الشروع في الرد على مزاعمه وإبطالها
بعد ذكر هذه المقدمة نشرع في تفنيد مزاعمهم والرد على مفاسدهم والله الموفق.
الرد على استدلالهم ببعض الآيات والأحاديث لإثبات العلو الحسي
أما استدلالهم ببعض الآيات لإثبات ما يسمونه بصفة العلو بالذات لله فنقلب الأمر عليهم فنقول وقد ورد في بعض الآيات خلاف ما قالوا مثلا: قال الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد/ 4] وقال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [سورة طه/46]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف/4]. وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [سورة القصص/30ـ31]. وقال سيدنا إبراهيم لمّا ءاذاه قومه: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات/99] وذهب إلى بلاد الشام. وقال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق/16]. وغير ذلك من الآيات فكما أن هذه الآيات لا تعني أن الله في الأرض بذاته، ولا أنه أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد بذاته، فكذلك تلك لا تعني أن الله في السماء بذاته أو أنه مستقر على العرش بذاته.
أما حديث: "إن الله كتب كتابا ….. إلى قوله: فهو عنده فوق العرش" فمعنى "عنده" المذكور في الحديث للتشريف كما في قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
قال الراغب الأصبهاني في كتاب المفردات في غريب القرءان (ص/362) ما نصه: ( {عِندَ} : عند لفظ موضوع للقرب فتارة يستعمل في المكان وتارة في الاعتقاد نحو أن يقال: (عندي كذا) وتارة في الزُلفى والمنـزلة وعلى ذلك قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وقال: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} وعلى هذا النحو قيل الملائكة المقربون عند الله. قال تعالى: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقوله تعالى: {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وقوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي في حكمه. وقوله: فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وقوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وقوله تعالى: {إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} فمعناه في حكمه). اهـ
وقال الحافظ المحدث ولي الدين أبو زرعة العراقي في كتابه طرح التثريب (ج 8/84) ما نصه: (وقوله ـ أي النبيّ عليه الصلاة والسلام ـ "فهو عنده فوق العرش" لا بد من تأويل ظاهر لفظة "عنده" لأن معناها حضرة الشىء والله تعالى منـزه عن الاستقرار والتحيز والجهة، فالعندية ليست من حضرة المكان بل من حضرة الشرف أي وضع ذلك الكتاب في محل معظم عنده). اهـ
وقال في موضع ءاخر من طرح التثريب (8/248) ما نصه: (وقال أبو العباس القرطبي هذه العندية عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان لأنه تعالى منـزه عن المكان والزمان، وإنما هي كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [سورة القمر/ 54ـ55] أي في محل التشريف والإكرام والاختصاص). اهـ
قال الإمام القرطبي في تفسيره ( 17/150) عند قوله تعالى: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [سورة القمر/55] و{عِندَ} هاهنا عندية القربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنـزلة). اهـ
وقال أيضا في موضع ءاخر من تفسيره عند قوله تعالى: ({رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم/11] {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} [الأعراف/206] ونحو ذلك، كل ذلك عائد على الرتبة والمنـزلة والحظوة والدرجة الرفيعة لا إلى المكان). اهـ
وقال شهاب الدين القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (15/427) عند قوله صلى الله عليه وسلم: ("فهو عنده على العرش" قوله:"عنده" أي علم ذلك عنده "على العرش" مكنونا عن سائر الخلق مرفوعا عن حيز الإدراك والله تعالى منـزه عن الحلول في المكان لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق به تعالى) .اهـ
وقال العلامة العيني في شرح صحيح البخاري: (والعندية ليست مكانية بل هو إشارة إلى الكمال كونه مكنونا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/475) عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ("عنده" فقال ابن بطال: "عند" في اللغة للمكان والله منـزه عن الحلول في المواضع لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق بالله، فعلى هذا قيل معناه أنه سبق علمه بإثابة من يعمل بطاعته وعقوبة من يعمل بمعصيته ويؤيده قوله في الحديث الذي بعده "أنا عند ظن عبدي بي" ولا مكان هناك قطعا). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/508) في كتاب التوحيد عند شرحه على هذا الحديث ما نصه: (الحديث الرابع: حديث أبي هريرة: "إن الله تعالى لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي غلبت غضبي" وقد تقدم في باب {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} ويأتي بعض الكلام عليه في باب قوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} قال الخطابي: المراد بالكتاب أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاه كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي قضى ذلك، قال: ويكون معنى قوله:" فوق العرش" أي عنده علم ذلك فهو لا ينساه ولا يبدله، كقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}. وإما اللوح المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق وبيان أمورهم وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم، ويكون معنى: "فهو عنده فوق العرش" أي ذكره وعلمه وكل ذلك جائز في التخريج، على أن العرش خلق مخلوق تحمله الملائكة، فلا يستحيل أن يماسوا العرش إذا حملوه، وإن كان حامل العرش وحامل حملته هو الله، وليس قولنا إن الله على العرش أي مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته بل هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا له به ونفينا عنه التكييف إذ ليس كمثله شئ وبالله التوفيق). اهـ
وقال الحافظ المفسر الإمام القرطبي في تفسيره (6/399 ) ما نصه: (ومعنى {فَوْقَ عِبَادِهِ}ْ فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان كما تقول السلطان فوق رعيته أي بالمنـزلة والرفعة). اهـ
وقال الحافظ المفسر الإمام القرطبي في تفسيره ج18 ص216 ما نصه: (ووصفه ـ تعالى ـ بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام، ولأنه ـ تعالى ـ خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في الأزل قبل خلق المكان والزمان ولا مكان له ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان). اهـ
وقال في موضع ءاخر (12/91) عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} [سورة الحج/62] ما نصه: (أي العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. {الكبير} أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير ذو الكبرياء. والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه). اهـ
وقال القرطبي في تفسيره أيضاً (3/278) ما نصه: (و{الْعَلِيُّ} يراد به علو القدر والمنـزلة لا علو المكان، لأن الله منـزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم ـ من المجسمة ـ أنهم قالوا هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلةٍ مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى. وعن عبد الرحمن بن قُرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العُلى: سبحان الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى. والعلي والعالي: القاهر الغالب للأشياء، تقول العرب: علا فلان فلانا أي غلبه وقهره، قال الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم=== تركناهم صرعى لنسرٍ وكاسرٍ). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ج6 ص168 ما نصه: (ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحس). اهـ
وقال الشيخ ملا علي القاري في شرحه على الفقه الأكبر (ص/171) ما نصه: (وأما علوه تعالى على خلقه المستفاد من نحو قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام/18ـ61] فعلو مكانةٍ ومرتبةٍ لا علو مكان كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة). اهـ
وقال الزجاج أحد مشاهير اللغويين في تفسير أسماء الله الحسنى (ص/48) ما نصه: (العلي: هو فَعيل في معنى فاعل، فالله تعالى عالٍ على خلقه وهو عليٌّ عليهم بقدرته، ولا يجب أن يُذهب بالعلو ارتفاع مكانٍ، إذ قد بيَّنا أن ذلك لا يجوز في صفاته تقدست، ولا يجوز أن يكون على أن يُتصور بذهن أو يتجلى لطرف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا). اهـ
وقال أيضًا (ص/40) ما نصه: (والله تعالى عالٍ على كلّ شىء، وليس المراد بالعلو: ارتفاع المحلِّ، لأن الله تعالى يجلُّ عن المحلِّ والمكان، وإنما العلو علوُّ الشأن وارتفاع السلطان). اهـ
وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري في شرح الإرشاد لإمام الحرمين وهو مخطوط ما نصه: (فصل في معنى العظمة والعلو والكبرياء والفوقية: أجمع المسلمون على أن الله تعالى عظيم وأعظم من كل عظيم، ومعنى العظمة والعلو والعزة والرفعة والفوقية واحد وهو استحقاق نعوت الجلال وصفات التعالي على وصف الكمال وذلك تقدسه عن مشابهة المخلوقين، وتنـزهه عن سمات المحدثين وعن الحاجة والنقص، واتصافه بصفات الإلهية كالقدرة الشاملة للمقدورات، والإرادة النافذة في المرادات، والعلم المحيط بجميع المعلومات، والجود البسيط، والرحمة الواسعة، والنعمة السابغة، والسمع والبصر والقول القديم، والطَّوْل العميم والوجه واليد والبقاء والمجد). اهـ
يتبع بإذن الله
وقد يستدلون ببعض الأحاديث دون أن يذكروا سند أو راو أو من ذهب من العلماء إلى ما ذهبوا إليه ولن يجدوا. وأما نحن فنقلب الأمر عليهم أيضا ونقول روى البخاري ومسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:" أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا فإنكم تدعون سميعا قريبا، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم". فهل تحملون هذا على ظاهره وتقولون بأن الله بذاته بين العبد وبين الدابة وهذا كفر ومنقض لعقيدتكم؟ هذا الحديث أقوى من الأحاديث التي تستدلون بها فقد رواه الشيخان. وهذا مثل قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق/16]. فهل تقولون بأن الله بذاته أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد حاشى لله، فإن أخذتم بظاهر الحديث والآية انتقض مذهبكم للتناقض، وإن قلتم نؤول هذا الحديث ولا نؤول حديث الجارية ونحوه كان هذا تحكما.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَلَ وجهه فإن الله قِبَلَ وجهه إذا صلى" رواه البخاري ومسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء" رواه مسلم. فكما أن هذه الأحاديث لا تحمل على ظاهرها باتفاق العلماء، فكذلك الأحاديث التي ورد فيها لفظ "في السماء" لا تحمل على الظاهر باتفاق السلف والخلف.
وفي الحديث الوارد فيه لفظ الجوع والمرض تعليم صريح لنا من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم للتأويل في مثل هذه الألفاظ، والحديث رواه مسلم وهو حديث قدسي بلفظ: "يا ابن ءادم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربّ العالمين. قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما أنك لو عدته لوجدتني عنده…." الحديث. فهل تزعمون أن لله صفة المرض والعياذ بالله؟ وإنما هو مؤوّل بمرض العبد، لأن حقيقة المرض محال على الله عزّ وجل. وهكذا كل لفظ موهم للنقص ما زال العلماء من السلف والخلف يصرفونه عن ظاهره، فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا.
--
بعد ذكر هذه المقدمة نشرع في تفنيد مزاعمهم والرد على مفاسدهم والله الموفق.
الرد على استدلالهم ببعض الآيات والأحاديث لإثبات العلو الحسي
أما استدلالهم ببعض الآيات لإثبات ما يسمونه بصفة العلو بالذات لله فنقلب الأمر عليهم فنقول وقد ورد في بعض الآيات خلاف ما قالوا مثلا: قال الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد/ 4] وقال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [سورة طه/46]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف/4]. وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [سورة القصص/30ـ31]. وقال سيدنا إبراهيم لمّا ءاذاه قومه: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات/99] وذهب إلى بلاد الشام. وقال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق/16]. وغير ذلك من الآيات فكما أن هذه الآيات لا تعني أن الله في الأرض بذاته، ولا أنه أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد بذاته، فكذلك تلك لا تعني أن الله في السماء بذاته أو أنه مستقر على العرش بذاته.
بيان أن العندية المضافة إلى الله تعالى هي للتشريف
أما حديث: "إن الله كتب كتابا ….. إلى قوله: فهو عنده فوق العرش" فمعنى "عنده" المذكور في الحديث للتشريف كما في قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
قال الراغب الأصبهاني في كتاب المفردات في غريب القرءان (ص/362) ما نصه: ( {عِندَ} : عند لفظ موضوع للقرب فتارة يستعمل في المكان وتارة في الاعتقاد نحو أن يقال: (عندي كذا) وتارة في الزُلفى والمنـزلة وعلى ذلك قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وقال: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} وعلى هذا النحو قيل الملائكة المقربون عند الله. قال تعالى: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقوله تعالى: {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وقوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي في حكمه. وقوله: فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وقوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وقوله تعالى: {إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} فمعناه في حكمه). اهـ
وقال الحافظ المحدث ولي الدين أبو زرعة العراقي في كتابه طرح التثريب (ج 8/84) ما نصه: (وقوله ـ أي النبيّ عليه الصلاة والسلام ـ "فهو عنده فوق العرش" لا بد من تأويل ظاهر لفظة "عنده" لأن معناها حضرة الشىء والله تعالى منـزه عن الاستقرار والتحيز والجهة، فالعندية ليست من حضرة المكان بل من حضرة الشرف أي وضع ذلك الكتاب في محل معظم عنده). اهـ
وقال في موضع ءاخر من طرح التثريب (8/248) ما نصه: (وقال أبو العباس القرطبي هذه العندية عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان لأنه تعالى منـزه عن المكان والزمان، وإنما هي كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [سورة القمر/ 54ـ55] أي في محل التشريف والإكرام والاختصاص). اهـ
قال الإمام القرطبي في تفسيره ( 17/150) عند قوله تعالى: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [سورة القمر/55] و{عِندَ} هاهنا عندية القربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنـزلة). اهـ
وقال أيضا في موضع ءاخر من تفسيره عند قوله تعالى: ({رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم/11] {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} [الأعراف/206] ونحو ذلك، كل ذلك عائد على الرتبة والمنـزلة والحظوة والدرجة الرفيعة لا إلى المكان). اهـ
وقال شهاب الدين القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (15/427) عند قوله صلى الله عليه وسلم: ("فهو عنده على العرش" قوله:"عنده" أي علم ذلك عنده "على العرش" مكنونا عن سائر الخلق مرفوعا عن حيز الإدراك والله تعالى منـزه عن الحلول في المكان لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق به تعالى) .اهـ
وقال العلامة العيني في شرح صحيح البخاري: (والعندية ليست مكانية بل هو إشارة إلى الكمال كونه مكنونا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/475) عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ("عنده" فقال ابن بطال: "عند" في اللغة للمكان والله منـزه عن الحلول في المواضع لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق بالله، فعلى هذا قيل معناه أنه سبق علمه بإثابة من يعمل بطاعته وعقوبة من يعمل بمعصيته ويؤيده قوله في الحديث الذي بعده "أنا عند ظن عبدي بي" ولا مكان هناك قطعا). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/508) في كتاب التوحيد عند شرحه على هذا الحديث ما نصه: (الحديث الرابع: حديث أبي هريرة: "إن الله تعالى لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي غلبت غضبي" وقد تقدم في باب {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} ويأتي بعض الكلام عليه في باب قوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} قال الخطابي: المراد بالكتاب أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاه كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي قضى ذلك، قال: ويكون معنى قوله:" فوق العرش" أي عنده علم ذلك فهو لا ينساه ولا يبدله، كقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}. وإما اللوح المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق وبيان أمورهم وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم، ويكون معنى: "فهو عنده فوق العرش" أي ذكره وعلمه وكل ذلك جائز في التخريج، على أن العرش خلق مخلوق تحمله الملائكة، فلا يستحيل أن يماسوا العرش إذا حملوه، وإن كان حامل العرش وحامل حملته هو الله، وليس قولنا إن الله على العرش أي مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته بل هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا له به ونفينا عنه التكييف إذ ليس كمثله شئ وبالله التوفيق). اهـ
وقال الحافظ المفسر الإمام القرطبي في تفسيره (6/399 ) ما نصه: (ومعنى {فَوْقَ عِبَادِهِ}ْ فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان كما تقول السلطان فوق رعيته أي بالمنـزلة والرفعة). اهـ
وقال الحافظ المفسر الإمام القرطبي في تفسيره ج18 ص216 ما نصه: (ووصفه ـ تعالى ـ بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام، ولأنه ـ تعالى ـ خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في الأزل قبل خلق المكان والزمان ولا مكان له ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان). اهـ
وقال في موضع ءاخر (12/91) عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} [سورة الحج/62] ما نصه: (أي العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. {الكبير} أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير ذو الكبرياء. والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه). اهـ
وقال القرطبي في تفسيره أيضاً (3/278) ما نصه: (و{الْعَلِيُّ} يراد به علو القدر والمنـزلة لا علو المكان، لأن الله منـزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم ـ من المجسمة ـ أنهم قالوا هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلةٍ مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى. وعن عبد الرحمن بن قُرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العُلى: سبحان الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى. والعلي والعالي: القاهر الغالب للأشياء، تقول العرب: علا فلان فلانا أي غلبه وقهره، قال الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم=== تركناهم صرعى لنسرٍ وكاسرٍ). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ج6 ص168 ما نصه: (ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحس). اهـ
وقال الشيخ ملا علي القاري في شرحه على الفقه الأكبر (ص/171) ما نصه: (وأما علوه تعالى على خلقه المستفاد من نحو قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام/18ـ61] فعلو مكانةٍ ومرتبةٍ لا علو مكان كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة). اهـ
وقال الزجاج أحد مشاهير اللغويين في تفسير أسماء الله الحسنى (ص/48) ما نصه: (العلي: هو فَعيل في معنى فاعل، فالله تعالى عالٍ على خلقه وهو عليٌّ عليهم بقدرته، ولا يجب أن يُذهب بالعلو ارتفاع مكانٍ، إذ قد بيَّنا أن ذلك لا يجوز في صفاته تقدست، ولا يجوز أن يكون على أن يُتصور بذهن أو يتجلى لطرف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا). اهـ
وقال أيضًا (ص/40) ما نصه: (والله تعالى عالٍ على كلّ شىء، وليس المراد بالعلو: ارتفاع المحلِّ، لأن الله تعالى يجلُّ عن المحلِّ والمكان، وإنما العلو علوُّ الشأن وارتفاع السلطان). اهـ
وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري في شرح الإرشاد لإمام الحرمين وهو مخطوط ما نصه: (فصل في معنى العظمة والعلو والكبرياء والفوقية: أجمع المسلمون على أن الله تعالى عظيم وأعظم من كل عظيم، ومعنى العظمة والعلو والعزة والرفعة والفوقية واحد وهو استحقاق نعوت الجلال وصفات التعالي على وصف الكمال وذلك تقدسه عن مشابهة المخلوقين، وتنـزهه عن سمات المحدثين وعن الحاجة والنقص، واتصافه بصفات الإلهية كالقدرة الشاملة للمقدورات، والإرادة النافذة في المرادات، والعلم المحيط بجميع المعلومات، والجود البسيط، والرحمة الواسعة، والنعمة السابغة، والسمع والبصر والقول القديم، والطَّوْل العميم والوجه واليد والبقاء والمجد). اهـ
يتبع بإذن الله
وقد يستدلون ببعض الأحاديث دون أن يذكروا سند أو راو أو من ذهب من العلماء إلى ما ذهبوا إليه ولن يجدوا. وأما نحن فنقلب الأمر عليهم أيضا ونقول روى البخاري ومسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:" أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا فإنكم تدعون سميعا قريبا، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم". فهل تحملون هذا على ظاهره وتقولون بأن الله بذاته بين العبد وبين الدابة وهذا كفر ومنقض لعقيدتكم؟ هذا الحديث أقوى من الأحاديث التي تستدلون بها فقد رواه الشيخان. وهذا مثل قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق/16]. فهل تقولون بأن الله بذاته أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد حاشى لله، فإن أخذتم بظاهر الحديث والآية انتقض مذهبكم للتناقض، وإن قلتم نؤول هذا الحديث ولا نؤول حديث الجارية ونحوه كان هذا تحكما.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَلَ وجهه فإن الله قِبَلَ وجهه إذا صلى" رواه البخاري ومسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء" رواه مسلم. فكما أن هذه الأحاديث لا تحمل على ظاهرها باتفاق العلماء، فكذلك الأحاديث التي ورد فيها لفظ "في السماء" لا تحمل على الظاهر باتفاق السلف والخلف.
وفي الحديث الوارد فيه لفظ الجوع والمرض تعليم صريح لنا من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم للتأويل في مثل هذه الألفاظ، والحديث رواه مسلم وهو حديث قدسي بلفظ: "يا ابن ءادم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربّ العالمين. قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما أنك لو عدته لوجدتني عنده…." الحديث. فهل تزعمون أن لله صفة المرض والعياذ بالله؟ وإنما هو مؤوّل بمرض العبد، لأن حقيقة المرض محال على الله عزّ وجل. وهكذا كل لفظ موهم للنقص ما زال العلماء من السلف والخلف يصرفونه عن ظاهره، فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا.
--
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق