إذا قال لك قَائِلٌ: مَن تَعبُد؟
فَقُلْ: أَعبُدُ الله الذي لا إلَهَ إلا هو، الذي ليسَ متحيزًا في الأرضِ ولا في السماء، كان قبلَ المكان والزّمان وهُو الآن كما كانَ،موجود بلا مكان ولا جهة لا يُمكنُ تصويرُه في القلب لأنهُ لا شبيه له في الموجودات، في الأَرْضِ سُلْطَانُهُ، وفي الجنَّةِ رَحمتُهُ، وَفي النَّارِ عِقَابُهُ.
فإذا قال لك: ما الله؟
فَقُل: إن سَأَلْتَ عن اسمِهِ فالله الرحمنُ الرحيمُ له الأسماءُ الحسنى. وإن سَأَلتَ عن صِفَتِهِ فَحَيَاتُهُ ذَاتِيَّةٌ أزَلِيَّةٌ، وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بكل شىءٍ، وَقُدرَتُهُ تَامَّةٌ، وحِكْمَتُهُ بَاهِرَةٌ، وسَمْعُهُ وبَصَرُهُ نافِذٌ في كل شَىءٍ. وإن سَأَلْتَ عن فِعْلِهِ فخلقُ المخلوقاتِ ووضع كل شىءٍ مَوضِعَهُ. وإن سَأَلتَ عن ذاتِهِ فليس بِجِسْمٍ ولا عَرَضٍ وليس مُرَكبًا، وكل ما خَطَرَ ببالك فالله بخلاف ذلك. بَلْ ذَاتُهُ مَوْجُودٌ وَوُجُودُهُ واجبٌ، لم يَلِدْ ولم يُولَدْ وَلم يَكُنْ له كفوًا أَحَدٌ، ليس كَمِثْلِهِ شَىءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ. ومن قال: أَعبُدُ الذَّاتَ المتَّصِفَ بالصّفَاتِ فهو المؤْمِنُ النَّاجِي.
فإذا قال لك: مَا دَلِيلُكَ على وُجُودِ الله؟
فقل: هذه السَّمَاء بِكَوَاكِبِها وأَفْلاكِها، وهذه الأرضُ بِفِجاجِها ومِيَاهِها، وهذه النَّبَاتَات بتنوعِ أَشْجَارِها وثمارِها، وهذه الحيوانات باخْتِلافِ أَشكَالِها وأفعَالِها، وكلها تَدُل على وجودِ خَالِقِها وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقِدَمِهِ وَقُدْرَتِهِ.
فإذا قَالَ: كَيْفَ دَلَّتْ عليْهِ؟
فقل: إنّها مُمكِنَة قَابِلَة للزَّوَالِ، وكلّ ما كان كذلك فهو حَادِثٌ، وإذا كانت حَادِثَة افتَقَرت إلى مُحدِثٍ أوْجَدَهَا. أو قُلْ: إنها مَوْجُودَة بعد عَدَمٍ، وكُلّ مَوجُودٍ بعد عَدَمٍ لا بُدَّ له مِن مُوجِدٍ أخرجهُ من العدمِ، فهذه المخلوقات لا بد لها من مُوجِدٍ أوجدَها وهو الله سبحانه وتعالى.
فإذا قال لك: ما دليلُكَ على حُدُوثِها؟
فقل: اتّصَافُهَا بالأَعْرَاضِ المتغيّرة من عَدَمٍ إلى وُجُودٍ ومن وُجُودٍ إلى عَدَمٍ، وكُل مُتَغَيّر حادِث، ولو حَدَثَتْ بِنَفْسِها لَزِمَ تَرْجيح المرْجُوح وهو الوجود بلا سَبَبٍ وهو باطلٌ، لأن القديمَ لو لحقهُ العدمُ لكانَ جائِزَ الوجودِ والعَدَمِ لفَرْضِ أي تقدير اتّصافِهِ بهما، والجائزُ لا يكون وجودُه إلا حَادِثًا لاحتياجِهِ إلى مُرَجّحٍ يُرَجّح وجوده على عدمِهِ، ولو قام العرضُ بنفسهِ لَزِمَ قَلْبُ حقيقتِهِ، لأنَّ حقيقة العَرضِ أنّه لا يَقُومُ بنفسِهِ وأنّهُ لا ينتقل وقلبُ الحقيقة مُحالٌ، وما أدّى إلى المحَالِ مُحالٌ فَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ وانْتِقَالُهُ مُحالٌ، لأن الجِرم إمّا متحرّكٌ وإما ساكنٌ ولا يجوز أن يكون في حال حركته سكونُه كامنٌ فيه، ولو كان الجِرمُ ساكنًا في حال حركته لاجْتَمع الضّدّانِ واجتماعُهما مُحالٌ. ولا يمكن ثبوتُ جِرمٍ ليس بمُتَحَرّكٍ ولا ساكنٍ ولا مُفْتَرِقٍ ولا مُجتَمِعٍ، ولا يُمْكِنُ عُروُّ الأجرامِ عن بعض الأعراضِ لأنَّه لو جَازَ العُروُّ عن بعضها لجاز عن جميعِها وهو باطِلٌ.
