بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 28 يوليو 2018

الأدلة المقومة لاعوجاجات المجسمة (2)

عقيدة أهل السنة تنـزيه الله عن المكان


اعلم وفقك الله إلى مرضاته أن عقيدة أهل السنة مبنية على تنـزيه الله عن مشابهة المخلوقات، فالله تبارك وتعالى لا يشبه شيئًا من المخلوقات ولا يشبهه شىء، كان قبل المكان بلا مكان وهو الآن على ما عليه كان، كان ولم يكن أين ولا كيف ولا مكان، فكون الأكوان ودبر الزمان فلا يحتاج إلى المكان ولا يتقيد بالزمان، فكما كان قبل المكان بلا مكان فهو الآن على ما عليه كان، أي موجود بلا مكان. وهذا ما ثبت عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: (كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان) كما رواه الإمام أبو منصور البغدادي في الفرق بين الفرق. هذه هي العقيدة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان كما سنبين . وسترى أن استدلال المجسمة ببعض الآيات والأحاديث على مدّعاهم استدلالٌ فاسد كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى، فلنشرع بالمقصود سائلين الله التوفيق فيما هنالك.


واعلم أن الحافظ تاج الدين السبكي نقل في طبقاته ( 9/36) عن العلامة شهاب الدين ابن جهبل أنه قال: مذهب الحشوية في إثبات الجهة مذهبٌ واهٍ ساقطٌ، يظهرُ فسادُهُ من مجرّدِ تصورِهِ، حتى قالت الأئمة: لولا اغترار العامة بهم لما صرِفَ إليهم عنان الفكر، ولا قطر القلم في الرد عليهم.اهـ 


وقال الإمام أبو نصر القشيري في التذكرة الشرقية ما نصه: (وقد نبغت نابغة من الرعاع لولا استنـزالهم للعوام بما يقرب من أفهامهم ويُتصورُ في أوهامهم لأجللت هذا الكتاب عن تلطيخه بذكرهم يقولون نحن نأخذ بالظاهر ونجري الآيات الموهمة تشبيها والأخبار المقتضية حدا وعضوا على الظاهر ولا يجوز أن نطرق التأويل إلى شئ من ذلك ويتمسكون ـ على زعمهم ـ بقول الله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ}. 
وهؤلاء والذي أرواحنا بيده أضر على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان لأن ضلالات الكفار ظاهرة يتجنبها المسلمين وهؤلاء أَتوا الدينَ والعوامَّ من طريقٍ يغترُّ به المستضعَفون فأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلُّوا في قلوبهم وصفَ المعبود سبحانه بالأعضاء والجوارح والركوب والنـزول والاتكاء والاستلقاء والاستواء بالذات والتردد في الجهات فمن أصغى إلى ظاهرهم يبادر بوهمه إلى تخيل المحسوسات فاعتقد الفضائحَ فسالَ به السيلُ وهو لا يدري). اهـ. نقلها الحافظ الزبيدي في الإتحاف ( 2/176 ـ 177).

بعض الآيات الدالة على التنـزيه


أولا نذكر بعض الآيات الدالة على تنـزيه الله عن الجهة والمكان والحد والجسمية. 


1ـ قال الله تبارك وتعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ} [ سورة الشورى/11] أي أن الله تعالى لا يشبه شيئا من خلقه بوجه من الوجوه، فلو كان في مكان أو جهة لكان مشابها لبعض خلقه، فالله تعالى لا يحتاج إلى مكان يحل فيه ولا إلى جهة يتحيز فيها.


2ـ وقال الله تعالى:{وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [ سورة النحل/60] أي لله الوصف الذي لا يشبه وصف غيره.


3ـ وقال الله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [ سورة الحديد/3] قال الطبري في تفسيره ( 11/670) ما نصه: (وهو الباطن، فلا شىء أقرب إلى شىء منه، كما قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ سورة ق/16]). اهـ. أي أن الطبري نفى القرب الحسي الذي تقول به المجسمة، أما القرب المعنوي فلا ينفيه، وهذا دليل على تنـزيه الله عن المكان والجهة.


4ـ وقال الله تعالى:{فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ ءال عمران/98] أي أن الله تعالى مستغنٍ عن كل ما سواه، فلو كان في مكان لكان محتاجاً له، فكيف يكون غنياً عن العالمين من يكون محتاجاً للمكان؟

قال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح لمع الأدلة ( ص/70) ما نصه: (ومنها قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ سورة العنكبوت/6] فأثبت لنفسه الاستغناء عن جميع العالمين، والجهات والأمكنة من أجزاء العالم، فوجب إثبات تعاليه واستغنائه عن العالمين وعن كل وصف من صفات المحدثين). اهـ


5ـ وقال الله تعالى:{وَكُلُّ شَئٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [ سورة الرعد/8] أي أن الله تبارك وتعالى ليس داخل العالم ولا خارجه لأنه لو كان داخل العالم لكان له مقدار ولو كان خارجه لكان له مقدار، فلا مهرب من إثبات المقدار له إلا بنفي التحيز بالكون داخل العالم أو خارج العالم، لأن أفراد العالم كل فرد له مقدار.


قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء: (من جعلَ اللهَ تعالى مُقدرًا بمقدارٍ كفر). اهـ. أي لأنهُ جعلهُ ذا كميةٍ وحجمٍ والحجمُ والكميةُ من موجباتِ الحدوثِ.


قال الإمام أبو منصور التميمي البغدادي في أصول الدين ( ص/73) ما نصه: (لو كان الإله مقدراً بحد ونهاية لم يخلُ من أن يكون مقداره مثل أقل المقادير فيكون كالجزء الذي لا يتجزأ، أو يختص ببعض المقادير فيتعارض فيه المقادير فلا يكون بعضها أولى من بعض إلا بمخصص خصه ببعضها، وإذا بطل هذان الوجهان صح أنه بلا حد ولا نهاية). اهـ 


وقال ابن حزم في المحلى ( 1/29) ما نصه: (مسألة: وأنه تعالى لا في مكان ولا في زمان بل هو تعالى خالق الأزمنة والأمكنة قال تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَئٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وقال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} والزمان والمكان فهما مخلوقان قد كان تعالى دونهما، والمكان إنما هو للأجسام والزمان إنما هو مدة كل ساكن أو متحرك أو محمول في ساكن أو متحرك وكل هذا مبعد عن الله عز وجل). اهـ. علما أنه خالف أهل السنة ببعض المسائل الفاسدة وتصدى له العلماء بالرد. ولكنه منـزِها لله عزّ وجلّّ. 


لا نريد الإطالة ففي هذه الآيات كفاية لمن هدى الله قلبه. 

يتبع بإذن الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...