بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

بيانُ معنى العبادة ومعنى رَدِّ القضاءِ بالدُّعاء

بيانُ معنى العبادة ومعنى رَدِّ القضاءِ بالدُّعاء
.
العبادةُ نهايةُ التذلُّل .. وهذا هو المرادُ في نحوِ قولِ الله تعالى (( إيَّاكَ نعبُد ))[الفاتحة/5]، وكذلكَ هو المرادُ في قولِ المشركينَ الذينَ حَكَى الله قولَهم (( ما نعبُدهم إلَّا ليقرِّبونا إلى الله زُلْفَى ))[الزُّمَر/3]، لأنَّ هؤلاء كانوا يَتَذَلَّلُونَ غايةَ التَّذَلُّلِ لأوثانهم ، وهذه هي العبادةُ التي هي شِرْكٌ .. وقد تُطْلَقُ العبادةُ بمعنى القُرْبَةِ من القُرَبِ كالصَّلاةِ والذِّكْرِ ، وذلكَ كحديثِ التِّرْمِذِيِّ عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" الدُّعاءُ مُخُّ العبادة " .. المعنى أنَّ الدُّعَاءَ ، أيْ الرَّغْبَةَ إلى الله في طَلَبِ حاجةٍ أو دَفْعِ شَرٍّ ، من أعظمِ ما يُقَرِّبُ إلى الله .. هذا معناه .. وليسَ معنى هذا الحديثِ ما تَدَّعِيهِ الوَهَّابِيَّةُ من أنَّ التَّوَسُّلَ بنبيٍّ أو وليٍّ شِرْكٌ وعبادةٌ لغيرِ الله .. هم يحتجُّون بهذا الحديث :" الدُّعاءُ مُخُّ العبادة " لتحريمِ قولِ المسلمِ يا رسولَ الله أغثني أو اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ بجاهِ رسولِ الله كذا وكذا .. يقولون إنَّ هذا كقولِ المشركينَ (( ما نعبُدهم إلَّا ليقرِّبونا إلى الله زُلْفَى )) ، وكَذَبُوا ، فإنَّ أُولئكَ المشركينَ كانوا يَتَذَلَّلُونَ للأوثانِ غايةَ التَّذَلُّلِ ويقولونَ نحنُ نعبُد الأوثانَ ، أيْ نخضَع للأوثانِ ونَتَذَلَّلُ غايةَ التَّذَلُّلِ لهم ، ليقرِّبونا إلى الله .. وفَرْقٌ كبيرٌ بينَهم وبينَ المسلمينَ الذينَ لا يَتَذَلَّلُونَ غايةَ التَّذَلُّلِ إلَّا لله تعالى ويستغيثونَ بالأنبياء والأولياء ليقضيَ اللهُ لهم حاجاتِهم أو يدفعَ عنهمُ الكُرَبَ .. لأنَّ هؤلاء المسلمينَ المتوسِّلين بأنبياء الله والمستغيثينَ بهم ما تَذَلَّلُوا غايةَ التذلُّل للأنبياء والأولياء وإنما يَتَشَفَّعُونَ بهم إلى الله .. ولو عَرَفَتِ الوَهَّابِيَّةُ معنى العبادةِ في لغةِ العَرَبِ لَمَا قالوا ذلك ولكنَّهم جاهلون .. وزعيمُهم مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ لم يَكُنْ عَالِمًا فقيهًا ولا مُحَدِّثًا ولا مُفَسِّرًا بل كانَ أبوهُ غاضبًا عليه لأنه لم يشتغلْ بالعِلْمِ كعادةِ أسلافهِ ، لأنَّ أباهُ وجَدَّهُ كانا عالِمَيْنِ بالمذهبِ الحنبليِّ .. ثمَّ هذا الرَّجُلُ ما شَهِدَ له أحدٌ من علماء الحنابلةِ في عصرِه بالعِلْمِ ولا أَدْخَلَهُ أحدٌ في طبقاتِ فقهاء الحنابلة .. العَالِمُ الجليلُ الحنبليُّ مُحَمَّدُ بنُ حُمَيْدٍ ، مفتي الحنابلةِ بمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ ، تَرْجَمَ ثَمَانِمِائَةِ عالمٍ وعالمةٍ من فقهاء الحنابلةِ في كتابٍ سمَّاه (السُّحُبُ الوابلةُ على ضَرائح الحنابلة) وذَكَرَ فيه أباهُ عبدَ الوَهَّابِ وأخاهُ الشَّيْخَ سليمانَ بنَ عبدِ الوَهَّاب ..
وكانتْ وفاةُ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوَهَّابِ سنةَ 1206 هـ وكانتْ وَفاةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ حُمَيْدٍ بعد مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوَهَّابِ بنحوِ ثمانينَ سنة ..
 
واعلموا أنَّ ما سبقَ في عِلْمِ الله تعالى ومشيئتهِ لا يُغَيِّرُهُ شيءٌ ، لا دَعْوَةُ داعٍ ولا صَدَقَةُ مُتَصَدِّقٍ ولا صَلاةُ مُصَلٍّ ولا غيرُ ذلكَ من الحسنات ، بلْ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ الخَلْقُ على ما قَدَّرَ الله لهم في الأَزَلِ من غيرِ أنْ يتغيَّر ذلك ..
الله تعالى إذا شاءَ لأحدٍ من عبادهِ أنْ يُصَابَ بشيء فلا بُدَّ أنْ يُصَابُ ذلكَ الشَّخْصُ بما شاءَه الله له ولو تَصَدَّقَ ، أيْ هذا الشَّخْصُ ، صَدَقَةً أو دَعَا أو وَصَلَ رَحِمَهُ أو عَمِلَ إحسانًا لأقاربهِ ونحوَ ذلك ، لا بُدَّ أنْ يَنْفُذَ ما شاء الله له في الأزل .. ولا يجوزُ أنْ يعتقدَ الإنسانُ أنَّه إذا تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ أو وَصَلَ رَحِمَهُ أو دَعَا دُعاءً فإنَّه ينجو ممَّا قَدَّرَ الله عليه .. وهذا بخلافِ الذي يَظُنُّ أنَّ الله كَتَبَ في اللَّوْحِ المحفوظِ قَدَرًا مُعَلَّقًا بأنَّ فُلانًا إنْ فَعَلَ كَذَا يُصِيبُ كَذَا من مطالبهِ أو يندفعُ عنه شيءٌ من البلاء فإنْ لم يفعلْ كذا لا ينالُ ما طَلَـبَهُ فإنَّ هذا جائزٌ لأنَّ الملائكةَ يكتبونَ في صُحُفهِمْ على وجهِ التعليقِ على حَسَبِ ما يتَلَقَّوْنَ من قِبَلِ الله تعالى فهذا لا ينافي الإيمانَ بالقَدَر . قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" لا يَرُدُّ القَضَاءَ إلَّا الدُّعاءُ ولا يَزِيدُ في العُمُرِ إلَّا البِرُّ " .. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في[(سننه)/كتاب القدَر عن رسول الله]وحسَّنه .. والمرادُ بالقضاءِ الواردِ في هذا الحديثِ القَضَاءُ الْمُعَلَّقُ ، لأنَّ القَضَاءَ منه ما هو مُعَلَّقٌ ومنه ما هو مُبْـرَمٌ لا يتغيَّر .. فالْمُعَلَّقُ معناه أنه مُعَلَّقٌ في صُحُفِ الملائكةِ التي نقلوها من اللَّوْحِ المحفوظ . مثلًا يكونُ مكتوبًا عندَهم فلانٌ إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ أو بَرَّ وَالِدَيْهِ أو دَعَا بكَذَا يعيشُ إلى المِائَةِ أو يُعْطَى كَذَا من الرِّزْقِ والصِّحَّةِ فإنْ لم يفعلْ ذلك يعيشُ إلى السِّتِّينَ ولا يُعْطَى كَذَا من الرِّزْقِ والصِّحَّة .. أمَّا أيُّ الأَمْرَيْنِ سيقعُ أخيـرًا فهم لا يعرفونهُ في الابتداء .. هم لا يعلمونَ من القَدَرِ المحتومِ إلَّا ما عَلَّمَهُمُ الله إيَّاه .. هذا هو معنى القَضَاءِ الْمُعَلَّقِ أو القَدَرِ الْمُعَلَّق .. وعليه يُحْمَلُ حديثُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" صِلَةُ الرَّحِـمِ تَزِيدُ في العُمُرِ " ، يعني أنَّه قد كانَ في عِلْمِ الله تعالى أنَّه لولا هذه الصِّلَةُ ما كانَ عُمْرُهُ كذا ، ولكنَّ الله عَلِـمَ أنَّه يَصِلُ رَحِمَهُ فيكونُ عُمُرُهُ أزيدَ من ذلك ، فيكونُ المعلومُ المحتومُ أنَّه يَصِـلُ رَحِمَهُ ويعيشُ إلى هذه المدَّة ، لأنَّ الله تعالى يَعْلَمُ ما يكونُ ويَعْلَمُ أَنَّ ما لا يكونُ لو كانَ كيفَ يكون ، كما قال تعالى في حَقِّ الكُفَّارِ (( ولو رُدُّوا لعادوا لِما نُهُوا عنه ))[الأنعام/28]، وإنْ كانَ يَعْلَمُ أنَّهم لا يُرَدُّون .
وحديثُ رسولِ الله ، صلَّى الله عليه وسلَّم ، المذكورُ أَخْرَجَهُ القُضَاعِيُّ في[(مسنده)/ج1/ص93]، والحديثُ له شواهد . أنظر[(فتح الوهَّاب بتخريج أحاديث الشِّهاب)/ج1/ص108 ـ ص112].
وذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ في كتابه (القضاء والقدر) أنَّ رسولَ الله ، صلَّى الله عليه وسلَّم ، قال :" مَنْ سَرَّهُ أنْ يَمُدَّ اللهُ في عُمُرِهِ ويُوَسِّعَ له رِزْقَهُ ويَدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةَ السُّوءِ فَلْيَتَّقِ اللهَ ولْيَصِلْ رَحِمَهُ " .. أَخْرَجَهُ عبدُ الله بنُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل في[(زوائدِ مسند أحمد)/ج1/ص143]..
وفي روايةٍ عندَ التِّرْمِذِيِّ :" لا يَرُدُّ القَدَرَ إلَّا الدُّعَاءُ " ، وروايةُ ابنِ ماجهْ :" لا يَزِيدُ في العُمُرِ إلَّا الْبِـرُّ ولا يَرُدُّ القَدَرَ إلَّا الدُّعَاءُ وإنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بخطيئةٍ يعملُها " .. هذا راجعٌ إلى القَدَرِ الْمُعَلَّقِ ، ليسَ إلى القَدَرِ الْمُبْرَمِ . ليسَ معناه أنَّ ما سَبَقَ في علمِ الله ومشيئتهِ مُعَلَّقٌ على فعلِ هذا الشَّخْصِ أو دعائهِ .. فالله تعالى يعلمُ كُلَّ شَيْءٍ ولا يخفَى عليه شَيْءٌ ، هو يعلمُ بعلمهِ الأزليِّ أيَّ الأَمْرَيْنِ سيختارُ هذا الشَّخْصُ وما الذي سيصيبُه .. واللَّوْحُ المحفوظُ كُتِبَ فيه ذلكَ أيضًا .. وعلى مِثْلِ ذلكَ يُحْمَلُ قولُ ابنِ عبَّاسٍ :" لا يَنْفَعُ حَذَرٌ من قَدَرٍ ولكنَّ الله يمحو بالدُّعاء ما شاء من القَدَرِ " .. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ..
فقولُه :" لا يَنْفَعُ حَذَرٌ من قَدَرٍ " معناه فيما كُتِبَ من القَدَرِ المحتومِ وهو ما سَبَقَ في عِلْمِ الله ومشيئتهِ أنَّه يكون ..
وقولُه :" ولكنَّ الله يمحو بالدُّعاء ما شاء من القَدَر " فذاكَ الْمُعَلَّقُ .
.
وممَّا استدلَّ به أهلُ الحَقِّ على أنَّ الله لا يُغَيِّرُ مشيئتَه لدعاء داعٍ الحديثُ الذي رَوَاهُ الحافظُ عبدُ الرَّحْمٰنِبنُ أبي حاتمٍ عن أبي هريرةَ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" سألتُ رَبِّي أربعًا فأعطاني ثلاثًا ومَنَعَنِي واحدة .. سأَلْتُهُ أنْ لا يُكْفِرَ أُمَّتِي جُمْلَةً فأعطانيها .. وسأَلْتُهُ أنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتِي بما أَهْلَكَ به الأُمَمَ قَبْلَهُمْ فأعطانيها .. وسأَلْتُهُ أنْ لا يُظْهِرَ عليهم عَدُوًّا من غيرِهم فأعطانيها .. وسأَلْتُهُ أنْ لا يجعلَ بأْسَهُمْ بينَهم فمَنَعَنيها " .. 
وفي روايةٍ لمسلم في (صحيحه) :" وقال يا مُحَمَّدُ إنِّي إذا قَضَيْتُ قَضَاءً فإنه لا يُرَدُّ " ..
والمعنى أنَّ الرَّسُولَ سأل رَبَّهُ أربعةَ أمورٍ فاستجابَ له في ثلاثةٍ ولم يستجبْ له في الرَّابعة ..
.
1) طلبَ من رَبِّهِ أنْ لا يُكْفِرَ هذه الأُمَّةَ ، أُمَّةَ محمَّد ، جُمْلَةً .. طَلَبَ من رَبِّهِ أنْ لا يجعلَ مِنْ بعد موتهِ جميعَ هذه الأُمَّةِ كُفَّارًا ولا جُمْهُورَهم .. فأعطاهُ الله ذلك .. فأُمَّةُ مُحَمَّدٍ لا يَكْفُرُونَ جميعُهم ولا جُمْهُورُهم ، وإنْ كَفَرَ بَعْضُهُمُ الذينَ هُمُ الأَقَلُّ ..

2) وطلبَ من رَبِّهِ أنْ لا يُهْلِكَ هذه الأُمَّةَ ، أُمَّةَ محمَّد ، بما أهلكَ بهِ الأُمَمَ السَّابِقَةَ كأُمَّةِ نوحٍ وأُمَّةِ هودٍ وأُمَّةِ صالحٍ .. فأعطاهُ الله ذلك .. فالله ، عَزَّ وجَلَّ ، لا يُسَلِّطُ على هذه الأُمَّةِ عذابًا يستأصلُهم جُمْلَةً ، لا بالغَرَقِ ولا بالجُوعِ ولا بالرِّيحِ ولا بغيرِ ذلك ..

3) وطلبَ من رَبِّهِ أنْ لا يُظْهِرَ على هذه الأُمَّةِ ، أُمَّةِ محمَّد ، عَدُوًّا من غيرِهم .. فأعطاهُ الله ذلك .. فالله ، عَزَّ وجَلَّ ، لا يُسَلِّطُ على هذه الأُمَّةِ عَدُوًّا كافرًا يستأصلُهم كُلَّهُمْ ..
فلا يستطيعُ الكُفَّارُ ، ولو اجتمعُوا من بينِ مشارقِ الأرضِ ومغاربها ، أنْ يُبِيدُوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ويُفْنوهُمْ من على وَجْهِ الأرضِ لأنَّ الله تعالى لا يُمَكِّنُهُمْ من ذلك ..
4) والطَّلَبُ الأخيرُ الذي طلبَه سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ من رَبِّهِ هو أنْ لا يجعلَ بأسَ هذه الأُمَّةِ بينَهم . طَلَبَ من الله أنْ لا يقاتلَ بعضُ هذه الأُمَّةِ بعضًا .. ولكنَّ الله لم يستجبْ له طلبَه .. ونحنُ لا نزالُ إلى يومِنا هذا نَرَى الاقتتالَ في هذه الأُمَّةِ من أيامِ خلافةِ الإمامِ الرَّاشِدِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ وإلى زماننا هذا ..

قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" إذا وُضِعَ السَّيْفُ في أمَّتي لم يُرْفَعْ عنها إلى يومِ القيامة " .. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في[(السُّنن)/كتاب الفتن عن رسول الله]، وقال :" هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح " ..

وفي روايةٍ للإمام مسلم :" وقال يا مُحَمَّدُ إنِّي إذا قَضَيْتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ " .. ومعناه لا أعطيكَ هذا الطَّلَبَ الأخيرَ لأنِّي شئتُ في الأزلِ أنْ يصيرَ في أُمَّتِكَ قتالٌ بينَهم فلا بُدَّ أنْ يصيرَ ذلك .. فلو كانَ الله يُغَيِّرُ مشيئتَه لأحدٍ لكانَ غَيَّرَها لِمُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم .. ولكنَّ الله مشيئتُه لا تتغيَّر ولا تتبدَّل .. وأمَّا مشيئتُنا نحنُ فمُتَغَيِّرَةٌ مُتَبَدِّلَةٌ مخلوقةٌ ..
فلو أنَّ إنسانًا مريضًا دَعَا اللهَ أنْ يَشْفِـيَـهُ فتعافى فليسَ معنى ذلكَ أنَّ الله شاء أنْ يَمْرَضَ هذا الإنسانُ ثمَّ تَبَدَّلَتْ مشيئةُ الله ورُدَّ قضاءُ الله بدعاء المريض .. ليسَ هذا معناه .. اعتقادُ أنَّ الله قد يُغَيِّرُ مشيئتَه كُفْرٌ مخرجٌ من الإسلام .. التغيُّر علامةُ الحدوث ، والله أزليٌّ غيرُ مخلوق ، خالقٌ مُحْدِثٌ غيرُ حادث ..

بلْ معناه أنَّ الله شاء في الأزل أنْ يَمْرَضَ هذا الإنسانُ فيدعوَ اللهَ طالبًا الشِّفاءَ فيَتَعَافَى على حَسَبِ ما سَبَقَ في مشيئةِ الله الأزلـيَّة .. فتبيَّن أنَّ الله يغيِّر أحوالَ العبادِ من مَرَضٍ إلى صِحَّةٍ ومن فسادٍ إلى صلاحٍ ومن فَقْرٍ إلى غِنًى ومِنْ غِنًى إلى فَقْرٍ على حَسَبِ مشيئةِ الله الأزليَّة .. وهذا هو معنى قولهِ تعالى (( كُلَّ يومٍ هو في شأن ))[الرَّحمٰن/29]..
قال رسولُ الله في تفسيرِ الآية :" يَغْفِرُ ذَنْبًا ويَكْشِفُ كَرْبًا ويَرْفَعُ قومًا ويَضَعُ ءاخَرِين " ..
رواهُ ابنُ حِبَّانَ في[(صحيحه)/كتاب الرَّقائق]عن أبي الدَّرْدَاء عن رسولِ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم ..
مَعْناهُ : الله يُحْدِثُ كُلَّ يَومٍ أشياءَ ، يُحْدِثُ مخلوقاتٍ جديدةً ، أمَّا هُوَ فلا يَتَغَيَّرُ، كما يقولُ المسلمونَ مِنَ العَامَّةِ والخاصَّة :" الله يُغَيِّرُ ولا يَتَغَيَّرُ " .. فالتغيُّر يطرأُ على أحوال المخلوقاتِ لا على مشيئةِ الله وعلمهِ ..
.
وإذا دعا المريضُ رَبَّهُ أنْ يَشْفِيَهُ فاستجابَ له فيَصِحُّ أنْ يُقالَ إنَّ دُعَاءَهُ وافقَ مشيئةَ الله ، وإذا لم يستجبْ له رَبُّهُ فيَصِحُّ أنْ يقالَ إنَّ دُعَاءَهُ ما وافقَ مشيئةَ الله .. والدَّاعي له ثوابُ الدُّعاء ..
.
تنبيه : جَرَتِ العادةُ في بعضِ البلادِ أنْ يجتمعَ النَّاسُ فيقرأُوا هذه الكلمات :" اللَّهُمَّ إنْ كنتَ كتبتَني عندَك في أُمِّ الكتاب شقيًّا أو محرومًا أو مُقَتَّرًا عليَّ في الرِّزْقِ فامحُ اللَّهُمَّ شقاوتي وحرماني ... إلخ .."  ..

وهذا لا يَصِحُّ عن سَيِّدِنا عُمَرَ ، رضيَ الله عنه ، ولا عن أيِّ أحدٍ من الصَّحَابَةِ والسَّلَفِ .. ومعناهُ مخالفٌ للعقيدةِ الصَّحِيحَةِ وهي أنَّ الشَّقِيَّ شَقِيٌّ في بَطْنِ أُمِّهِ فلا يَتَبَدَّلُ سعيدًا أبدًا لأنَّه صَحَّ الحديثُ الشَّرِيفُ بذلكَ ، وكذلكَ السَّعِيدُ سعيدٌ في بَطْنِ أُمِّهِ فلا يَتَبَدَّلُ شَقِيًّا أبدًا لأنه صَحَّ الحديثُ الشَّرِيفُ بذلكَ .. الشَّقَاءُ والسَّعَادَةُ لا يدخلُهما التعليق .. واعتقادُ تَبَدُّلِ صفةٍ من صفاتِ الله تعالى كُفْرٌ كما قال الإمامُ أبو حنيفةَ وغيرُه من الأكابر ..
.

تنبيه ءاخَر : قولُ الله تعالى (( يمحو اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِـتُ )) فَسَّرَهُ الإمامُ الشَّافِعِيُّ بالنَّاسخ والمنسوخ ، أيْ أنَّ الله تعالى يمحو ما يشاءُ من القرءانِ فيَنْسَخُهُ ويُثْـبِـتُ ما يشاءُ فيهِ فلا يَنْسَخُهُ ، وما يُبَدَّلُ وما يُثْـبَتُ كُلُّ ذلكَ مذكورٌ في اللَّوْحِ المحفوظ .. والنَّسْخُ يكونُ في حياة الرَّسُولِ ، وأمَّا بعدَ وفاتهِ ، صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، فلا نَسْخَ .. يقولُ البَيْهَقِيُّ :" هذا أَصَحُّ ما قيلَ في تأويلِ هذه الآية " .. أنزلَ الله تعالى القرءانَ مُفَرَّقًا على الرَّسُولِ ثمَّ كانَ من الآياتِ ما يُرْفَعُ بعدَ نزولهِ فيَخْرُجُ عن كونهِ قرءانًا فلا يُقْرَأُ على أنَّه قرءانٌ مَعَ بقاء حُكْمهِ ، ومنه ما يبقَى تلاوةً لكنَّ حُكْمَهُ يُرْفَعُ .. هذا هو النَّسْخُ .. هذا معنى الآية .. معناها يمحو الله بعضَ ما نَزَلَ من القرءانِ عن حُكْمِ القرءانِ ويُثْبِـتُ ما يشاءُ وهو الأكثرُ لأنَّ المنسوخَ قليلٌ جدًّا .. وممَّا نَزَلَ قرءانًا ثمَّ رُفِعَتْ تلاوتُه ما رواه أَنَسٌ قال :" إنَّا كُنَّا نقرأُ قرءانًا يا رَبَّنا أبلغْ قومَنا أنَّا قد لقِينا رَبَّنا فرَضِيَ عنَّا وأرضانا " ثمَّ رُفِـعَ ذلك .. لكنْ أُمُّ الكتاب ، وهو اللَّوْحُ المحفوظ ، يشتملُ على الْمَمْحُوِّ والْمُثْبَتِ .. هذا معنى قول الله تعالى في سورة الرَّعد (( يمحو اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِـتُ وعندَه أُمُّ الكتاب )) ..

وكانَ ممَّا يُقْرَأُ قرءانًا ثمَّ نُسِـخَ رَسْمُهُ وبقيَ حُكْمُهُ " الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارجُموهما البَتَّةَ نَكَالًا من الله " ..

وممَّا بقيَ رَسْمُهُ ونُسِـخَ حُكْمُهُ قولُه تعالى في سورة البقرة (( والذينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويَذَرُونَ أزواجًا وَصِيَّةً لأزواجِهم متاعًا إلى الحَوْلِ )) ، نُسِـخَتْ بالآيةِ التي قبلَها وهي (( والذينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويَذَرُونَ أزواجًا يَتَرَبَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ أربعةَ أشهرٍ وعَشْرًا )) ..
والنَّسْخُ لا يخلو من حكمةٍ ، بل هو ممَّا تقتضيهِ الحكمةُ ، لأنَّ الآيةَ تَنْـزِلُ فيُعْمَلُ بمقتضاها بُرْهَةً ثمَّ يُرْفَعُ حكمُها وتأتي أخرى بَدَلَهَا كانت الحكمةُ قبلَ رَفْعِ العَمَلِ بها العملُ بها ، ثمَّ كانتْ مصلحةُ العبادِ في رَفْعِ ذلكَ الحُكْمِ لأنَّ الأوامرَ والنواهيَ الإلـٰـهِـيَّةَ منها ما هيَ مُؤَبَّدَةٌ ومنها ما هيَ مُؤَقَّتَةٌ .. فالظُّلْمُ مَثَلًا حُرِّمَ في جميعِ الشَّرائعِ ، وكذلكَ أشياءُ أخرى كأكلِ الْمَيْتَةِ والدَّمِ ولحمِ الخنـزير .
.
العبادةُ نهايةُ التذلُّل .. وهذا هو المرادُ في نحوِ قولِ الله تعالى (( إيَّاكَ نعبُد ))[الفاتحة/5]، وكذلكَ هو المرادُ في قولِ المشركينَ الذينَ حَكَى الله قولَهم (( ما نعبُدهم إلَّا ليقرِّبونا إلى الله زُلْفَى ))[الزُّمَر/3]، لأنَّ هؤلاء كانوا يَتَذَلَّلُونَ غايةَ التَّذَلُّلِ لأوثانهم ، وهذه هي العبادةُ التي هي شِرْكٌ .. وقد تُطْلَقُ العبادةُ بمعنى القُرْبَةِ من القُرَبِ كالصَّلاةِ والذِّكْرِ ، وذلكَ كحديثِ التِّرْمِذِيِّ عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" الدُّعاءُ مُخُّ العبادة " .. المعنى أنَّ الدُّعَاءَ ، أيْ الرَّغْبَةَ إلى الله في طَلَبِ حاجةٍ أو دَفْعِ شَرٍّ ، من أعظمِ ما يُقَرِّبُ إلى الله .. هذا معناه .. وليسَ معنى هذا الحديثِ ما تَدَّعِيهِ الوَهَّابِيَّةُ من أنَّ التَّوَسُّلَ بنبيٍّ أو وليٍّ شِرْكٌ وعبادةٌ لغيرِ الله .. هم يحتجُّون بهذا الحديث :" الدُّعاءُ مُخُّ العبادة " لتحريمِ قولِ المسلمِ يا رسولَ الله أغثني أو اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ بجاهِ رسولِ الله كذا وكذا .. يقولون إنَّ هذا كقولِ المشركينَ (( ما نعبُدهم إلَّا ليقرِّبونا إلى الله زُلْفَى )) ، وكَذَبُوا ، فإنَّ أُولئكَ المشركينَ كانوا يَتَذَلَّلُونَ للأوثانِ غايةَ التَّذَلُّلِ ويقولونَ نحنُ نعبُد الأوثانَ ، أيْ نخضَع للأوثانِ ونَتَذَلَّلُ غايةَ التَّذَلُّلِ لهم ، ليقرِّبونا إلى الله .. وفَرْقٌ كبيرٌ بينَهم وبينَ المسلمينَ الذينَ لا يَتَذَلَّلُونَ غايةَ التَّذَلُّلِ إلَّا لله تعالى ويستغيثونَ بالأنبياء والأولياء ليقضيَ اللهُ لهم حاجاتِهم أو يدفعَ عنهمُ الكُرَبَ .. لأنَّ هؤلاء المسلمينَ المتوسِّلين بأنبياء الله والمستغيثينَ بهم ما تَذَلَّلُوا غايةَ التذلُّل للأنبياء والأولياء وإنما يَتَشَفَّعُونَ بهم إلى الله .. ولو عَرَفَتِ الوَهَّابِيَّةُ معنى العبادةِ في لغةِ العَرَبِ لَمَا قالوا ذلك ولكنَّهم جاهلون .. وزعيمُهم مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ لم يَكُنْ عَالِمًا فقيهًا ولا مُحَدِّثًا ولا مُفَسِّرًا بل كانَ أبوهُ غاضبًا عليه لأنه لم يشتغلْ بالعِلْمِ كعادةِ أسلافهِ ، لأنَّ أباهُ وجَدَّهُ كانا عالِمَيْنِ بالمذهبِ الحنبليِّ .. ثمَّ هذا الرَّجُلُ ما شَهِدَ له أحدٌ من علماء الحنابلةِ في عصرِه بالعِلْمِ ولا أَدْخَلَهُ أحدٌ في طبقاتِ فقهاء الحنابلة .. العَالِمُ الجليلُ الحنبليُّ مُحَمَّدُ بنُ حُمَيْدٍ ، مفتي الحنابلةِ بمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ ، تَرْجَمَ ثَمَانِمِائَةِ عالمٍ وعالمةٍ من فقهاء الحنابلةِ في كتابٍ سمَّاه (السُّحُبُ الوابلةُ على ضَرائح الحنابلة) وذَكَرَ فيه أباهُ عبدَ الوَهَّابِ وأخاهُ الشَّيْخَ سليمانَ بنَ عبدِ الوَهَّاب ..

وكانتْ وفاةُ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوَهَّابِ سنةَ 1206 هـ وكانتْ وَفاةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ حُمَيْدٍ بعد مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوَهَّابِ بنحوِ ثمانينَ سنة ..
 
واعلموا أنَّ ما سبقَ في عِلْمِ الله تعالى ومشيئتهِ لا يُغَيِّرُهُ شيءٌ ، لا دَعْوَةُ داعٍ ولا صَدَقَةُ مُتَصَدِّقٍ ولا صَلاةُ مُصَلٍّ ولا غيرُ ذلكَ من الحسنات ، بلْ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ الخَلْقُ على ما قَدَّرَ الله لهم في الأَزَلِ من غيرِ أنْ يتغيَّر ذلك ..

الله تعالى إذا شاءَ لأحدٍ من عبادهِ أنْ يُصَابَ بشيء فلا بُدَّ أنْ يُصَابُ ذلكَ الشَّخْصُ بما شاءَه الله له ولو تَصَدَّقَ ، أيْ هذا الشَّخْصُ ، صَدَقَةً أو دَعَا أو وَصَلَ رَحِمَهُ أو عَمِلَ إحسانًا لأقاربهِ ونحوَ ذلك ، لا بُدَّ أنْ يَنْفُذَ ما شاء الله له في الأزل .. ولا يجوزُ أنْ يعتقدَ الإنسانُ أنَّه إذا تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ أو وَصَلَ رَحِمَهُ أو دَعَا دُعاءً فإنَّه ينجو ممَّا قَدَّرَ الله عليه .. وهذا بخلافِ الذي يَظُنُّ أنَّ الله كَتَبَ في اللَّوْحِ المحفوظِ قَدَرًا مُعَلَّقًا بأنَّ فُلانًا إنْ فَعَلَ كَذَا يُصِيبُ كَذَا من مطالبهِ أو يندفعُ عنه شيءٌ من البلاء فإنْ لم يفعلْ كذا لا ينالُ ما طَلَـبَهُ فإنَّ هذا جائزٌ لأنَّ الملائكةَ يكتبونَ في صُحُفهِمْ على وجهِ التعليقِ على حَسَبِ ما يتَلَقَّوْنَ من قِبَلِ الله تعالى فهذا لا ينافي الإيمانَ بالقَدَر . قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" لا يَرُدُّ القَضَاءَ إلَّا الدُّعاءُ ولا يَزِيدُ في العُمُرِ إلَّا البِرُّ " .. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في[(سننه)/كتاب القدَر عن رسول الله]وحسَّنه .. والمرادُ بالقضاءِ الواردِ في هذا الحديثِ القَضَاءُ الْمُعَلَّقُ ، لأنَّ القَضَاءَ منه ما هو مُعَلَّقٌ ومنه ما هو مُبْـرَمٌ لا يتغيَّر .. فالْمُعَلَّقُ معناه أنه مُعَلَّقٌ في صُحُفِ الملائكةِ التي نقلوها من اللَّوْحِ المحفوظ . مثلًا يكونُ مكتوبًا عندَهم فلانٌ إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ أو بَرَّ وَالِدَيْهِ أو دَعَا بكَذَا يعيشُ إلى المِائَةِ أو يُعْطَى كَذَا من الرِّزْقِ والصِّحَّةِ فإنْ لم يفعلْ ذلك يعيشُ إلى السِّتِّينَ ولا يُعْطَى كَذَا من الرِّزْقِ والصِّحَّة .. أمَّا أيُّ الأَمْرَيْنِ سيقعُ أخيـرًا فهم لا يعرفونهُ في الابتداء .. هم لا يعلمونَ من القَدَرِ المحتومِ إلَّا ما عَلَّمَهُمُ الله إيَّاه .. هذا هو معنى القَضَاءِ الْمُعَلَّقِ أو القَدَرِ الْمُعَلَّق .. وعليه يُحْمَلُ حديثُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" صِلَةُ الرَّحِـمِ تَزِيدُ في العُمُرِ " ، يعني أنَّه قد كانَ في عِلْمِ الله تعالى أنَّه لولا هذه الصِّلَةُ ما كانَ عُمْرُهُ كذا ، ولكنَّ الله عَلِـمَ أنَّه يَصِلُ رَحِمَهُ فيكونُ عُمُرُهُ أزيدَ من ذلك ، فيكونُ المعلومُ المحتومُ أنَّه يَصِـلُ رَحِمَهُ ويعيشُ إلى هذه المدَّة ، لأنَّ الله تعالى يَعْلَمُ ما يكونُ ويَعْلَمُ أَنَّ ما لا يكونُ لو كانَ كيفَ يكون ، كما قال تعالى في حَقِّ الكُفَّارِ (( ولو رُدُّوا لعادوا لِما نُهُوا عنه ))[الأنعام/28]، وإنْ كانَ يَعْلَمُ أنَّهم لا يُرَدُّون .

وحديثُ رسولِ الله ، صلَّى الله عليه وسلَّم ، المذكورُ أَخْرَجَهُ القُضَاعِيُّ في[(مسنده)/ج1/ص93]، والحديثُ له شواهد . أنظر[(فتح الوهَّاب بتخريج أحاديث الشِّهاب)/ج1/ص108 ـ ص112].

وذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ في كتابه (القضاء والقدر) أنَّ رسولَ الله ، صلَّى الله عليه وسلَّم ، قال :" مَنْ سَرَّهُ أنْ يَمُدَّ اللهُ في عُمُرِهِ ويُوَسِّعَ له رِزْقَهُ ويَدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةَ السُّوءِ فَلْيَتَّقِ اللهَ ولْيَصِلْ رَحِمَهُ " .. أَخْرَجَهُ عبدُ الله بنُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل في[(زوائدِ مسند أحمد)/ج1/ص143]..

وفي روايةٍ عندَ التِّرْمِذِيِّ :" لا يَرُدُّ القَدَرَ إلَّا الدُّعَاءُ " ، وروايةُ ابنِ ماجهْ :" لا يَزِيدُ في العُمُرِ إلَّا الْبِـرُّ ولا يَرُدُّ القَدَرَ إلَّا الدُّعَاءُ وإنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بخطيئةٍ يعملُها " .. هذا راجعٌ إلى القَدَرِ الْمُعَلَّقِ ، ليسَ إلى القَدَرِ الْمُبْرَمِ . ليسَ معناه أنَّ ما سَبَقَ في علمِ الله ومشيئتهِ مُعَلَّقٌ على فعلِ هذا الشَّخْصِ أو دعائهِ .. فالله تعالى يعلمُ كُلَّ شَيْءٍ ولا يخفَى عليه شَيْءٌ ، هو يعلمُ بعلمهِ الأزليِّ أيَّ الأَمْرَيْنِ سيختارُ هذا الشَّخْصُ وما الذي سيصيبُه .. واللَّوْحُ المحفوظُ كُتِبَ فيه ذلكَ أيضًا .. وعلى مِثْلِ ذلكَ يُحْمَلُ قولُ ابنِ عبَّاسٍ :" لا يَنْفَعُ حَذَرٌ من قَدَرٍ ولكنَّ الله يمحو بالدُّعاء ما شاء من القَدَرِ " .. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ..

فقولُه :" لا يَنْفَعُ حَذَرٌ من قَدَرٍ " معناه فيما كُتِبَ من القَدَرِ المحتومِ وهو ما سَبَقَ في عِلْمِ الله ومشيئتهِ أنَّه يكون ..

وقولُه :" ولكنَّ الله يمحو بالدُّعاء ما شاء من القَدَر " فذاكَ الْمُعَلَّقُ .
.
وممَّا استدلَّ به أهلُ الحَقِّ على أنَّ الله لا يُغَيِّرُ مشيئتَه لدعاء داعٍ الحديثُ الذي رَوَاهُ الحافظُ عبدُ الرَّحْمٰنِبنُ أبي حاتمٍ عن أبي هريرةَ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" سألتُ رَبِّي أربعًا فأعطاني ثلاثًا ومَنَعَنِي واحدة .. سأَلْتُهُ أنْ لا يُكْفِرَ أُمَّتِي جُمْلَةً فأعطانيها .. وسأَلْتُهُ أنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتِي بما أَهْلَكَ به الأُمَمَ قَبْلَهُمْ فأعطانيها .. وسأَلْتُهُ أنْ لا يُظْهِرَ عليهم عَدُوًّا من غيرِهم فأعطانيها .. وسأَلْتُهُ أنْ لا يجعلَ بأْسَهُمْ بينَهم فمَنَعَنيها " .. 
وفي روايةٍ لمسلم في (صحيحه) :" وقال يا مُحَمَّدُ إنِّي إذا قَضَيْتُ قَضَاءً فإنه لا يُرَدُّ " ..
والمعنى أنَّ الرَّسُولَ سأل رَبَّهُ أربعةَ أمورٍ فاستجابَ له في ثلاثةٍ ولم يستجبْ له في الرَّابعة ..
.
1) طلبَ من رَبِّهِ أنْ لا يُكْفِرَ هذه الأُمَّةَ ، أُمَّةَ محمَّد ، جُمْلَةً .. طَلَبَ من رَبِّهِ أنْ لا يجعلَ مِنْ بعد موتهِ جميعَ هذه الأُمَّةِ كُفَّارًا ولا جُمْهُورَهم .. فأعطاهُ الله ذلك .. فأُمَّةُ مُحَمَّدٍ لا يَكْفُرُونَ جميعُهم ولا جُمْهُورُهم ، وإنْ كَفَرَ بَعْضُهُمُ الذينَ هُمُ الأَقَلُّ ..

2) وطلبَ من رَبِّهِ أنْ لا يُهْلِكَ هذه الأُمَّةَ ، أُمَّةَ محمَّد ، بما أهلكَ بهِ الأُمَمَ السَّابِقَةَ كأُمَّةِ نوحٍ وأُمَّةِ هودٍ وأُمَّةِ صالحٍ .. فأعطاهُ الله ذلك .. فالله ، عَزَّ وجَلَّ ، لا يُسَلِّطُ على هذه الأُمَّةِ عذابًا يستأصلُهم جُمْلَةً ، لا بالغَرَقِ ولا بالجُوعِ ولا بالرِّيحِ ولا بغيرِ ذلك ..

3) وطلبَ من رَبِّهِ أنْ لا يُظْهِرَ على هذه الأُمَّةِ ، أُمَّةِ محمَّد ، عَدُوًّا من غيرِهم .. فأعطاهُ الله ذلك .. فالله ، عَزَّ وجَلَّ ، لا يُسَلِّطُ على هذه الأُمَّةِ عَدُوًّا كافرًا يستأصلُهم كُلَّهُمْ ..
فلا يستطيعُ الكُفَّارُ ، ولو اجتمعُوا من بينِ مشارقِ الأرضِ ومغاربها ، أنْ يُبِيدُوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ويُفْنوهُمْ من على وَجْهِ الأرضِ لأنَّ الله تعالى لا يُمَكِّنُهُمْ من ذلك ..

4) والطَّلَبُ الأخيرُ الذي طلبَه سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ من رَبِّهِ هو أنْ لا يجعلَ بأسَ هذه الأُمَّةِ بينَهم . طَلَبَ من الله أنْ لا يقاتلَ بعضُ هذه الأُمَّةِ بعضًا .. ولكنَّ الله لم يستجبْ له طلبَه .. ونحنُ لا نزالُ إلى يومِنا هذا نَرَى الاقتتالَ في هذه الأُمَّةِ من أيامِ خلافةِ الإمامِ الرَّاشِدِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ وإلى زماننا هذا ..

قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم :" إذا وُضِعَ السَّيْفُ في أمَّتي لم يُرْفَعْ عنها إلى يومِ القيامة " .. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في[(السُّنن)/كتاب الفتن عن رسول الله]، وقال :" هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح " ..

وفي روايةٍ للإمام مسلم :" وقال يا مُحَمَّدُ إنِّي إذا قَضَيْتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ " .. ومعناه لا أعطيكَ هذا الطَّلَبَ الأخيرَ لأنِّي شئتُ في الأزلِ أنْ يصيرَ في أُمَّتِكَ قتالٌ بينَهم فلا بُدَّ أنْ يصيرَ ذلك .. فلو كانَ الله يُغَيِّرُ مشيئتَه لأحدٍ لكانَ غَيَّرَها لِمُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم .. ولكنَّ الله مشيئتُه لا تتغيَّر ولا تتبدَّل .. وأمَّا مشيئتُنا نحنُ فمُتَغَيِّرَةٌ مُتَبَدِّلَةٌ مخلوقةٌ ..

فلو أنَّ إنسانًا مريضًا دَعَا اللهَ أنْ يَشْفِـيَـهُ فتعافى فليسَ معنى ذلكَ أنَّ الله شاء أنْ يَمْرَضَ هذا الإنسانُ ثمَّ تَبَدَّلَتْ مشيئةُ الله ورُدَّ قضاءُ الله بدعاء المريض .. ليسَ هذا معناه .. اعتقادُ أنَّ الله قد يُغَيِّرُ مشيئتَه كُفْرٌ مخرجٌ من الإسلام .. التغيُّر علامةُ الحدوث ، والله أزليٌّ غيرُ مخلوق ، خالقٌ مُحْدِثٌ غيرُ حادث ..

بلْ معناه أنَّ الله شاء في الأزل أنْ يَمْرَضَ هذا الإنسانُ فيدعوَ اللهَ طالبًا الشِّفاءَ فيَتَعَافَى على حَسَبِ ما سَبَقَ في مشيئةِ الله الأزلـيَّة .. فتبيَّن أنَّ الله يغيِّر أحوالَ العبادِ من مَرَضٍ إلى صِحَّةٍ ومن فسادٍ إلى صلاحٍ ومن فَقْرٍ إلى غِنًى ومِنْ غِنًى إلى فَقْرٍ على حَسَبِ مشيئةِ الله الأزليَّة .. وهذا هو معنى قولهِ تعالى (( كُلَّ يومٍ هو في شأن ))[الرَّحمٰن/29]..
قال رسولُ الله في تفسيرِ الآية :" يَغْفِرُ ذَنْبًا ويَكْشِفُ كَرْبًا ويَرْفَعُ قومًا ويَضَعُ ءاخَرِين " ..

رواهُ ابنُ حِبَّانَ في[(صحيحه)/كتاب الرَّقائق]عن أبي الدَّرْدَاء عن رسولِ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم ..

مَعْناهُ : الله يُحْدِثُ كُلَّ يَومٍ أشياءَ ، يُحْدِثُ مخلوقاتٍ جديدةً ، أمَّا هُوَ فلا يَتَغَيَّرُ، كما يقولُ المسلمونَ مِنَ العَامَّةِ والخاصَّة :" الله يُغَيِّرُ ولا يَتَغَيَّرُ " .. فالتغيُّر يطرأُ على أحوال المخلوقاتِ لا على مشيئةِ الله وعلمهِ ..
.
وإذا دعا المريضُ رَبَّهُ أنْ يَشْفِيَهُ فاستجابَ له فيَصِحُّ أنْ يُقالَ إنَّ دُعَاءَهُ وافقَ مشيئةَ الله ، وإذا لم يستجبْ له رَبُّهُ فيَصِحُّ أنْ يقالَ إنَّ دُعَاءَهُ ما وافقَ مشيئةَ الله .. والدَّاعي له ثوابُ الدُّعاء ..
.
تنبيه : جَرَتِ العادةُ في بعضِ البلادِ أنْ يجتمعَ النَّاسُ فيقرأُوا هذه الكلمات :" اللَّهُمَّ إنْ كنتَ كتبتَني عندَك في أُمِّ الكتاب شقيًّا أو محرومًا أو مُقَتَّرًا عليَّ في الرِّزْقِ فامحُ اللَّهُمَّ شقاوتي وحرماني ... إلخ .."  ..

وهذا لا يَصِحُّ عن سَيِّدِنا عُمَرَ ، رضيَ الله عنه ، ولا عن أيِّ أحدٍ من الصَّحَابَةِ والسَّلَفِ .. ومعناهُ مخالفٌ للعقيدةِ الصَّحِيحَةِ وهي أنَّ الشَّقِيَّ شَقِيٌّ في بَطْنِ أُمِّهِ فلا يَتَبَدَّلُ سعيدًا أبدًا لأنَّه صَحَّ الحديثُ الشَّرِيفُ بذلكَ ، وكذلكَ السَّعِيدُ سعيدٌ في بَطْنِ أُمِّهِ فلا يَتَبَدَّلُ شَقِيًّا أبدًا لأنه صَحَّ الحديثُ الشَّرِيفُ بذلكَ .. الشَّقَاءُ والسَّعَادَةُ لا يدخلُهما التعليق .. واعتقادُ تَبَدُّلِ صفةٍ من صفاتِ الله تعالى كُفْرٌ كما قال الإمامُ أبو حنيفةَ وغيرُه من الأكابر ..
.

تنبيه ءاخَر : قولُ الله تعالى (( يمحو اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِـتُ )) فَسَّرَهُ الإمامُ الشَّافِعِيُّ بالنَّاسخ والمنسوخ ، أيْ أنَّ الله تعالى يمحو ما يشاءُ من القرءانِ فيَنْسَخُهُ ويُثْـبِـتُ ما يشاءُ فيهِ فلا يَنْسَخُهُ ، وما يُبَدَّلُ وما يُثْـبَتُ كُلُّ ذلكَ مذكورٌ في اللَّوْحِ المحفوظ .. والنَّسْخُ يكونُ في حياة الرَّسُولِ ، وأمَّا بعدَ وفاتهِ ، صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، فلا نَسْخَ .. يقولُ البَيْهَقِيُّ :" هذا أَصَحُّ ما قيلَ في تأويلِ هذه الآية " .. أنزلَ الله تعالى القرءانَ مُفَرَّقًا على الرَّسُولِ ثمَّ كانَ من الآياتِ ما يُرْفَعُ بعدَ نزولهِ فيَخْرُجُ عن كونهِ قرءانًا فلا يُقْرَأُ على أنَّه قرءانٌ مَعَ بقاء حُكْمهِ ، ومنه ما يبقَى تلاوةً لكنَّ حُكْمَهُ يُرْفَعُ .. هذا هو النَّسْخُ .. هذا معنى الآية .. معناها يمحو الله بعضَ ما نَزَلَ من القرءانِ عن حُكْمِ القرءانِ ويُثْبِـتُ ما يشاءُ وهو الأكثرُ لأنَّ المنسوخَ قليلٌ جدًّا .. وممَّا نَزَلَ قرءانًا ثمَّ رُفِعَتْ تلاوتُه ما رواه أَنَسٌ قال :" إنَّا كُنَّا نقرأُ قرءانًا يا رَبَّنا أبلغْ قومَنا أنَّا قد لقِينا رَبَّنا فرَضِيَ عنَّا وأرضانا " ثمَّ رُفِـعَ ذلك .. لكنْ أُمُّ الكتاب ، وهو اللَّوْحُ المحفوظ ، يشتملُ على الْمَمْحُوِّ والْمُثْبَتِ .. هذا معنى قول الله تعالى في سورة الرَّعد (( يمحو اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِـتُ وعندَه أُمُّ الكتاب )) ..

وكانَ ممَّا يُقْرَأُ قرءانًا ثمَّ نُسِـخَ رَسْمُهُ وبقيَ حُكْمُهُ " الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارجُموهما البَتَّةَ نَكَالًا من الله " ..

وممَّا بقيَ رَسْمُهُ ونُسِـخَ حُكْمُهُ قولُه تعالى في سورة البقرة (( والذينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويَذَرُونَ أزواجًا وَصِيَّةً لأزواجِهم متاعًا إلى الحَوْلِ )) ، نُسِـخَتْ بالآيةِ التي قبلَها وهي (( والذينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويَذَرُونَ أزواجًا يَتَرَبَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ أربعةَ أشهرٍ وعَشْرًا )) ..
والنَّسْخُ لا يخلو من حكمةٍ ، بل هو ممَّا تقتضيهِ الحكمةُ ، لأنَّ الآيةَ تَنْـزِلُ فيُعْمَلُ بمقتضاها بُرْهَةً ثمَّ يُرْفَعُ حكمُها وتأتي أخرى بَدَلَهَا كانت الحكمةُ قبلَ رَفْعِ العَمَلِ بها العملُ بها ، ثمَّ كانتْ مصلحةُ العبادِ في رَفْعِ ذلكَ الحُكْمِ لأنَّ الأوامرَ والنواهيَ الإلـٰـهِـيَّةَ منها ما هيَ مُؤَبَّدَةٌ ومنها ما هيَ مُؤَقَّتَةٌ .. فالظُّلْمُ مَثَلًا حُرِّمَ في جميعِ الشَّرائعِ ، وكذلكَ أشياءُ أخرى كأكلِ الْمَيْتَةِ والدَّمِ ولحمِ الخنـزير .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...