العِفَّة وخَشيةُ الله
الحمد لله الناهِى عن الخبائث الصغائر والكبائر* والصلاة والسلام على رسول الله الهادى للسائر والمرشد للحائر* وعلى ءاله وصحبه وكلّ ءامِرٍ بالمعروف ناهٍ عن المنكر الجائر* وبعد، عبادَ الله أطيعوا الله.
قال تعالَى: ﴿ واتقُوا يومًا تُرجَعون فيه إلى الله ثم تُوفَّى كلُّ نفس ما كَسَبت وهم لا يُظلمون* ﴾ [البقرة ٢٨١]
ثم إنّى مُخبركم بثلاثِ حوادثَ من حوادث الزمان فيها عبرة لنا جميعا إن شاء الله.[1]
قبل النبى: رجل من الثلاثة الذين دخلوا إلى الغار، فانحدرت من الجبل صخرة فسدت عليهم الغار، فقالوا: لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال ذلك الرجل فى الحديث المتفق عليه:
”اللَّهم كان لى ابنة عم كانت أحبَّ الناس إلىّ. وفى رواية: كنت أحبها كأشد (أى حبًّا مثلَ أشدّ) ما يحب الرجال النساء. فأردتها عَلى نفسها فامتنعت منى حتى ألمَّت بها سنة مِن السنين. فجاءتنى فأعطيتها عشرين ومائة دينار[2] عَلَى أن تخلىَ بينى وبين نفسها. ففعلت حتى إذا قدرت عليها. وفى رواية: فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق اللَّه ولا تفُضَّ الخاتمَ إلا بحقه! فانصرفت عَنْها وهى أحب الناس إلىّ وتركت الذهب الذى أعطيتها. اللَّهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج مِنْها.“
فهذا رجل قد أوشك على مقارفة الفاحشة، ولم يبق بينه وبينها إلا شىء يسير ولكن الإيمان في قلبه تيقظ بكلمة اتق الله فانتبه إلى قبح ما هو مقدم عليه وتذكر أن الله مطلع إليه. فانتصر الإيمان على الشهوة، وقام عنها وهى أحب الناس إليه. فخشية الله ترفع الإنسان من حضيض الشهوة إلى علو العفاف والطاعة.
أيامَ النبىّ: روى الترمذىّ وقال حديث حسن غريب، وروى أبو داود والنسائىّ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
”كان رجل يقال له مَرثَد بن أبى مرثد (الغنوىّ)[3]وكان رجلًا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتىَ بهم المدينة. قال وكانت امرأةٌ بغىٌّ بمكة يقال لها عَناق، وكانت صديقة له فى الجاهلية. وإنه وعد رجلا من أسارى مكة يحمله.
قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة. قال فجاءت عَناقُ فأبصرت سواد ظِلّى بجنب الحائط. فلما انتهت إلىّ عرفَت فقالت: مَرثَد؟ فقلت: مرثد. فقالت: مرحبا وأهلا. هلم فبِتْ عندنا الليلة. قال: فقلت: يا عناق حرم الله الزنى. فقالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أُسْراءكم.
قال: فتبعنى ثمانية وسلكتُ الخَندَمة (الجبل) فانتهيت إلى غار أو كهف. فدخلت فيه فجاءوا حتى قاموا على رأسى. فبالوا فظل بولهم على رأسى وعمّاهم الله عنّى. قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبى فحملته وكان رجلا ثقيلا، حتى انتهيت إلى الإذخِر (ناحية على مشارف مكة)، ففككت عنه أكبُلَه. فجعلت أحمله ويُعيِيني حتى قدمت المدينة.
فأتيت رسولَ الله فقلت يا رسول الله: أنكح عَناقا؟ مرتين. فأمسك رسول الله ولم يردَّ علىَّ شيئًا حتى نزلت: ﴿ الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحُرّم ذلك على المؤمنين ﴾ (النور ٣).[4]فقال رسول الله : يا مَرثد، الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك. فلا تنكِحْها.“
فهذا الصحابىّ البدرىّ مع الشدة والمحنة التى لحقت به، ومع حبه لتلك المرأة بدليل أنه استأذن رسول الله بنكاحها، ومع أنها هى التى دعته وكان بإمكانه أن ينجوَ بنفسه ويستتر عن القوم عندها إلا أنه قالها بكل صراحة: يا عناق، حرم الله الزنى. ولم يرض حتى باللجوء لبيتها، بل قطع دابر الفتنة والشبهة وقالها بقولة المؤمن العفيف وعرّض نفسه للهلاك من قبَل أهل الناحية. أقول قولى هذا وأستغفر اللهَ لى ولكم.
بعدالنبى: ”كانت امرأةٌ جميلة بمكة، وكانَ لها زوجٌ. فنظَرَت يَومًا إلى وَجْهِها فى المرءاةِ.
فقَالت لزَوجِها: أَتَرَى أَحَدًا يَرَى هَذا الوَجهَ ولا يُفتنُ بهِ؟؟ فقَالَ: نَعم. قالَت: مَنْ ؟ قال: عُبَيد بنُ عُمَير.[5]قالت: فائذن لى فيهِ، فَلأَفْتِنَنَّه. قالَ: قَد أَذِنتُ لكِ
قالَ: فأَتَتْهُ كالمُسْتَفتِيَة. فخَلا بها فى نَاحِيةٍ من المسجِد الحرام.
قالَ: فأَسْفَرت عن مِثلِ فَلْقَةِ القَمر. فقالَ لها: قُولى يا أمَةَ اللهِ.
قالَت: إنّى قَد فُتِنتُ بكَ فانظُر فى أَمْرِى. قالَ: إنّى سَائِلُكِ عن شَىءٍ فإن أنتِ صدَقْتِني نظَرتُ فى أَمْرِكِ. قالَت: لا تَسأَلنى عن شَىءٍ إلَّا وصَدَقْتُكَ.
قالَ: أَخْبِرينى لو أنّ مَلَكَ الموتِ أتَاكِ ليَقْبِضَ رُوحَكِ، كانَ يَسُرُّكِ أنّى قَضَيتُ لَكِ هَذِه الحَاجَة؟
قالَت: اللّهُمَّ لا. قال: صَدَقْتِ.
قالَ: فلَو أنّ الناسَ أُعطُوا كُتُبَهُم ولا تَدْرِينَ أَتَأخُذِينَ كِتابَكِ بيَمِينِك أَمْ بِشِمَالِك، أكَانَ يَسُرُّكِ أني قضَيتُ لكِ هذه الحاجَة؟ قالَت: اللّهُمَّ لا. قال: صَدَقْتِ.
قالَ: فلَو جِىءَ بالمَوازِيْنِ وجِىءَ بِكِ ولا تَدْرِينَ تخِفّينَ أَمْ تَثقُلِينَ، أكانَ يَسُرُّكِ أَنّى قضَيتُ لَكِ هذِه الحاجَة؟
قالَت: اللّهُمَّ لا. قال: صَدَقْتِ.
قالَ: اتّقِ اللهَ يَا أَمَةَ اللهِ، فقَد أَنْعَمَ اللهُ عَليكِ وأَحْسَنَ إلَيكِ.
فرجَعَت إلى زَوجِها، فقالَ: مَا صنَعْتِ؟ قالَت: أَنْتَ بطَّالٌ [ذو باطل]ونحنُ بطَّالُونَ.
فأَقْبَلَت على الصّلاةِ والصّومِ والعِبادَةِ . فصَار زَوجُها يقولُ مَالِى ولِعُبَيدِ بنِ عُمَير.“[6]اهـ
القاسم المشترك فى الحادثات الثلاث هو الخوف من الله وإيثار الآخرة على الدنيا أى إيثار النعيم المقيم على النعيم الزائل. قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ (الأنفال ٢).[7]لصٌّ تسوَّر سورًا فى الظلام ليسرق. فسمع امرأةً فى جوف الليل تقرأ القرءانَ تقول: ﴿ ألم يأنِ للذين ءامَنوا أن تخشَع قلوبُهم لذكر الله ﴾ (الحديد ١٦). فخشَع قلبُه ونزل من السُّور وتاب وصار من الصالحين. نسأل اللهَ أن يجعلنا ممن يخشَونه حق الخشية.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.
[1]. انظر التفاصيل في خطبة الفطر ٢٠١٠ قصة عُبيد بن عُمير ومرثد مع عناق.
[2]. تساوى نحو ١٨ أونسة ذهب وقيمتها نحو ٢٠٠٠٠ دولارا أمركيا.
[3]. ورد فى السيرة أنه كان مع على ورسول الله فى بدر يتناوبون على جمل واحد. انظر عيون الأثر.
[4]. فى تفسير القرطبىّ أن أحد الأقوال هو أن الجماع المحرم يكون زنى من الجانبين؛ كل منهما زان. وقول ءاخر أن نكاح عناق حرّم لأنها كانت مشركة.
[5]. هو عُبيد بن عُمير بن قتادة الليثىّ أبو عاصم المكىّ مات سنة ٧٤ هـ رحمه الله. كانَ عالمًا واعِظًا كبيرَ القدر من كبار التابعين. روى عن عمر وأبى ذرّ وعلىّ وعائشة وعدة. وعنه عطاء وابن أبى مليكة وعمرو بن دينار وأبو الزبير وعبد العزيز بن رفيع وطائفة. من تَذكِرةِ الحُفّاظ للذهبىّ.
[6]. من كتاب ذَمّ الهَوى لابنِ الجوزىّ رضى الله عنه. وهذه زيادة وجدتها على الانترنت فى كتاب معرفة الثقات لأحمد بن عبد الله العجلىّ: ”فكان زوجها يقول: مالى ولعبيد بن عمير أفسد علىَّ زوجتى! كانت كل ليلة عروسًا، فصيَّرها راهبةً.“
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق