بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 ديسمبر 2018

شبهة محاولة انتحار النبي عليه الصلاة والسلام والرد عليها

شبهة محاولة انتحار النبي عليه الصلاة والسلام والرد عليها

الكلام الذي أشرت عليه باللون الأزرق هو الذي عليه مدار موضوع :(من يقدر أن يقول أن هذه الرواية في البخاري كاذبة وموضوعة وهذه الرواية التي عن الزهري رغم ورودها في صحيح البخاري ليست صحيحة لأن البخاري أوردها لا على أنها واقعة صحيحة ولكن أوردها تحت عنوان (البلاغات) يعني أنه بلغه هذا الخبر مجرد بلاغ ومعروف أن البلاغات في مصطلح علماء الحديث: إنما هي مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة السند أو المتن(1).

وقد علق الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري(2) بقوله: "إن القائل بلغنا كذا هو الزهري، وعنه حكى البخاري هذا البلاغ، وليس هذا البلاغ موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الكرماني: وهذا هو الظاهر".

____________________________________________

لا تزال سهام أعداء الإسلام تتوالى للطعن في هذا الدين ، مستخدمين في ذلك طرقاً شتّى وأساليب مختلفة ، فتارة يوجهون سهامهم للتشكيك في القرآن الكريم ، وتارة يحاولون النيل من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ قاصدين بذلك الانتقاص من حقه ، والإقلال من قدره .

واليوم نقف مع شبهة جديدة أثارها القوم في حقه صلى الله عليه وسلم ، وحاصلها اتهامه بمحاولة الانتحار في العهد المكي ، في فترة انقطاع الوحي وفتوره بعد اللقاء الأول بينه وبين جبريل عليه السلام .

ورغبةً في دحض هذه الشبهة وبيان تهافتها ، بنبغي لنا أن نُلقي نظرةً شموليةً على تلك الروايات التي استندوا إليها ، فقد روى ابن سعد في الطبقات قال : " أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما نزل عليه الوحي بحراء ، مكث أياما لا يرى جبريل عليه السلام ، فحزن حزناً شديداً ، حتى كان يغدو إلى ثبير مرة ، وإلى حراء مرةً ؛ يريد أن يلقي نفسه منه ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامداً لبعض تلك الجبال ، إلى أن سمع صوتاً من السماء ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقاً للصوت ، ثم رفع رأسه: فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعاً عليه ، يقول : " يا محمد ، أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل " .

وروى الإمام الطبري في تاريخه قال : " حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير ، قال : سمعت عبد الله بن الزبير ، وهو يقول ل عبيد بن عمير بن قتادة الليثي : حدِّثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة ؟ فذكر الحديث إلى قوله : ( حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها ، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج ، فيه كتاب ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما اقرأ ؟ فغتني ، حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ماذا أقرأ ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلى بمثل ما صنع بي ، قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى قوله { علم الإنسان ما لم يعلم } ( العلق : 1-5 ) ، قال : فقرأته ، قال : ثم انتهى ، ثم انصرف عني وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتابا .

قال : ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلى من شاعر أو مجنون ، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون ، لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدنّ إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه أتقتلنها فلأستريح . قال : فخرجت أريد ذلك ، حتى إذا كنت في وسط من الجبل ، سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل ..) .

وقد روى البخاري رحمه الله هذه القصة أيضا مدرجةً في حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر ، قال : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر ، قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " ..ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي فترةً حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزناً غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه ، تبدّى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل ، تبدّى له جبريل فقال له مثل ذلك ) .

وخلاصة هذه الشبهة عندهم : أن هذه الروايات المذكورة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول مرارا أن يلقي بنفسه من رؤوس الجبال ، فهي إذاً محاولة منه للانتحار ، وهذا لا يليق بشخصِ من هو في مقام النبوة .

والرد على هذه الشبهة يستدعي منا أن ننظر أولا إلى صحة تلك الروايات المنقولة ، وبيان ذلك فيما يلي :

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، فقد جاء من طريق محمد بن عمر الواقدي ، ومعلوم عند علماء الجرح والتعديل أن الواقدي متروك الحديث ، فقد قال الإمام البخاري عنه في كتاب الضعفاء : " متروك الحديث " ، وكذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب وغيرهم .

ومن المعلوم أن وجود راوٍ متروك في حديث ، يجعله مردوداً غير قابل للتصحيح بالشواهد الأخرى .

أما رواية الإمام الطبري فهي مردودة سنداً ومتناً ؛ فإن المتن فيه نكارة ظاهرة ، حيث جعل الرؤيا الأولى لجبريل عليه السلام رؤيا منامية ، وهذا مخالف لبقية النصوص التي تُثبت أنها رؤية حقيقية ، ثم كان من جواب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ماذا أقرأ ؟ ) ، وهذا لم يحصل ؛ فإن الثابت في صحيح البخاري وغيره أنه كان يقول : ( ما أنا بقاريء ) ، دعك من إغفال هذه الرواية لذكر ذهاب النبي صلى الله عليه وسلّم إلى خديجة و ورقة بن نوفل رضي الله عنهما ، وما ذُكر في الروايات الصحيحة أن الرؤية الثانية ل جبريل عليه السلام كانت بعد فتور الوحي وانقطاعه .

وإذا نظرنا إلى سند هذه الرواية وجدنا فيه عدة علل : الإرسال ؛ فإن عبيد بن عمير ليس صحابيّاً ، إنما هو من كبار التابعين ، كما أنّ في السند راويان متكلم فيهما : سلمة - وهو ابن فضل الأبرش - قال عنه الحافظ ابن حجر : " صدوق كثير الخطأ " ، و ابن حميد الرازي كذّبه جماعة من العلماء ك أبي زرعة وغيره .

ونأتي إلى رواية الإمام الزهري في حديث عائشة رضي الله عنها ، فقد وردت القصة على كيفيات مختلفة في البخاري ومسند الإمام أحمد ومصنف الإمام عبدالرزاق وغيرهم ، لكن الناظر إلى رواية الإمام الزهري يجد أنها باطلة ، ووجه ذلك أن معظم روايات هذا الحديث لم تذكر ذلك الحدث ، وقد روى الإمام البخاري حديث نزول الوحي أكثر من مرة في صحيحه دون أن يشير إلى هذه القصة .

أما الروايات التي ذكرت هذه الحادثة ، فقد وردت مدرجةً في الحديث ، قال الحافظ ابن حجر ما نصه : " ثم إن القائل ( فيما بلغنا ) هو الزهري ، ومعنى الكلام : أن في جملة ما وَصَلَ إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة ، وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا ) أ.هـ ، فحكم هذه الزيادة الإرسال ، ومرسل الإمام الزهري ضعيف عند أهل الحديث ، يقول الإمام يحيى بن سعيد القطان : " مرسل الزهري شر من مرسل غيره ؛ لأنه حافظ ، كلما قدر أن يسمّي سمى ، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه " وقال أيضا عنه : "هو بمنزلة الريح " .

على أن هناك مؤشرات تدل على ضعف هذه القصة ، فمن تلك المؤشرات :


ما رواه الإمام البخاري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : " هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : ( لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب..) الحديث .

فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد ما وقع عليه ، هو ذلك الأذى النفسي الحاصل من تكذيب أهل الطائف له ، حتى إنه بقي مهموماً حزيناً لم يستفق إلا وهو بعيد عن الطائف ، نعم ، إن حزن النبي صلى الله عليه وسلم على فتور الوحي ثابت في نصوص أخرى ، غير أن حزنه ما كان ليبلغ حد الرغبة في إلقاء نفسه من علو ، وإلا لكان هذا أجدر بالذكر من حادثة الطائف المذكورة هنا .

ومما يبيّن ضعف القصة : أن الرواية ذكرت أن سبب حزن النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولته للانتحار ؛ إنما كان خوفاً من انقطاع الوحي والرسالة ولو كان هذا صحيحاً ، لكان ظهور جبريل عليه السلام مرة واحدة وقوله : ( إنك لرسول الله حقا ) كافياً في تأكيد أنه مبعوث إلى العباد وتحقّق ، الاصطفاء له ، فلا معنى لأن يدخل الحزن في قلبه وأن يحاول الانتحار مرات ومرات – كما في رواية الزهري – .

فالحادثة المذكورة قد اجتمع فيها الشذوذ في السند ، والنكارة في المتن ، فلا معنى لأن تُتخذ مطعنا في النبي الكريم.

وهكذا يتبيّن لك أخي القاريء أن هذه الشبهة ليس لها أدنى حظ من النظر ، فلا هي ثابتة سنداً ، ولا هي صالحةٌ للطعن في من شهد له أعداؤه قبل محبيه بسمو أخلاقه ورجاحة عقله وطهارة روحه ، والحمد لله أولا وآخرا .
_________________________________________
(1) انظر صحيح البخاري ج9 ص 38، طبعة التعاون.

(2) فتح الباري ج12 ص 376.

البخاري أورد الرواية التي عن الزهري تحت عنوان البلاغات والبلاغات مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة

فضّ الله فم من يقول ذلك، وينسب إرادة الانتحار وقتل نفسه للنبيّ عليه الصلاة والسلام. فهو إن كان يعني أن النبيّ كان يعتقد جواز الانتحار ومع ذلك أراد فعل ذلك فقد نسب إليه تحليل معصية هي أكبر المعاصي بعد الكفر. إن كان يعني بكلامه هذا أن الرسول أراد الانتحار ونوى من غير استحلال فقد جعل نفسه مصممًا أن يقتل نفسه وهذا أكبر الكبائر بعد الكفر. والرسول بريء من الأمرين إنما كان قصده أن يطلع على ذُرى الجبل ليلقي نفسه تخفيفًا لأثرِ الشوق للوحي الذي فترَ عنه لأنه يعلم أن إلقاء نفسه من ذُرى الجبال لا يؤد به إلى أدنى أذى. فمن فسّر هذا الحديث على أحد الوجهين المذكورين فقد كفر، إذ نسب خير خلق الله وأتقى خلق الله إلى الكفر في حال، وإلى قصْد أكبر معصية بعد الكفر في الحال الآخر، فتبين بهذا أن محمد رجب ديب متلاعب بدين الله.

أقواله وأفعاله يريد بها إظهار نفسه ليُعظم ويعتقد ويَتفانى الناس بمحبته ولا يلتفتوا إلى غيره وفي طيّ كلام له تفضيل نفسه على نبي الله الخضر عليه السلام وهذا الكلام قاله في بعض مجالسه يشهد به عليه شهود حيث قال :"المريد إذا رأى الخضر فلا يلتفت إليه بل يبقى مع شيخه" يعني نفسَه، وخضر نبي من أنبياء الله بدليل أن الله أمر سيدنا موسى الذي هو أفضل الرسل بعد سيدنا محمد وسيدنا إبراهيم أن يتعلم منه ما خفيَ عليه.

وقد أجمع أهل الحق على أن الأنبياء معصومون من الكفر والكبائر كما قال القاضي عياض وغيره، لكن محمد رجب ديب جاهل بأصول العقيدة وجاهل بعلم الحديث وغيره ولو كان عنده أدنى اطلاع في ذلك لعلم أنّ الحديث الذي يستند إليه في نسبة ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام ليس حديثًا ثابتًا وإنما هو من بلاغات الزهريّ كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح فيكون الحديث غير موصول فلا تقوم به حجة.

ثم إن نص الحديث ليس فيه ذكر الانتحار إنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتر عنه الوحي صار يفكر أن يصعد إلى أعلى الجبل فيرمي نفسه اهـ.

 فكما ترى لا ذكر للانتحار فيه، قال العلماء على تقدير صحة الحديث فإنه أراد رمي نفسه لتخفيف الشوق إلى الوحي مع علمه بأنه لا ينضر من ذلك كما فعل سيدنا يونس عندما قال له أهل السفينة أنت نبيّ الله لا نرميك في الماء فرمى هو نفسه لعلمه أنه لا ينضر، هذا على تقدير صحة الحديث وهو غير موصول كما تقدم.

فشُدّ يديك على هذا البيان وإياك أن تصغي لترهات رجب ديب وأمثاله ممن لم يتذوقوا العلم بل ولا شموه إنما سمعوا باسمه سماعًا، وإن كان لك غَيرة على الدين وعلى أنبياء الله فَحَذّرْ من هذا الرجل طاعةً لله تعالى وشفقةً على إخوانك المسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لا يصح الصوم كله فرضه ونفله مقيّده ومطلقه إلا بنية

 قال شيخ المالكية أبو القاسم بن الجلاب في التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، باب النية في الصوم، (فصل) النية (ولا يصح الصوم كله فر...