فإذا قال لك: أين الله؟
فقل: مع كُلّ أَحَدٍ بِعِلْمِهِ لا بذاته، وفوقَ كُلّ أَحَدٍ بقُدرَتِهِ، وظَاهِرٌ بكُلّ شَىءٍ بآثارِ صِفاتِهِ، وباطِنٌ بحقيقةِ ذاتِهِ أي لا يمكن تصويره في النفس مُنَزَّهٌ عن الجِهَةِ والجِسْمِيَّةِ، فلا يقال: له يَمينٌ ولا شِمالٌ ولا خَلْفٌ ولا أَمَامٌ، ولا فَوْقَ العَرْشِ وَلا تَحتَهُ، وَلا عن يمينِهِ ولا عن شِمَالِهِ، وَلا دَاخِلٌ في العالمِ وَلا خارجٌ عنهُ. وَلا يُقَالُ: لا يَعْلَمُ مَكَانَهُ إلا هُوَ.
ومَنْ قَالَ: لا أَعْرِفُ الله في السَّمَاءِ هو أَمْ في الأَرْضِ كَفَرَ لأنه جعلَ أحدهُما له مكانًا، فإذا قال لك: ما دَلِيلُكَ على ذلك؟
فقل: لأنه لو كان له جِهَةٌ أو هو في جِهَةٍ لكان مُتَحَيزًا، وكُلّ مُتَحَيّزٍ حَادِثٌ والحدُوثُ عليه مُحالٌ.
فإذَا قال لك: ما يَجِبُ له تعالى وما يَستَحِيلُ عليه؟
فقل: يَجِبُ له كُلّ كَمَالٍ في حقه ويَسْتَحيلُ عليه كُلّ نَقْصٍ.
ومما يَجِبُ له تَعالَى بعد الوُجُودِ في حقه:
القِدَمُ: ومَعنَاهُ لا أَوَّلَ لوجودِهِ، ويَسْتَحيلُ عليهِ الحدُوثُ. والدّليلُ على ذلِكَ: أنَّهُ لو لم يَكُنْ قَدِيمًا لكانَ حَادِثًا، ولو كانَ حَادِثًا لافتقرَ إلى مُحدِثٍ، لأنّ كلَّ حادِثٍ لا بُدَّ له مِنْ مُحدِثٍ، ومُحدِثُهُ يَفْتَقِرُ إلى مُحدِثٍ ءاخَرَ، وهكذا إلى غير نهايةٍ، ودخولُ ما لا نهايَةَ له في الماضي مُحالٌ، والمتوقّفُ على المحالِ مُحالٌ.
ويجِبُ له تعالى: البَقَاءُ: ومعناه لا ءاخِرَ لوجُودِهِ، ويستحيل عليه طروءُ العَدَمِ. والدَّلِيلُ على ذلك: أنَّهُ لو لم يَجِب له البَقَاءُ لأمْكَنَ أن يَلْحَقَهُ العَدَمُ، لكِنَّ لحُوقَ العَدَمِ عليه مُحالٌ، لأنَّهُ لو أمْكَنَ أن يَلحقهُ العَدَمُ لانتفى عنه القِدَمُ، فيلزمُ أن يكون من جملة الممْكِناتِ، وكُلّ مُمكِن حادِثٌ والحدُوث عليه مُحالٌ.
ويجب مخالَفَتُهُ للحوادِثِ، ويستحيلُ مماثَلَتُهُ لها ذَاتًا وَصِفَةً وفِعْلاً. والدَّليلُ على ذلك: أَنَّه لو مَاثَلَ شَيْئًا منها لكان حادِثًا مِثْلَهَا، والحدوثُ عليهِ مُحالٌ.
وَيَجِبُ له تَعَالى: القِيَامُ بِنَفسِهِ: ومعناه أن ذاتَه لا يحتاج إلى مَحلّ يقوم به ولا إلى مُوجِدٍ، وَيَستَحِيلُ عليه ضِدُّ ذلك. والدَّلِيلُ على ذلك: أنه لو احْتَاجَ إلى مَحلّ لَزِمَ أن يكون صِفَةً تَقُومُ بِغَيرِهِ وهو من شَأنِ الحوادِثِ، والله ذاتٌ لا صِفَة ولو احتاجَ إلى مُوجِدٍ لكانَ حَادِثًا، والحدُوثُ عليه مُحالٌ.
ويَجِبُ له تعالى: الوَحْدَانِيَّة في ذاتِهِ وَصِفاتِهِ وأَفْعَالِهِ، ويَستَحِيلُ عليهِ أن يكون مُرَكَّبًا، أو له مُماثِلٌ في ذَاتِهِ أو صِفَاتِهِ، أو يَكُونَ معه في الوجودِ مؤَثّرٌ خالقُ فعلٍ مِنَ الأَفْعَال على الحقيقة، فالأكل يُشبعُ بخلقِ الله الشّبعَ عنده، والنارُ تُحرقُ بخلقِ الله الإحْراق عند مماسّتها، والسكينُ تقطعُ بخلقِ الله القطع عند استعمالِها فالله هو خالقُ الأسبابِ ومُسبَّباتِها، وخالقُ الأكل والشبعِ الذي يحصل بالأكل، فَمَنِ اعتقد أنَّ الأكْلَ يُشْبعُ بِنَفْسِهِ أو النَّارَ تحرقُ بِذَاتِها أو السّكين تَقْطَعُ بِنَفْسِها بدون خلق الله لذلك فَهُوَ كافِرٌ، ولا يَصِحّ ذلك، لأنّه يَلْزَمُ أن يستغنيَ ذلكَ الأثر عن الله تعالى وهو بَاطِلٌ.
ومن اعتقد أن العبدَ يخلقُ فعلَه بقوةٍ خلقها اللهُ فيه فهو كافرٌ أيضًا لأنّه يصيّر مَولانا سبحانه وتعالى مُفتَقِرًا في بعض الأَفعالِ إلى وَاسِطةٍ واحتِيَاجُهُ بَاطِلٌ إذ لو احتَاجَ إلى شىءٍ لكان عَاجِزًا، وكُلّ عاجِزٍ حَادِثٌ والحدُوثُ عليه تعالى مُحالٌ.
ومَنِ اعتَقَدَ أن الله هو المؤثّرُ الحقيقي الخالقُ وحدَهُ في جميع الحادثات فهو المؤمنُ الناجي. والدَّليلُ على وَحْدَانِيّتِهِ تعالى: أنه لو كَانَ مُرَكَّبًا لكان حَادِثًا والحدُوثُ عليه مُحالٌ ولو كان معه إله ءاخر لزِمَ أن لا يوجَدَ شىءٌ مِنَ العَالَمِ وهو باطِلٌ، لأنه لا يخلُو إمَّا أن يَتّفِقَا أو يَختَلِفَا، فإن اختَلَفَا امَّا أن يَنْفُذَ مرادُ أَحَدِهما أو لا، فإن نَفَذَ مُرَادُ أحَدِهِما كان الآخرُ عاجزًا، وإِذَا عَجَزَ أحَدُهما يلزَمُ عَجْزُ الآخر لأنّه مثله، وإنْ لم يَنْفُذ مُرَادُهُما فَعَجزُهُما ظاهِرٌ، وإن اتّفَقَا على وُجُودِ شَىءٍ فإمَّا أن يُوجِدَاهُ مَعًا فَيَلْزَمُ اجتماع مُؤَثّرَين خالِقَين على أثَرٍ واحِدٍ وهو بَاطِلٌ، وإما أن يُوجدهُ الأوّل ثم الثّاني فيلزم تحصيل قال تعالى: ﴿لو كان فيهما ءالهةٌ إلا اللهُ لفَسَدَتا فسبحانَ اللهِ ربِ العرشِ عما يصفونَ﴾ [سورة الأنبياء] أَيْ لم تُوجَد السَّمواتُ والأرضُ سَوَاءٌ اخْتَلَفَتِ الآلِهَةُ أوِ اتَّفَقَتْ.
وَيَجِبُ له تعالى: القدرةُ، ويَسْتَحيلُ عليهِ العَجْزُ. والدَّلِيلُ على ذَلِكَ: أنَّه لَوْ لم يَكُنْ قَادِرًا لكانَ عاجزًا، ولوْ كَانَ عَاجزًا لما وُجِدَ هَذَا العَالَم وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَيَجِبُ له: الإرادةُ، وَيَسْتَحِيلُ عليه الاضطرارُ. والدَّلِيلُ على ذلِكَ: أنَّه لَوْ لم يكن مُرِيدًا لإيجادِ هَذِهِ الأَشْيَاء أو إعْدامِها لكان مضطرًّا، ولو كان مضطرًّا لكان عَاجزًا وكُلّ عَاجِزٍ حَادِثٌ.
وَيَجِبُ له تَعَالى: العِلْمُ: وَهُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ تتَعلَّقُ بالموْجُودَاتِ والمعْدُومَاتِ على وجْهِ الإطْلاقِ دُونَ سَبْق خَفاء. ويَسْتَحيلُ عَلَيْهِ الجهْلُ ومَا في مَعْنَاهُ. والدَّلِيلُ على ذلك: أنهُ لَوْ لم يكن عالما لكان جَاهِلاً لكنّ الجهلَ عليهِ مُحالٌ، لأنَّهُ لو اتَّصَفَ بِالجهْلِ لما وُجِدَ العَالم وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَيَجِبُ له تعالى الحيَاةُ: وَهِيَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لذَاتِهِ، لا تَنْفَكُّ عنه وَلا تَتَعَلَّقُ بِشَىءٍ، وَلا يَعلَمُ حَقِيقتها إلا هُوَ سُبحَانَهُ وتَعَالى، ويَسْتَحيلُ عَلَيْهِ الموْتُ. وَالدَّليلُ عَلَيْهِ: أنَّه لَوِ انتفَتْ حَيَاتهُ لما وُجِدَ العَالَم وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالاتصَافُ بِالصفَاتِ الواجبة له مَوْقُوفٌ على الاتصَافِ بِالحياةِ لأَنَّها شَرْطٌ فِيهَا، وَوُجُودُ المشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ بَاطِلٌ.
ويَجِبُ لَهُ تَعَالى: السَّمْعُ: المقدَّسُ عَنِ الأُذُنِ والصّمَاخِ.
والبَصَرُ: المنَزَّهُ عن الحدَقَةِ والأَجْفَانِ ونحو ذلك. وَيَسْتَحِيلُ عليه الصَّمَمُ وَالعمى وَمَا في مَعنَاهُ. والدَّلِيلُ على ذلك قولُه تعالى: ﴿قالَ لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى﴾ [سورة طه] وقوله: ﴿وهو السميعُ البصير﴾ [سورة الشورى]. ولو لم يَتَّصِفْ بِهِما لاتَّصَفَ بِضِدّهما وهو نَقْصٌ، والنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحالٌ لاحْتِياجِهِ إلى من يُكَملُهُ وذلكَ يَسْتَلْزِمُ حُدوثه والحدُوثُ عَلَيهِ مُحالٌ.
وَيَجِبُ له تَعَالى: الكَلامُ: وَهُوَ صِفةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالى تَدُلُّ على جميع المعلومات ليس بِحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، وَلا يُوصَفُ بِتَقدّمٍ وَلاَ تَأَخُّرٍ ولا لحنٍ ولا إعْرابٍ. ويَسْتَحِيلُ عليه البَكَمُ وما في مَعْنَاهُ. والدَّلِيلُ على ذلك قوله تعالى: ﴿وكلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا﴾ [سورة النساء] ولأنه لولم يتَّصِفْ بالكَلامِ لاتَّصَفَ بِضِدهِ وَهُوَ نَقْص وَ هو عَليْهِ محالٌ
ومما يَجِبُ له تَعالَى بعد الوُجُودِ في حقه:
القِدَمُ: ومَعنَاهُ لا أَوَّلَ لوجودِهِ، ويَسْتَحيلُ عليهِ الحدُوثُ. والدّليلُ على ذلِكَ: أنَّهُ لو لم يَكُنْ قَدِيمًا لكانَ حَادِثًا، ولو كانَ حَادِثًا لافتقرَ إلى مُحدِثٍ، لأنّ كلَّ حادِثٍ لا بُدَّ له مِنْ مُحدِثٍ، ومُحدِثُهُ يَفْتَقِرُ إلى مُحدِثٍ ءاخَرَ، وهكذا إلى غير نهايةٍ، ودخولُ ما لا نهايَةَ له في الماضي مُحالٌ، والمتوقّفُ على المحالِ مُحالٌ.
ويجِبُ له تعالى: البَقَاءُ: ومعناه لا ءاخِرَ لوجُودِهِ، ويستحيل عليه طروءُ العَدَمِ. والدَّلِيلُ على ذلك: أنَّهُ لو لم يَجِب له البَقَاءُ لأمْكَنَ أن يَلْحَقَهُ العَدَمُ، لكِنَّ لحُوقَ العَدَمِ عليه مُحالٌ، لأنَّهُ لو أمْكَنَ أن يَلحقهُ العَدَمُ لانتفى عنه القِدَمُ، فيلزمُ أن يكون من جملة الممْكِناتِ، وكُلّ مُمكِن حادِثٌ والحدُوث عليه مُحالٌ.
ويجب مخالَفَتُهُ للحوادِثِ، ويستحيلُ مماثَلَتُهُ لها ذَاتًا وَصِفَةً وفِعْلاً. والدَّليلُ على ذلك: أَنَّه لو مَاثَلَ شَيْئًا منها لكان حادِثًا مِثْلَهَا، والحدوثُ عليهِ مُحالٌ.
وَيَجِبُ له تَعَالى: القِيَامُ بِنَفسِهِ: ومعناه أن ذاتَه لا يحتاج إلى مَحلّ يقوم به ولا إلى مُوجِدٍ، وَيَستَحِيلُ عليه ضِدُّ ذلك. والدَّلِيلُ على ذلك: أنه لو احْتَاجَ إلى مَحلّ لَزِمَ أن يكون صِفَةً تَقُومُ بِغَيرِهِ وهو من شَأنِ الحوادِثِ، والله ذاتٌ لا صِفَة ولو احتاجَ إلى مُوجِدٍ لكانَ حَادِثًا، والحدُوثُ عليه مُحالٌ.
ويَجِبُ له تعالى: الوَحْدَانِيَّة في ذاتِهِ وَصِفاتِهِ وأَفْعَالِهِ، ويَستَحِيلُ عليهِ أن يكون مُرَكَّبًا، أو له مُماثِلٌ في ذَاتِهِ أو صِفَاتِهِ، أو يَكُونَ معه في الوجودِ مؤَثّرٌ خالقُ فعلٍ مِنَ الأَفْعَال على الحقيقة، فالأكل يُشبعُ بخلقِ الله الشّبعَ عنده، والنارُ تُحرقُ بخلقِ الله الإحْراق عند مماسّتها، والسكينُ تقطعُ بخلقِ الله القطع عند استعمالِها فالله هو خالقُ الأسبابِ ومُسبَّباتِها، وخالقُ الأكل والشبعِ الذي يحصل بالأكل، فَمَنِ اعتقد أنَّ الأكْلَ يُشْبعُ بِنَفْسِهِ أو النَّارَ تحرقُ بِذَاتِها أو السّكين تَقْطَعُ بِنَفْسِها بدون خلق الله لذلك فَهُوَ كافِرٌ، ولا يَصِحّ ذلك، لأنّه يَلْزَمُ أن يستغنيَ ذلكَ الأثر عن الله تعالى وهو بَاطِلٌ.
ومن اعتقد أن العبدَ يخلقُ فعلَه بقوةٍ خلقها اللهُ فيه فهو كافرٌ أيضًا لأنّه يصيّر مَولانا سبحانه وتعالى مُفتَقِرًا في بعض الأَفعالِ إلى وَاسِطةٍ واحتِيَاجُهُ بَاطِلٌ إذ لو احتَاجَ إلى شىءٍ لكان عَاجِزًا، وكُلّ عاجِزٍ حَادِثٌ والحدُوثُ عليه تعالى مُحالٌ.
ومَنِ اعتَقَدَ أن الله هو المؤثّرُ الحقيقي الخالقُ وحدَهُ في جميع الحادثات فهو المؤمنُ الناجي. والدَّليلُ على وَحْدَانِيّتِهِ تعالى: أنه لو كَانَ مُرَكَّبًا لكان حَادِثًا والحدُوثُ عليه مُحالٌ ولو كان معه إله ءاخر لزِمَ أن لا يوجَدَ شىءٌ مِنَ العَالَمِ وهو باطِلٌ، لأنه لا يخلُو إمَّا أن يَتّفِقَا أو يَختَلِفَا، فإن اختَلَفَا امَّا أن يَنْفُذَ مرادُ أَحَدِهما أو لا، فإن نَفَذَ مُرَادُ أحَدِهِما كان الآخرُ عاجزًا، وإِذَا عَجَزَ أحَدُهما يلزَمُ عَجْزُ الآخر لأنّه مثله، وإنْ لم يَنْفُذ مُرَادُهُما فَعَجزُهُما ظاهِرٌ، وإن اتّفَقَا على وُجُودِ شَىءٍ فإمَّا أن يُوجِدَاهُ مَعًا فَيَلْزَمُ اجتماع مُؤَثّرَين خالِقَين على أثَرٍ واحِدٍ وهو بَاطِلٌ، وإما أن يُوجدهُ الأوّل ثم الثّاني فيلزم تحصيل قال تعالى: ﴿لو كان فيهما ءالهةٌ إلا اللهُ لفَسَدَتا فسبحانَ اللهِ ربِ العرشِ عما يصفونَ﴾ [سورة الأنبياء] أَيْ لم تُوجَد السَّمواتُ والأرضُ سَوَاءٌ اخْتَلَفَتِ الآلِهَةُ أوِ اتَّفَقَتْ.
وَيَجِبُ له تعالى: القدرةُ، ويَسْتَحيلُ عليهِ العَجْزُ. والدَّلِيلُ على ذَلِكَ: أنَّه لَوْ لم يَكُنْ قَادِرًا لكانَ عاجزًا، ولوْ كَانَ عَاجزًا لما وُجِدَ هَذَا العَالَم وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَيَجِبُ له: الإرادةُ، وَيَسْتَحِيلُ عليه الاضطرارُ. والدَّلِيلُ على ذلِكَ: أنَّه لَوْ لم يكن مُرِيدًا لإيجادِ هَذِهِ الأَشْيَاء أو إعْدامِها لكان مضطرًّا، ولو كان مضطرًّا لكان عَاجزًا وكُلّ عَاجِزٍ حَادِثٌ.
وَيَجِبُ له تَعَالى: العِلْمُ: وَهُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ تتَعلَّقُ بالموْجُودَاتِ والمعْدُومَاتِ على وجْهِ الإطْلاقِ دُونَ سَبْق خَفاء. ويَسْتَحيلُ عَلَيْهِ الجهْلُ ومَا في مَعْنَاهُ. والدَّلِيلُ على ذلك: أنهُ لَوْ لم يكن عالما لكان جَاهِلاً لكنّ الجهلَ عليهِ مُحالٌ، لأنَّهُ لو اتَّصَفَ بِالجهْلِ لما وُجِدَ العَالم وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَيَجِبُ له تعالى الحيَاةُ: وَهِيَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لذَاتِهِ، لا تَنْفَكُّ عنه وَلا تَتَعَلَّقُ بِشَىءٍ، وَلا يَعلَمُ حَقِيقتها إلا هُوَ سُبحَانَهُ وتَعَالى، ويَسْتَحيلُ عَلَيْهِ الموْتُ. وَالدَّليلُ عَلَيْهِ: أنَّه لَوِ انتفَتْ حَيَاتهُ لما وُجِدَ العَالَم وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالاتصَافُ بِالصفَاتِ الواجبة له مَوْقُوفٌ على الاتصَافِ بِالحياةِ لأَنَّها شَرْطٌ فِيهَا، وَوُجُودُ المشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ بَاطِلٌ.
ويَجِبُ لَهُ تَعَالى: السَّمْعُ: المقدَّسُ عَنِ الأُذُنِ والصّمَاخِ.
والبَصَرُ: المنَزَّهُ عن الحدَقَةِ والأَجْفَانِ ونحو ذلك. وَيَسْتَحِيلُ عليه الصَّمَمُ وَالعمى وَمَا في مَعنَاهُ. والدَّلِيلُ على ذلك قولُه تعالى: ﴿قالَ لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى﴾ [سورة طه] وقوله: ﴿وهو السميعُ البصير﴾ [سورة الشورى]. ولو لم يَتَّصِفْ بِهِما لاتَّصَفَ بِضِدّهما وهو نَقْصٌ، والنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحالٌ لاحْتِياجِهِ إلى من يُكَملُهُ وذلكَ يَسْتَلْزِمُ حُدوثه والحدُوثُ عَلَيهِ مُحالٌ.
وَيَجِبُ له تَعَالى: الكَلامُ: وَهُوَ صِفةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالى تَدُلُّ على جميع المعلومات ليس بِحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، وَلا يُوصَفُ بِتَقدّمٍ وَلاَ تَأَخُّرٍ ولا لحنٍ ولا إعْرابٍ. ويَسْتَحِيلُ عليه البَكَمُ وما في مَعْنَاهُ. والدَّلِيلُ على ذلك قوله تعالى: ﴿وكلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا﴾ [سورة النساء] ولأنه لولم يتَّصِفْ بالكَلامِ لاتَّصَفَ بِضِدهِ وَهُوَ نَقْص وَ هو عَليْهِ محالٌ
فإن قيل: إذا كان كلامُ اللهِ من غير حُرُوفٍ ولا أَصْواتٍ كيف سَمِعَهُ موسى؟
فالجوابُ: أنّهُ من بابِ خَرْقِ العَادَةِ أزَالَ اللهُ عنه المانعَ فَسمعَ الكَلامَ الإلهيّ من غَيْرِ كَيْفٍ وَلا تَحدِيدٍ وَلا جِهَةٍ. فإذا قال لك: القُرْءانُ كلامُ اللهِ وهو مَكتوبٌ في المصَاحِف مقروء بالأَلسُنِ مَسْمُوعٌ بالآذانِ وهو من سِمَاتِ الحوادِثِ بالضَّرُورَةِ؟ فقل: نَعَمْ، هو في مَصَاحِفِنا بأشكَالِ الكِتَابَةِ وَصُوَرِ الحرُوفِ الدَّالةِ عليه، محفُوظٌ في قُلُوبِنا بِألْفَاظٍ متخيّلةٍ، مَقْرُوء بِألسِنَتِنَا بِحُرُوفِهِ الملفُوظَةِ، مَسْمُوعٌ بآذَانِنَا، ومع ذلك ليس حالاًّ فيها بل هو مَعنًى قديم قائِمٌ بالذَّاتِ يُكْتَبُ ويُقْرَأُ بِنُقُوشٍ وأَشكَالٍ مَوضوعةٍ للحروفِ الدَّالَةِ عليهِ، فلو كُشِفَ عنا الحِجَابُ وَسَمِعْنا الكلامَ الإلهيَّ لَفَهِمْنَا منه الأمرَ كَـ ﴿وأقيموا الصلوات﴾ [سورة البقرة]، والنَّهْيَ كَـ ﴿ولا تقربوا الزنى﴾ [سورة الإسراء]، ونَحْو ذَلِكَ.
فالقرءانُ بمعنى اللفظِ المنزلِ ألفَاظ دَالَّةٌ على معاني كَلاَمِ اللهِ ولا يجوزُ أن يقالَ إنه حادث، وإن كان هو الواقعَ، وإذا أُريدَ بكلامِ الله اللفظُ المنزّلُ على سيّدنا محمدٍ فهو صوت وحروفٌ متعاقبةٌ وهو عبارةٌ عن الكلامِ القديمِ ليس عينه فإذا قيل القرءان كلام الله قديم أزلي أبدي يُراد به الكلام الذاتي القائم بذات الله، وإذا قيل عن اللفظ المنزل على سيدنا محمد يُراد به هذه الألفاظ التي هي حروف وأصوات علّمها جبريل محمدًا وهو أي جبريل تلقاها من اللوح المحفوظ بأمر الله وليس من تأليفه، لكن يجوز القول بأن القرءان بمعنى اللفظ المنزل في مقام التعليم إنه حادث مخلوق أما في غير ذلك لا يقال لإيهامه حدوث الكلام القائم بذات الله، أما في مقام التعليم فلا بد من تعليم ذلك لئلا يُعتقد أن اللفظ أزلي أبدي وذلك مكابرة للعيان، ولا يجوز أن يُعتقدَ أن الله يقرأ ألفاظَ القرءانِ كما نحن نقرأُ، ولو كانت تجوزُ عليه القراءةُ كما نحن نقرأ لكان مشابهًا لنا.
فإذا قال لك: بما وُجِدَ الكونُ؟
فقل: بِصِفةِ التّكوينِ. والدليلُ على ذلك أنه لو لم يكن مُكوّنًا لكان غير مُكوّن، ولو كان غير مُكوّن لما وُجِدَ الكونُ وهو باطِلٌ.
فإذا قال لك: مَا التكْوينُ؟
فقل: هو صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تعالى بها الإيجَادُ والإعدَامُ، إن تَعَلَّقَت بِالخلْقِ سُمّيَت خَلْقًا، وإن تَعَلَّقَت بِالتَّصْوِيرِ سُمّيَتْ تَصْوِيرًا، وإن تَعَلَّقَتْ بالرّزْقِ سُمّيَت رَزْقًا، وَبِالإِحيَاء إحياءًا، وبالإمَاتَةِ إِمَاتَةً، وَنَحْو ذَلِكَ، وَيُقَالُ لها: صِفَاتُ الأَفْعَالِ.
فَإذا قال لك: مَا دَلِيلُكَ على قدَمها؟
فقل: لأَنَّها لو كانت حَادِثَة لَزِمَ خُلُوُّ ذاتِهِ تعالى في الأزَلِ عنها ثم اتّصَافهُ بها فَيَقتَضِي التغيّر عَمَّا كان عليه وهو من شَأنِ الحوادِثِ، وَيَلْزَمُ من ذَلِكَ اسْتِحالَة تكَوُّنِ العَالَم وهو بَاطِلٌ. ولو حَدَث الكونُ بِدون التكوين لَزِمَ أن يسْتَغْني الحَادِثُ عَنِ المحْدِثِ وهو واضحُ البُطْلاَنِ.
فإذَا قال: هَلْ يُمْكِن أن يقدِر اللهُ أن يوجِد أحْسَنَ من هذا العالم أو يعْدِمهُ؟
فقل: نَعَمْ. لو تَعَلَّقَ عِلْمُ اللهِ وَقُدْرتُه وإرادَتُه بذلك لكنها لم تتعلَّق، ولا يقال: ليس بقادِرٍ لما فيه من سُوءِ الأَدَبِ، وليس من شَأنِ القُدْرَةِ أن تَتَعلَّق بالواجِبِ وَالمسْتَحِيلِ، فَلا يقال: إنّ الله قادِرٌ على أن يَتَّخِذ وَلَدًا مثلاً.
فإذا قال لك: ما يجوزُ في حَقّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى؟
فَقُلْ: فِعْلُ كُلّ مُمكِنٍ أَوْ تَركُه كَإرْسَالِ الرُّسُل، وإنْزَال الكُتُب، وَسَعَادَة فُلانٍ وَشَقَاوَة فُلانٍ، وَادْخَال فُلان النَّار وَفُلان الجنَّة، ومنه رُؤيَتنَا له سُبْحَانَهُ وتعالى في الآخِرَةِ. والدَّلِيلُ على ذلك: أنه لو وجب عليه فِعْلُ شَىء أو اسْتحال لكان مَقْهُورًا ولو كان مَقْهُورًا لكان عَاجِزًا، ولو كان عَاجِزًا لَما وُجِدَ شىء مِنَ العَالَمِ وهو بَاطِلٌ.
فإذا قال: كيف نرى اللهَ وقد قال: ﴿لا تُدركُهُ الأبصار﴾ [سورة الأنعام] والرُّؤيَةُ تَستَلزِمُ أن يكونَ جِسْمًا مُتَحَيّزًا في جِهَةٍ؟
فقل: نَرَاهُ تَعَالى من غَيرِ كَيفِيَّة ولا مِثالٍ ومن غير أنْ يكونَ في مكانٍ والمكانُ للرَّائين بِقوَّةٍ يخلقُها الله تعالى لنا، ولا يلزمُ من الرُّؤيَةِ الإِدرَاكُ وقد علّقَ رُؤيَتهُ على أَمْرٍ جائزٍ وهو استِقرَارُ الجبَلِ، وَمَا عُلّقَ على الجائزِ جَائِزٌ. وَرُؤيتهُ تَعَالى جَائِزَةٌ وقد قال تعالى: ﴿وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربِها ناظرة﴾ [سورة القيامة].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق