بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 28 يوليو 2018

الأدلة المقومة لاعوجاجات المجسمة (5)

الدليل العقلي على تنـزيه الله عن المكان


وأما الدليل العقلي على استحالة كون الله في جهة ومكان فهو على النحو التالي:


قال الإمام الرازي في أساس التقديس (ص/ 36ـ37) ما نصه: (البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون متحيّزا هو أنه لو كان متحيّزا لكان متناهيا وكل متناه ممكن وكل ممكن مُحدَث فلو كان متحيّزا لكان مُحْدَثا وهذا محال فذاك محال.

أما المقدمة الأولى: وهي بيان أنه تعالى لو كان متحيّزا لكان متناهيا فالدليل عليه أن كل مقدار فإنه يقبل الزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه وهذا يدل على أن كل متحيّز فهو متناه.

وأما المقدمة الثانية: وهي بيان أن كل متناه فهو ممكن فذلك لأن كل ما كان متناهيا، فإن فرض كونه أزيد قدْرا أو أنقص قدْرا أمر ممكن والعلم بثبوت هذا الإمكان ضروري، فثبت أن كل متناه فهو في ذاته ممكن.

وأما المقدمة الثالثة: وهي بيان أن كل ممكن محدث فهو أنه لما كان الزائد والناقص والمساوي متساوية في الإمكان امتنع رجحان بعضها على بعض إلا لمرجح، والافتقار إلى المرجح إما أن يكون حال وجوده أو حال عدمه، فإن كان حال وجوده فإنه يكون إما حال بقائه أو حال حدوثه ويمتنع أن يفتقر إلى المؤثر حال بقائه لأن المؤثر تأثيره بالتكوين، فلو افتقر حال بقائه إلى المؤثر لزم تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وذلك محال فلم يبق إلا أن يحصل الافتقار إما حال حدوثه أو حال عدمه، وعلى التقديرين فإنه يلزم أن يكون كل ممكن محدثا فثبت أن الجسم متناه، وكل متناه ممكن وكل ممكن مُحدَث فثبت أن كل جسم محدث والإله يمتنع أن يكون مُحدَثاً وبالله التوفيق).اهـ


وفي كتاب المسامرة للكمال ابن أبي شريف بشرح المسايرة (ص/29) للعلامة الكمال بن الهمام ما نصه: ([الأصل السابع أنه تعالى ليس مختصا بجهة] أي ليس ذاته المقدس في جهة من الجهات الست ولا في مكان من الأمكنة [لأن الجهات] الست [التي هي الفوق والتحت واليمين إلى ءاخرها] أي والشمال والأمام والخلف [حادثة بإحداث الإنسان و نحوه مما يمشي على رجلين] كالطير [فإن معنى الفوق ما يحاذي رأسه من فوقه] أي من جهة العلو وهي جهة السماء [والباقي ظاهر] وهو أن جهة السفل ما يحاذي رجله من جهة الأرض واليمين ما يحاذي أقوى يديه غالبا والشمال مقابلها والأمام ما يحاذي جهة الصدر التي يبصر منها ويتحرك إليها والوراء مقابلها [و] معنى الفوق [فيما يمشي على أربع أو على بطنه] أي بالنسبة إليهما [ما يحاذي ظهره من فوقه] فقبل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت إذ لم يكن ثَمَّ حيوان فلم يكن ثَمَّ رأس ولا رجل ولا ظهر [ثم هي] أي الجهات [اعتبارية] لا حقيقية لا تتبدل [فإن النملة إذا مشت على سقف كان الفوق بالنسبة إليها جهة الأرض لأنه المحاذي لظهرها ولو كان كل حادث مستديرا كالكرة لم توجد واحدة من هذه الجهات] لأنه لا رأس ولا رجل ولا يمين و لا شمال ولا ظهر ولا وجه [وقد كان تعالى] موجودا [في الأزل ولم يكن شىء من الموجودات] لأن كل شىء موجود سواه حادث كما مر دليله [فقد كان] تعالى [لا في جهة] لثبوت حدوث الجهة فهذا طريق الاستدلال وقد نبه على طريق ثان بقوله: [ولأن معنى الاختصاص بالجهة اختصاص بحيز هو كذا] أي معين من الأحياز).اهـ


وقال الإمام الزبيدي في شرح الإحياء للإمام الغزالي (2/167) ما نصه: ([الأصل السابع: العلم بأن الله تعالى منـزه الذات عن الاختصاص بالجهات] أي ليس ذاته المقدس في جهة من الجهات الست ولا في مكان من الأمكنة). اهـ


وقال الإمام السبكي فيما نقله الحافظ الزبيدي في الإتحاف (2/169) ما نصه: (وصانع العالم لا يكون في جهة لأنه لو كان في جهة لكان في مكان ضرورة أنها المكان أو المستلزمة له، ولو كان في مكان لكان متحيّزا ولو كان متحيزا لكان مفتقرا إلى حيّزه ومكانه فلا يكون واجب الوجود، وثبت أنه واجب الوجود، وهذا خُلْفٌ، وأيضا فلو كان في جهة فإما في كل الجهات وهو محال وشنيع، وإما في البعض فيلزم الاختصاص المستلزم للافتقار إلى المخصص المنافي للوجوب). 


ثم قال الحافظ الزبيدي: تنبيه: وهذا المعتقد لا يخالف فيه بالتحقيق سنيٌّ لا محدث ولا فقيهٌ ولا يجىءُ قَطٌّ في الشرع على لسان نبي التصريح بلفظ الجهة، فالجهة بحسب التفسير المتقدم منفيةٌ معنىً ولفظاً، وكيف لا والحقُ يقول: {ليسَ كمثلهِ شىءٌ}. [الشورى / 11]. ولو كان في جهةٍ بذلك الاعتبار لكان له أمثالٌ فضلاً عن مِثْلٍ واحدٍ.اهـ


وقال العلامة شهاب الدين بن جهبل في أثناء رده على ابن تيمية في إثباته الجهة لله تعالى ما نصه: (وقد نبهت مشايخ الطريق على ما شهد به العقل، ونطق به القرءان، بأسلوب فهمته الخاصة ولم تنفر منه العامة. وبيان ذلك بوجوه:

البرهان الأول: وهو المقتبس من ذي الحسب الزكي والنسب العلي، سيد العلماء ووارث خير الأنبياء، جعفر الصادق رضي الله عنه، قال: ولو كان الله في شىء لكان محصورًا.

وتقرير هذه الدلالة: أنه لو كان في جهة لكان مشارًا إليه بحسب الحس، وهم ـ أي المشبهة ـ يعلمون ذلك ويجوزون الإشارة الحسية إليه.

وإذا كان في جهة مشارا إليه لزم تناهيه، وذلك لأنه إذا كان في هذه الجهة دون غيرها، فقد حصل فيها دون غيرها، ولا معنى لتناهيه إلا ذلك، وكل متناه محدث، لأن تخصيصه بهذا المقدار دون سائر المقادير لا بد له من مخصص.

فقد ظهر بهذا البرهان الذي يَبْدَهُ العقول: أن القول بالجهة يوجب كون الخالق مخلوقاً والرب مربوبًا، وأن ذاته متصرف فيه، ويقبل الزيادة والنقصان، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا.

البرهان الثاني: المستفاد من كلام الشبلي رضي الله عنه، شيخ الطريق وعلم التحقيق، في قوله: الرحمن لم يزل، والعرش محدث، والعرش بالرحمن استوى.

وتقريره: أن الجهة التي يختص الله تعالى بها على قولهم، تعالى الله عنها، وسموها العرش: إما أن تكون معدومة أو موجودة، والقسم الأول محال بالاتفاق.

وأيضا فإنها تقبل الإشارة الحسية، والإشارة الحسية إلى العدم محال، فهي موجودة، وإذا كانت موجودة، فإن كانت قديمة مع الله فقد وجد لنا قديم غير الله وغير صفاته، فحينئذٍ لا يُدرى أيهما الأوّلةُ. وهذا خبث هذه العقيدة.

وإن كانت حادثة فقد حدث التحيز بالله تعالى، فيلزم أن يكون الله قابلاً لصفاتٍ نفسية حادثة، تعالى الله عن ذلك.

البرهان الثالث: المستفاد من لسان الطريقة وعلم الحقيقة وطبيب القلوب والدليل على المحبوب، أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه، قال: متى يتصل من لا شبيه له ولا نظير بمن له شبيه ونظير؟ هيهات هيهات!! هذا ظن عجيب.

وتقرير هذا البرهان: أنه لو كان في جهة ـ أي الله ـ فإما أن يكون أكبر أو مساويا أو أصغر والحصر ضروري فإن كان أكبر كان القدر المساوي منه للجهة مغايرا للقدر الفاضل منه فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض وذلك محال لأن كل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره وكل مركب مفتقر إلى الغير وكل مفتقر إلى الغير لا يكون إلها.

وإن كان مساويًا للجهة في المقدار، والجهة منقسمة لإمكان الإشارة الحسية إلى أبعاضها، فالمساوي لها في المقدار منقسم.

وإن كان أصغر منها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فإن كان مساويًا لجوهر فرد، فقد رضوا لأنفسهم بأن إلههم قدر جوهر فرد.

وهذا لا يقوله عاقل، وإن كان مذهبهم لا يقوله عاقل، لكن هذا في بادىء الرأي يضحك منه جهلة الزنج.

وإن كان أكبر منه انقسم، فانظروا إلى هذه النحلة، وما قد لزمها، تعالى الله عنها).اهـ نقلها عنه تاج الدين السبكي في الطبقات (9/85ـ86ـ87). 


وقال الإمام سيف الدين الآمدي في غاية المرام في علم الكلام ما نصه: (لو كان في جهة لم يخل إما أن يكون في كلِّ جهةٍ أو في جهةٍ واحدةٍ ، فإن كان في كل جهةٍ فلا جهةَ لنا إلا والرب فيها وهو محال، وإن كان في جهة مخصوصة، فإما أن يستحقها لذاته أو لمخصص، لا جائز أن يستحقها لذاته، إذ نسبةُ سائر الجهات إليه على وتيرةٍ واحدةٍ، فإذاً لا بد من مخصصٍ وإذ ذاك فالمحال لازم من وجهين:ـ

الأول: أن المخصص إما أن يكون قديما أو حادثا، فإن كان قديماً لزمَ منه اجتماع قديمين وهو محال، وإن كان حادثاً استدعى في نفسه مخصصاً ءاخر، وذلك يفضي الى التسلسل وهو ممتنع .

الثاني: هو أن الاختصاصَ بالجهةِ صفةٌ للربّ تعالى قائمةٌ بذاتهِ أي على قولِ معتقدِ الجهة في الله ولو افتقرتْ إلى مخصصٍ لكانت في نفسها ممكنة، لأن كل ما افتقر في وجوده الى غيره فهو باعتبار ذاتهِ ممكن، وذلك يوجب كون البارئ ممكنًا بالنسبة إلى بعضِ جهاتهِ، والواجبُ بذاته يجب أن يكون واجبًا في جميع جهاتهِ). اهـ


وفي شرح العقائد النسفية للشيخ سعد الدين التفتازاني (ص/24) ما نصه: ([ولا يتمكن في مكان ولا يجري عليه زمان] لأن التمكن عبارة عن نفوذ بُعد في بُعد ءاخر متوهم أو متحقق يسمونه المكان والبعد عبارة عن امتداد قائم بالجسم أو بنفسه عند القائلين بوجود الخلاء و الله تعالى منـزه عن الامتداد والمقدار لاستلزامه التجزؤ ….، وأما الدليل على عدم التحيز فهو أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزم قدم الحيز أو لا فيكون محلا للحوادث ـ وكلا ذلك مستحيل ـ و أيضا إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهيا أو يزيد عليه فيكون متحيزا وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا علو ولا سفل ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء).اهـ



تـنـبـيـه:

قال شيخنا الحافظ العبدري المعروف بالحبشي حفظه الله في شرحه على النسفية (ص/ 48) ما نصه: (ثم الخلاء وهو هذا الفراغ عند أهل الحق يتناهى ليس وراء العالم فراغ لا نهاية له فهو مستحيل، وكذلك القول بأن وراء العالم أجرام متواصلة بلا نهاية مستحيل أيضا. وإن أهل الحق لا يثبتون هذا ولا يثبتون هذا، بل يقولون وراء العالم لا يوجد فراغ لا متناهي ولا أجرام لا متناهية، انتهت الأجسام والأعراض بانتهاء حد العالم، انتهى الخلاء الملاء. والملاء هو الجرم المتواصل). اهـ


وفي كتاب أصول الدين لأبي منصور البغدادي (ص/73) ما نصه: (المسئلة الخامسة من الأصل الثالث في نفي الحد والنهاية عن الصانع، وهذه المسئلة مع فِرَقٍ. منها الهشامية من غلاة الروافض الذين زعموا أن معبودهم سبعة أشبار بشبر نفسه ومنهم من قال إن الجبل أعظم منه كما حكي عن هشام بن الحكم. والخلاف الثاني مع الكرامية الذين زعموا أن له حدا واحدا من جهة السفل ومنها يلاقي العرش. والخلاف الثالث مع من زعم من مشبهة الرافضة أنه على مقدار مساحة العرش لا يفضل من أحدهما عن الآخر شىء. فقلنا لهم لو كان الإله مقدرا بحد ونهاية لم يخل من ان يكون مقداره مثل أقل المقادير فيكون كالجزء الذي لا يتجزأ أو يختص ببعض المقادير فيتعارض فيه المقادير فلا يكون بعضها أولى من بعض إلا بمخصص خصه ببعضها وإذا بطل هذان الوجهان صح انه بلا حد ولا نهاية. وقول من أثبت له حدا من جهة السفل وحدها كقول الثنوية بتناهي النور من الجهة التي يلاقي الظلام منها وكفى بهذا خزيا).اهـ


قال الإمام مرتضى الزبيدي في الإتحاف ( /177) : (وتحقيقه أنه تعالى لو استقر على مكان أو حاذى مكانا لم يخل من أن يكون مثل المكان أو أكبر منه أو أصغر منه، فإن كان مثل المكان فهو إذًا متشكل بأشكال المكان حتى إذا كان المكان مربعا كان هو مربعا وإن كان مثلثا كان هو مثلثا وذلك محال، وإن كان أكبر من المكان فبعضه على المكان ويشعر ذلك بأنه متجزئ وله كلٌّ ينطوي على بعض وكان بحيث ينتسب إليه المكان بأنه ربعه أو خمسه، وإن كان أصغر من ذلك المكان بقدر لم يتميز عن ذلك المكان إلا بتحديد وتتطرق إليه المساحة والتقدير وكل ما يؤدي إلى جواز التقدير على البارئ تعالى فتجوزه في حقه كفر من معتقِدِهِ، وكل من جاز عليه الكون بذاته على محل لم يتميز عن ذلك المحل إلا بكون وقبيح وصف الباري بالكون ومتى جاز عليه موازاة مكان أو مماسته جاز عليه مباينته ومن جاز عليه المباينة والمماسة لم يكن إلا حادثا، وهل علمنا حدوث العالم إلا بجواز المماسة والمباينة على أجزائه).اهـ


وقال إمام الحرمين في لمع الأدلة ما نصه: (والدليل على تقدسه تعالى عن الاختصاص بجهة والاتصاف بالمتحاذيات وأنه لا تحده الأقطار ولا تكتنفه الأقدار ويجل عن قبول الحد والمقدار، إن كل مختص بجهة شاغل لها وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلو عنهما، وما لا يخلو من الافتراق والاجتماع حادث كالجواهر، فإذا ثبت تقدس البارىء عن التحيز والاختصاص بالجهات فيترتب على ذلك تعاليه عن الاختصاص بمكان وملاقاة أجرام وأجسام، فقد بان لك تنـزيه ذاته سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله وقدوسيته).اهـ نقلها الحافظ الزبيدي في الإتحاف (2/36).


يتبع بإذن الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...