الله خالق الأسباب والمسببات
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ صلواتُ اللهِ البرِّ الرحيمِ والملائكةِ المقربينَ على سيدِنا محمدٍ أشرفِ المرسلينَ وعلى جميعِ إخوانِه الأنبياءِ والمرسلينَ وسلامُ اللهِ عليهم أجمعينَ.
قالَ أهلُ الحقِّ: لما كانَ اللهُ تبارك وتعالى منفردًا بالخلقِ أي الإحداثِ من العدمِ إلى الوجودِ، لا يشاركُه في ذلك شىءٌ لا من ذوي الأرواحِ ولا من الجماداتِ ولا من الأسبابِ العاديةِ، لا يشاركُ اللهَ تعالى شىءٌ في خلقِ شىءٍ من منفعةٍ أو مضرةٍ أو عينٍ أو أثرٍ لما عَلِمُوا من قولِ اللهِ تعالى ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غيرُ اللهِ﴾ وقولِهِ ﴿وخَلَقَ كُلَّ شَىءٍ﴾ وقولِه ﴿قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شىءٍ و هو الواحدُ القهارُ﴾ وقولِ رسولِهِ الكريمِ صلى اللهُ عليه وسلم [إنَّ اللهَ صانعُ كلِّ صانعٍ وصنعتِه] فعَلِمْنا أنَّ الأسبابَ العاديةَ ليست خالقةً لشىءٍ من مسبباتِها بلِ اللهُ خالقُ الأسبابِ والمسبباتِ، وهذا الترابُطُ بينَ الأسبابِ والمسبباتِ أمرٌ أجرى اللهُ بهِ العادةَ، أي أنَّ اللهَ تعالى يَخُلقُ المُسببَ عند وجودِ السببِ فكلاهما أي السببُ والمُسببُ يَستنِدُ في وجودِه وحصولِه ووقوعِهِ إلى إيجادِ اللهِ تباركَ وتعالى.
الأسبابُ لا تخلقُ مُسبَّباتِها
كثيرٌ من الناسِ يقفُون تفكيرهم عند الظاهرِ فيقضونَ ويحكُمونَ بأنَّ هذه الأسبابَ هي تخلُقُ المسبباتِ، وهذا خلافُ الحقيقةِ، لو كانتِ الأسبابُ تخلُقُ المسبباتِ لوجبَ حصولُ المسببِ عندَ كلِّ سببٍ والواقعُ خلافُ ذلكَ ،نجدُ كثيرًا من الأسبابِ تُستعملَ ولا يوجدُ إثرُها المُسببُ فبذلكَ يُعلمُ أنِّ الأسبابَ بقدرِ اللهِ، فإن سَبَقَ في مشيئةِ اللهِ وعلمِهِ الأزليَيْنِ وجودُ هذا المُسببِ إثرَ السببِ كان ذلك حتمًا حصولُه، لأنَّ اللهَ شاءَ وعَلِمَ أنَّ هذا السببَ يحصلُ إثرَهُ المسببُ لا محالةَ من ذلكَ، أما إن لم يكن سَبقَ في علمِ اللهِ ومشيئتِه حصولُ المسببِ إثرَ هذا السببِ فلا يحصلُ ذلك المسببُ، روينا فيما يشهدُ لهذا حديثًا في صحيحِ ابن حبان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال[إنّ اللهَ خلَق الدَّاءَ وخَلَقَ الدَّواءَ فإذا أُصيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذنِ اللهِ] قولهُ [بَرَأ بإذنِ الله] دليلٌ على أن الأسبابَ من أدويةٍ وغيرِها لا تُوجبُ بطبعِها بذاتِها حصولَ المُسببِ وشاهدُ الواقع يشهدُ بذلك،نرى كثيرًا من الناسِ يتداوَوْنَ بدواءٍ واحدٍ وأمراضُهم مُتَّحِدَةٌ فيتعافى بعضٌ منهم ولا يتعافى الآخرونَ، فلو كان الدواءُ هو يخلُقُ الشفاءَ لكان كلُّ واحدٍ يستعملُ ذلك الدواءَ يتعافى حتمًا ولم يكن هناك حصولُ الشفاءِ لبعضٍ وعدمُ حصولِه لبعضٍ، لهذا قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ [فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذنِ اللهِ].
فبذلكَ نعلمُ أن الأدويةَ وجُودُها بتقديرِ اللهِ والشفاءُ بتقديرِ اللهِ، ليستِ الأدويةُ تخلقُ الشفاءَ بحيثُ لا يتخلفُ عندَ استعمالِ أيِّ دواءٍ حصولُ الشفاءِ إثرَه، كذلكَ سائرُ الأسبابِ العاديةِ النارُ ليست موجبةً لحصولِ الاحتراقِ إنما اللهُ تعالى شاءَ أن يحصلَ إثرَ مماسةِ النارِ للشىءِ الاحتراقُ. فإن حصلَت مُماسةُ النارِ لشىءٍ ولم يحصُلِ الاحتراقُ عَلِمْنَا بأنَّ المانِعَ منْ حصولِ الاحتراقِ إثرَ مُماسةِ النارِ هو أنَّهُ سَبَقَ في عِلمِ اللهِ ومشيئتِه الأزليَيْنِ أنه لا يحصلُ الاحتراقُ إثرَ مُماسةِ النارِ لهذا الشىءِ.
اللهُ تباركَ وتعالى خلقَ ألوانًا و أشكالًا من ذواتِ الأرواحِ ،جعلَ في بعضِها مالم يجعلْ في الآخرينَ. هذا الطيرُ المسمى السَّمَنّدلُ ويقالُ لهُ السمندُ بلا لامٍ، ويقالُ له السندلُ بالسينِ، هذا معروفٌ أنَّهُ لا يحصلُ له احتراقٌ، جلدُهُ لا يحترقُ بالنارِ وهو يدخلُ النارَ ويتهنَّأُ فيها لا يتأذَّى وهو عزيزُ الوجودِ، يقولُ ابنُ خِلِّكَانَ في تاريخِه عن اللغويِّ المشهورِ عبدِ المطلبِ البغداديِ، هذا من أئمةِ اللغةِ يقولُ: شاهدتُ قطعةً من جلدِ السمندلِ أُهديتْ إلى الملكِ الظاهرِ ابنِ الملكِ الصالحِ صلاحِ الدينِ عرضَ ذراعٍ في طولِ ذراعي، صاروا يغمِسُونها في الزيتِ ثم يُشعلونَها فتنشعلُ النارُ ثم تنطفئُ النارُ وتبقى تلك القطعةُ بيضاءَ نقيةً، وحيوانُه في حالِ حياتِه هكذا يدخلُ النارَ ولا يُؤَثِّرُ فيه، وهو كغيرِه من الحيواناتِ مؤلَّفٌ من لحمٍ ودمٍ وعظمٍ، فلو كانتِ النارُ تخلقُ الإحراقَ بطبعِها لم يحصلْ تخلُّفُ الإحراقِ للسمندلِ إذا مَسَّتْهُ النارُ بل كان يحترقُ كما يحترقُ غيرُه،قالَ بعضُ الشعراءِ في ذلكَ:
نَسْجُ داودَ لم يُفِدْ ليْلِةَ الغارِ وكان الفَخَارُ للعَنْكَبُوتِ
معناهُ ليلةَ كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الغارِ هو وأبو بكرٍ حماهُما اللهُ تعالى بنسجِ العنكبوتِ ولم يكن هذا الفضلُ لنسجِ داودَ، نسجُ داودَ هو الدِّرْعِ معناهُ اللهُ تعالى لم يَحْمِهما بنسجِ داودَ بل حماهُما بنسجِ العنكبوتِ وهو منَ الخلقِ الضعيفِ، قال:
وبَقَاءُ الَسمنّدِ في لهبِ النَّارِ مُزيلٌ فضِيلةَ الياقُوتِ
يعني عدمُ احتراقِ السمندِ في لهبِ النار يدلُّ على أن له مزيةً ليست للياقوتِ.
فالحاصلُ أنه يجبُ اعتقادُ أن الأسبابَ لا تخلقُ مسبباتِها بلِ اللهُ يخلقُ المسبباتِ إثرَ الأسبابِ، أي أنَّهُ تعالى هو خالقُ الأسبابِ وخالقُ مسبباتِها، وعلى هذا المعنى يُشهرُ ما شاعَ وانتشرَ على ألسنةِ المسلمينَ في أثناءِ أدعيتِهم: يامُسبِّبَ الأسبابِ، معناهُ أنَّ اللهَ تعالى هو الذي خلقَ في الأسبابِ حصولَ مسبباتِها إثرَ استعمالِها، وهذا من كلامِ التوحيدِ الذي هو اشتَهرَ وفشا على ألسنةِ المسلمينَ علمائِهم وعوامِّهم وهو يرجعُ إلى توحيدِ الأفعالِ، أي أنَّ اللهَ تبارك وتعالى هو الذي فِعلُه لا يتخلفُ أَثرُه، إذا شاءَ حصولَ شىءٍ إثرَ مزاولةِ شىءٍ حصلَ لا محالةَ، لا بُدَّ.
اللهُ خالقُ العبادِ و أعمالِهم
فكما أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى هو خالقُ المُسبباتِ إثرَ استعمالِ الأسبابِ فهو خالقُ العبادِ حركاتِهم وسكناتِهم، لا خالقَ لشىءٍ من ذلكَ غيرُهُ. فالإنسانُ مكتسبٌ لأعمالِهِ الاختياريةِ ليس خالقًا بل اللهُ خالقُها ، هذه الحركاتُ التي نتحركُها للخيرِ أو للشرِّ اللهُ تباركَ وتعالى هو خالقُها فينا، هو الذي يُجريها على أيدِينا،ولا فرقَ في ذلكَ بينَ أعمالِنا التي هي حسناتٌ وبين أعمالِنا التي هي سيئاتٌ.
المرادُ بالحسناتِ هنا الطاعاتُ والمرادُ بالسيئاتِ المعاصي، فالطاعاتُ من الإيمانِ وما يتبعُه من صلاةٍ وصيامٍ وإلى غيرِ ذلكَ مما لا يُحصى، والسيئاتُ من الكفرِ وما بعدَهُ كلُّ ذلك بخلقِ اللهِ تعالى، هذا الاعتقادُ هو اعتقادُ الفرقةِ الناجيةِ وهم الصحابةُ الذين تلقَوْا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المعتقدَ الإيمانيَّ ثم تلقى منهم التابعونَ ثم أتباعُ التابعينَ وهلمَّ جرّا، هذا هو عقيدةُ الفرقةِ الناجيةِ. وتسميتُهم الفرقةُ الناجيةُ ليس لأقليتِهم بالنسبةِ للفرقِ المنتسبةِ للإسلامِ المخالفةِ لهم بل هذه الفرقةُ الناجيةُ هي الأكثرُ، أما أولئك الفرقُ المخالفةُ التي خالفتِ الفرقةَ الناجيةَ في معتقدِها فأولئكَ وإن تعدَّدَت أسماؤهم بحيث بلغت إلى اثنتينِ وسبعينَ فرقةً فإنهم الأقلُّ. وهذه الفرقُ الاثنتانِ والسبعونَ الشاذةُ التي هي ضالةٌ كثيرٌ منها انقرضوا ولم يبقَ إلا أقلُّهم.
واللهُ سبحانه وتعالى أعلمُ وأحكمُ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق