مشيئة الله لا تتغير
قبل أن يخلق الله الخلق جرى في عِلْم الله تعالى الأزَلِي كل ما أراد إيجاده من العالم والخلائق والأحداث والأشياء وكل شىء، قدّرَالله تعالى ذلك الخلق وكتب بقدرته في الذكر الذي هو اللوح المحفوظ كما هو في كميته وكيفيته وصفته ومكانه وزمانه وأسبابه ونتائجه بحيث لا يتأخر شىء من ذلك عن زمانه ووقته الذي يوجد فيه الشىء، فلا يتقدم عما حُدِّد له من زمان، ولا يتبدل في كميته بزيادة أو نقصان، ولا يتغير في هيئة ولا صفة بحال من الأحوال لأنَّ التبديل علامة النقص والجهل والله تعالى منزه عن ذلك كله، فلا تبديل لما جرى في عِلم الله تعالى ومشيئته، لأنّ عِلم الله تعالى وسع كل شيء ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، والله هو الفعّال لما يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ، وقال الله تعالى وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وقال تعالى وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ، وقال سبحانه وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا، وقال تعالى عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَلاَ فِى ٱلأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ، كل هذه الآيات وغيرها فيها ما يوضوح أنَّ عقيدة أهل الإسلام هي: أنَّ مشيئة الله تعالى شاملة لكل أفعال وأقوال العباد فلا يحصل شىء في هذا العالم إلا بمشية الله وتقديره وعلمه وخلقه، وأن مشيئة العباد تابعة لمشيئة الله كما قال تعالى وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين
فكل ما دخل في الوجود هو بمشيئة الله سواء كان خيرًا أو شرًّا، طاعة أو معصية، كفرًا أو إيمانًا، لأنه لا خالق لشىء من الأشياء إلا الله تبارك وتعالى ومشيئة الله أزلية أبدية لا يطرأ عليها تغير ولا تحوّل ولا تبدّل ولا تطوّر وكذلك سائر صفاته كالعلم والقدرة، فالله تعالى يستحيل عليه التغير في ذاته وصفاته لأن التغير من صفات المخلوقات، فلا يجوز أن يعتقد إنسانٌ أنّ الله تعالى تتغير صفاته أو مشيئته أو يتبدل علمه أو تحدث له مشيئة شىء لم يكن شائيًا له في الأزل، كما لا يجوز أن يعتقد أنه يحدث لله علم شىء لم يكن عالمًا به في الأزل،فلا تتغير مشيئة الله تعالى بدعوة داعٍ أو صدقة متصدّق أو نذر ناذر، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن كما روىَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عَلِم اللهُ وشاء في الأزل أن يكون لا بد أن يوجد، وما علِم أنه لا يكون لا يدخل في الوجود، وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال سألتُ ربي أربعًا فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدة، سألتهُ أن لا يُكفِر أمّتي جملة فأعطانيها، وسألتهُ أن لا يهلكهم بما أهلكَ به الأممَ قبلهم فأعطانيها، وسألتُه أن لا يظهر عليهم عدوًّا من غيرهم فيستأصلهم فأعطانيها، وسألتُه أن لا يجعل بأسَهم بينهم فمنعنيها وروى مسلم عن ثوبان هذا الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة وفي رواية قال لي: يا محمد إني إذا قضيتُ قضاء فإنه لا يرد . فهذا دليل واضح على أنَّ الله سبحانه وتعالى لا تتغير مشيئته بدعوة داعٍ وأنه لا يكون إلا ما قدره اللهُ وشاءه في الأزل. ولو كان الله يغيّر مشيئته لدعوة أحد لغيرها لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ فمعناه أن الله تعالى يمحو ما يشاء من القرءان ويرفع حكمه وينسخه ويثبت ما يشاء من القرءان فلا ينسخه وكلّ ذلك يكون بوحي من الله وليس معناه أن الله تعالى يغيّر مشيئته لدعوة أو صدقة أو نذر كما فهم ذلك بعض الناس، ومعنى وعنده أمّ الكتاب أي جملة ذلك أي الناسخ والمنسوخ في اللوح المحفوظ.
وأما قوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فسَّره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله يغفرُ ذنبًا ويكشفُ كربًا ويرفع قومًا ويضع ءاخرين ويوافق هذا قول الناس "سبحان الذي يُغيّر ولا يتغير" وهو كلام حسن جميل إذ التغيّر في المخلوقات وليس في ذات الله وصفاته، فالله تعالى يغيّر أحوال العباد من مرض إلى صحّة ومن فساد إلى صلاح ومن فقر إلى غنى ومن غنى إلى فقر على حسب المشيئة الربانية الأزلية، فالتغير يطرأ على أحوال المخلوقات وليس على مشيئة الله وعلمه، فإذا دعا العبد ربه أن يشفيَه فاستجاب له يصحّ أن يقال إن دعاءه وافق مشيئة الله، وإذا لم يستجب له يصح أن يقال إن الله لم يشأ له الشفاءَ وعلى كِلا الحالين يستفيد المؤمن بدعائه لربه سواء مع النفع الحاصل بالشفاء أو لم يحصل النفع بالشفاء لأن الثواب كُتب له، والله تعالى قال إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ معناه أن الله قادرٌ على تكوين ما سبقت به إرادته لا يعجزه عن ذلك شيء ولا يمانعه أحد ولا يحتاج إلى استعانة بغيره ولا تخلف لمراده، ومن هنا يتبين لنا فساد ما يقوله بعض الناس حين يرون في بعض الأحيان إنساناً بشعا ذميم الهيئة يقولون: "هذا كان الله يريد يخلقه كذا وكذا فغيَّرَ مشيئته وخلقه كذا وكذا أو قولهم عن شخص كان الله يريد أن يخلقه ذكراً فخلقه أنثى ونحوه"هذا الكلام والعياذ بالله كفرٌ لأنّ فيه نسبة الحدوث إلى الله نسبة تغيّر المشيئة إلى الله، الله لا تتغير مشيئته، العباد تتغير مشيئتهم، أما الله فلا تتغير مشيئته أبدًا، هذا معتقد أهل الإسلام قاطبة.
والله تعالى أعلم وأحكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق