بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 20 ديسمبر 2018

الدّليل من الحديث على جواز تأويل المتشابه من الآيات والأحاديث

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ».

قال الإمام النّووي في شرح هذا الحديث : قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ : يَا رَبُّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِيَ فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ ؟ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : إِنَّمَا أَضَافَ الْمَرَضَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالْمُرَادُ الْعَبْدُ تَشْرِيفًا لِلْعَبْدِ وَتَقْرِيبًا لَهُ . قَالُوا : وَمَعْنَى ( وَجَدْتنِي عِنْدَهُ ) أَيْ وَجَدْتَ ثَوَابِي وَكَرَامَتِي ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ : لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ، لَوْ أَسْقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي أَيْ ثَوَابَهُ.

وبالمناسبة نورد بعض الآيات المتشابِهة ونذكر تفسيرها الذي يوافق الآيات المحكمة . قال الله تعالى : ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [ سورة فاطر ] . فالمقصود بكلمة ” إليه ” أي إلى محلّ كرامته وهو السّماء ، فهذا مطابقٌ ومنسجمٌ مع الآية المحكمة : ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شىءٌ ﴾ وهو تفسيرٌ صحيحٌ ليس فيه تشبيهٌ لله بِخَلْقِهِ.

ويجوز أن يُقال في قوله تعالى : ﴿ الرَّحْمَـنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [ سورة طه ] أي قهرَ وحفِظَ وأبقى العرش ، والفائدة من ذلك أن يُعْلَم أن الله مسيطرٌ على كلّ المخلوقات لأن العرش أكبر المخلوقات حَجْمًا . ولا يجوز تفسير الآية المتشابِهة على معنى لا يليق بالله عزَّ وجلَّ . فلا يجوز أن يقال استوى أي جلس لأن الجلوسَ لا يكون إلا من ذي أعضاء والأعضاء مستحيلةٌ على الله . قال الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : ” إِنَّ الله خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ ” .

وليُعلَم أن الله تعالى خالقُ الروح والجسد فليس روحاً ولا جسداً . وأما إضافة الله تعالى روحَ عيسى إلى نفسه فهو على معنى المِلك والتشريف ، لا على معنى الجزئية . فقوله تعالى : ﴿ فَنَفْخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنا ﴾ [ سورة التحريم ] معناه أن الله أمر الملَكَ جبريل أن ينفخ في مريم رُوحَ عيسى التي هي مُشرّفة عنده ، لأن الأرواح قسمان : أرواحٌ مشرّفةٌ وأرواحٌ خبيثةٌ ، وأرواح الأنبياء من القسم الأول . فإضافة روح عيسى وروح ءادم إلى الله هي إضافة تشريف . ويقال مثل ذلك في قوله تعالى لإبراهيم وإسماعيل : ﴿ أَنْ طَهِّراَ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ ﴾ فالكعبة هي مكانٌ مشرّفٌ عند الله . أما قوله تعالى : ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهمْ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ [ سورة النحل ] فالمقصود به فوقيّة القهر دون المكان والجهة .

ومعنى قوله تعالى في توبيخِ إبليسَ : ﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ سورة ص ] فَيَجُوزُ أن يُقَالَ المُرادُ بِاليَدَيْنِ العِنَايَةُ والحِفْظُ . ومعنى قوله تعالى : ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [ سورة الفجر ] جاء أمرُ ربِّك أي أثرٌ من آثار قدرتة حيث تظهر أهوالٌ عظيمة يوم القيامة .

ويقال في قول الله تعالى :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ [ سورة الحديد ] إنّ الله عَالِمٌ بكم أينما كنتم .

وأمَّا قولُهُ تعالى : ﴿ وقِيلَ اليَومَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾[ سورة الجاثية ] فقد ذُكرَ على وجهِ المقابلةِ ومعناهُ تَرَكناكُم من رحمتِنا كما أنتم تركتم طاعةَ الله في الدنيا بالإيمان به .

وكذلك لا يجوزُ أن يُؤخذَ من قولِ الله تعالى : ﴿ إنَّ الله لا يَسْتَحْيِى أن يَّضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً ﴾[سورة البقرة / 26] جواز تسميةِ الله بالمستحيي ، ومعنى الآية أننا لا نترك استحياءً كما يترُكُ البشرُ الشىءَ استحياءً ، معناه أنَّ الله لا يُحِبُّ تركَ إظهارِ الحَقّ فلا يتركُهُ للاستحياءِ كما يفعلُ الخلقُ، وهذا مستحيلٌ على الله . وأما قولُهُ تعالى : ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتىَّ نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ﴾ [سورة محمد/31] فَلَيْسَ معنى ذلك أنّه سوف يعلم المجاهدين بعد أن لم يكن عالماً بِهم بالامتحانِ والاختبار، وهذا يستحيلُ على الله تَعَالَى، بل معنى الآيةِ حتى نُمَيِّزَ أي حتىَّ نُظْهِرَ للعباد المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم . ويكفر من يقول إن الله تعالى يكتسب علماً جديداً . وقوَل الله تبارك وتعالى : ﴿ الله نُورُ السَّمَـوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ [سورة النور] معناه أن الله هادي أهل السموات والمؤمنين من أهل الأرض لنور الإيمان . فالله تعالى ليس نورًا بمعنى الضوء بل هو الذي خلقَ النور . قال تعالى في سورة الأنعام : ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ أي خلق الظلمات والنور فكيف يمكن أن يكون نوراً كخلقه ؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا . فلا يجوز اعتقاد أنَّ الله ذو لونٍ أو ذو شكلٍ . وأمّا ما ورد في الحديث أن الله جميلٌ فليس معناه جميل الشكل وإنما معناه جميل الصفات أومُحْسِن . وأما النُّزُولُ المذكورُ في حديثِ : (( يَنـزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا )) فأحسنُ ما يُقالُ في ذلك هو نزولُ المَلَكِ بأمرِ الله فينادي مُبلغاً عن الله تلك الكلمات : (( من ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له من ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له من الذي يسألني فأُعطيَهُ )) فيمكثُ المَلَكُ في السماء الدنيا من الثلث الأخير إلى الفجر . أما من يقولُ ينـزلُ بلا كيفٍ فهو حقٌّ ، لأنه لما قال بلا كيفٍ نفى الحركة والانتقال من عُلوٍ إلى سُفلٍ . والله تعالى غنيٌّ عن العالمين أي مستغنٍ عن كلّ ما سواه أزلاً وأبدًا وتفتقر إليه كلّ الكائنات . فلا يحتاج الله تعالى إلى مكانٍ يقوم به أو يحلّ به أو إلى جهةٍ ، لأنه تعالى موجودٌ قبلَ المكان بلا مكان ، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه .

وليس المقصود بالمعراج الوصول بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكان ينتهي وجود الله تعالى إليه ، إنما القصد من المعراج هو تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على عجائب في العالم العلوي وتعظيم مكانته ، ورؤيته صلى الله عليه وسلم لله بفؤاده من غير أن يكون الله تعالى في مكان . قال سيّدنا الخليفة الراشد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : ” كَانَ الله وَلا مَكَان وهوَ الآنَ عَلَى ما عَليه كَان ” .

وليس محورُ الاعتقاد على الوهم بل على ما يقتضيه العقلُ الصحيحُ السليمُ الَّذي هو شاهدٌ للشرع ، ذلك لأنَّه لو كان لله تعالى مكانٌ لكانَ له مقدارٌ ، أبعادٌ وحدودٌ ومن كان كذلك كان مُحْدَثاً أي مَخْلُوقًا ولم يكن إلهاً . وكما صحّ وُجودُ اللهِ تعالى بلا مكانٍ قَبل خَلق الأماكن والجِهاتِ ، يَصِحُّ وجودُهُ بعد خَلْقِ الأماكنِ بلا مَكانٍ . وهذا لا يَكونُ نَفياً لوجودِهِ تعالى . قال الإمام ذو النُّون المصري : ” مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بَبَالِكَ فَالَّلهُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ “.

إذا قال المشبِّه إنَّ القرءان والحديث يدلان على أنَّ الله تعالى متحيز في جهة فوق ، كيف يرد عليه ؟ الرد يكون بالدليل النقلي لأن هذه الفرقة فرقة التشبيه تقول: نثبت لله ما أثبت لنفسه وننفي عنه ما نفى عن نفسه . معنى كلامهم أنَّهم يثبتون لله مشابَهة الخلق . أمّا قولهم: وننفي عنه ما نفى عن نفسه ، يريدون بذلك نفي تنـزيه الله عن التحيز في المكان والجهة وعن الجسمية ونحو ذلك من أوصاف الجسم كالحركة والسكون والانتقال والانفعال إلى غير ذلك من صفات الحجم. القدماء منهم كان قسم منهم يقول: هو حجم لطيف نور يتلألأ، أمَّا هؤلاء الذين في هذا العصر يقولون عن الله : جسم كثيف ، بدليل قولهم إنَّه في الآخرة لَمَّا يقال لجهنَّم هل امتلأت فتقول هل من مزيد ، إن الله تعالى يضع قدمه فيها ولا يحترق ، فهذا دليل على أنَّهم مجسمة .

إذا أورد أحد المشبهة حديث الجارية يقال لهم: هذا الحديث يخالف الحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر أو ستة عشر صحابياً . وهذا الحديث المتواتر الذي يعارض حديث الجارية فيه قوله عليه السلام: (( حتى يشهدوا أَن لاَّ إِله إلاَّ الله وأنِّي رَسُولُ الله )) هذا الحديث معناه أنَّه لا يحكم بإسلام الشخص إلا بالشهادتين . وحديث الجارية فيه أنَّ الرَّسول اكتفى بالحكم لإِسلام الجارية التي جاء بِها صاحبها ليمتحنها الرَّسول ليعتقها إن كانت مؤمنة بأنَّها قالت في السَّماء ، في هذا الحديث أنَّ الرَّسول قال لها : أين الله ، قالت : في السَّماء ، قال: من أنا قالت : رسول الله ، قال: أعتقها فإنَّها مؤمنة. هذا اللفظ رواه مسلم من طريق صحابي واحد ، وبين هذا الحديث وبين الحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر صحابيًّا تعارضٌ لأن حديث الجارية يوهم أنه يكفي أن يقول الشخص: “الله في السماء” للحكم له بالإيمان وهذا خلاف الحق ، بِهذا يُرَدُّون . فإن قال قائل إن هذا الحديث حديث الجارية وافق عليه شرَّاح مسلم: النّووي والرّازي وغيرهما ، الجواب أنْ يقال إنَّ هؤلاء ما حَملوه على الظَّاهر بل أوَّلوه ، النَّووي والرَّازي وغيرهما الذين شرحوا كتاب مسلم ما حملوه على الظَّاهر كما أنتم حملتموه على الظَّاهر إنَّما قالوا : معنى “أين الله” سؤال عن عظمة الله وليس سؤالاً عن التحيز في مكان لأنَّه يقال في اللغة : “أين فلان” بمعنى ما درجته ، ما علو قَدْرهِ ؟ فإذا قال “في السَّماء” معناه رفيع القدر عالي القدر ، على هذا حملها هذان الشارحان النّووي والرّازي ، ما حملاه على الظَّاهر كما حملته الوهابية على الظاهر . فإن تركتم حمله على الظَّاهر وأوّلتموه كما أوّلوه لم يلزمكم الكفر بالنسبة لهذه المسألة، كما أنَّ أولئك لَمَّا حَملوه على خلاف الظَّاهر وأولوه تأويلا أي أخرجوه عن الظَّاهر ، ما فسروه على الظاهر، سلِموا من الكفر ، أمَّا من حمله على الظَّاهر وقال : هذا دليلٌ على أنَّ الله متحيز في السَّماء فحكمه التكفير ، ثم إنَّ كلمة “في السماء” في اللغة تستعمل للتحيّز وتستعمل لرفعة القدر أي لعلو الدرجة، الله وصف نفسه بأنَّه رفيع الدرجات أي أنَّه أعلم من كل عالم وأقدر من كل قادر ونافذ المشيئة في كل شىء .

كلمة “أين” تأتي للسؤال عن الحيِّز والمكان وتأتي للسؤال عن القدر والدرجة والحاصل أن الحديث الذي يعرف بحديث الجارية والذي يتمسك به المشبهة متعلقين براوية الإمام مسلم هو عند علماء الحديث ليس بصحيحٍ لأمرين : للاضطراب لأنه رُويَ بِهذا اللفظ (أي لفظ مسلم) وبلفظ : من رَبُّك ، فقالت : الله ، وبلفظ : أينَ الله ، فأشارت إلى السّماءِ ، وبلفظ : أتَشهَدينَ أن لا إله إلا الله ، قالت : نعم ، قال : أتشهدين أنِّي رسولُ الله ، قالت : نعم . واللفظ الأخير هو في رواية الإمام مالك في الموطأ . ومالك أقوى من مسلم في الرواية لأنه لا يفصله عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاّ ثلاثة أو أربعة من الرواة . والأمر الثَّاني : أن رواية أين الله مخالفةٌ للأصولِ لأن من أصول الشريعةِ أن الشخصَ لا يُحْكَمُ له بقولِ “الله في السماء” بالإسلامِ لأنَّ هذا القولَ مشتَركٌ بين طوائف أهل الكتاب وغيرِهم وإنما الأصلُ المعروفُ في شريعةِ الله ما جاءَ في الحديث المتواتر الذي ذكرناه ءانفاً .

أمَّا احتجاج هؤلاء المشبّهة بآية ﴿ ءأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء ﴾ فالجواب أن يقال لهم (من في السماء) المراد الملائكة وليس المراد بكلمة “من” الله . لأن الملائكة لو أمرهم الله أن يخسفوا بالمشركين الأرض لخسفوا بِهم ، كذلك الآية الأخرى التي تليها ، أي ريحا شديدة ، فالملائكة هم يرسلون الريح فالله تعالى لو أمرهم بأن يرسلوا ريحاً تبيدهم لفعلوا هذا معنى الآيتين ﴿ ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَّخْسفَ بِكُم الأَرْضَ ﴾ والآية التي تليها ﴿ أَمْ أمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُّرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصباً ﴾ أي رِيحاً شديدة.

وهذه الآية تفسَّر بِما ورد في الحديث الصّحيح (( ارْحَمُوا مَن فِي الأَرْضِ يَرْحَمكُم من فِي السَّمَاءِ)) ووردت رواية صحيحة أخرى (( ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ )) هذه الرواية فسرت “من في السَّماء” المذكورة في الآية أن المراد بِمن في السَّماء الملائكة لأنَّ الله لا يُعَبَّرُ عنه بأهل السَّماء إنَّما يُعَبَّرُ بأهل السَّماء عن الملائكة لأنَّـهم سكانـها أي سكان السَّمـوات ، بِهذا يُجاب عن تمسك المشبّهة بالاحتجاج بِهاتين الآيتين.

ثم كل ءاية يتمسكون بِها يدل ظاهرها على أن الله حجمٌ متحيزٌ في جهة فوق وأنه يتحرك ينـزل وينتقل إلى تحت إلى السماء الدنيا وأنه يوم القيامة ينزل إلى الأرض مع الملائكة بذاته كما هو ظاهر الآية ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْـمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ يُجاب عن هذا كلّه بأنَّ هذه الآيات تفسيرها على الظاهر يؤدي إلى التناقض في القرءان والقرءان منـزَّه من التناقض ، لأنَّ هذه الآيات لو فُسرت على الظَّاهر لعارضها ءايات أخرى ظاهرها أنَّ الله في جهة الأرض كقوله تعالى ﴿ ولله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ [سورة البقرة / 115] . ظاهر هذه الآية أنَّ الله هنا في محيط الأرض بحيث يكون الذي يصلي إلى الجنوب أو إلى الشمال أو إلى المشرق أو إلى المغرب يكون اتـجه إلى ذات الله وهذا لا يقولون به . يقال لهم : تلك الآيات قرءان وهذه الآية وأمثالها قرءان وأنتم لا تحملون هذه الآيات التي ظواهرها أن الله في جهة تحت وأمثالها كآية ﴿ وقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [سورة الصافات / 99 ] هذه الآية تخبر عن إبراهيم أنه لما ترك قومه الذين لم يقبلوا منه ترك عبادة الأوثان قال : إني ذاهب إلى ربي . ظاهر هذه الآية أن الله متحيز في فلسطين لأن إبراهيم كان قاصداً أن يذهب إلى فلسطين ، وأنتم لا تقولون بظاهر هذه الآية ولا تلك الآية ، وكل تلك التي فسرتـموها على الظاهر والتي لم تفسروها على الظَّاهر قرءان ، على هذا يلزمكم التناقض في القرءان . فلا سبيل للنجاة من لزوم التناقض في القرءان إلاَّ أنْ تُؤول الآيات التي ظواهرها أنَّ الله في جهة فوق متحيز والآيات التي ظواهرها أنَّ الله في جهة تحت ، يجب أن لا تُحمل على الظَّاهر ، هذه تؤول وهذه تؤول . ثم التأويل بعض أهل السنة قالوا : بلا كيف، بلا شكل ولا كمية ، أو يقال على ما يليق بالله كما في ءاية ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾ لنفي التحيز والجلوس على العرش عن الله وفي ءاية ﴿ فَأَيـنَمَا تُـوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ يقال : فثم قبلة الله كما قال بعض السلف مجاهد الذي أخذ العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما . أمَّا ءاية ﴿ وَقَالَ إِنِّـي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّـي ﴾ معناه أي إلى المكان الذي أعبد فيه ربِّي بلا إيذاء لأنَّ قومه رموه في النَّار فلم يحترق ومع هذا لم يُسلموا له ، لم يتبعوه في الإسلام .

وقد رَوى البُخَارِيُّ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا كَانَ أَحَدُكُم في صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي ربَّه فلا يَبْصُقَنَّ في قِبْلَتِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ )) ، وهذا الحديثُ أقْوى إسناداً منْ حَدِيثِ الجَارِيَةِ . ومعنى هذا الحديث أن المسلم الَّذي يُقبلُ على ربه في صلاته فلا يبصقن في جهة القبلة ولا عن يمينه فإنَّ رَحمة ربه بينه وبين قبلته.

وأَخْرَجَ الُبخَارِيّ ُ أَيْضاً عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ارْبَعُوا على أَنفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائِباً ، إنَّكم تَدْعُونَ سميعاً قَرِيباً ، والذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ )) . ومعنى الحديث أي هَونوا على أنفسكم ولا تجهدوها برفع الصوت كثيرا في التكبير والدعاء فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يغيب عن سمعه وبصره وعلمه شىء وهو أعلم بكم ، وهو قريبٌ سميعٌ مجيبٌ أقرب إلى أحدكم معنىً لا حسَّاً أي بعلمه.

والحاصل من وفقه الله للفهم وأرشده للحق علم أنَّ عقيدة الإسلام هي تنـزيه الله عن مشابَهة المخلوقين وأنَّه تعالى موجود بلا كيف ولا مكان.

عن عائشة رضي الله عنها قالت تـلا رسـول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ‌ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ ۗ وَالرَّ‌اسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَ‌بِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ‌ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ قالت: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم ». رواه البخاري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...