهابي ما نصه: (ولذلك من زعم أن السماء قبلة الدعاء فقد خالف أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ودرج على غير فهم السلف الصالح رضي الله عنهم وشوّه فطرة الله التي فطر الناس عليها).اهـ
الرد: انظر كيف ينسبون أئمة العلم إلى أنهم قد خالفوا أقوال النبي عليه الصلاة والسلام !! واعلم أنهم قوم لا يقيمون وزنا للعلم ولا لأهله. فقد قال أئمة الإسلام وحفاظ الحديث أن السماء هي قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، كما صرح بذلك أهل العلم منهم النووي والقاضي عياض والحافظ البيهقي وأمير المؤمنين في الحديث الحافظ ابن حجر والغزالي والحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي وغيرهم. واليك بعض نصوصهم.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 2/296) ما نصه: (قال ابن بطال: أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا فيه خارج الصلاة في الدعاء، فكرهه شريح وطائفة، وأجازه الأكثرون، لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة).اهـ
وقال الحافظ الزبيدي في الإتحاف ( 2/170) عند شرح كلام الإمام الغزالي ما نصه:
( فأما رفع الأيدي عند السؤال) والدعاء ( إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء).اهـ
وقال العلامة البياضي في إشارات المرام من عبارات الإمام ص198 ما نصه: (فأشار إلى الجواب: بأن رفع الأيدي عند الدعاء إلى جهة السماء ليس لكونه تعالى فوق السماوات العلى بل لكونها قبلة الدعاء، إذ منها يتوقع الخيرات، ويستنـزل البركات لقوله تعالى:{وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [سورة الذاريات/22] مع الإشارة إلى اتصافه تعالى بنعوت الجلال وصفات الكبرياء، وكونه تعالى فوق عباده بالقهر والاستيلاء).اهـ
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه (كتاب صلاة الاستسقاء: باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ يَرفَعونَ أبصارَهُمْ إلى السَّماء في الصَّلاة، أو لا ترجِعُ إليهم" قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 4/127) ما نصه: (فيه النهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك، وقد نقل الإجماع في النهي عن ذلك، وقال القاضي عياض: واختلفوا في كراهة رفع البصر إلى السماء في الدعاء في غير الصلاة، فكرهه شُرَيْحٌ وءاخرون وجوزه الأكثرون وقالوا: لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ولا ينكر رفع الأبصار إليها كما لا يكره رفع اليد قال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [ سورة الذاريات /22]).اهـ
وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (5/22) ما نصه: (لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين). اهـ
قال إمام أهل السنة أبو منصور الماتريدي في كتاب التوحيد ( ص/75ـ76) ما نصه: (وأما رفع الأيدي إلى السماء فعلى العبادة، ولله أن يَتَعَبَّد عباده بما شاء، ويوجههم إلى حيث شاء، وإن ظن من يظن أن رفع الأبصار إلى السماء لأن الله من ذلك الوجه إنما هو كظن من يزعم أنه إلى جهة أسفل الأرض بما يضع عليها وجهه متوجهاً في الصلاة ونحوها، وكظن من يزعم أنه في شرق الأرض وغربها بما يتوجه إلى ذلك في الصلاة، أو نحو مكة لخروجه إلى الحج).اهـ ثم ذكر تنـزيه الله عن الجهة.
وقال الشيخ ملا علي القاري في كتابه شرح الفقه الأكبر (ص/172) ما نصه: (السماء قبلة الدعاء بمعنى أنها محل نزول الرحمة التي هي سبب أنواع النعمة، وهو مُوجِب دفع أصناف النقمة … وقد ذكر الشيخ أبو المعين النسفي إمام هذا الفن في التمهيد له من أن المحققين قرّروا أن رفع الأيدي إلى السماء في حال الدعاء تعبّد محض).اهـ
وقال الحافظ المحدث الشيخ أحمد بن الصديق الغماري في المنح المطلوبة (ص/61ـ62) ما نصه: (فإن قيل: إذا كان الحق سبحانه ليس في جهة، فما معنى رفع اليدين بالدعاء نحو السماء؟
فالجواب كما نقله في إتحاف السادة المتقين على النحو التالي:
قال الإمام مرتضى الزبيدي في الإتحاف (5/244): فإن قيل إذا كان الحق سبحانه ليس في جهة فما معنى رفع الأيدي بالدعاء نحو السماء؟ فالجواب من وجهين ذكرهما الطُّرطوشي:
أحدهما: أنه مَحَلُ تَعَبُدٍ كاستقبالِ الكعبةِ في الصلاةِ وإلصاقِ الجبهةِ بالأرضِ في السجودِ مع تَنَزُهِهِ سبحانه عن مَحَلِّ البيت ومحلِّ السجودِ، فكان السماء قبلة الدعاء.
وثانيهما: أنها لما كانت مهبط الرزق والوحي وموضع الرحمة والبركة، على معنى أن المطر ينـزل منها إلى الأرض فيخرج نباتا، وهي مسكن الملأ الأعلى، فإذا قضى الله أمراً ألقاه إليهم، فيلقونه إلى أهل الأرض وكذلك الأعمال ترفع وفيها غير واحد من الأنبياء وفيها الجنة التي هي غاية الأمانِيِّ فلما كانت معدنًا لهذه الأمور العظام ومعرفة القضاء والقدر تصرفت الهمم إليها وتوفرت الدواعي عليها).اهـ
وقال العلامة المحدث الشيخ عبد الله الهرري في كتابه إظهار العقيدة السنية (ص/128) ما نصه: (ورفع الأيدي والوجوه إلى السماء تَعَبُّد مَحْضٌ كالتوجّه إلى الكعبة في الصلاة، فالسماء قِبلة الدعاء كالبيت الذي هو قِبلة الصلاة).اهـ
وقال الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي في الإتحاف ( 2/170) ما نصه: (فأما رفع الأيدي عند السؤال والدعاء إلى جهة السماء فهو لأنها قِبلة الدعاء كما أن البيت قِبلة الصلاة يُستقبَل بالصدر والوجه، والمعبود بالصلاة والمقصود بالدعاء ـ وهو الله تعالى ـ منـزه عن الحلول بالبيت والسماء، وقد أشار النسفي أيضا فقال: ورفع الأيدي والوجوه عند الدعاء تعبُّد محض كالتوجه إلى الكعبة في الصلاة، فالسماء قبلة الدعاء كالبيت قبلة الصلاة).اهـ
وقال الشيخ أبو المعين النسفي الحنفي في كتابه تبصرة الأدلة (ص/181ـ182) ما نصه: (وتعلقهم بالإجماع برفع الأيدي إلى السماء عند المناجاة والدعاء باطل، لما ليس في ذلك دليل كونه تعالى في تلك الجهة، هذا كما أنهم أمروا بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة وليس هو في الكعبة، وأمروا برمي أبصارهم إلى موضع سجودهم حالة القيام في الصلاة بعد نزول قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [سورة المؤمنون/ 1ـ2] بعدما كانوا يصلون شاخصة أبصارهم نحو السماء، وليس هو في الأرض، وكذا حالة السجود أمروا بوضع الوجوه على الأرض، وليس هو تعالى تحت الأرض، فكذا هذا. وكذا المتحري يصلي إلى المشرق واليمن والشام، وليس هو تعالى في هذه الجهات. ثم هو يعبد كما في هذه المواضع ويُحتمل أنه تعالى أمر بالتوجه إلى هذه المواضع المختلفة عند اختلاف الأحوال ليندفع وهم تحيزه في جهة ويصير ذلك دليلا لمن عرفه أنه ليس بجهة منا. وقيل إن العرش جعل قبلة للقلوب عند الدعاء كما جعلت الكعبة قبلة للأبدان في حالة الصلاة).اهـ
وقال الحافظ المفسر الإمام القرطبي في تفسيره ( 18/216) ما نصه: (وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنـزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته؛ كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان).اهـ
وقال شيخه أبو العباس القرطبي في كتابه المفهم (3/335) عند حديث رفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء ما نصه: (هذه الإشارة منه صلى الله عليه وسلم إما إلى السماء لأنها قبلة الدعاء وإمّا لعلوّ الله المعنوي لأن الله لا يحويه مكان ولا يختص بجهة وقد بين ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [ الحديد: 4]).اهـ
وقال الشيخ ملا علي القاري في شرحه على الفقه الأكبر (ص/172ـ173) ما نصه: (ومن الغريب أنه استدل على مذهبه الباطل برفع الأيدي في الدعاء إلى السماء، وهو مردود لأن السماء قبلة الدعاء بمعنى أنها محل نزول الرحمة التي هي سبب أنواع النعمة، وهو موجب دفع أصناف النقمة، ولو كان الأمر كما قال هذا القائل في مدعاه الباطل لوقع التوجه بالوجه إلى السماء، وقد نهانا الشارع عن ذلك حال الدعاء لئلا يتوهم أن يكون المدعو في السماء، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[ البقرة/186] وقوله تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} [ البقرة/115].
وقد ذكر الشيخ أبو المعين النسفي إمام هذا الفن في التمهيد له من أن المحققين قرروا أن رفع الأيدي إلى السماء في حال الدعاء تعبد محض، قال الشارح العلامة السغناقي: هذا جواب عما تمسك به غلاة الروافض واليهود والكرامية، وجميع المجسمة في أن الله تعالى على العرش، هذا وقيل: إن العرش جعل قبلة للقلوب عند الدعاء، كما جعلت الكعبة قبلة للأبدان في حال الصلاة، وقد سبق أن هذا مما لا وجه له، فإنه مأمور باستقبال القبلة أيضا حال الدعاء وبرفع الأيدي إلى السماء، وبعدم رفع الوجه إلى جهة العلو، فالوجه ما قدمناه مع أن التوجه الحقيقي إنما يكون بالقلب إلى خالق السماء، نعم نكتة رفع الأيدي إلى السماء أنها خزائن أرزاق العباد، كما قال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ} [الذاريات/22] الآية. مع أن الإنسان مجبول على الميل إلى التوجه إلى جهة يتوقع منها حصول مقصوده كالسلطان إذا وعد العسكر بالأرزاق فإنهم يميلون إلى التوجه نحو جنوب الخزينة، وإن تيقنوا أن السلطان ليس فيها).اهـ انتهى كلام علي القاري.
والله تعالى يقول:{أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} ومع ذلك ما قال أحد من المسلمين بأن الله ساكن في الكعبة. ولكن المشبهة يستدلون لعقيدتهم الفاسدة بعقيدة إخوانهم من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان. فكيف تستدل لعقيدتك التي تدعيها بعقيدة من تكفره؟ إذا لماذا تكفرهم أنت؟ أليس لفساد عقيدتهم؟ فالنصارى يقولون: أبانا الذي في السماء. واليهود يقولون: إن الله خلق السماوات والأرض ثم تعب فاستلقى على قفاه على العرش. والله تعالى رد عليهم جميعا فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ}. فانظر بمن استدللت.
أما نحن فبحمد الله نقلب الأمر عليهم فنقول ماذا تقولون فيما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه ( كتاب صلاة الاستسقاء: باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء) أن النبي عليه الصلاة والسلام: "استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء".
وروى أبوا داود وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء قائماً يدعو يستسقي رافعاً كفيه قبل وجهه لا يجاوز بهما رأسه.اهـ
فماذا يقول في فعل رسول الله؟ فأين استدلاله برفع الأيدي إلى السماء والنبيّ عليه الصلاة والسلام فعله وفعل خلافه؟
ومما نقلنا لك من أقوال العلماء تعلم فساد قول مؤلف الكتاب المسمى بـ ( أين الله) الوهابي حيث قال ما نصه: (ولذلك من زعم أن السماء قبلة الدعاء فقد خالف أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ودرج على غير فهم السلف الصالح رضي الله عنهم، وشوه فطرة الله التي فطر الناس عليها).اهـ
وعلى هذا الذي قاله هذا الوهابي ينبغي أن يقال بأن هؤلاء القوم يعتقدون بأن الله ساكن في الكعبة لأن المسلمين يتوجهون إليها في صلاتهم لا إلى السماء!!!
--
يتبع باذن الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق